الفصل الرابع



أهل البيت عليهم السلام في موقع الدفاع عن (التوحيد) و (العدل)

وفي مايلي نحاول أن نجمع ونصنف الاُصول الفكرية التي طرحها أئمة أهل البيت عليهم السلام لاِزالة هذه الغشاوة والالتباس عن التصور الاِسلامي وهذه الاُصول عشرة نقدمها واحداً بعد آخر.
1 ـ نظام القضاء والقدر في الكون :
النظام الحاكم على هذا الكون نظام (ضروري حتمي) و (متقن ودقيق) ولا يمكن أن يحدث في نفس الظروف والعوامل إلاّ ما حدث . وهذا النظام قائم على أساس نظام العلّية والمعلوليّة الساري في كلّ الكون ولا يختص هذا النظام بالعالم المادي الفيزياوي وإنّما يشمل عالم ماوراء المادة والفيزياء (الميتافيزيقي) كذلك .
ونظام (العلّية) هو نظام القضاء والقدر. فإنّ من اُصول العلّية (حتمية) وجود المعلول عند وجود العلّة و (تشخّص) المعلول من حيث الكم والكيف. فإنّ احتكاك عود الثقاب بالغشاء الكبريتي يُولد الحرارة والنار بالضرورة (لولا الموانع) وبشكل حتمي وقطعي كما أنّ كمية الحرارة المنبعثة من هذا الاحتكاك كمية محدودة معروفة مشخّصة تناسب عود
( 74 )
الثقاب ودرجة الاحتكاك والغشاء الكبريتي ، وحتمية حدوث المعلول هي (القضاء) ، وتشخّص المعلول من حيث النوع والكم والكيف هي (القدر) . فإنّ (القضاء) بمعنى الحتم والحكم الالزامي ، و (القدر) بمعنى التقدير والمقدار .
روى الكليني عن يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: « يا يونس... فتعلم ما القدر » ؟ قلت : لا . قال عليه السلام : « هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء » .
ثمّ قال : « والقضاء هو الاِبرام... » (1).
إذن هذا الكون مجموعة منظمة مرتبة من حلقات متسلسلة والقانون العام الذي يجري في هذا الكون هو الحتمية والضرورة والتقدير والتحديد.
وحياة الاِنسان الفردية والاجتماعية ليست بدعاً ولا استثناءً في هذا الكون. وإنّما يعمه ما يعم الكون ، من الاُصول والقوانين ، فيدخل الاِنسان وفعله وحركته الفردية والاجتماعية في دائرة القضاء والقدر . فإذا نَصَرَ الله وأعطى وضحّى نصره الله ، قال تعالى : ( إن تنصروا الله ينصركم ) (محمّد 47 : 7) ، وإذا تخاذل وتهاون أوكله الله إلى نفسه ، وإذا تحرّك ونشط وعمل أغناه الله ، وإن كسل وضعف أوكله الله إلى ضعفه وكسله ، وإذا صدق وفّقه الله وأعانه، وإذا كذب وتحايل أوكله الله إلى كذبه وتحايله ومكره وخداعه . وكل ذلك من سنن الله وقضائه وقدره . والاِنسان
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 121 | 4 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، منشورات المكتبة الاِسلامية 1388 هـ .

( 75 )
يعيش في دائرة قضاء الله وقدره بشكل كامل ، بما للقضاء والقدر من حتمية ونظام وتقدير .
روى محمّد بن يعقوب الكليني مرفوعاً قال: كان أميرالمؤمنين عليه السلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثى بين يديه وقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » . فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين . فقال له : « مَه يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الاَجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم قائمون (1)، وفي من وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين » . فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟
فقال عليه السلام : « وتظنُّ أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً ؟! إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والاَمر والنهي، والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب حسن أولى بالاحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الاَوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ، وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يُطعْ مكرهاً ، ولم يُمّلك مفوّضاً، ولم يخلق السموات والاَرض وما بينهماباطلاً،
____________
(1) في نسخة : مقيمون .

( 76 )
ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظنُّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار » . قال : فنهض الشيخ وهو يقول :
أنت الاِمام الّذي نرجو بطاعته يوم النجاة من الرحمن غفراناً
أوضحت من أمرنا ماكان ملتبسا ًجزاك ربّك بالاِحسان إحسان والشطر الاَوّل من النص هنا ظاهر في عموم القضاء والقدر ، وشموله لكل فعاليات الاِنسان وحركته وهو قوله عليه السلام : « أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » .
2 ـ القضاء والقدر هو النظام الاِلهي في الكون وحياة الاِنسان :
هذا النظام بكل تفاصيله من خلق الله تعالى وإبداعه . وهو تجسيد لاِرادة الله ومشيئته . وما نجد في الكون كله وفي حياة الاِنسان من فعل وإنفعال وحركة وولادة وهلاك ونمو وضعف إنّما يجري بموجب إرادة الله تعالى ومشيئته في دائرة القضاء والقدر . ونظام السببية الساري في الكون . ومن العجب أن بعض الناس يبحثون دائماً عن الله تعالى وفعله في اختراق هذا النظام الكوني فقط وليس في أصل النظام وكأن هذا النظام يجري من جانب آخر غير جانب الله تعالى ، وفعل الله تعالى في هذا النظام هو اختراقه وإيقافه وتبديله . يقول صدر المتألهين رحمه الله في مناقشة فخرالدين الرازي : (وأعجب الاَمور أنّ هؤلاء القوم متى حاولوا إثبات أصل من اُصول الدين ، كإثبات قدرة الصانع ، أو إثبات النبوّة والمعاد ، اضطروا إلى إبطال خاصية الطبائع ونفي الرابطة العقلية بين الاَشياء والترتيب الذاتي
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 119 ـ 120 | 1 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية 1388 هـ . والتوحيد ، للصدوق : 380 | 28 مؤسسة النشر الاِسلامي ـ قم .

