الالهيّات ::: 21 ـ 30
(21)
     والقرآن ينقل أخبار الكثير من المضلّلين حيث يعضّون أناملهم من الندم يوم القيامة بقوله : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّ ـ ا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) (1).
    ب ـ تعتبر المعرفة ، إذا كانت نابعة من أدوات المعرفة الحسّية و القلبية أو العقلية ، يقول سبحانه : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَ ـ ارَ وَالاَْفْ ـ ئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).
    فالسَّمع و الأبصار رمز الأدوات الحسّية ، و الأفئدة كناية عن العقل و الإِدراكات الصحيحة الفكرية ، و الإِدراكات الخارجة عن إطار تلك الأدوات غير قابلة للاستناد.
    و إنما اعتمد من بين أدوات المعرفة على هذين (الحِسْ و العقل) لأنهما أكثر صواباً و أعظم نتيجة و أما غيرهما من الأدوات التي يعتمد عليها مرضى القلوب فهي غير قابلة للاستناد ، و لهذين الأمرين من أدوات المعرفة شعوب و فروع قد بيّنت في علم « نظرية المعرفة ».
    نعم هناك سؤال يطرح نفسه و هو أَنَّه إذا كان اقتفاء الآباء و الأجداد و تقليدهم أمراً مذموماً فلماذا جوّزه الإِسلام في باب معرفة الأحكام الفرعية العملية؟ إذ يصح لكل مسلم أنْ يأخذ مذهبَه في الفروع و الأحكام من إمام الفقه و عالمه ، أو ليس ذلك تقليد لهم كتقليد الكفار لآبائهم؟.
    و الإِجابة على هذا السؤال واضحة ، إذ أن أخذ الأحكام عن المجتهد البارع المتخصّص في فنّه ، ليس من قبيل التقليد المذموم و هو الرجوع إلى الغير ، و تقليده بلا دليل ، لأنَّ رجوع الجاهل إلى العالِم و اقتفائه أثَره رجوع
     1 ـ سورة الاحزاب : الآيات 66 ـ 68.
    2 ـ سورة النحل : الآية 78.


(22)
     إليه مع الدليل ، و عليه سيرة العقلاء في جميع المجالات ، فالجاهل بالصنعة يرجع إلى عالمها ، و جاهل الطب يرجع إلى خبيره ، و هكذا دواليك ، و هذا كله في الأمور الفرعية.
    و أما المسائل الأصولية ، فهي مسائل جذورية ، و الأمر فيها يدور بين الإِثبات المحض ، كما هو الحال عند الإِلهيين ، و النفي المحض كما هو عند المادّيين ، فلا يصحّ التقليد فيها ، إذا ليس هناك قدر مشترك حتى يؤخذ به ويرجع في الزائد عليه إلى المتخصص ، فإن كلاَّ من الإِلهي و المادّي يدّعي كونه متخصصاً في هذا العلم.
    فلا جل ما ذكرنا ، يجب على الإِنسان الغور في المسائل الأصولية من دون جعل فكر سنداً و حجّة.

5 ـ المعارف العليا في الإِسلام
    إِنَّ الإِسلام يحثّ على التعرف على أمور ثلاثة من بين الموضوعات المختلفة و يعتبرها ذات أهميّة لمن يطلب الواقع.

1 ـ معرفة الكون و الطبيعة :
    هذه المعرفة مما يؤكد القرآن بحماس على تحصيلها يقول سبحانه : ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَ ـ اوَاتِ وَالاَْرْضِ ) (1).
    و يقول أيضاً : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّوْلِي الاَْلْبَابِ ) (2).
     1 ـ سورة يونس : الآية 101.
    2 ـ سورة آل عمران : الآية 190.


(23)
     فلا محيص للإِنسان المتديّن عن دراسة الطبيعة و الغور في أعماقها حسب معطياته و قابلياته.

2 ـ معرفة الإِنسان نفسه :
    و هي من ضروريات المعارف التي أكَّد عليها كما أكَّد على سابقتها ، قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) (1).
    و تضافرت الروايات على أهميّة معرفة النَّفس و أنَّ الإِنسان من خلال التعرف عليها و كل الطبيعة التي يعيش فيها ، يعرف ربّه.

3 ـ معرفة التاريخ :
    إِنَّ القرآن يؤكد على معرفة التاريخ بما أنه مثار العبر و العظات ، يقول سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِي الاَْلْبَابِ ) (2).
    و يقول سبحانه : ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (3).
    هذه هي الموضوعات التي يحبّذ الإِسلام على التعرّف عليها كل من يريد أنْ يلمس الحقائق و يصل إلى الواقع ، فالمعرض عن هذه المعارف ، محجوب عن معرفته سبحانه و سننه في الكون.

6 ـ لماذا نبحث عن وجود الله سبحانه؟
    و قبل أنْ نركز على أسباب معرفته سبحانه و دلائل وجوده ، نقوم
     1 ـ سورة فصلت : الآية 53.
    2 ـ سورة يوسف : الآية 111.
    3 ـ سورة الأعراف : الآية 176.


