الالهيّات ::: أ ـ ع
محاضرات
الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني
الإلهيات
على هدى الكتاب والسُّنة والعقل
الجزء الأول
بقلم
الشيخ حسن محمد مكي العاملي


(أ)
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير بقلم المحاضر
    الحمد لله الّذي علم السرائر ، وخبر الضمائر ، له الإحاطة بكل شيء ، والغلبة لكل شيء ، والقوة على كل شيء ، دلّت عليه أعلام الظهور ، وأدرك بذاته خفيّات الأمور ، إمتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولاقلب من أثبته تبصره ، سبق في العلم فلا شيء أعلى منه ، وقَرُب في الدنو فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الّذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عما يقول المشبّهون به ، والجاهلون له ، علواً كبيراً.
    والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله ، وبعيثه وصفوة خلقه ، الّذي أرسله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه ، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من


(ب)
     غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ، وخوفهم من سطوته.
    وعلى آله الذين هم موضع سرّه ولجأ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، واذهب ارتعاد فرائصه.
    وعلى صحبه المنتجبين الذين قرؤا القرآن فاحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، وأحيوا السنّة ، وأماتوا البدعة ، صلاة دائمة ما دامت السماء ذات أبراج ، والأرض ذات فجاج (1).
    أما بعد :
    فقد التحق النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالرفيق الأعلى وقد ترك بين الأمة وديعتين عظيمتين ، وأمانتين كبيرتين عرّفهما بقوله : « إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (2).
    وعلى ضوء هذا البيان من نبي العظمة ، فالكتاب والعترة مقياس الحق ونبراس المعرفة ، لا يضل من تمسك بهما أبداً ، ففيهما أعلام الهداية ، ودلائل الحقيقة ، وأنوار للنهى والعقول.
     1 ـ الخطبة برمّتها مأخوذة من خطب الإمام علي ( عليه السَّلام ) في مواضع مختلفة من نهج البلاغة ، لاحظ الخطب 2 و 49 و 85 و 181 و 147.
    2 ـ حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة أخرجه الحفاظ في صحاحهم ومسانيدهم وما نقلناه مأخوذ من مسند الإمام أحمد (م 242 هـ ) ، ج 3 ، ص 17 و 26. وأخرجه في كنز العمال ، ج 1 ، ص 47 ، الحديث 945. وقد جمع المتتبع الخبير السيد مير حامد حسين الهندي (م 1306) أسناده ومتونه وطبع في ستة أجزاء وهي جزء من أجزاء كتابه الكبير الذائع الصيت « عبقات الأنوار ».


(ج)
     وكان المتوقع من أمة ورثت هذه التركة النفيسة الغالية أن تكون مرصوصة الصفوف ومتوحدتها ، غير مختلفة في الأصول والفروع ، سالكة سبل الحياة بهدوء وطمأنينة. ولكن ـ يا للأسف ـ حدثت حوادث وطرأت حواجز عرقلت خطاها ، وصدتها عن نيل تلك الأمنية المنشودة. فظهرت بينها آراء متشعبة ، ونبتت فيها فرق تحمل عقائد وأفكاراً لا توافق حكم الثقلين ، وتضاد مبادئ الإسلام وأُسسه. وما هذا إلاَّ لأجل عدم تمسكهم بما أمر النبي بالتمسّك به ، وهذا واضح لمن راجع تاريخ المسلمين. وليس المقام مناسباً لتفصيله ، « ودع عنك نَهَباً صيح في حجراته ... ».
علم الكلام وليد الضروريات الزمنية
    قام المسلمون بعد رحلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بفتح البلاد ، ومكافحة الأمم المخالفة للإسلام ، وكانت تلك الأمم ذات حضارة وثقافة في العلوم والآداب ، وكان بين المسلمين رجال ذوو علاقة متأصلة بكسب العلوم السائدة في تلك الحضارات. فأدت تلك العلاقة إلى المذاكرة والمحاورة أولاً ، وترجمة كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.
    وقد كانت معارف اليونان والرومان والفرس منتشرة في بلاد إيران والشام وما والاها الّتي فتحها المسلمون بقوة الإيمان ، وضرب السيوف ، فعند ذاك استولى المسلمون عليالعلوم اليونانية والإيرانية ، ونقلوها عن السريانية والفارسية إلى العربية (1).
    وأعان على أمر الترجمة وجود عدّة من الأسرى في العواصم الإسلامية ، فصار ذلك سبباً لانتقال كثير من آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي وانتشارها بينهم. وكان بين المسلمين من لم يتدرع في
     1 ـ الكامل : 5 / 294 ، حوادث سنة 240 هـ ، و ص 113.