( 77 )
الوجودي والنظام اللائق الضروري بين الموجودات التي جرت سنّة الله عليها ولا تبديل لها) .
وهذه عادتهم في إثبات أكثر الاُصول الاعتقادية ، كما فعله هذا الرجل إمام أهل البحث والكلام (أي الرازي صاحب التفسير الكبير) .
والاِيمان بأنّ كلّ ما يجري في الكون وفي حياة الاِنسان من خير وشر من قضاء الله تعالى وقدره ولا يجري في الكون شيء إلاّ بقضاء من الله وقدره من الاِيمان الذي لابدّ منه في عقيدة الاِنسان المسلم .
روى الصدوق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر خيره وشرّه وحلوه ومرّه » (1).
وروى الكليني في الكافي عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام : كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول : « لا يجد عبد طعم الاِيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وأنّ الضارّ النافع هو الله عزّ وجلّ » (2).
وعن الصدوق في التوحيد عن علي بن موسى الرّضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «قال الله جلّ جلاله من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري »(3).

____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 380 | 27 (مؤسسة النشر الاِسلامي قم) .
(2) الكافي 2 : 58 | 7 باب فضل اليقين .
(3) التوحيد ، للصدوق : 371 | 11 باب القضاء والقدر .

( 78 )

3 ـ القيمومة الاِلهية الدائمة على نظام القضاء والقدر في الكون :
قد يتصور البعض أنّ الله تعالى أبدع نظام القضاء والقدر في الكون، وفي حياة الاِنسان وانفصل عنه بعد ذلك ويجري ويتحرك هذا النظام في الكون والمجتمع كما يتحرك ويعمل المعمل الذي أنشأه المهندس الذي صمّمه وصنعه من دون حاجة إلى حضوره هو في تشغيله وحركته . والكون كذلك يجري بموجب نظام القضاء والقدر الذي أبدعه الله تعالى غير أنّ ارتباط هذا النظام كان بالله تعالى في مرحلة الحدوث ثمّ انفصل عنه تعالى بعد ذلك واستقل .
وكذلك الاِنسان يختار ويعمل في دائرة نظام القضاء والقدر مستقلاً عن إرادة الله تعالى ومشيئته، وإن كان هذا النظام من إرادة الله ومشيئته في حال حدوثه وخلقه وهو تصور قديم لليهود في انقطاع سلطان الله ونفوذه في الكون بعد أن خلق الكون ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) (المائدة 5 : 64) .
والتصور القرآني يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصور المتقدّم ويتلخصّ هذا التصور : في قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) ، وفي أنّ الله هو الحي القيّوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تنقطع قيمومته عن هذا الكون إطلاقاً . إذن هذا النظام يجري في الكون والمجتمع بإرادة الله تعالى ومشيئته ، ولا ينفصل الاِنسان ولا الكون عن إرادة الله ومشيئته لحظة واحدة .
حتى أنّ مشيئة الاِنسان تجري بمشيئة الله . يقول تعالى ( وما تشاءون
( 79 )
إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين ) (التكوير 81 : 29) .
( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً ) (الانسان 76 : 30) .
روى الصدوق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « عن الله أروي حديثي : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعوني أديت إليّ فرائضي...الخ»(1).
وفي حديث لاَمير المؤمنين إلى الشيخ الّذي سأله عليه السلام عن مسيرهم إلى صفّين « ولم يملّك مفوّضاً » بمعنى أنّ الله تعالى لم يفوّض أحداً في ملكه وسلطانه ، بل هو قائم عليه قيم به ، وهو الحي القيّوم ، والّذي يتصور أنّ الله تعالى فوّض إليه أمره ، ورفع عنه قيمومته واستقل عن الله تعالى في فعله واختياره ، فقد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه كما ورد في النص .
عن الصدوق عن حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الاَمر مفوّض إليه ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم مالا يطيقون ، وإذا أحسن
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 340 | 10 ، 338 | 6 ، ط 1398 هـ . وانظر اُصول الكافي 1 : 142 | 6 باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد ، ط1388 هـ . وبحار الاَنوار 5 : 57 | 104 .

( 80 )
حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » (1).
فلا يوجد في هذا الكون ولا في حياة الاِنسان قبض وبسط وسعة وضيق ويسر وعسر إلاّ بحكم الله ومشيئته .
عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « ما من قبض ولا بسط إلاّ ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء » (2).
إذن لله تعالى الحضور الدائم المتّصل في هذا الكون كلّه ، وفي كلّ مساحة القضاء والقدر ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يجري في هذه المساحة بشيء من دون حضوره ، وله قيمومة دائمة على كلّ الكون وهو الحيّ القيّوم ( الله لا إله إلاّ هو الحيُّ القيُّوم لا تأخذه سِنةُ ولا نوم ) (البقرة 2 : 255).
4 ـ تتّم المعاصي من الناس بقضاء الله وقدره ولا يُعصى مغلوباً :
وإذا كان كلّما يجري في هذا الكون وفي حياة الاِنسان يجري بقضاء وقدر. وإذا كان ما يجري من القضاء والقدر بإرادة الله ومشيئته ، فلا محالة تجري أفعال الاِنسان جميعاً من خير وشرّ ، وطاعة ومعصية بإذنه وإرادته، ولا يمكن أن يقع من الاِنسان عصيان أو ذنب خارج دائرة سلطانه وقضاءه وقدره وإذنه . يقول تعالى: ( وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ) (البقرة 2 : 102) .
( ولو شاء الله ما فعلوه ) (الاَنعام 6 : 137) .

____________
(1) بحار الاَنوار 5 : 9 ـ 10 | 14 عن الخصال للصدوق .
(2) الكافي 1 : 152 | 1 باب الابتلاء والاختيار ـ كتاب التوحيد .