(24)
     بالإِجابة عن سؤال كثيراً ما يطرح نفسه بين الشباب ، و هو مأخوذ من دسائس الماديين لا سيما الماركسيين في الأوساط الإِسلامية.
    و حصيلة السؤال هو : إنَّ البحث عن ما وراء المادة بحث لا صلة له بالحياة ، و ليس من الموضوعات التي تقع في إطار الحياة التي يحياها الإِنسان في أدوار عمره المختلفة ، من صباه إلى شبابه إلى كهولته و شيخوخته. و البحث عمّا وراء الطبيعة و أنَّ هناك موجودات عليا مجردة عن المادة و أحكامها ، كالملائكة و العقول و النفوس ، وفوقها مبدعها و مبدع جميع العوالم : مادّيها و مجرّدها ، لا ينفع في الحياة ولو أُثبت بألف دليل ، فَصَرْفُ الوقت حول هذه المباحث يعوق الشاب عن القيام بوظائفه اللازمة.
    و الإِجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الإِطّلاع على ما ذكرنا ، فقد عرفت أنَّ للدّين دوراً قوياً و تأثيراً عظيماً في تكامل العلوم كما أنه ضمان للأخلاق ، و خير دعامة لها ، بل ضمان لتنفيذ القوانين الصالحة ، و الحصن الحصين في متقلبات الأحوال.
    فإذا كان له ذلك الشأن العظيم في حياتنا العلمية و الأخلاقية و الاجتماعية فطي الصفح عنه و الاشتغال بغيره ، خسارة عظيمة للإِنسانية. فما يتشدَّق به المادي من أنَّ البحث عن الدّين و ما وراء الطبيعة لا صلة له بالحياة ، مكذوب على الدين و كلام خال عن التحقيق. نعم ، ما ذكرنا من دور الدّين و تأثيره في الجوانب الحيوية من الإِنسان ، إنَّما هو من شؤون الدّين الحقيقي الذي يواكب العلم و الأخلاق و لا يخالفهما ، و أما الأديان المختلفة المنسوبة إلى الوحي و السماء بكذب و زور فخارجة عن موضوع بحثنا.

دفع الضرر المحتمل :
    إِنَّ هناك عاملا روحياً يحفّزنا إلى البحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادة و الماديات ، و هو أنَّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإِصلاح


(25)
    و الأخلاق الذين فدو أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع و تهذيبه ، وراحوا ضحية رقيّه ، توالوا على مدى القرون و الأعصار و دعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد بالله سبحانه و صفاته الكمالية ، و ادَّعوا أنَّ له تكاليف على عباده و وظائف وضعها عليهم ، و أنَّ الحياة لا تنقطع بالموت و ليس الموت آخرها و آخر مقطع منها ، و إنما هو جسر يعبر به الإِنسان من دار إلى دار ، و من حياة ناقصة إلى حياة كاملة ، و أنَّ من قام بتكاليفه و وظائفه فله الجزاء الأوفى ، و أمّا من خالف واستكبر فله النكاية الكبرى.
    هذا ما سمعته آذان أهل الدنيا من رجالات الوحي و الإِصلاح ، ولم يكن هؤلاء متهمين بالكذب و الإِختلاق ، بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم و أفعالهم و أذكارهم. عند ذاك يدفع العقل الإِنسان المفكر إلى البحث عن صحة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثه مقالة هؤلاء. و ليس إخبار هؤلاء بأقل من إخبار إنسان عادي عن الضرر العاجل أو الآجل في الحياة الإنسانية ، فترى الإنسان العاقل يهتمّ بإخباره و يتفحص عن وجوده حتى يستريح من الضرر المخبر عنه.
    و هذا ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات لزوم البحث عن معرفة الله سبحانه. فأوجبوا هذا البحث دفعاً لذاك الضرر المحتمل أو المظنون.

معرفة الله و شكر المُنعِم :
    لا شك أنَّ الإِنسان في حياته غارق في النعم ، فهي تحيط به منذ نعومة أظفاره إلى أخريات حياته ، و هذا الشيء مما لا يمكن لأحد إنكاره.
    و من جانب آخر إنَّ العقل يستقل بلزوم شكر المنعم ، و لا يتحقق الشكر إلاَّ بمعرفته.
    و على هذين الأمرين يجب البحث عن المنعِم الذي غمر الإِنسان