(د)
     مقابلها ، بل كان بينهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها ، فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات الفكرية ، ونجمت فيهم الملاحدة نظراء : ابن أبي العوجاء ، وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن أياس ، وعبد الله بن المقفّع ، وغيرهم من رجال العيث والفساد. فهؤلاء اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الروم والفرس بما فيها من الضلال والإلحاد ، مع ما فيها من الحقائق الصحيحة. إلى أن عاد بعض المتفكرين غير مسلّمين للإسلام إلاّ بالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوّة والمعاد. فكانوا ينشرون آراءهم علنا ، ويهاجمون بها عقائد المؤمنين (1).
    وهذا هو العامل الأوّل لانتشار الفوضى في العقائد والأعمال والأخلاق والآداب. وهناك عامل ثان لهذه الحركة الهدّامة وهو حرية الأحبار والرهبان المتظاهرين بالإسلام في نقل ما ورثوا من القصص والأساطير من طريق العهدين والكتب المحرّفة. فوجدوا في المجتمع الإسلامي جواً مناسباً لإظهار البدع اليهودية والسخافات المسيحية والأساطير المجوسية فافتعلوا أحاديث نسبوها إلى الأنبياء والمرسلين ، كما افتعلوا بعضها على لسان النبي الأكرم ، فحسبها السذج من الناس والسوقة ، حقائق ناصعة وعلوماً ناجعة ملؤوا بها صدورهم وطواميرهم وتفاسيرهم للكتاب العزيز (2).
    ففي هذا الجو المشحون بالغزو الفكري من جانب الأعداء ، وعدم تدرّع المسلمين في مقابل هذه الشبهات والشكوك شعر المفكرون المخلصون من المسلمين بواجبهم ، وهو الدفاع عن العقيدة الإسلامية بنفس الأصول الّتي يدين بها المخالفون ، والطرق الّتي يسلكها المعادون. وكان نتيجة ذلك تأسيس علم الكلام لغاية الاستدلال على صحتها وذب الشكوك والشُبّه
     1 ـ الكامل : 5 / 294 ، حوادث سنة 240 هـ ، و ص 113.
    2 ـ لاحظ ميزان الاعتدال : 1 / 593 ; أمالي المرتضى : 1 / 127 ; مقدمة ابن خلدون : 439 ; المنار : 3 / 545.


(هـ)
     عنها. وفي ظل ذلك ظهرت طوائف من المتكلمين بمناهج مختلفة ، كل يحمل لواء الدفاع عن الإسلام ، ومقاومة التيارات الإلحادية والثنوية. وقد نجحوا في ذلك نجاحاً نسبياً وإنْ لم يتوفق في الوصول إلى الحق في جميع المجالات سوى القليل منهم (1).
    نعم ، كان هذا المقدار من النجاح جديراً بالإطراء ، لأن هذه الصفوة من المتفكرين وقعت بين عدوين : داخلي وخارجي.
    أما الأوّل : فهم أهل الحديث والقشريين والسطحيين من المسلمين الذين كانوا متأبّين عن الخوض في المسائل العقلية ، ويكتفون بما وصل اليهم من الصحابة ، ويقتصرون على ما حصلوا عليه من الدين بالضرورة ، وهم الحشوية من أكثر أهل الحديث والحنابلة أخيراً. وآفّتهم عدم التفريق بين الحديث الصحيح والزائف ، والكلام الحق والمفترى ، والعقائد الإسلامية والبدع اليهودية والمسيحية المستوردة من طريق الأحبار والرهبان المستسلمين ظاهراً ، والحاقدين عليه باطناً. حتّى ظهر القول بالتشبيه والتجسيم ، واعتناق ما ينبذه العقل الفطري بسبب هذه المرويات.
    وأما العدو الخارجي : فهم الملاحدة والثنوية ، فكانوا يعادون أهل التفكير من المسلمين لما يجدون فيهم من القدرة على الاحتجاج والمناظرة ، ومع ذلك فقد ساد التفكير على المسلمين من القرن الثاني إلى العصور الأخيرة ، فقام المفكرون بتأليف أسفار ضخمة حول العقائد والمعارف على المناهج الّتي استحسنوها وضبطوها.
     1 ـ راجع في الوقوف على البارعين في علم الكلام من الشيعة كتاب « تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام » للسيد حسن الصدر. وللوقوف على البارعين فيه من السنة : « مقالات الإسلاميين » للشيخ الأشعري ، و « تبيين كذب المفتري » لابن عساكر ، و « طبقات المعتزلة » لابن المرتضى ، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا المضمار.

