نقد الحتمية التاريخية :
ومهما يكن من أمر هذه الحتميات المادية في تفسير التاريخ ، فإنّ منها ما هو حق ومنها ما هو باطل ، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة الواردة في النظرية.
أمّا الحق فهو ربط التاريخ بالقوانين العلمية والعلل والاَسباب التي تستوجب حركة التاريخ .
والحدث التاريخي ـ كأي ظاهرة أخرى في الكون ـ يخضع للاَسباب والعلل الموجبة له . إذن قانون العلّية يحكم الحدث التاريخي كما يحكم الظاهرة الفيزيائية والكيميائية والميكانيكية بشكل دقيق في كل أصولها العقلية المعروفة كالحتمية والسنخية وغير ذلك .
وهذا هو الحق ولا يمكن التشكيك فيه ، عدا النظرية الماركسية التي تنفي قانون العلّية رأساً وتضع محلها النظرية المادية الديالكتيكية التي اقتبستها من (هيگل) .
أمّا الباطل في هذه النظريات فهو نفي الاِنسان وقراره المستقل في صناعة التاريخ ، واعتبار الاِنسان خشبة عائمة على أمواج التاريخ القهرية، وتقرير مصير واحد للتاريخ والانسان ، لا يتعدد ، ولا يختلف . وهذا باطل بالتأكيد ، فإنّ الاِنسان (الفرد ، والمجتمع ، والتاريخ) لا يقع على طريق علة واحدة فقط ، وإنّما على مفترق طرق غالباً، واختيار نوع الطريق يرتبط بارادته ووعيه وثقافته وقراره إلى حد كبير جداً ، فإذا سلك أحد هذه الطرق بموجب إرادته وقراره ورأيه لم يكن له أن يتخلص من الآثار القهرية
( 32 )
المترتبة عليه بموجب قانون العلية .
ولنضرب على ذلك مثالين ، أحدهما : عن الفرد ، والآخر : عن المجتمع .
أمّا التمثيل بالفرد : فإنّ الاِنسان الفرد إذا تحرك ونشط وتعلم يشق طريقه إلى الحياة ، وإذا خمل وكسل وركن إلى الجهل والكسل ، يبقى ضعيفاً مغموراً لا شأن له ، ولا قوة في الحياة .
وكل من هاتين النتيجتين تتصف بالقطعية والحتمية إذا اختار الاِنسان الطريق المناسب لها . إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ الاِنسان يواجه قضاءً وقدراً ذا بعدٍ واحد في حياته لا يمكنه أن يحيد عنه .
وأمّا التمثيل بالمجتمع ، فالمجتمع الذي يقاوم ويضحّي ويتحمل عذاب المواجهة وقسوة المقاومة يسلم من الظلم والاستبداد السياسي والارهاب .
والمجتمع الذي ينقاد ويستسلم ولا يقاوم يبتلى بأبشع أنواع الاستبداد السياسي والارهاب .
وهذا وذاك حكمان حتميان لا سبيل للتخلص منهما في حياة الاَمم . ولكن المجتمع يقف على مفترق طريقين في حياته السياسية ، فإذا اختار الطريق الاَوّل كانت النتيجة الاَولى قطعية ، وإذا اختار الطريق الثاني كانت النتيجة الثانية قطعية .
وإختيار هذا الطريق أو ذاك يدخل في حيز إرادة الاِنسان وإختياره ولا يقع تحت نظام الحتمية .

( 33 )
وسوف نعود إلى دراسة هذه النقطة مرة أخرى في سياق هذا البحث .
الاستغلال السياسي للحتمية :
وأكثر النتائج السلبية المترتبة على الاِيمان بهذه الحتميات ، تعطّل دور الانسان وحركته في بناء التاريخ ، وتعطل دوره في تقرير مصيره . فإنّ الانسان إذا آمن بأنّ حركته وفعله يخضع لسلسلة من العوامل الحتمية الخارجة عن إرادته وإختياره يشعر بأنّه عنصر فاقد التأثير ، لا دور له في صناعة مصيره ومصير مجتمعه ، ومع هذا الاِيمان وهذه القناعة لا يمكن أن يكون الاِنسان مصدراً للتحرك والتغيير في حياته الفردية والاجتماعية .
ولذلك ، فإنّ الاِيمان بالحتمية (التاريخية والفردية) كان موضع تبنّي الاَنظمة الاستبدادية في تاريخ الاِسلام .
فإنّ هذا الاِيمان يطوّع الناس للاستسلام السياسي ويروّضهم لقبول الظلم .
وقد كان بنو أُميّة يتبنون نظرية الجبر . يقول أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها (1) ولما اعترض ع ابن عمر على معاوية في تنصيب ابنه يزيد خليفة من بعده. قال له معاوية: (إنّي أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملاَهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم) (2).
____________
(1) الاَوائل ، لاَبي هلال العسكري 2 : 125 .
(2) الاِمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 210 تحقيق شيري ـ بيروت 1990 م .

