الالهيّات ::: 1 ـ 10

(1)
الفصل الأول
     مقدمات أصوليَّة عامة
     1 ـ حياة الإنسان والقيم الأخلاقية.
    2 ـ ما هوالدّين؟ وما هي جذوره في الفطرة الإنسانية
    3 ـ دور الدين في الحياة.
    4 ـ المعرفة المعتبرة.
    5 ـ المعارف العليا في الإسلام.
    6 ـ لماذا نبحث عن وجود الله سبحانه؟


(2)

(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
    نصدر بحوثنا الكلامية بجملة من المقدمات المفيدة التي لا غنى عنها ، للتعرف على واقع الدين و مفهومه ، و جذوره في الفطرة الإِنسانية ، و دوره في حياة الإِنسان ، و المعرفة المعتبرة في الإِسلام.

1 ـ حياة الإِنسان و القيم الأَخلاقية
    لا نتصور إنساناً يملك من العقل شيئاً ، يخالف التقدم الصناعي و يعارضه ، بل يقوده إلى دعم « التكنولوجيا » التي تؤتيه الراحة و الرفاه.
    غير أَنَّ المشكلة في هذه الآونة من حياة البشر تنبع من موقع آخر ، و هو استغلال الغرب هذه « التكنولوجيا » لصالح الإنتاج و التوزيع ، و جعله الأَخلاق و المشاعر الإِنسانية ضحيَّة لهذه الغاية.

نداء يطرق الأَسماع من بعيد :
    و في هذه الظروف الحَرِجة بالنسبة للإِنسان المثالي ، ظهر أُناس ذوو


(4)
     ضمائر حية و قلوب مستنيرة يَشْكون هذه الحالة المحيطة بالإِنسان ، و يطردون الحياة الآلية المصطنعة. و قد أَحسّوا أَنَّ الإِنسان قد وصل إلى الدَّرَك الأَسفل من القيم الأَخلاقية ، و أَنَّ الحياة الآلية (جَعْل الطاقات الإِنسانية و القيم ضحية الإِنتاج و التوزيع) لا توصله إلى السعادة على الإِطلاق ، بل تقوده إلى تحصيل المال و الثروة بسرعة ، و في الوقت نفسه إلى تحطيم القيم و المثل و ضياعها. و من هذا المنطلق حاول هؤلاء إضفاء طابع روحي على حياة الإنسان حتى تتوزان الحياة المادية مع الحياة المعنوية.
    و نحن إِذْ نبارك لهؤلاء العلماء خطوتهم نذكّرهم أَنَّ القرآن الكريم قد وصف الحياة المادَّية الخالية من المعنويات و القيم بأَنها طيف يدور بين اللَّعب و اللَّهو و الزينة و التفاخر و ينتهي بالتكاثر في الأَموال و الأَولاد :
    قال سبحانه : ( اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (1).
    ترى أَنه سبحانه يقسم الحياة المادية إلى أَقسام خمسة و كأنها تدور من بدايتها إلى نهايتها بين هذه المدارج و هي :
    1 ـ اللعب.
    2 ـ اللهو.
    3 ـ التزين و التجمل.
    4 ـ التفاخر.
    5 ـ التكاثر في الأَموال و الأَولاد.
     1. سورة الحديد : الآية 20.

(5)
     و يعتقد العلماء أَنَّ كل قسم من هذه الأقسام يشغل مقداراً من عمر الإِنسان ثم يندفع إلى القسم الآخر حسب تكامل سنه و اشتداد قواه ، و لعل كل واحد منها يأخذ من عمر الإنسان ثمان سنوات ، ثم الخامس يستمر معه إلى خاتمة حياته و لا يفارقه حتى يموت.
    ثم إِنَّ الآية المباركة تشبّه هذه الحياة الفارغة من القيم ، بنبات مخضرّ لا دوام لا خضراره و لطافته ، فسرعان ما يتحول النبات الأَخضر إِلى الأَصفر الذي ينفر منه الإنسان.
    فمثل الإنسان الغارق في مستنقع المادة كمثل هذا النبات حيث يبتدئ حياته بالإِخضرار و اللطافة و يستقر في نهاية المطاف ، جيفة في بطن الأَرض ، إِلاّ من قرن حياته المادَّية بالحياة المعنوية غير المنقطعة بموته و زهوق روحه.
    و إِنَّ القرآن الكريم أَيضاً يصوّر الحياة المادية بشكل آخر و يقول : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَ ـ الُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْ ـ اً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّ ـ اهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1).
    فالحياة المادية في ريعانها تتجلى بصورة شيء واقعي له من الزهو و الجمال ما يغري به كالسراب الذي يخدع العطشان ، فإذا انتهى إلى نهاية المطاف من عمره ، يقف على أَنها لم تكن شيئاً واقعياً يسكن إليه.
    إِنَّ الحياة الإِنسانية إنَّما تأخذ المنحى السليم إذا تفاعلت مع الجانب الروحي ، ليكون للدين والقيم والأخلاق مكانة مرموقة في حياته ، كما أنَّ لحاجاته الماديه ذاك المقام المنشود. و إنَّما تتجلى هذه الحقيقة ، أي لزوم التوجه إلى الدين ، إذا وقفنا على أمرين :
     1 ـ سورة النور : الآية 39.