(و)
ضرورة تكامل الأبحاث الكلامية
    إنَّ المتكلمين الإسلاميين قد قاموا بواجبهم في مقابل الملحدين والثنوية والسطحيين من أهل الحديث ، وأدّوا ما عليهم من الرسالة ، غير أنَّ تقدم الحضارة في الأعصار الأخيرة ، وتطور العلوم وتفتح العقول ، أوجد تحولاً كبيراً في تحليل الأبحاث والدراسات العقلية والفكرية ، فلأجل ذلك اصبحت الكتب الكلامية القديمة ، غير ملبية لحاجات العصر ، خصوصاً بالنسبة إلى الأسئلة الجديدة الّتي طرحها علماء النفس والاجتماع في مجال الدين والتدين ، هذا من جانب. ومن جانب آخر ، اعتمد المادّيون في تحليل الكون على أصول خاصة ربما تورث شكوكاً وشبهات في الأذهان والأوساط الإسلامية. فيجد الباحث فيها نقائص يجب رفعها.
    أما أولاً : فإن الكتب الكلامية الّتي أُلفت من القرن الثالث إلى أواخر القرن الثامن أو التاسع ، تبحث في نقاط ثلاث لا يهمها فعلاً إلا الثالث.
    أ ـ الأمور العامة : كالبحث عن الوجود والماهية والإمكان والوجوب والامتناع والعلّة والمعلول والوحدة والكثرة ، وغير ذلك من المباحث الّتي تعدّ من عوارض الموجود بما هو موجود من دون أن تختص بعوارض الموجود الطبيعي أو الرياضي. وقد عرفت ب ـ « النعوت الكلية الّتي تعرض للموجود من حيث هو موجود ».
    ب ـ الطبيعيات : كالبحث عن الجسم الطبيعي والتعليمي ، وبساطته وتركّبه ، فلكيّة وأثيرية ، والقوى الحيوانية والنباتية ، وغير ذلك ممّا يرجع إلى الموجود المتخصص بكونه طبيعياً. وقد عرّفت ب ـ « الأحكام العارضة على الجسم الطبيعي بما هو واقع في التغيير والتبدّل ».
    ج ـ الإلهيات : وهو البحث عن الله سبحانه وصفاته وذاته وأفعاله. وكانت الوظيفة العليا للمتكلمين البحث عن الأمر الثالث والتركيز عليه. غير


(ز)
     أنهم طلباً لمجاراة الحكماء والفلاسفة خاضوا في البحث عن الأمرين الأولين ، حتّى يستغني الباحث الكلامي في الأبعاد الثلاثة عن كتب غيرهم.
    ولو كان تركيزهم على الأمور الثلاثة أمراً مستحسناً في تلك الأدوار ، فإنه أصبح اليوم أمراً مستدركاً غير ناجع.
    فإنَّ الحكماء قد بلغوا الغاية في تحليل الأمور العامة ، واصطلحوا عليها ب ـ « الفن الأعلى » أو « الإلهيات بالمعنى الأعم » ، فمن تدرّس هذه الناحية في الفلسفة الإسلامية فهو في غنى عن كل ما ذكره المتكلمون في كتبهم ، مع كون أبحاثهم غير وافية بما هوالمطلوب منها.
    كما أن علماء الطبيعة من عصر النهضة إلى زماننا هذا ، قد توغلوا في العلوم الطبيعية ، وشققوا الشعر في تلك الحقول ، وذلك بفضل أدوات التجربة الّتي أوجدت ضجة وتحوّلا كبيرين في هذا المجال. فصار البحث عن العلوم الطبيعية الدارجة في الكتب الكلامية ، شيئاً غير مفيد إلاّ أن يكون لأجل الوقوف على آراء المتقدمين من الباحثين الّذي يطلق عليه « تاريخ العلم ».
    فلأجل هذين الأمرين اشتملت الكتب الكلامية الدارجة على أمور غير لازمة ، يجب حذفها عن مصب الاهتمام والتركيز على « الإلهيات ».
    وأما ثانياً : فإنَّ ما جاء به المتكلمون في أبواب إثبات الصانع وحدوث العالم مختصر جداً لا يفي بدفع الإشكالات والشكوك المبثوثة في طريق الإلهيين الجدد ، يلمس ذلك كل من قرأ الكتب النفسية والاجتماعية والفلسفية المادية الّتي تركز على تحليل حدوث النظام والأنواع على أسس خاصة ، ببيانات خادعة لعقول البسطاء ، بل المتعلمين.
    فلأجل ذلك يجب أن تكون الكتب الكلامية ناظرة إلى ما وصلت إليه يد الباحث المادي من الشكوك والفروض الّتي يفتخر ويتبجح بها. فالبحث