( 81 )
( ولو شاء الله ما اقتتلوا ) (البقرة 2 : 253) .
( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) (البقرة 2 : 20) .
فإذا عصى الاِنسان ربّه عزّ وجلّ فإنّما يعصيه بما آتاه من سلطان وحول وقوة، ولو أنّ الله تعالى سلب عنه حوله وقوّته لم يتمكّن من معصية الله، وهي حقيقة يقرّها القرآن ولابدّ من الاعتراف بها . رغم مناقشات الاَشاعرة الطويلة حول هذا الموضوع .
روى الكليني رحمه الله عن حمزة بن حمران قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الاستطاعة فلم يجيبني ، فدخلت عليه دخلة أُخرى... فقلت : أصلحك الله، إنّي أقول : إنّ الله تبارك وتعالى لم يكلّف العباد مالا يستطيعون ، ولم يكلّفهم إلاّ ما يطيقون ، وإنّهم لا يصنعون شيئاً من ذلك إلاّ بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره .
قال : فقال عليه السلام : « هذا دين الله الّذي أنا عليه وآبائي » (1)
وروى علي بن إبراهيم الهاشمي قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول : « لا يكون شيء إلاّ ما شاء الله ، وأراد وقدّر وقضى » (2)
وروى الصدوق في التوحيد باسناده عن علي بن يقطين عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : « مرّ أميرالمؤمنين عليه السلام على جماعة بالكوفة وهم يختصمون في القدر ، فقال لمتكلّمهم : أبالله تستطيع أم مع الله ، أم من دون الله تستطيع ؟ فلم يدر ما يردّ عليه ، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : إنّك إن
____________
(1) أُصول الكافي 1 : 124 | 4 باب الاستطاعة ـ كتاب التوحيد . والتوحيد ، للصدوق : 346 | 3 .
(2) اُصول الكافي 1 : 150 | 1 باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد .

( 82 )
زعمت أنّك بالله تستطيع فليس لك من الاَمر شيء ، وإن زعمت أنّك مع الله تستطيع ، فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ، وإن زعمت أنّك من دون الله تستطيع فقد ادّعيت الربوبية من دون الله عزّ وجلّ » (1).
وروى الكليني ، عن علي بن الحكم ، وعبدالله بن يزيد جميعاً ، عن رجل من أهل البصرة ، قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الاستطاعة ، فقال عليه السلام : « أتستطيع أن تعمل مالم يكوّن » ؟ قال : لا ، قال عليه السلام : «فتستطيع أن تنتهي عمّا قد كوّن » ؟ قال : لا، قال: فقال له أبو عبدالله عليه السلام : « فمتى أنت مستطيع » ؟ قال : لا أدري ، قال : أبو عبدالله عليه السلام : « إنّ الله خلق خلقاً فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثمّ لم يفوّض إليهم ، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل ، فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلاً لم يفعلوه ، لاَن الله عزّ وجلّ أعزّ من أن يضادّه في ملكه أحد » ، قال البصري : فالناس مجبورون ؟ قال عليه السلام : « لو كانوا مجبورين كانوا معذورين » ، قال : ففوّض إليهم ؟ قال عليه السلام : « لا » ، قال : فما هم ؟ قال عليه السلام : « عَلِمَ منهم فعلاً فجعل فيهم آلة الفعل ، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين » . قال البصري : أشهد أنّه الحقّ وأنّكم أهل بيت النبوّة والرسالة (3).
روى الكليني رضي الله عنه عن محمّد بن أبي عبدالله ، عن سهل بن زياد ، وعلي ابن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد جميعاً ، عن علي بن الحكم ، عن صالح النيلي قال : سألت أبا
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 161 ـ 162 | 2 باب الاستطاعة ـ كتاب التوحيد ، ط دار الاضواء ـ بيروت . التوحيد ، للصدوق : 352 | 23 ط 1398 هـ . وبحار الاَنوار 5 : 39 | 61 .
(2) أُصول الكافي 1 : 123 | 2 ط 1388 هـ .

( 83 )
عبدالله عليه السلام : هل للعباد من الاستطاعة شيء ؟ قال : فقال لي عليه السلام : « إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة الّتي جعلها الله فيهم » . قال : قلت: وما هي ؟ قال عليه السلام : « الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعاً للزناً حين زنى ، ولو أنّه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعاً لتركه إذا ترك ـ قال : ثمّ قال ـ ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ، ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعاً » . قلت : فعلى ماذا يعذّبه ؟ قال عليه السلام : « بالحجّة البالغة والآلة التي ركّب فيهم ، إنّ الله لم يجبر أحداً على معصيته ، ولا أراد ـ إرادة حتم ـ الكفر من أحد ، ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر ، وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير » . قلت : أراد منهم أن يكفروا ؟ قال عليه السلام : « ليس هكذا أقول ، ولكنّي أقول : علم أنّهم سيكفرون ، فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنّما هي إرادة اختيار » (1).
وروى الصدوق عن حفص بن قرط عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من زعم أنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشرَّ بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار » (2).
روي في الصحيح من طريق الصدوق رضي الله عنه في التوحيد والعيون أنّه
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 123 | 3 باب الاستطاعة ـ كتاب التوحية ، ط 1388 هـ .
(2) الكافي 1 : 158 | 6 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد . التوحيد ، للصدوق : 359 | 2 . وبحار الاَنوار 5 : 52 | 85 .