(6)
     1 ـ ما هو الدّين؟ وما واقعه؟
    2 ـ ما هو دوره في حياة الإنسان؟

2 ـ ما هو الدّين؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإِنسانية؟
    لا يحاول الدّين إِرجاع البشر إلى الجهل و التخلف ، بل هو ثورة فكرية تقود الإِنسان إلى الكمال و الترقّي في جميع المجالات. و ما هذه المجالات إلى أَبعاده الأَربعة :
    أ ـ تقويم الأَفكار و العقائد و تهذيبها عن الأَوهام و الخرافات.
    ب ـ تنمية الأصول الأخلاقية.
    ج ـ تحسين العلاقات الإِجتماعية.
    د ـ إلغاء الفوارق العنصرَّية و القوميَّة.
    و يصل الإِنسان إلى هذه المآرب الأَربعة في ظل الإِيمان بالله الذي لا ينفك عن الإِحساس بالمْسؤُوليَّة ، و إليك توضيحها :
    أمّا في المجال الأَول ، أعني إصلاح الأَفكار و العقيدة فنقول : لا يتمكن الإِنسان المفكر من العيش بلا عقيدة ، حتى أولئك الذين يضفون على منهجهم طابع الإِلحاد ، و يرفعون عقيرتهم بشعار اللاَّدينية ، لا يتمكنون من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون و الحياة. و إليك نظرية الدّين لواقع الكون و الحياة.
    إِنَّ الدين يفسر واقع الكون و جميع الأَنظمة المادية بأَنها إِبداع موجود عال قام بخلق المادة و تصويرها و تحديدها بقوانين و حدود ، و قد أخضعه لنظام دقيق ، فالجاعل غير المجعول ، و المعطي غير الآخذ.
    كما أَنَّه يفسر الحياة الإِنسانية بأَنها لم تظهر على صفحة الكون عبثاً و لم


(7)
     يُخلق الإِنسان سدى ، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظل تعاليم الأَنبياء و الهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقَه.
    هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة ، غير أَنَّ المادّي يحاول تفسير الكون بشكل مغاير ، و هو يقول :
    إِنَّ المادة الأُولى قديمة بالذات و هي التي قامت فأَعطت لنفسها نظماً ، و أَنَّه لا غاية لها ، و لا للإِنسان القاطن فيها.
    و بعبارة أُخرى ، إِنَّ للكون في نظرية الإِنسان الإِلهي بداية و نهاية ، فإِنَّ نشوءه من الله سبحانه ، كما أَنَّ نهايتهـ باسم المعاد ـ إلى الله تعالى.
    غير أَنَّ الكون في نظرية الإِنسان المادي فاقد للبداية و النهاية ، بمعنى أَنَّه لا يتمكن من ترسيم بداية ، و أَنَّه كيف تحقق و تكوّن و وُجد؟ بل كلّما سأَلته يجيبك : ب ـ « لا أدري ». كما أَنَّه لا يتمكن من تفسير نهايته و غايته ، ولو سألته عن ذلك لأجابك ب ـ « لا أَعلم ». فهذا العالم عند الفيلسوف المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله و آخره أَوراق مما أَدخله في إِطار الإِبهام ، فلا يقف الإِنسان على بدئه ولا على ختامه فالفيلسوف الماديّ جاهل ببدء العالم و ختامه و ليس له هنا جواب سوى « لا أَدري ».
    و بعبارة ثالثة : لم تزل الأَسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإِنسان منذ أَنْ عرف يمينه من يساره ، و هي :
    1 ـ إِنَّه من أَين؟
    2 ـ و إلى أَين؟
    3 ـ و لماذا خُلِق؟.
    و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإِلهي بأجوبة رصينة تتضح من خلال هذه الرسالة ، و إجمالها أنَّ البداية من الله ، و أنَّ نهاية المطاف هي