(ح)
     عن الإلهيات من دون النظر إلى ما جاءت به المناهج المادية بحث مبتور. فالمتعلم على الطراز السابق إذا جادل العالم المادي ربما يقع فريسة لأفكاره الضارية ، أو يعود شاكّاً فيما يعتقده ، أو تتجلى الأصول العقيدية عنده بمظهر الوهن وعدم الرصانة. مع أنَّ ما اعتمد عليه المادي أسسٌ سرابيَّة لكنها خادعة ، لا يعرف خداعها إلاَّ المطلع على ما تسلّح به المادي.
    وأما ثالثاً : فمشكلة العرض في الكتب الكلامية ملموسة جداً. فإنهم عرضوا أفكارهم بتعقيد وغموض ، ربما لا يتحملها ذوق الطالب المعاصر في العصر الحاضر ، الّذي يطلب أنْ يكون المعقول كالمحسوس. فلأجل ذلك نرى المتون محشاة بالحواشي والحواشي مطرّزة بالتعاليق ، وما ذلك إلاَّ لأن المتأخر يرى نقصاً واضحاً في كتاب المتقدم فيقوم بتكميله على نحو ربما يوجب غموضاً فوق غموض.
    وأما رابعاً : فإنَّ أكثر الكتب الكلامية ألّفت لبيان منهج خاص يرتضيه المؤلف ، فصارت قاصرة عن بيان سائر الأنظار والمناهج الّذي نعبّر عنه بالبحث المقارن.
    كانت هذه العوامل تجيش في ذهني لأقوم بما هو الواجب عليّ في الأحوال الحاضرة ، وقد خدمت هذا العلم منذ شرخ الشباب إلى أنْ نيّفت على الستّين ، وقد رأيت أنَّ ترك ذلك ربما يكون تقاعداً عن حكم الله سبحانه ، وتقاعساً عن الواجب ، فقمت بإلقاء هذه المحاضرات في جامعة العلوم الإسلامية ب ـ « قم » المقدّسة ، بعد ما ألّفت دورات كبيرة وصغيرة في العقائد والأصول. وأرجو منه سبحانه أن يهديني إلى مهيع الحق ، ويصدني عن الجور في الحكم ، أو الصدور عن عاطفة وهوى ، والله سبحانه هو الهادي إلى الحق اللاحب.