( 34 )
وبنفس المنطق واجه معاوية عائشة لما اعترضت عليه في أمر تنصيب يزيد خليفة على المسلمين من بعده . قال لها : (إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم) (1).
وقد نهض بعض العلماء لمواجهة تيار الجبر الذي تبناه بنو أُميّة ، وكان أشهر هؤلاء معبد الجهني من العراق ، وغيلان الدمشقي من الشام . عُرف عنهم القول بالاختيار وحرية الاِرادة والدعوة إلى هذا الرأي .
وقد خرج معبد على الاَمويين مع ابن الاَشعث فقتله الحجاج . وأمّا غيلان فقد أحضره هشام بن عبدالملك الخليفة الاَموي واستنطقه فصلبه بعد أن قطع يديه ورجليه .
وكان الحسن البصري فيما يظهر على هذا الرأي ـ الاختيار ـ .
يقول المقريزي : إنّ عطاء بن يسار ومعبد الجهني دخلا على الحسن البصري ، فقالا له : إنّ هؤلاء (حكام بني أُميّة) يسفكون الدماء ، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قدر الله ! قال : كذب أعداء الله . فطعن عليه بهذا(2) وكان الحسن البصري يجاهر برأيه المعارض لسلطان بني أُميّة هنا وهناك ، فلمّا خوفوه من سطوة السلطان امتنع عن ذلك .
يقول ابن سعد في الطبقات عن أيوب ، قال : نازلت الحسن في القدر
____________
(1) الاِمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 210 تحقيق شيري ـ بيروت 1990 م .
(2) الخطط ، للمقريزي 2 : 356 .

( 35 )
غير مرّة حتى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم (1).
أمّا بنو العباس فلم يشذّوا عن سياسة بني أُميّة في تبنّي القدر على رأي الاَشاعرة ، غير أنّ المأمون والمعتصم اختلفا عنهم في هذا الرأي ، وتبنّوا رأي المعتزلة في الاختيار والتفويض ، فلمّا تولّى المتوكل الحكم تبنّى رأي الاَشاعرة في الجبر ، وكان يحاسب ويعاقب عليه ، وتبعه الخلفاء من بعده على هذا الرأي .
التفويض :
يسود في التاريخ الاِسلامي في مسألة الحتمية والاختيار في سلوك الانسان الفردي رأيان متقابلان :
وهما : الجبر والتفويض .
أمّا المذهب الاَوّل : فيتبناه الاَشاعرة ، وأمّا المذهب الثاني : فيتبناه المعتزلة .
ومذهب المعتزلة في التفويض : أنّ الله تعالى فوّض إلى الاِنسان اختيار ما يعمل ، والانسان مستقل استقلالاً كاملاً فيما يصنعه .
وهذا المذهب يأتي في مقابل المذهب الاَول تماماً .
ولئن كان التبرير الفلسفي والعقائدي للمذهب الاَوّل هو الاحتفاظ بـ(أصل التوحيد) وإرجاع كل شيء في هذا الكون من الاَعيان والاَعمال إلى الله تعالى ( والله خلقكم وما تعملون ) (الصافات 37 : 96) . فإنّ
____________
(1) طبقات ابن سعد 7 : 167 ط بيروت .

