الالهيّات ::: 11 ـ 20
(11)
الدين و الفطرة :
    الإِيمان بالمبدأ والتوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي عجنت خلقة الإِنسان بها ، كما عجنت بكثير من الميول و الغرائز.
    أقول بشكل عام إِنَّ إِدراكات الإِنسان تنقسم إلى نوعين :
    1 ـ الإِدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإِنسان بحيث لولاها لما وقف الإِنسان عليها بتاتاً ، مثل ما وقف عليه من قوانين الفيزياء و الكيمياء و الهندسة.
    2 ـ الإِدراكات النابعة من داخل الإِنسان و فطرته من دون أن يتدخل في الإِيحاء عامل خارجي. كمعرفة الإِنسان بنفسه و إِحساسه بالجوع و العطش ، و رغبته في الزواج في سن معينة ، و الإِشتياق إلى المال و المنصب في فترات من حياته. تلك المعارف ـ و إِنْ شئت سميتها بالأَحاسيس ـ تنبع من ذات الإِنسان و أَعماق وجوده. و علماء النفس يدّعون أنَّ التوجه إلى المبدأ داخل تحت هذا النوع من العرفان.
    إِنَّ علماء النفس يعتقدون بأَنَّ للنفس الإِنسانية أَبعاداً أَربعة يكون كلُّ بعد منها مبدأً لآثار خاصة.
    أ ـ روح الإِستطلاع و استكشاف الحقائق ، و هذا البعد من الروح الإِنسانية خلاق للعلوم و المعارف ، و لولاه لما تقدم الإِنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب ، شبراً في العلوم و استكشاف الحقائق.
    ب ـ حبّ الخير ، و النزوع إلى البرِّ و المعروف ، و لأَجل ذلك يجد الإِنسان في نفسه ميلا إلى الخير و الصلاح ، و انزجاراً عن الشر و الفساد.
    فالعدل و القسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأَجواء و الظروف ، و الظلم و الجور منفور له كذلك ، إلى غير ذلك من الأَفعال التي يصفها كل إِنسان بالخير أو الشر ، و يجد في أَعماق ذاته ميلا إلى الأَول و ابتعاداً عن الثاني ،


(12)
     و هذا النوع من الإحساس مبدأٌ للقيم و الأَخلاق الإِنسانية.
    ج ـ عشق الإِنسان و علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة فالمصنوعات الدقيقة و الجميلة ، و اللوحات الفنية و التماثيل الرائعة تستمد روعتها و جمالها من هذا البعد.
    إِنَّ كل إِنسان يجد في نفسه حبّاً أَكيداً للحدائق الغناء المكتظة بالأَزهار العطرة و الأَشجار الباسقة ، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة و حباً للإِنسان الجميل المظهر ، و كلها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإِنسان ، و هي في الوقت نفسه خلاّقة للفنون في مجالات مختلفة.
    د ـ الشعور الدينى الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ ، فيدعو الإِنسان إلى الإِعتقاد بأَنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمد هذا العالم وجوده منه ، و أنَّ الإِنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم و يستمد منه.
    و هذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأَخير و أَيدوه بالإِختبارات المتنوعة مما ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون و أَشار إليه في آياته المباركات ، نعرض بعضها :
    أ ـ ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1).
    إِنَّ عبارة « فِطْرَةَ الله » تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها ، و هي تدل بوضوح على أنَّ الدّين ـ بمعنى الإِعتقاد بخالق العالم و الإِنسان ، و أَنَّ مصير الإِنسان بيدهـ شيء خلق الإِنسان عليه ، و فُطر به كما خلق و فُطِر على كثير من الميول و الغرائز.
     1 ـ سورة الروم : الآية 30.