(26)
    بالنّعم و أفاضها عليه ، فالتعرف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل و دعوته إلى شكر المنعِم المتفرع على معرفته.
    هذه الوجوه الثلاثة (دور الدّين في الحياة ، دفع الضرر المحتمل ، و لزوم شكر المنعم عقلا) التي ألمعنا إليها بالإِجمال تحفز الإِنسان إلى البحث عن معرفة الله و الاهتمام بها أكثر من اهتمامه بما هو دخيل على حياته المادية ، و إنما يعرض من يعرض عن هذه المسائل لعلل روحية غير خافية على الباحث ، إذ لا شك أنَّ معرفة الله ، و الاعتقاد به لا ينفكّ عن الالتزام بقيود و حدود في الحياة و رعاية الأصول الأخلاقية و الاجتماعية ، و القيام بالوظائف الفردية ، و كل ذلك ينافي الحرية المطلقة و الإِباحية التي يتوخاها الماديون و المنسلكون في عدادهم. فإنكار الدّين و المبدأ ليس إنكاراً لنفسه بل للفرار مما يترتب عليه من الضمانات و الإلتزامات ، و القيود و الحدود.
    و هي تخالف هوى الإِنسان الإباحي الذي لا يرى أصلا في الحياة إلاّ اللذة.     
    إلى هنا انتهت المقدمات التي أردنا إيرادها لبيان مفهوم الدّين و جذوره في الفطرة الإِنسانية و دوره في حياة الإِنسان و وجوب معرفة الله تبارك و تعالى. و يقع الكلام بعدها في أدلة وجود الخالق المبدع لهذا الوجود.


(27)
الفصل الثاني
الطّرق إلى معرفة الله
     برهان النَّظم
     برهان الإِمكان
     برهان حدوث المادّة


(28)

(29)
الطّرق إلى معرفة الله
    هناك كلمة قيّمة لأهل المعرفة و هي : إنَّ الطرق إلى معرفة الله بعدد أنفاس الخلائق بل فوقها بكثير و كثير ، فإنَّ لكل ظاهرة من الظواهر الطبيعية وجهين ، يشبهان وجهي العملة الواحدة ، أحدهما يحكي عن وجودها و حدودها و خصوصياتها و موقعها في الكون ، و الآخر يحكي عن اتّصالها بعلّتها و قوامها بها و نشوئها منها. فهذه الظاهرة الطبيعية ـ من الوجه الأول ـ تقع موضوع البحث في العلوم الطبيعية ، فيأخذ كل باحث جهة خاصة من هذا الوجه حسب تخصصه و ذوقه و اطّلاعه ، فواحد يبحث عن التراب و المعادن و آخر عن النبات و الأشجار ، و ثالث عن الحيوان إلى غير ذلك من الموضوعات.
    كما أنها من الوجه الثاني تقع طريقاً لمعرفة الله سبحانه و التعرف عليه من ناحية آثاره :
إِنَّ آثارَنَا تَدُلُّ علينَا فَانْظُروا بَعْدَنا إلَى الآثارِ
و بما أنَّ الظواهر الطبيعية ، جليلها و حقيرها لها و جهان ، فقد أكَّد الإِسلام على معرفتها و الغور في آثارها و خصوصياتها ، قائلا : ( قُلِ انظُرُواْ

(30)
    مَاذَا فِي السَّمَاواتِ وَالاَْرْضِ ) (1) ، لكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف و اتخاذه هدفاً ، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسراً لمعرفة بارئها و خالقها ، و من أوجد فيها السُّنَن و النُّظُم.
    إِنَّ الفرق الواضح بين تعرّف المادي على الطبيعة و تعرّف الإِلهي عليها هو أَنَّ الأول ينظر إلى الطبيعة بما هي هي ، ويقف عندها من دون أنْ يتخذها وسيلة لتعرف آخر ، و هو التعرف على مبادئ وجودها و علل تكونها ، في حين أنَّ الإِلهي ، مع أنَّه ينظر إلى الظواهر الطبيعية مثلما ينظر إليها المادي ويسعى إلى التعرف على كل ما يسودها من نُظُم و سُنَن ، فإِنَّه يتخذها وسيلة لتعرف عال و هو التعرف على الفاعل الذي قام بإيجادها و إجراء السُّنن فيها ، فكأَن النظرة في الأولى نظرة إلى ظاهر الموجود ، و في الثانية نظرة إلى الظاهر متجاوزاً منها إلى الباطن.
    و بعبارة أوضح ، إنَّ المادي يقتصر في عالم المعرفة ، على معرفة الشيء و يغفل عن معرفة أخرى ، و هي معرفة مبداً الشيء من طريق آثاره و آياته ، فلو اكتفينا في معرفة الظواهر بالمعرفة الأولى حبسنا أنفسنا في زنزانات المادة ، ولكن إذا نظرنا إلى الكون بنظرة وسيعة و أخذنا مع تلك المعرفة معرفة أخرى و هي المعرفة الآيوية لوصلنا في ظل ذلك ، إلى عالم أفسح ملي بالقدرة و العلم و الكمال و الجمال. و على ذلك فكل المظاهر الطبيعية مع ما فيها من الجمال و الروعة و مع ما فيها من النُظم و السُنن آيات وجود بارئها و مكونها و منشئها ، و عند ذلك يتجلى للقارئ صدق ما قلنا من أنَّ الطرق إلى معرفة الله بعدد الظواهر الطبيعية بدءاً بالذرة و انتهاء إلى المجرة. و لأجل ذلك نرى أنَّ رجال الوحي و دعاة التوحيد يركّزون في معرفته سبحانه على الدعوة إلى النظر في جمال الطبيعة و روعتها فإِنها أَصدق شاهد
     1 ـ سورة يونس : الآية 101.
الالهيّات ::: الفهرس