( 36 )
التبرير العقائدي لهذا الاتجاه هو تنزيه ساحة الله تعالى من أن يكلّف الاِنسان بما لا يقدر عليه ، فيما كان قضاء الله تعالى وقدره بعكس ما يأمر به وينهى عنه، وتنزيه الله سبحانه من أن يخلق السيئات والمعاصي والكفر والشرك والظلم والعدوان في سلوك العباد .
يقول عبد القادر البغدادي في (الفرق بين الفرق) في بيان آراء المعتزلة: (ومنها قولهم جميعاً إنّ الله تعالى غير خالق لاَكساب الناس ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أنّ الناس هم الذين يقدّرون أكسابهم ، وأنّه ليس لله عزّ وجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير) (1).
وقال السيد الشريف في (شرح المواقف) : (إن المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد ، وهو أنّه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف وبطل التأديب الذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم) .
وروى زهدي جارالله عن (المعتزلة) : إجماعهم على أنّ العباد خالقون لاَفعالهم مخترعون لها ، وأنّ الله تعالى ليس له في أفعال العباد المكتسبة صنع ولا تقدير (2).
ويقول صدر المتألهين ؛ : (ذهبت جماعة كالمعتزلة ومن يحذو حذوهم إلى أنّ الله تعالى أوجد العباد وقدّرهم على تلك الاَعمال وفوض إليهم الاختيار . فهم مستقلون بايجاد تلك الاَفعال على وفق مشيئتهم
____________
(1) الفرق بين الفرق : 94 ، دار الآفاق الجديدة ببيروت .
(2) المعتزلة : 92 ، وبنفس المضمون في الملل والنحل للشهرستاني 1 : 91 .

( 37 )
وطبق قدرتهم ، وقالوا : إنّه أراد منهم الاِيمان والطاعة وكره منهم الكفر والمعصية . وقالوا : على هذا يظهر أُمور ، الاَوّل : فائدة التكليف بالاَوامر والنواهي وفائدة الوعد والوعيد . والثاني : استحقاق الثواب والعقاب . والثالث : تنزيه الله سبحانه عن القبائح والشرور وأنواع الكفر والمعاصي والمساوي) (1).
ويذهب الشهرستاني في (الملل والنحل) إلى إجماع المعتزلة على اعتبار العباد خالقين لاَفعالهم مخترعين لها ، وأنّ الله تعالى ليس له في أفعال العباد المكتسبة صنع ولا تقدير (2).
والمعتزلة لجأوا إلى القول بالتفويض واستقلال الاِنسان في أفعاله هروباً ممّا وقع فيه الاَشاعرة من القول باستحقاق الاِنسان للعقاب من جانب الله تعالى دون أن يكون له دور أو سلطان فيما صدر منه من ذنب وإجرام، ومن القول بتكليف الله تعالى للانسان فيما لا قدرة له عليه ، فيما كان القضاء والقدر بخلاف ذلك .
ولكي ينزّهوا الله تعالى من هذا وذاك ، سبحانه وتعالى عن كل ذلك ، لجأوا إلى القول بالتفويض ، والاِيمان بأنّ الله تعالى قد فوّض الاِنسان أُموره ومنحه القدرة الكاملة على الاستقلال في كلّ أفعاله وتصرفاته... وبذلك وقعوا فيما هو أبشع ممّا وقع فيه الاَشاعرة ، وذلك هو الشرك بالله تعالى ، وفصل فعل الاِنسان وعمله بشكل كامل عن إرادة الله تعالى وإذنه ومشيئته وخلقه ، وهو بحدّ الشرك إن لم يكن هو من الشرك فعلاً .

____________
(1) الاَسفار 6 : 369 ـ 370 .
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 91 .

( 38 )
وفرق واضح بين نظرية التفويض الاِلهي واستقلال الاِنسان في عمله مستقلاً عن إرادة الله تعالى وإذنه ومشيئته وبين مبدأ حرية الاختيار .
وسوف يأتي توضيح لهذا الاَمر فيما يأتي من هذا البحث .

( 39 )

الفصل الثاني



موقف القرآن من مسألة : (الحتمية) و (استقلال الانسان)