(13)
    ب ـ ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (1).
    أيْ عرَّفْنا الإِنسان طريقَ الخير و طريقَ الشر. و ليس المراد التعرف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه ، و إن لم يقع في إِطار تعليم الأَنبياء ، و ذلك لأَنه سبحانه يقول قبله ( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَ ـ نَ فِي كَبَد * ... * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَ ـ هُ النَّجْدَيْنِ ) فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإِنسان و إبداعه.
    و هذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على أنَّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس مما ركّز عليها الوحي بشكل واضح ، و حاصلها إِنَّ الدين بصورته الكليَّة أَمر فطري ينمو حسب نمو الإِنسان ورشده ، و يخضع للتربية و التنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.

3 ـ دور الدين في الحياة
    لقد بان مما ذكرنا واقع الدين و مفهومه و أنَّه أمر مكنون في فطرة الإِنسان ، غير أَنَّه يجب علينا أَنْ نعرف دوره في الحياة ، و أَنَّه له التأثير الكبير في حياة الإِنسان العلمية و الإِجتماعية ، و لأَجل إِيقاف القارئ على تأثير الدين في هذه المجالات الحيويَّة نشير إلى بعضها :

أ ـ الدين مبدع للعلوم :
    نحن نستعرض في هذا البحث مدى تأثير النظريتين المتضادتين (الدّين و الإِلحاد) حول نشوء العالم ، في استكشاف الحقائق و التطلع إلى
     1 ـ سورة البلد : الآية 10.


(14)
     السنن السائدة فيه ، من دون جنوح ـ فعلا ـ إلى صحة إحدى الفرضيتين.
    لا شك أَنَّ في تفسير العالم و تبيينه نظريتين متقابلتين لا تجتمعان أَبداً ، و سنبين فيما بعد الصحيح منهما ، غير أَنَّ الذي نركز عليه هنا هو تحديد تأثير كل واحدة من النظريتين على تكامل العلوم ورقيها.

النظريَّة الأُولى : تعتمد على أَنَّ العالم من الذرة إلى المجرة إِبداع عقل كبير ، و موجود جميل ، غير متناه في القدرة و العلم ، فهو بعلمه و قدرته أَبدع العالم و خلقه.
النظريَّة الثانية : إِنَّ مادة العالم أَزلية ليس للعِلْم و لا القدرة ، الخارجين عنها ، أي صنع و تأثير فيه ، فلو وجدت فيه سنن ، فإنما هي وليدة التصادف أَو ما يشبهه من الفروض العلمية التي تشترك جميعها في القول بإِفاضة المادة الصمَّاء العمياء على نفسها السنن و القوانين.
    نحن لا نريد التَّركيز على إحدى الفرضيتين لأن الحقيقة ستتجلى في الأَبحاث الآتية ، و إِنما نركز على معرفة أَية نظرية من النظريتين تحث الإِنسان على التحقيق و تثير روح البحث في نفسه؟
    هل القول بأَن عالم المادة صنع موجود غير متناه في العِلْم و القدرة ، قد أَبدع المادة و أَجرى فيها السنن و القوانين بفضل علمه و سعة قدرته؟
    أو القول بأنَّ المادة لم تزل أزلية و ليس فيها للعِلْم و القدرة صنع ، و لو صارت ذات سنن و قوانين فإنما هي وليدة الصّدفة أو وليدة التضاد الحاكم عليها ـ كما هو أحد الفروض للماديين الماركسيين ـ أو ما يقرب من ذلك.
    فأي النظريتين هو المؤثر في تقدم العلوم و تكاملها؟
    لا شك أَنَّ الباحث عن الكون لو تدرَّع بالنظرية الأُولى يجد في نفسه