( 84 )
قال: حدّثنا أبي قال : حدّثنا سعد بن عبدالله قال : حدّثنا أحمد بن محمّد ابن خالد البرقي عن أبيه عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : « ألا اُعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحد إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك . فقال عليه السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ لم يُطَعْ بإكراه ، ولم يُعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإنّ ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه . ثمّ قال عليه السلام : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (1).
وروى الكليني عن إسماعيل بن جابر قال : كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون ، قال فقلت : يا هذا أسألك ؟ قال : سل ، قلت : يكون في ملك الله تبارك وتعالى مالا يريد ؟ قال : فأطرق طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ فقال : يا هذا ! لئن قلت : إنّه يكون في ملكه مالا يريد ، إنّه لمقهور ، ولئن قلت : لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد أقررت لك بالمعاصي ، قال : فقلت لاَبي عبدالله عليه السلام : سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا ،فقال عليه السلام : « لنفسه نظر أما لو قال غير ما قال لهلك » (2) وروى الصدوق في التوحيد بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال : « حدّثنا أبي عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام قال : سمعت أبي عليّ
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 . وبحار الاَنوار 5 : 16 | 22 .
(2) الكافي 1 : 159 | 7 باب 30 كتاب التوحيد .

( 85 )
ابن أبي طالب عليه السلام يقول : الاَعمال على ثلاثة أحوال :
1 ـ فرائض .
2 ـ وفضائل (نوافل) .
3 ـ ومعاصي .
فأمّا الفرائض : فبأمر الله عزّ وجل وبرضا الله وبقضاء الله وتقديره ومشيّته وعلمه.
وأمّا الفضائل : ـ النوافل ـ فليست بأمر الله ، ولكن برضاء الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته وبعلمه .
وأمّا المعاصي : فليست بأمر الله ، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيّته وبعلمه ، ثمّ يعاقب عليها » (1).
وهذا النصّ واضح في أنّ ما يجري من الاِنسان من المعاصي والذنوب هي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وليست بأمر الله .
5 ـ التفكيك بين إرادة الله التكوينية والتشريعية :
وإذا كان الله تعالى لا يعصى مقهوراً ، فلابدّ أن تكون المعصية بإذنه ومشيئته وإرادته . وهذه حقيقة لابد أن ننتهي إليها . وعندئذ من الحقّ أن نتسائل : كيف يريد الله معصية الله ، وهو ينهى عنها ولا يرضاها ولا يريدها؟ وهذه (عقدة) كان يقف عندها غالباً الحوار الّذي يجري بين
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 369 | 9 . وبحار الاَنوار 5 : 29 | 36 .

( 86 )
الاَشاعرة والمعتزلة في التاريخ .
يقول ابن الخيّاط : إنّ هشام بن عبدالملك لمّا بلغه قول غيلان (الدمشقي) بالاختيار ، قال : ويحك يا غيلان ! لقد أكثر الناس فيك ، فنازعنا في أمرك ، فإنّ كان حقّاً اتّبعناك . فاستدعى هشام ميمون بن مروان ليكلّمه، فقال له غيلان : أشاء الله أن يعصى ؟ فأجابه ميمون : أفعصي كارهاً ؟ فسكت غيلان ، فقطع هشام بن عبدالملك يديه ورجليه (1).
وقيل إنّ (غيلان الدمشقي) الّذي كان يذهب مذهب الاختيار وقف على رأس (ربيعة الرأي) الذي كان يذهب مذهب (الجبر) في القضاء والقدر . فقال : أنت الّذي يزعم أنّ الله يحبّ أن يعصى ؟
فقال له ربيعة : أنت الّذي يزعم أنّ الله يعصى قهراً (2).
وتنحل هذه العقدة العجيبة بالتفكيك بين الاِرادة التكوينية والاِرادة التشريعية ، وهو ما صنعه أهل البيت عليهم السلام في حلّ هذه المشكلة ، ولربّما لاوّل مرّة في التاريخ العقلي الاِسلامي . وعندئذ يكون جواب غيلان لميمون بن مروان أو لربيعة الرأي واضحاً ، ولن يطول تردّده طويلاً في الاجابة القاطعة على هذا التساؤل الغريب .
والجواب : إنّ الله لا يعصى كارهاً ولا مقهوراً ، إذا كان المقصود من الكراهية والقهر (الاِرادة التكوينية) وإنّما يعصى بإرادته سبحانه وتعالى من دون كراهية وقهر كما بيّنا ذلك بوضوح في الفقرة السابقة .

____________
(1) الانتصار ، للخياط : 179 ـ نقله عن منية الامل : 30 ـ 32 .
(2) الاِنسان والقدر ، الشيخ المطهري : 38 .

( 87 )
وأمّا إن كان المقصود منها (الاِرادة التشريعية) فليس من بأس أن يعصى الله تعالى وهو يكره المعصية ، فإنّ الناس يكثرون من معصية الله تعالى ، والله تعالى يكره معصيتهم ويمقتها ويغضب عليهم من أجلها ، وإن كانت هذه المعاصي تجري جميعاً بإرادته وإذنه ، وفي ملكه وسلطانه ، وبما أتى عباده من حول وقوّة وطول . واختلاف الاِرادتين في الاِذن وعدم الاِذن ليس من التناقض في شيء ، إذا ميّزنا بشكل دقيق بين الاِرادة التكوينية والاِرادة التشريعية ، ولسنا نعلم هل كان التفكيك بين الاِرادتين والتمييز بينهما معروفاً في هذا التاريخ أم لا .
ويغلب على الظنّ أنّ هذا التفكيك لم يكن معروفاً . وإلاّ لم يتوقّف (غيلان الدمشقي) يومذاك عن جواب ميمون ، أو ربيعة الرأي ، إذا صحّت الرواية.
وعلى أيّ ، فلنتأمّل في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في التفكيك بين هاتين الاِرادتين :
روى الكليني بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال : سمعته يقول : « أمر الله ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر . أمر إبليس أن يسجد لآدم، وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد . ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل » (1).
ومنها ماروي من طريقه رضي الله عنه أيضاً عن علي بن إبراهيم ، عن المختار بن
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 117 | 3 باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية ط 1388 هـ . وبمضمونه التوحيد ، للصدوق: 343 | 12 ، ط 1398 هـ .