ونحاول الآن أن نعرف موقف القرآن من مسأله الحتمية . إنّ قراءة أولية للقرآن تظهرنا على نقطتين هامتين وهما :
ـ إنّ القرآن ينفي مبدأ الحتمية بالطريقة التي يطرحها الاَشاعرة .
ـ وينفي مبدأ التفويض بالطريقة التي يقررها المعتزلة .
في النقطة الاَولى يقرر مبدأ حرية الاِرادة بشكل واضح ويقرر في النقطة الثانية مبدأ عدم استقلال الفرد في الاِرادة واتخاذ القرار .
وهاتان النقطتان لا تتناقضان وإنّما تتكاملان ، ومنهما نكتشف مذهباً ثالثاً لا هو بالاتجاه الاَوّل ، ولا هو بالاتجاه الثاني . وإلى هذا المذهب يذهب أهل البيت عليهم السلام وسوف نوضح ذلك فيما بعد .
والآن ننتقل إلى قراءة هاتين الطائفتين من آيات القرآن .
1 ـ مبدأ حرية الاختيار في القرآن :
وفيما يلي نعرض من كتاب الله الآيات التي تقرر مبدأ حرية الاختيار
( 40 )
في حياة الانسان . وهي إضبارة من آيات القرآن الكريم اخترناها من مجموعة واسعة من الآيات في كتاب الله .
يقرر القرآن أوّلاً : مبدأ التكليف بشكل واضح وصريح ، ولا معنى للتكليف من دون الاقرار بمبدأ الاختيار :
يقول تعالى : ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ) (آل عمران 3 : 97) .
( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) (البقرة 2 : 183).
( يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) (الجمعة 62 : 9) .
ويقرر القرآن ثانياً : أنّ الله تعالى لم يكلّف عباده إلاّ بعد أن منحهم العقل والوعي والتمييز :
يقول تعالى : ( ألم نجعل له عينين * ولساناً وشفتين * وهديناه النجدين) (البلد 90 : 8 ـ 10) .
( إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا ) (الانسان 76 : 3) .
ويقرر القرآن ثالثاً : أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده إلاّ بعد أن يتمّ عليهم الحجة بالبلاغ وإرسال الاَنبياء مبشرين ومنذرين :
يقول تعالى : ( وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا ) (الاِسراء 17 : 15).

( 41 )
(قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) (الاَنعام 6 : 104) .
( وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون ) (القصص 28 : 59) .
ويقرر القرآن رابعاً : أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده فيما لا يستطيعون ولا يكلّفهم إلاّ بقدر وسعهم :
يقول تعالى : ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (البقرة 2 : 286) .
ولا يصح كلّ هذا التأكيد على أنّ التكليف من جانب الله لا يكون إلاّ بعد أن يمنح الله عباده التمييز ، وبعد أن يبعث إليهم الاَنبياء مبشرين ومنذرين ، ولا يكلّفهم فيما لا يستطيعون ، لا يصح كلّ ذلك إلاّ إذا كان التكليف يستتبع تقرير مبدأ حرية الاختيار .
وينسب القرآن خامساً : الاَعمال التي تصدر عن الاِنسان إلى الاِنسان نفسه، وإنّها ما كسبت وجنت يداه ، ولا يصح ذلك لولا أنّ الاِنسان يختار بنفسه ما يفعل بإرادته ، وليس هو موضعاً وظرفاً للفعل الصادر منه ، كما يقول القائلون بالجبر :
يقول تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى 42 : 30) .
( فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون ) (البقرة 2 : 79) .

( 42 )
(بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (البقرة 2 : 81) .
ويقرر القرآن سادساً : مبدأ ارتباط الاِنسان بعمله ، وعودة العمل إلى الانسان ، خيراً كان أو شراً . واعتبار الجزاء نحو من أنحاء عودة العمل إلى صاحبه وهو من الجزاء التكويني الذي نظّمه الله تعالى في دورة الكون ، ولا يصح ذلك إلاّ عندما يتحمل الاِنسان مسؤولية عمله ، والمسؤولية دائماً تتبع حرية الاختيار :
( قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) (الاَنعام 6 : 104) .
( يا أيّها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ) (يونس 10 : 108) .
( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (البقرة 2: 286) .
ويقرر القرآن سابعاً : مبدأ الجزاء في الدنيا قبل الآخرة . والجزاء دائماً يتبع المسؤولية ، والمسؤولية تتبع حرية الاختيار :
يقول تعالى : ( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) (النحل 16 : 112) .
( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ) (البقرة 2 : 59) .