(15)
     حافزاً على التحقيق و إِحساساً بأَنَّ العالم غير منفك عن السنن و النظم ، و عليه أَنْ يتفحَّصَ عنها.
    و هذا بخلاف الباحث المعتنق للنظرَّية الثانية ، لأَنَّ تحقق الصدفة أو التضاد السائد بين أجزاء المادة ، لا يورث العِلْم بحتمية حدوث سنن و أَنظمة في داخل المادة حتى يبحث عنها الإِنسان فلا يصح للباحث عن سنن العالم و المستطلع للحقائق السائدة فيه ، أنْ يتكئ على منصة الدراسة إِلاّ أَنْ يكون معتقداً بالنظريَّة الأُولى دون النظرية الثانية.
    و هذا ما ادَّعيناه في صدر البحث من أَنَّ العقيدة الدينية خلاقة للعلوم و باعثة للتحقيق.
    و قد خرجنا بهذه النتيجة و هي أَنَّ الدين بمعنى الإِعتقاد بكون العالم مخلوقاً لعلم و قدرة ، عامل كبير في تقدم العلوم البشرية ، و أَنَّه يثير روح التعمق و التدبر في الإِنسان المحقق ، في حين إِنَّ اللادينية و الإِعتقاد بأَصالة المادة و عدم اتصالها بمبداً أقوى لا يثير شوق البحث و التحقيق.
    نعم ، ها هنا سؤال ربما يخالج ذهن القارئ و هو أنَّ هناك عدة فرق من دعاة المادية ، من المكتشفين لأَسرار الطبيعة و نظمها ، فلو كان الإِلحاد يعرقل خطى التحقيق و التقدم ، فكيف وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه من الكشف و التحقيق؟
الجواب : إِنَّ هؤلاء و إِن كانوا يحملون شعار الإِلحاد ، لكنها شعارات على السنتهم ، و أَما قلوبهم فتخفق بخلاف ذلك ، بمعنى أَنَّهم يعتقدون في صميم قلوبهم بخضوع العالم لقوة كبرى أَجرت فيه السنن و النظم ، التي هم بصدد كشفها و التعرف عليها ، و لولا ذاك الإِيمان و الإِعتقاد بخضوع العالم لتلك القوة ، لما حصل لهم الإِيمان بأَنَّ المادة ذات سنن و نظم ، أَرضها و سماءَها ، قريبها و بعيدها ، حتَّى النجوم و المجرات المتوغلة في أَعماق


(16)
     الكون فإِنَّ إصرارهم على كشف النظم فرع الإِيمان بوجودها فيها ، و لا يحصل الإِيمان و الإِذعان إِلاّ لمن اعتقد خضوع العالم لقوة كبرى عالمة قادرة ، أَجرت فيها السنن. و إِلاّ فالإِعتقاد بأَزلية المادة و كون السنن الحكيمة وليدة التصادف لا يوجب أَي إِذعان بوجود النظم في جميع أَجزاء العالم ، قريبها و نائيها.
    و بعبارة أَوضح : إِنَّ كل مستكشف قبل الشروع في الإِستكشاف ذو عقيدة خاصة ، و هي أنَّ كل ذرة من ذرات هذا العالم حيّها و ميتها ، قريبها و بعيدها ، مشتملة على قانون يريد هو أَنْ يستكشفه و يفرغه في قالب العِلْم ، فعندئذ نسأل من أَين حصل لهذا المكتشف هذا الإِذعان و الإِعتقاد. لا بد أَنْ يكون لهذا العلم مبدأ و مصدرٌ ، فما هذا المنشأ؟
    فإِنّ قال : « إِني أَعتقد بأَنَّ مجموع العالم إِبداع قوة كبرى ذات علم و قدرة هائلين أَوجدت العالم بعلمها و قدرتها و حكمتها » ، لصح له أَنْ يعتقد بأَنَّ كل جزء من أَجزاء هذا العالم ذو نظام ، لأَنَّ فعل العالم القادر الحكيم لا ينفك عن النظم و لا يوجد فيه اختلال و لا اضطراب.
    و إِنْ قال : « إِني أَعتقد بأَزلية المادة و أنَّ المادة الصماء صارت ذات نظام في ظل الصدفة طيلة الأَزمنة المتمادية » ، فيقال له : إِنَّ الإِعتقاد بالصدفة لا يلازم الإِذعان بالنظام مائة بالمائة بل يحتمل أَنْ يوجد هناك نظام كما يحتمل أَنْ لا يوجد.
    فتفسير الإِذعان بوجود النظام مائة بالمائة عن طريق الإِعتقاد بالصدفة باطل جداً لأَنه من قبل تفسير العلم القطعي ، بشيء لا يوجد العلم بل يوجد الإِحتمال ، لأَن الإِعتقاد بالصدفة مبداً لاحتمال وجود النظام لا الإِذعان بوجوده ، فلابد لهذا الإِذعان من علَّة أُخرى غير الصدفة ، و ليس هي إِلاّ