( 88 )
محمّد الهمداني ومحمّد بن الحسن، عن عبدالله بن الحسن العلوي جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم ، وإرادة عزم ، ينهي وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت انّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى . وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى »(1).
6 ـ حرّية الاختيار لدى الاِنسان داخل الدائرة الحتمية للقضاء والقدر :
وهذه النقطة بالذات هي عقدة البحث ، فإذا انحلّت هذه النقطة واتّضحت اتضح ما قبلها وبعدها .
إنّ الاِنسان يملك بصريح الوجدان والقرآن كامل حرّيته في الاختيار والفعل وإمارة حريته في الاختيار تردده في الانتخاب . ومسؤوليته عن فعله وإحساسه بالندم والراحة عند انتخاب ما يصلح وما لا يصلح . والوجدان أقوى شاهد على هذه الحقيقة . وقد رأينا في موضع سابق من هذا البحث أنّ القرآن يقرر حرّية اختيار الاِنسان في طوائف كثيرة من الآيات . ولسنا بصدد إثبات هذه الحقيقة الآن أكثر من ذلك . واختيار الاِنسان يقع على مفترق طرق يقف عنده الاِنسان غالباً أو دائماً . ولاَيّ سبيل من هذه السبل يختاره الاِنسان حكم قطعي وحتمي في دائرة القضاء والقدر المحكم والمتقن الّذي شرحناه من قبل .
____________
(1) أُصول الكافي 1 : 117 | 4 باب المشيئة والارادة ـ كتاب التوحيد .

( 89 )
فليس من سبيل للاِنسان أن يخرج عن دائرة (القضاء والقدر) وحكمه القطعي المتقن والدقيق ، وهو لا محالة يعيش ويتحرّك ويعمل ويختار في هذه كما ذكرنا . ولكنه يملك مطلق الاختيار دائماً أو غالباً في اختيار سبيل من هذه السبل المختلفة الّتي يجدها أمامه عن معرفة ووعي .
المريض إذا اهتم بمرضه وراجع الطبيب واتّخذ العلاج يشفى ، وإن أهمل مرضه يتضاعف المرض عنده . والطالب إذا نشط واجتهد ينجح وإذا كسل وأهمل دروسه يفشل . والعامل إذا عمل وتحرّك في السوق ، يغنيه الله ، وإذا تهاون في البحث عن العمل يفتقر . والاِنسان إذا عاشر الصالحين يصلح ويأخذ منهم الصلاح . وإذا عاشر الفاسدين يأخذ منهم الفساد .
وكلّ هذه النتائج من القضاء والقدر الحتم والمتقن الّذي لا سبيل للتشكيك فيه . فإنّ الاِنسان الّذي يجتهد في طلب العلم يكون عالماً بالضرورة والحتم ، وهذا هو (القضاء) وتكون معرفته في الحقل الّذي اجتهد فيه ، دون غيره من الحقول ، وبمقدار اجتهاده ودراسته ، وهذا هو (القدر).
إنّ اختيار الاِنسان في المباديء دائماً والاَحكام الفعلية الّتي قلنا إنّها من القضاء والقدر هي في النتائج دائماً .
وهذه المباديء تستتبع هذه النتائج دائماً بصورة قطعية ومتقنة . ولا سبيل للاِنسان للتخلّص من هذه النتائج القطعية ، وإن كان له مطلق الحرية في اجتناب واحد أو أكثر من هذه السبل في البدء .
ولعلّ الآية الكريمة من سورة الرعد ، لا تكون بعيدة عن هذا المعنى :
( 90 )
(إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) (الرعد 13 : 11) وبهذه الصورة نرى أنّ الله تعالى مكّن الاِنسان أن يمارس اختياره وحرّيته في وسط نظام محكم ومتقن من القضاء والقدر في الحياة الاجتماعية وفي الكون . فلا يضرّ الاختيار بحتمية القضاء والقدر ولا يمس القضاء والقدر من حرّية الاِنسان في الاختيار على الاِطلاق . وإلى هذا المعنى الدقيق يشير حديث أميرالمؤمنين عليه السلام مع الشيخ الّذي سأله عن مسيرهم إلى أهل الشام بعد منصرفه من صفّين . وقد قدّمنا هذا الحديث في النقطة الاَولى من هذه النقاط . ففي بدء الحديث يقول له الاِمام عليه السلام : « أجل يا شيخ ما علوتم من تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر » وهذه الفقرة واضحة أنّهم في خروجهم إلى صفّين ومحاربتهم لمعاوية وعودتهم إلى الكوفة، كانوا يتحرّكون في دائرة القضاء والقدر ولم يخرجوا من دائرة القضاء والقدر إطلاقاً.
فلمّا فهم الشيخ من كلام الاِمام عليه السلام إنّ هذه الحتمية (القضاء) كان في مرحلتي المباديء والنتائج معاً ، وأنّهم لم يملكوا من أمرهم شيئاً في هذه المرحلة الطويلة ، فقال : (عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين) وضّح له الاِمام عليه السلام ما اشتبه عليه من الاَمر فقال : « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والاَمر والنهي... إنّ الله تعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً » .
إنّ القضاء والقدر لن يكون إلاّ حتماً ومقدّراً بصورة دقيقة ، ولكن الّذي يملك الاختيار في المباديء يملك الاختيار في النتائج بالضرورة . فإنّ النتائج تتبع المباديء ، فإذا مكّن الله الاِنسان من المباديء مكّنه من النتائج أيضاً ، وإن احتفظت النتائج بصفتها الحتمية والمقدّرة في ظروفها
( 91 )
وشروطها . وهذا هو معنى كلام الاِمام عليه السلام للشيخ السائل « أتظنّ قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ لو كان كذلك لبطل الثواب » .
وتعبير القرآن عن هذا التراوح الّذي يتمّ بين الاختيار في عمل الاِنسان والحتمية في النتائج المترتبة على عمله... تعبير دقيق يقول تعالى : ( كلّ نفس بما كسبت رهينة ) (المدّثر 74 : 38) .
فالعمل الّذي يعمله الاِنسان ويكسبه لنفسه باختياره وحرّيته ، ولكنّه لايملك التخلّص من النتائج القطعية المترتبة على هذا العمل فيبقى (رهيناً) له .
إذن الاِنسان وإن كان يعيش في وسط نظام محكم متقن ، ولكن بامكانه أن يتحوّل من قضاء إلى قضاء ، ومن قدر إلى قدر .
روى الاَصبغ بن نباته أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله ؟
قال عليه السلام : « أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ » (1) .
وروى الصدوق باسناده عن إبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «في كلّ قضاء الله خيرة للمؤمنين » (2).
وروى الصدوق رحمه الله في الاعتقادات : انّه سئل الصادق عليه السلام عن الرُقى
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 369 | 8 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 371 | 11 .