(8)
     الله سبحانه ( إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ) (1) ، و أَنَّ الغاية هي التخلّق بالقيم و المثل الأخلاقية و الإِتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه ، غير أنَّ المادي يَكِلُّ عند الإِجابة عن هذه الأسئلة و لا يأتي بشيء مقنع.
    و على هذا الأساس قلنا اءنَّ للدّين دوراً في تصحيح الأفكار و العقائد.
    و من خلال المقارنة بين الفكر الإلهي والمنهج المادي في الإِجابة على الأسئلة الثلاثة يعلم الإِنسان أنَّ التكامل الفكري إنما يتحقق في ظل الدين ، لأنه يكشف آفاقاً وسيعة أمام عقليته و تفكيره ، في حين أنَّ المادي يملأ الذهن بالجهل والاءِبهام ، بل يقوده إلى الخرافات. إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح نفسها نُظُماً؟ و هل يمكن أن تّتحد العلّة والمعلول ، و الفاعل و المفعول ، والجاعل والمجعول؟.
    هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إِصلاح الفكر والعقيدة.
    وأمَّا في المجال الثاني ، و هو ما يتعلق بتنمية الدَّين للأصول السامية للأَخلاق فنقول : إِنَّ العقائد الدينية تعد رصيداً للأصول الأَخلاقية إِذ التقيد بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإِنسان تحملها إلاّ بعامل روحي يسهّلها ويزيل صعوبتها له ، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل ورعاية الأَمانة و مساعدة المستضعفين. فهذه بعض الأصول الأَخلاقية التي لا تنكر صحّتها ، غير أَنَّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً و صعوبات ، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ ، فما هو ضمان تحقق هذه الأصول؟.
    إِنَّ الإِعتقاد بالله سبحانه وأنَّ في إِجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية أَجراً كبيراً يصل إليه الإِنسان في الحياة الأخروية ، خير عامل لتحبيذ الإِنسان وتشويقه على إِجرائها والتلّبس بها في حياته الدنيويَّة ، و لولا ذاك الإِعتقاد لأَ صحبت الأَخلاق نصائح وعظات جافة لا ضمان لإِجرائها.
     1 ـ سورة البقرة الآية 156.

(9)
     و في هذا الصدد يقول ويل ديوارانت المؤرخ المعاصر : « لولا الدّين لتجلت الاخلاق و كأَنها أَشبه بالمبادلات الإِقتصادية ، و لصارت الغاية منها الفوز بالنجاح الدنيوي بحيث لو كان النجاح و الفوز مضاداً للقيم لتمايل عنها ، لكون الغاية في جانب اللاقيم ، و إِنما هي العقيدة الدينية التي تترك الإِحساس بالمسؤولية في روح الإِنسان » (1).
    و أَما في المجال الثالث ، و هو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الإِجتماعية ، فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأَخلاق السامية ، فإِنَّ العقيدة الدّينية تساند الأصول الاجتماعية لأنها تصبح عند الإِنسان المتديّن تكاليف لازمة ، و يكون الإِنسان بنفسه مقوداً إلى العمل و الإِجراء.
    غير أنَّ تلك الأصول بين غير المتديّنين لا تراعى إِلاّ بالقوى المادَّية القاهرة. و عندئذ لا تتمتع الأصول الإِجتماعية بأي ضمان تنفيذي و هذا مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادّية غير الملتزمة بمبدأ أو معاد.
    و أما المجال الرابع ، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية و القومية المفروضة على عاتق المستضعفين بالقوة و السلطة و الإِغراء و الجهل و تشويه الحقائق.
    فنقول : إِنّ الدّين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدأ واحد ، فالكل بالنسبة إليه حسب الذات و الجوهر كأسنان المشط ، و لا يرى أي معنى للتمييز و التفريق و ترفيع بعض و تخفيض بعض آخر ، كما لا يرى معنى لوجود أناس اتخمهم الشبع و آخرين أهلكهم الجوع و الحرمان.
    فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور و تأثير واضح ، أَفيصح
     1 ـ لذائذ الفلسفة ، ص 478.

(10)
     بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أنْ نهمل البحث عنه ، و نجعله في زاوية النسيان؟
    غير أن هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها ، و هي أنَّه ليست كل عقيدة تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار و إبداعها ، و إنما تقدر عليها كل عقيدة دينية تقوم على أساس العقل ، و تكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء الصادقين ، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة و الحياة و في غير هذه الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية و الميول السلبية إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت إلى الوحي و رجال الدين الحقيقي بصلة.
    فالمفكر الغربي إذ يتهم الدّين بأَنَّه عامل التخلف و الإنحطاط ، و مضاد للتقدم و الرقي ، فهو يهدف إلى أَمثال هذه العقائد الدينية.
    و هناك نكتة أخرى و هي : إِنَّ الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية التي لا تمت إلى أَساس منطقي بصلة ، و أَما المميزات الإِيجابية التي لا تنفكّ عن أَفراد البشر فهي غير ملغاة أَبداً ، فكما أنَّ أَصابع اليد الواحدة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى ، كذلك أَفراد البشر يتفاوتون من حيث العقل و الفكر و الحركة و النشاط.
    فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف و التغيير ، و ما يرفضه الدين و يحذفه عن مجال الحياة هو الإِمتيازات النابعة من القوة و السلطة.
    إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين و حان الآن وقت التعرف على جذوره في فطرة الإنسان.
الالهيّات ::: الفهرس