(17)
     الإِعتقاد بكون الشعور و القدرة دخيلين في إِنشاء العالم و إِخراجه إلى حيز الوجود.
    و إِنْ شئت أَفرغ هذا البيان بقالب منطقي و قل : لكل مكتشف قبل الإنشغال بالكشف ، إذعان بوجود النَّظم و السنن في هذا العالم ، و هو يريد كشفها ، هذا من جانب.
    و من جانب آخر ، إنَّ المادي يرى العامل الوحيد لظهور السنن هو الصدفة ، و لكنها ليست عاملا مورثاً للإِذعان بل أقصى ما تورثه هو الاحتمال. مع أنَّ المستكشف يحمل العلم بالسنن لا أنه يحتمل أنْ يكون هناك سنّة و نظام.
    فيجب أنْ يفسّر ذاك الإذعان بعامل ثان و ليس هو إلاّ قيام العالم ، حدوثاً و بقاء ، بعلم و قدرة أزليين.

ب ـ الدّين دعامة الأخلاق
    قد تعرفت على دور الدين في إثارة روح التحقيق في الإِنسان ، لكن له دوراً آخر في تركيز الأخلاق و تحكيم أصولها في المجتمع ، و إليك بيانه :
    لا شك أَنَّ إقامة الأخلاق و التمسك بالقيم الأخلاقية ، لا ينفكّ عن الحرمان في بعض الأحايين و ترك اللذائذ النفسانية في ظروف أُخر ، و عندئذ يجب أنْ نبحث عن عامل النجاح في هذا المعترك.
    فمن جانب : إنَّ الإِنسان مقهور للميول النفسانية و الغرائز المتعدية التي لا تعرف لنفسها حدّاً و هي تريد أنْ تفجر أمامها ، و تنال كل لذيذ و ملائم ، وافق القيم أمْ خالفها ، و هذا شيء يحسه كل إنسان في كثير من فترات حياته.


(18)
    
    و من جانب آخر : إنَّ الفطرة الإِنسانية توحي إلى صاحبها بحفظ القيم و العمل بالأخلاق كما أنَّ علماء التربية يوصون بذلك. و عند ذلك يجد الإِنسان في نفسه صراعاً عنيفاً بين ميوله ، فلا بد لنجاحه في هذا المعترك من عامل يرجح كفّة الفطرة الإِنسانية الموحية بحفظ الأخلاق و العمل بالقيم ، فما هو هذا العامل خصوصاً في الفترات التي يغيب فيها الرقيب ، و تنام فيها العيون ، و لا يسأل الإِنسان عما يفعل؟.
    هنا يتجلى الدّين بصورة عامل قوي يرجح كفة الأخلاق ، و يوحي للإِنسان بالعمل بالقيم و كبح جماح الغرائز ، لأن المتديّن يعتقد بأنَّ كل ما يعمل من خير و شرّ في هذه الدنيا ، سيحاسبه الله سبحانه عليه بأشد الحساب و أدقّه ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ ) (1).
    و هذا بخلاف ما إذا كان ملحداً و لم يعتقد بكتاب و لا حساب لا في الحياة و لا بعدها فلا يرى في معترك صراع الغرائز و تنازعها في كيانه رادعاً عن نقض الحدود و تجاهل القيم غير عنصر ضعيف التأثير يُدعى بالفطرة الإِنسانية ، التي سرعان ما تتقهقر أمَام طوفان الشَّهوات ، و النَّزوات.
    و هذا شيء ملموس لا نطيل الكلام فيه.

ج ـ الدّين حصن منيع في خضمّ متقلبات العَالَم
    إنَّ الحياة في هذا الكوكب حليفة التعب والوصب ، و الإنسان يعيش في السرَّاء و الضرَّاء ، يفقد الأعزة و يواجه البلايا و النوازل إلى غير ذلك من الملمّات المؤلمة القاصمة للظهر ، فما هي السلوى في مواجهة علقم الحياة و حنظلها؟.
     1 ـ سورة يونس : الآية 61.