( 92 )
هل ترفع من القدر شيئاً ؟ فقال عليه السلام : « هي من القدر » .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه سُئل هل يغني الدواء والرُقية من القدر؟ فقال لمن سأله : « الدواء والرُقية من قدر الله » (1).
الله أرحم من أن يعذّب خلقه على ما أكرههم عليه :
ولمّا كانت هذه النقطة بالذات محور الصراع والخلاف الفكري مع الاَشاعرة الّذين كانوا يذهبون إلى حتمية السلوك لدى الاِنسان ، ويسلبون منه الاِرادة والاختيار فقد ورد التأكيد عليه كثيراً في نصوص أهل البيت ، كما ورد التأكيد كثيراً في النقطة المقابلة لها ، وهي رفض استقلال الاِنسان ورفض التفويض الّذي كانت المعتزلة تذهب إليه ، وهي النقطة الثالثة من هذه المجموعة من النقاط .
روى الكليني في الكافي ، والصدوق في التوحيد عن يونس بن عبدالرحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام قالا : « إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » (2).
وروى الكليني رحمه الله عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله » (3)
____________
(1) المختار في الجبر والاختيار ، للسيد محمد علي الصادقي : 123 .
(2) أُصول الكافي 1 : 121 | 9 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية 1388 هـ .
(3) أُصول الكافي 1 : 120 | 2 باب الجبر والقدر ، والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد ، المكتبة الاِسلامية 1388 هـ .

( 93 )
والنقطة الاَولى إشارة إلى الاتّجاه الجبري الّذي كان يتبنّاه الاَشاعرة حيث ينسبون ما يأتي من الاِنسان من المعاصي إلى الله تعالى مباشرة . والنقطة الثانية إشارة إلى ما يتبنّاه المفوّضة من نسبة قضاء الخير وقضاء الشرّ إلى الاِنسان مباشرة .
والنصوص عن أهل البيت عليهم السلام كثيرة بهذا الصدد .
7 ـ مسؤولية الاِنسان في فعله :
وهذه النقطة تتبع النقطة السابقة ، والاِنسان لو كان هو الّذي يختار (في مرحلة المباديء) السبيل الّذي يسلكه يتحمّل بالضرورة ، نتائج ومسؤوليات كلّ ما يترتّب على فعله من آثار ونتائج قطعية ومتقنة . والمسؤولية هي نتيجة الاختيار ، وفي نفس الوقت فإنّ الاحساس الوجداني الواضح عند الاِنسان بالمسؤولية هو أمارة الاختيار والقرآن يعمّق الاحساس بالمسؤولية عند الاِنسان يقول تعالى :
( وقفوهم إنّهم مسؤولون ) (الصافّات 37 : 24) .
( فلنسألنّ الّذين أُرسل اليهم ولنسألنّ المرسلين ) (الاَعراف 7 : 6) .
( فوربّك لنسألنّهم أجمعين ) (الحجر 15 : 92) .
( ولتسألنّ عمّا كنتم تعملون ) (النحل 16 : 93) .
( ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النعيم ) (التكاثر 102 : 8) .

( 94 )
إذن لوجود عامل الاختيار في سلوك الاِنسان تنسب أعمال الاِنسان إليه ، كما يتحمّل هو مسؤولية نتائج أعماله .
روى الكليني في الكافي والصدوق رضي الله عنه في التوحيد عن الحسين بن علي الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال سألته : فقلت : الله فوّض الاَمر إلى العباد ؟
قال عليه السلام : « الله أعزّ من ذلك » .
قلت : فجبرهم على المعاصي ؟
قال عليه السلام : « الله أعدل وأحكم من ذلك » .
ثمّ قال عليه السلام : « قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم ، أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي . عملتَ المعاصي بقوتّي الّتي جعلتها فيك (1).
8 ـ الهيمنة الاِلهية على حركة القضاء والقدر في الكون والتاريخ :
عرفنا من قبل أنّ نظام (القضاء والقدر) هو النظام الحاكم على الكون والتأريخ . وبعد ذلك عرفنا أنّ هذا النظام هو نظام ربّاني من خلق الله تعالى وإبداعه . ثمّ قلنا إنّ هذا النظام قائم بالله تعالى في كلّ لحظة ، وفي كلّ حال ، ولم ينفصل ولم يستقلّ عن الله في لحظة واحدة والله تعالى هو القيّوم والقيّم على هذا النظام ويتّصل سلطانه ونفوذه وقيمومته على الكون . هذا ما ذكرناه من قبل ، والآن نقول : إنّ علاقة الله تعالى بالكون لا تقف عند حدود القيمومة ، وحفظ النظام ولكن الله تعالى هو (المهيمن)
____________
(1) الكافي 1 : 157 | 3 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .

( 95 )
على الكون.
وتحتاج هذه الفقرة إلى شيء من التوضيح : أنّ نظام القضاء والقدر الحاكم في الكون ليس نظاماً ذا بعد واحد وإنّما هو نظام متعدّد الابعاد ، وكلّ بُعد منه يجري بموجب النظام بشكل قطعي ومتقن . والله تعالى مهيمن على هذه الاَبعاد جميعاً . يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب .
إذن : نظام القضاء والقدر في الوقت الّذي لا يتخلّف ولا يتزعزع ، نظام خاضع لسلطان الله تعالى وهيمنته بالمحو والاثبات ، فيثبت منه ما يشاء ويمحو منه ما يشاء ويغيره ، وليس معنى المحو إلغاء نظام القضاء والقدر أو تعطيله ، وإنّما معناه تبديله بغيره . وهذا أمر يدخل في حيّز سلطان الله تعالى المطلق . يقول تعالى : ( يمحواْ الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) (الرعد 13 : 39) والاِنسان يتعامل مع نظام القضاء والقدر ، ويتحرّك ويعمل ، ويختار ضمن هذا النظام الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته المطلقة . فلا يمكن أن ينفصل أو يستقلّ عن إرادة الله ومشيئته في حركته وعمله في دائرة هذا النظام . كيف وهذا النظام وسيط متّصل بالله تعالى . وخاضع لقيمومته ، وهيمنته في كلّ لحظة .
روى الصدوق في (التوحيد) عن عبدالله بن ميمون القداح ، قال : دخل على أبي عبدالله الصادق عليه السلام أو أبي جعفر الباقر عليه السلام رجل من أتباع بني أميّة فخفنا عليه ، فقلنا له : لو تواريت ، وقلنا : ليس هو هـهنا . قال عليه السلام : « بل أئذنوا له فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّ الله عزّ وجلّ عند لسان كلّ قائل ويد كلّ باسط . فهذا القائل لا يستطيع أن يقول إلاّ ما شاء الله ، وهذا الباسط
( 96 )
لا يستطيع أن يبسط يده إلاّ بما شاء الله » . فدخل عليه فسأله عن أشياء وآمن بها وذهب (1).
9 ـ قانون الاِمداد والخذلان الاِلهي في حياة الناس :
لاشكّ أنّ الله تعالى وهب أفراد الاِنسان الاختيار في الفعل عند مفارق الطرق ، ووهبهم العقل والوعي والتمييز ، وأتاهم البيّنات ، كلّ ذلك صحيح . ولسنا نتصور رحمة فوق هذه الرحمة ، ولكنّ الله تعالى وهو المهيمن على الكون ، والاِنسان ، يمد الاِنسان عند كلّ مفترق طريق ، وكلّما يشقّ على الاِنسان الاختيار ، وعند كلّ خيار صعب من خيارات الهدى... يمده من عنده بالتوفيق والتأييد والتسديد إذا أراد الطاعة .
وإذا أراد المعصية لم يتركه لنفسه ، وانما يخذله عن المعصية ، ويدفعه عنها .
فإذا أصرّ وأبى وركب رأسه وعاند تخلّى عنه وأوكله إلى نفسه وأضلّه الله تعالى .
روى الصدوق رضي الله عنه في (عيون أخبار الرضا) عن تميم القرشي ، عن أبيه، عن أحمد بن علي الانصاري ، عن يزيد بن عمير بن معاوية الشامي، قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو فقلت له : يابن رسول اللّه روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام انّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » فما معناه ؟ فقال عليه السلام : « من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 337 | 3 .

( 97 )
فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك » . فقلت له : يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟ فقال عليه السلام : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه » . فقلت له : فهل لله عزّ وجلّ مشيئة وإرادة في ذلك ؟ فقال عليه السلام : « أمّا الطاعات فارادة الله ومشيئته فيها الامر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها» . قلت : فلله عزّ وجلّ فيها القضاء ؟ قال عليه السلام : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه قضاء » . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قال عليه السلام : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ، ولكن العبد إذا أصرّ على العصيان والتمرّد أحاله الله تعالى إلى نفسه ، وأوكله إليها ، وحجبه عن الايمان » .
روي من طريق الصدوق رضي الله عنه في (العيون) أنّه قال : حدّثنا عبد الواحد ابن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال : حدّثنا محمّد بن علي بن قتيبة النيسابوري ، عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاِسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ) (الانعام 6 : 125) قال عليه السلام : « من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنّته ودار كرامته يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون على ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً ، يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنّما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لايؤمنون » ، وقد عرفت فيما مضى المراد من شرح الصدر وضيقه .

( 98 )


( 99 )


الخاتمة

والنتيجة الّتي ننتهي إليها بعد هذه الجولة في كلمات أهل البيت عليهم السلام ، في هذه المسألة الحسّاسة : إنّ الاِنسان يقع وسطاً بين (الجبر) و(التفويض) وهو ما أسماه أهل البيت عليهم السلام بـ (الاَمر بين الاَمرين) وليس الاَمر بين الاَمرين تلفيقاً بين الجبر والتفويض بمعنى أن في سلوك الاِنسان شيء من الجبر وشيء من التفويض . بل بمعنى نفي الجبر والتفويض و (الاستقلال) في سلوك الاِنسان .
فهو من جانب : حرٌّ في الاختيار يختار بكامل حرّيته ، ومنحه الله تعالى كلّ المواهب التي تتطلبه هذه الحرّية من العقل والتمييز والرشد .
ومن جانب آخر : يرتبط ويتعامل في اختياره وفعله مع نظام القضاء والقدر الخاضع لقيمومة الله تعالى وهيمنته ، ويقع هو واختياره وفعله وسط هذه القيمومة ، والهيمنة والرعاية الاِلهية .
روى الصدوق عن حريز بن عبدالله ، عن الصادق عليه السلام قال : « إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه ، فهو كافر .
ورجل يزعم أنّ الاَمر مفوّض إليهم ، فهذا قد أوهن الله عزّ وجلّ في سلطانه ، فهو كافر .
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم مالا يطيقون، وإذا
( 100 )
أحسن حمد الله واذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ » .
وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن الرضا عليه السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال عليه السلام : « ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه » ؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، قال عليه السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل . وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ـ ثمّ قال عليه السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (1).
وروى الصدوق عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الاَمرين »، قال: فقلت وما أمر بين الاَمرين؟
قال عليه السلام : « مثل ذلك : مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ، ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية » (2).
وقد يتصوّر الاِنسان أن مساحة الاَمر بين الاَمرين مساحة محدودة في حياة الاِنسان . وأمّا مساحة الجبر والتفويض فهي أوسع مساحة في حياته، فإنّ الاِنسان يتعامل فعلاً مع نظام القضاء والقدر بشكل مباشر من
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 . وانظر اُصول الكافي 1 : 122 | 13 ، منشورات المكتبة الاِسلامية 1388هـ .