( 43 )
(ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ) (الروم 30: 41) .
ويقرر القرآن ثامناً : مبدأ الجزاء في الآخرة في الصالحات والسيئات ، وقد ذكر آنفاً أن الجزاء لاينفك عن الاختيار ولا يصح الجزاء إلاّ في حالة الاختيار :
( ووفيت كلّ نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) (الزمر 39 : 70) .
ويقرر القرآن تاسعاً : أنّ الله تعالى يجزي كلّ واحد بفعله ولا يعاقب أحداً بسيئة غيره :
يقول تعالى : ( ولا تزرُ وازرة وزر أخرى ) (الاَنعام 6 : 164) .
ويقرر القرآن عاشراً : ندامة الاِنسان يوم القيامة على مافرط منه من سيئات الاَعمال في الدنيا .
والندامة من آثار وأمارات الاختيارات ، ولا ندامة على ماليس للاِنسان فيه اختيار :
( يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (الحجرات 49 : 6) .
( وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وقُضي بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون ) (يونس 10 : 54) .
والحادي عشر يقرر القرآن : أنّ عمل الاِنسان هو الذي يقرر مصير الاِنسان فيفلحه أو يخيبه :
يقول تعالى : ( ونفس وما سوّيها * فألهمها فجورها وتقويها * قد
( 44 )

أفلح من زكّيـها * وقد خاب من دسّيـها ) (الشمس 91 : 7 ـ 10) .
والثاني عشر : أنّ التغيير الذي يحدثه الله تعالى في حياة الناس والاَُمم من إغناء وإثراء أو إهلاك أو استدراج أو عذاب أو مكر إنّما هو نتيجة أعمالهم . وليس يصح ذلك إلاّ إذا كان الاِنسان يتمتع بكامل حريته :
يقول تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم )(الرعد 13 : 11) .
( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)(الاَنفال 8 : 53) .
والثالث عشر : أنّ الله تعالى يعطي عباده من الدنيا والآخرة بعض أو كلّما يطلبون بأعمالهم كما يريد سبحانه . وإذا كان العطاء من الله تعالى وبإرادته ومشيئته فإنّ الطلب من الانسان . والعطاء من الله إجابة لطلب الانسان . ولا معنى لكل ذلك إلاّ إذا كان الاِنسان حراً مختاراً فيما يطلب :
( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا ) (الاِسراء 17 : 18 ـ 20) .
والرابع عشر : إنّ الله تعالى لا يظلم عباده وإنّما الناس هم الذين يظلمون أنفسهم : والآيات التي تشير إلى هذه الحقيقة تقرب من ثمانين آية في كتاب الله . وهذه الآيات جميعاً تقرر بوضوح مبدأ الاختيار في الاِنسان . فإنّ معاقبة العبد بأشد العقاب والعذاب على شيء لا إرادة له
( 45 )
فيه، من الظلم الذي يتنزه عنه سبحانه وتعالى :
يقول تعالى : ( وما ربّك بظلام للعبيد ) (فصلت 41 :46) .
( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) (التوبة 9 : 70) .
( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون ) (الاَنعام 6 : 160).
( وتوفّى كلّ نفس ما عملت وهم لا يظلمون ) (النحل 16 : 111) .
( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) (هود 11 : 101) .
( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) (النحل 16 : 118) .
( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) (الزخرف 43 : 76) .
2 ـ نفي التفويض واستقلال الانسان في القرآن :
كما ينفي القرآن بشكل قاطع الحتمية في سلوك الاِنسان الفردي والاجتماعي ، كذلك ينفي بشكل قطعي أيضاً استقلال الاِنسان في سلوكه عن الله ، وتفويض أموره وحركته إليه من جانب الله تعالى كما يقول المفوضة من المعتزلة ، وفيما يلي نستعرض من كتاب الله تسع طوائف عن آيات القرآن تنفي بشكل واضح مبدأ التفويض واستقلال الاِنسان في أفعاله من الله تعالى . وإليك الطوائف التسع من كتاب الله :
الطائفة الاَولى : الآيات التي تقرر حاجة الاِنسان وفقره الدائم إلى الله تعالى . كقوله تعالى :