(ط)
المزايا الموجودة في هذه المحاضرات
    ولأجل ما ذكرناه في الفصل السابق ، بذلنا السعي لأن تكون هذه الدراسات فارغة عن النقائص المذكورة « وإنْ كان الفعل البشري لا يخلو أبداً من نقص أو نقائص ، وما ألّف إنسان شيئاً ، إلاَّ إذا نظر إليه في غده رآه ناقصاً غير واف بالمراد وقال : لو قدّمت هذا لكان أحسن أو أخرت هذا لكان أفيد ولو ولو ... » فهي تشتمل على الميزات التالية :
    الأولى : التركيز على المسائل اللازمة المفيدة في المجتمع وترك ما لا فائدة فيه ، أو ما تكفل البحث عنه سائر العلوم (1).
    الثانية : الاعتماد في نقل المناهج والمدارس الفكرية على المصادر الأصلية لأصحابها ، ورعاية العدل والإنصاف عند القضاء فيها. نعم الأمانة في النقل والعدل في القضاء كلمتان خفيفتان على اللسان ولكنهما ثقيلتان في الميزان.
وكَمْ مِنْ عائب قولاً صحيحا وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقِيمِ
الثالثة : تنظيم المسائل تنظيماً هندسياً بحيث تكون المسألةُ المتقدمة مبدءً للبرهان في المسألة التالية ، ولا أقُل لا تكون مبتنية على المسائل المتأخرة.
    الرابعة : طرح المباحث بشكل هادئ يلائم روح العصر ، والبرهنة عليها بوجه مقنع للطالب ، بعيد عن النقاش والرد ، وإنْ كان غير خال عن الإشكال ، لأجل كونه فكراً بشرياً.
     1 ـ كالبحث عن الأسعار : إنخفاضها وارتفاعها ، والآجال ، وعوض الألآم الّتي تصيب الأطفال والحيوانات الّتي صارت الشغل الشاغل في الكتب الكلامية ، والبحث عن الأول على عاتق العلوم الإقتصادية والثاني على عاتق كتب التفسير.

(ي)
     الخامسة : قد بذلنا العناية البالغة في الاستدلال بالآيات القرآنية ، وأحاديث العترة الطاهرة الذين عرفهم الرسول قرناء للكتاب وحلفاءه في حديث الثقلين. والاستدلال بالكتاب والحديث تارة على نحو الإستلهام ، وأخرى على نحو الاستدلال. وموقفهما في مجال الاستلهام موقف المفكر الّذي يطرح فكرته مع البرهان ويدليه إلى المخاطب من دون إعمال تعبد منه ، كما هو الحال في البراهين الّتي أقامها القرآن في مجال إثبات الصانع ونفي الشريك عنه. فنعتمد على ما ذكره لا بما أنه كتاب سماوي جاء من جانبه سبحانه إذ المفروض أنه بعد لم تثبت المسائل المتقدمة عليه ، فكيف يمكن أن يتخذ حجة ، بل بما أن كلامه مشتمل على برهان يكفي في إثبات المطلوب سواء أكان ذلك البرهان بصفة كلامه تعالى أو لا. ولأجل ذلك نعرف القرآن بصفة الإستلهام ، فكأنه بمنزلة المعلم يأخذ بيَدَيّ متعلمه ويرشده إلى آماله.
    وموقفهما في مجال الإستدلال موقف من ثبت حجية قوله وصدق كلامه ، فيخبر عن موضوعات غيبيّة نأخذ قوله وإن لم نعرف برهانه ، ولكن بما أنَّ قوله أحد الحجج فهو كاف في الأخذ به وإن لم يعلم تفصيل برهان قوله كما هو الحال في إخباراتهما بعد ما ثبت حجيتهما.
تقييم جهود المؤلف
    هذا ما يرجع إلى المحاضر ، وهناك فضل كبير يرجع إلى مؤلفنا الفاضل المحقق الشيخ حسن محمد مكي العاملي ـ دامت تأييداتهـ فقد قام بسعي بالغ وهمة عالية بضبط هذه المحاضرات ضبطاً دقيقاً ، وإخراجها بهذه الحلّة القشيبة ، والثوب النقي الفضفاض ، وصبّها في قوالب رصينة ، رائعة الأسلوب ، فائقة النظام ، خالية عن التعقيد والإبهام ، تعلو عليها جودة السرد ، وحسن السبك ، ورصانة البيان. فحيّاه الله ، وجزاه خير الجزاء ،