( 101 )
خلال اختياره ولا يشعر بالرعاية الاِلهية وهيمنة الله تعالى على حركته وحياته إلاّ نادراً . وهو لاشكّ إحساس خاطىء ينشأ من احتجابه عن الله تعالى وألطافه الخفية ، وإلاّ فإنّ مساحة الاَمر بين الاَمرين هي كلّ مساحة حياة الاِنسان ، وهو في كلّ شؤونه وأعماله وحركاته يتعامل مع الله تعالى ، ويأخذ من الله من حيث لايشعر ، ولله تعالى في حياة الاِنسان إمدادات غيبيّة وألطاف خفية لا يشعر بها الاِنسان ، إلاّ من آتاه الله تعالى من عنده بصيرة وفقهاً ومعرفة .
روى الكليني رحمه الله في (الكافي) والصدوق في (التوحيد) عن يونس بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام ـ قالا : «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون » . فسئُلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا عليهما السلام : « نعم ، أوسع مما بين السماء والاَرض » (1).
وفي رواية اُخرى للكليني رحمه الله في (الكافي) عن يونس ، عن عدّة عن أبي عبدالله عليه السلام قال له رجل : جعلت فداك ، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال عليه السلام : « الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها » . فقال له : جُعلت فداك ، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال عليه السلام : « لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالاَمر والنهي » . فقال له : جعلت فداك ، فبينهما منزلة ؟ قال : فقال عليه السلام : « نعم أوسع ما بين السماء والاَرض » (2).
وهذه الاَحاديث والنصوص تبيّن لنا حقيقة هامّة يجب أن نأخذها بنظر
____________
(1) الكافي 1 : 159 | 9 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .
(2) الكافي 1 : 159 | 11 باب الجبر والقدر والاَمر بين الاَمرين ـ كتاب التوحيد .

( 102 )
الاعتبار ، ونلتزم بها ، وهي أن نلمس يد الله تعالى ورعايته لنا في حياتنا ، ونستشعر معيّة الله تعالى لنا في كلّ حركة وسكون . والاِنسان عندما يتجرّد عن الحوار العقائدي القائم في التأريخ العقلي الاِسلامي ويعود إلى نفسه يؤمن بشكل واضح ـ ومن غير ترديد ـ إنّ الله تعالى لم يتخلّ عنه في لحظة من لحظات حياته ، ولم ينفرد الاِنسان ولم يستقل عن رعاية الله ويد الله في شيء من حياته .
ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الكون لتلاشى الكون . ولو أنّ الله تعالى تخلّى عن الاِنسان وأوكله إلى نفسه ، وإلى نظام القضاء والقدر لبلغ الاِنسان منذ أمد بعيد طريقاً مسدوداً .
ولكن رعاية الله تعالى تواكب مسيرة الاِنسان وحركته الفردية والتأريخية ، وترعاه عند كلّ منعطف ، وفي كلّ مشكلة ، وتسدّده ، وتهديه، وتعينه ، وتلطف به ، وتستر عليه ، وتحفظه .
إنّ قراءة عامّة لكتاب الله تعالى تعمّق فينا هذا الاحساس بشكل واضح، وتشعرنا أنّ القرآن يريد أن يربط مسيرتنا وحياتنا بالمعية والرعاية الاِلهية ، ويربّينا على الاحساس بالستر الدائم المتّصل لله علينا ، وبحفظ الله لنا وإمداده المتّصل، وليس في القرآن كلّه رغم حرص القرآن على تثبيت مبدأ الاختيار إشارة أو إيهام بأنّ الاِنسان يستقل عن الله تعالى في الاختيار والقرار والفعل ، أو أنّ الله تعالى أوكل الاِنسان إلى نفسه في الاختيار والفعل والقرار . وويل للانسان إذا أوكله الله تعالى إلى نفسه .
ومن غير الممكن في نظام الوجود وقانون العلّية والاِمكان من الناحية العقلية أن يستقلّ الانسان عن الله تعالى في القرار ، والفعل والاختيار ،
( 103 )
ولكن لو فرضنا إمكان ذلك من الناحية العقلية واستقلّ الاِنسان عن الله تعالى ، وأوكل الله أمر الاِنسان إليه وإلى نظام القضاء والقدر لسقط الاِنسان منذ أمد بعيد ووصل إلى طريق مسدود لاخلاص له منه في بعض هذه المآزق والاَزمات .
وبعد ، فبالاستناد إلى ما تقدم نستطيع أن نجد منها ـ إن شاء الله ـ العناصر الاَساسية لصياغة نظرية أهل البيت عليهم السلام المقتبسة من القرآن في القضاء والقدر والسلوك الفردي والتأريخي للانسان .
اللّهمّ إنّنا آمنّا بك وبرحمتك وسترك وإمدادك ورعايتك لعبادك ، وطالما لمسنا هذه الرعاية والستر والحفظ والتوفيق منك ـ عزّ شأنك ـ لنا في حياتنا فاكتبنا مع المؤمنين ، واكتبنا مع الشاهدين .