( 46 )
ـ ( يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد ) (فاطر 35 : 15).
الطائفة الثانية : الآيات التي تقرر سلطان الله تعالى المطلق على الاِنسان من دون قيد أو استثناء . كقوله تعالى :
ـ ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كلّ شيء قدير) (البقرة 2 : 20) .
ـ ( وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) (الاَنعام 6 : 17) .
ـ ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مُرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) (فاطر 35 : 2) .
ـ ( قُلْ لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ماشاء الله ) (يونس 10 : 49) .
ـ ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) (يس 36 : 66) .
ـ ( ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ) (يس 36 : 67) .
الطائفة الثالثة : الآيات التي تقرر بأنّ الاِيمان لا يتم ولا يتحقق في حياة الناس إلاّ بإذن الله ومشيئته نحو قوله تعالى :
ـ ( وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله ) (يونس 10 : 100) .
الطائفة الرابعة : تعليق الاِضرار بإذن الله فيما علَّم الشياطين الناس من
( 47 )
السحر ممّا أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وغيره ، وكانوا بهذا السحر يفرقون بين المرء وزوجه ويضرّون الناس . إلاّ أنّ القرآن يقرر أنّهم لم يكونوا قادرين على إضرار أحد بهذا السحر إلاّ بإذن الله . يقول تعالى :
ـ ( وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ) (البقرة 2 : 102) .
الطائفة الخامسة : الآيات التي تدل على أنّ الله تعالى قادر على أن يحول بينهم وبين ما يفعلون . يقول تعالى :
ـ ( ولو شاء الله ما فعلوه ) (الاَنعام 6 : 137) .
ـ ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يُريد ) (البقرة 2 : 253) .
الطائفة السادسة : الآيات التي تدل على أنّ النصر والهزيمة بإذن الله .
ـ ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) (البقرة 2 : 249) .
ـ ( فهزموهم بإذن الله ) (البقرة 2 : 251) .
الطائفة السابعة : الآيات التي تدل على أنّ مشيئة الاِنسان بمشيئة الله، فلا يشاء الاِنسان إلاّ بمشيئة الله . يقول تعالى :
ـ ( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً )(الاِنسان 76 : 30) .
ـ ( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ربُّ العالمين ) (التكوير 81 : 29) .
الطائفة الثامنة : الاَمر بتعليق إرادتنا ومشيئتنا وأعمالنا على مشيئة الله تعالى .

( 48 )
ـ ( ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً * إلاّ أن يشاء الله...) (الكهف 18 : 23 ـ 24) .
الطائفة التاسعة : تعليق الاَعمال والخصال والاَحوال جميعاً على مشيئة الله تعالى .
ـ ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) (القصص 28 : 27) .
ـ ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) (الصافات 37 : 102) .
ـ ( لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ) (الفتح 48 : 27) .
هذه تسع طوائف من آيات كتاب الله تدل بصورة واضحة على نفي التفويض واستقلال الاِنسان في أفعاله وإرادته ، وهي واضحة وصريحة في ذلك كما كانت المجموعة الاَولى من الآيات واضحة في نفي الحتمية والجبر في سلوك الفرد .
فإن الناس في كل شؤونهم فقراء إلى الله ، ومن يكون فقيراً في كل شأن من شؤونه وفي كل حال من أحواله كيف يستقل عن الله تعالى في فعاله أو خصاله وهو خاضع لسلطان الله تعالى ، إن شاء أخذه ، وإن شاء مسخه ، وإن شاء ذهب بسمعه وبصره ، وإن شاء طمس على عينيه ، ولا يملك الاِنسان من دونه تعالى لنفسه ضراً ولا نفعاً ، فكيف يتأتّى له أن يستقل عن الله مع هذا السلطان الاِلهي الواسع على حياته وأعماله وجوارحه وجوانحه ؟!
ولا يؤمن أحدٌ إلاّ بإذن الله..

( 49 )
ولا يضر أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله..
ولا يقاتل أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله..
ولا ينتصر المنتصر إلاّ بإذن الله..
ولا يهزم أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله..
بل ولا يشاء أحدٌ شيئاً إلاّ بمشيئة الله..
ولا يصح منّا أن نعزم على شيء إلاّ بمشيئة الله وإذنه ، ولا يصبر الصابرون ، ولا يفلح المفلحون ، ولا يصلح الصالحون إلاّ بإذن الله بصريح القرآن ومحكمه .
ومع هذا التأكيد العجيب في القرآن على ارتباط الاِنسان بالله تعالى في كل شيء وفي كل حال فكيف يصح دعوى استقلال الاِنسان عن الله ؟ ودعوى تفويض الاَمر إليه والقول بأنّ الله تعالى خلق الاِنسان ماشاء ، ومنحه من المواهب ، ثمّ أوكل أمره إليه ، وفوّض إليه أموره بشكل مطلق ؟
إنّ من يقرأ ما تقدّم من آيات القرآن الكريم يقطع بأنّ القرآن لا يقرّ للانسان بهذه الاستقلالية والتفويض .