(ك)
     على هذا المجهود الجبار الّذي أرجو من فضله تعالى أن يبقى ، مدى الأجيال ، ذكراً مذكوراً ، وعملاً مبروراً وسعياً مشكوراً.
    وقد أشرفت على جميع ما حبّرته يراعته ، إشرافاً تاماً إلاَّ ما زاغ عنه البصر أو طغى عليه الوهم. وهذا هو الجزء الأول الّذي يزفه الطبع إلى طلاب الحقيقة والمعارف ، وأرجو من الله سبحانه أن يوفقه لإخراج الجزء الثاني الّذي يشتمل على مباحث هامة في الوحي والنبوة والإمامة والخلافة وحشر الإنسان في المعاد. حتّى تتم سلسلة المباحث في جزئين ، وسيكون محور الدراسة التخصصية في المراحل العليا في جامعة العلوم الإسلامية ب ـ « قم المقدسة ».
    ومؤلفنا المكرّم قد سبق أقرانه بسبق غير منكور ، وسعي مشكور وقد كتب من أبحاثنا الفقهية والأصولية شيئاً كثيراً قابلاً للذكر ، وبعضها جاهز للطبع. وهو ثمرة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وهو حفيد الشهيد السعيد إمام الفقه الشيخ (محمد بن مكي العاملي الشهير بالشهيد الأول) ، ( رضوان الله عليه ) الّذي استشهد بيد الجور والعدوان في بلاد الشام عام (786 هـ ). فجزى الله الوالد والولد البارّ أحسن الجزاء إنه خير مأمول وغاية مرجو ، ونحن على ثقة أنَّ المحاضر والمؤلف يلقيان بعض ما يلقاه كل مخلص للحق ، ومدافع عن الحقيقة ، والله من وراء القصد ، وله الحمد أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
    حرّره ظهيرة يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1408 هـ . ق.
جعفر السبحاني


(م)
كلمة المؤلف :
بسم الله الرحمن الرحيم
         والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى الأصفياء من عترته والمنتجبين من صحبه.
    قد اشتدت حاجة الأوساط الاسلاميةالعامة والخاصّة ـ أعني العرفيّة والعلميّة ـ إلى تنقيح المطالب الأصولية الّتي تُبنى عليها العقيدة الإسلامية ، وتخليصها عن الشوائب ، بعد أن تشتّت فيها الآراء بتشعب الميولات والأهواء ، وكاد الحق في مسائل عقائد الدين أن يندثر ، ومناراته أن تنطفئ ، إلاّ في صدور الخاصة من حملته ووعاته ، الذين جرّدوا أنفسهم عن الأهواء ، ونفضوا أيديهم عن دراهم الأمراء.
    وسدّاً لهذا الفراغ المخيف ، شدّ سماحة العلامة شيخناً الأستاذ جعفر السبحاني التبريزي ، دام حفظه وعلا سؤدده ، ساعد الجد ، فأسدل على الراحة ستارها ، وجهّز لعُلى المُنى رِحالها ، وثابَر أعواماً تُعَدّ بالعقود ، ترك فيها المرغوب للنفس والمنشود ، حتّى أدرك ما في أبيات الزبر مسطور فناله ، وغاص وراء كل مستور فطاله.


(ن)
     ثم أفاض زبدة ما استنهل من معين كتاب الله وسنّة نبيّه وعترته الهادية ، وقواعد الفلسفة والحكمة المتعالية ، فتلقيت ذلك ـ بفضل الله سبحانه ومنّه عليّ ـ بملء وعيي ، وبذلت في ضبط مطالبه وسعي ، حتّى خرج بين يديك سِفراً كالزُّهرة في السماء نوراً ، وجُدَيً في السَّناء علوّاً. كتابٌ جامع لأسّ المطالب العقائدية وفروعها ، يحل المعضلات ، ويدفع الشبهات ، عميق الفكرة ، رصين العبارة وواضحها ، دقيق التبويب والتحديد.
    فالله سبحانه هو المسؤول أن يتقبل منّا هذا العمل ويُعمّ به النفع لأبناء جيلنا والأجيال الآتية ، ويكون نبراساً للحق ومناراً للهداية بمنّه وفضله وكرمه. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
حسن محمد مكي
رابع شوال المكرم 1408 هـ . ق
قم المشرفة


(س)
كلمة المؤلّف للطبعة الجديدة :
بسم الله الرحمن الرحيم
     الشكر لله على ما أوْلى.
    لقد لاقى كتاب « الإلهيات » مُذْ أَبصر النور ، رواجاً وإقبالاً في المحافل العلمية ، لما تمتّع به من ميّزات ، أبرزها :
    1 ـ المنهجيّة في العرض : حيث طرحنا مباحث الأصول متسلسلة على نهج موافق للتسلسل العقلي المنطقي للموضوعات الكلاميّة ، مع إرجاع كلِّ بحث إلى موضعه المناسب. فبدأنا بمباحث عامة حول معرفة الدين وأُصوله ، ثم بحثنا في أَدلّة إثبات الصانع ، ثم في صفاته ، وفيها أدرجنا مباحث العدل والبَداء والقضاء والقدر والجبر والإختيار ، ثم في النبوة العامّة ، فالنبوّة الخاصّة ، فالإمامة ، فالمعاد.
    2 ـ التدرُّج في البحث : ففي كلِّ اصل استعرضنا تعريفاته اللّغوية ، ثم الإصطلاحية. وإن كانت له ثمّة مقدمات كلامية ضرورية طرحناها ، كمسألة التحسين والتقبيح العقليين بالنسبة إلى مباحث الحكمة. ثم خضنا في أصل البحث ، ثم فرّعنا عليه ثمراته وأهم الأسئلة والإشكالات الّتي قد تُطرح حوله ، وأجبنا عليها. كما في ذيل بحث عالَمِيّة الرسالة وخاتميّتها من مباحث النبوة العامة ، والأسئلة حول إمامة المهدي ( عليه السَّلام ) بعد البحث فيها ، وأسئلة المعاد بعد طرح مباحثه ، وغير ذلك الكثير. وهذا ما أعطى المباحث مرونة ، وصَبَغَها بصبغة عَمَليّة ، وأَخرجها من حالة التنظير الجافّ.
    ومن هذا القبيل طرح النماذج وتحليلها ، كما يُلاحظ كثيراً في بحث إعجاز القرآن الكريم. إضافة إلى طرح الأسئلة على الباحث ، ليُعْمِل ذهنه في حلِّها.


(ع)
     وفي هذا السياق ، لاحظنا في بعض المواضع أنّ فروع بعض المباحث موسّعة بحيث يكون إدراجها ضمن المباحث الأمّ موجبا للتباعد بين أجزائها ، وضياع العنوان والفكرة الرئيسية فيها ، فأفردناها بالبحث في فصول خاصّة ، كما فعلنا في بحث البَداء ، وبحث القضاء والقدر ، وبحث الجبر والإختيار ، الّتي تُعَدّ فروعاً للحكمة الإلهية ، فأدرجنا كلاًّ في فصل خاص.
    3 ـ الشُّموليَّة في الإستدلال : كما يظهر من عنوان الكتاب ، حيث استعرضنا الأدلة على ضوء ما يرشد إليه العقل والكتاب الحكيم والسُّنَّة المطهّرة. كما استعرضنا أدلة المتكلّمين وأدلة الفلاسفة أيضاً. وناقشنا ما احتاج منها إلى المناقشة ، ممّا جعل هذا الكتاب فريداً في بابه.
    وغير ذلك من الميّزات الّتي يلاحظها الباحث الكريم ، كالسهولة في التعبير وتوخي أبسط ما يؤدّي المعنى المطلوب ، وتجنّب التعقيد والإبهام.
    طُبِعَ الكتاب ، وسُرعان ما نفذت نسخه ، فأُعيدت طباعته بشكله الأول مرتين ، وكل ذلك في عامين من الزمن. وفي هذه المدة تيسّر لنا ـ بفضله تعالى ـ تصحيحه وتوضيح بعض يسير من عباراته ، وتحقيقه تحقيقاً كاملاً باستخراج فهارس آياته وأحاديثه وأشعاره وأعلامه ومصادره وغير ذلك.
    وقد ارتأينا ـ لضخامة الكتاب ـ تقسيمه إلى أربعة أجزاء بدلاً من مجلّدين ضخمين ، ليكون أسهل للتناول والإستفادة.
    وهنا لابد من التذكير بأنّ كتاب « نظرية المعرفة » الّذي حررناه من محاضرات الأستاذ العلامة السبحاني ـ دام ظلهـ قد أعددناه ليكون مَدْخلا إلى هذا الكتاب. ولذا ينبغي عدُّه ممهّداً لدراسة هذه المجموعة العقائدية ، وعدم الغفلة عنه.
    وختاماً ، أرى لزاماً عليَّ أن أُقدّم شكري إلى ولدي الروحي الشيخ رشاد شومان العاملي ـ رعاه الله ـ لما بذله من مجهود في استخراج وتنظيم فهارس الكتاب. وإلى المركز العالمي للدراسات الإسلامية لما بذله من عناية في تقديم الكتاب بحلّته الجديدة هذه.
والحمد لله رب العالمين
حسن مكي العاملي
شوال المكرم 1411 هـ
الالهيّات ::: الفهرس