(19)
     أقول إنَّ الدّين هو السلوى الكبرى التي تجعل الإِنسان جبلا راسخاً تجاه الحوادث المؤلمة غير متزعزع في البلايا و لا متزلزل عن الكوارث ، لماذا؟ لوجهين :
أما أولا فإنه يعتقد أنَّ ما يجري في الكون من خير و شر ، فهو من مظاهر مشيئة الخالق الحكيم الذي لا يصدر منه شيء إلاّ عن حكمة و لا يفعل إلاّ عن مصلحة ، فهذه الكوارث ، مرّة ظواهرها ، حلوة بواطنها ، و إنْ كان الإِنسان لا يشعر بذلك في ظرف المصيبة و الابتلاء ، ولكنه يقف عليه بعد كشف الغطاء و انجلاء الحقائق.
و ثانيا فإنَّ الإِنسان إذا صبر تجاه المصائب و استقبلها بصدر رحب و وجه مشرق يكون مأجوراً عنده سبحانه بصبره و ثباته و استقامته ، و رضاه بتقديره و قضائه قال سبحانه : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّ ـ ا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَ ـ ئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1). فعند ذلك يتجلى الدّين كدواء يسكّن الآلام و يخفّف المصائب ، بل ربما يستقبلها ببشاشة و انشراح ، غير أنَّ المادي في ذاك المجال فاقد البلسم لجراحات حياته ، و فاقد الدواء لا ضطراباته ، لأنه لا يعتقد بأن وراء المادة عالماً يحشر فيه لإِنسان ، و يثاب بصبره ، و يؤجر بأعماله فهو يعتقد بأنَّ دائرة الكون محدودة بالمادة ، يبدأ منها و ينتهي إليها ، فلا مناص منها إلاّ إليها ، و هي صماء و عمياء لا تقدر على تسكين جروح الإنسان و ترفيه روحه ، فلأجل ذلك نرى الانتحار شائعاً بين تلك الزمرة ، عند المصائب ، و أما الزمرة المؤمنة بالحياة الأُخروية ، فيستقلّون آلام المصائب عند حلولها و يسلّون أنفسهم بالصبر و الثَّواب على خلاف الماديّين حيث يستكثرونها و يستسلمون أمامها.
     1 ـ سورة البقرة : الآيات 155 ـ 157.

(20)
     فلو صحَّ لنا تشبيه المعقول بالمحسوس و إفراغ المعاني العالية في قوالب حسية ضيقة ، فلا عتب علينا إذا قلنا بأن الدين تجاه التيارات المؤلمة القاصمة للظهر ، الموجبة للإِنفجار ، كصمام الأمان في المسخّنات البخارية التي لم يزل بخارها يزداد حيناً بعد حين ، فلولا صمام الأمان الذي يوجب تسريح البخار الزائد ، لانفجر المسخن في المعمل و أورث القتل الذريع و الحريق الفظيع ، و قد اعتذرنا عن هذا المثال بأنه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.

4 ـ المعرفة المعتبرة
    إِنَّ الخطوة الأولى لفهم الدّين هي الوقوف على المعرفة المعتبرة فيه.
    فالدّين الواقعي لا يعتبر كل معرفة حقاً قابلا للاستناد ، بل يشترط فيها الشروط التالية.
    أ ـ المعرفة القطعية التي لا تنفكّ عن الجزم و الإِذعان و رفض المعرفة الظنّية و الوهميّة و الشكّية ، قال سبحانه :
    ( وَلاَتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْ ـ ؤولاً ) (1). ترى أنَّ الآية ترفض كل معرفة خرجت عن إطار العِلمْ القطعي ، و لأجل ذلك يَذمّ في كثير من الآيات اقتفاءَ سنن الآباء و الأجداد ، اقتفاء بلا دليل واضح ، و بلا عِلْم بصحته و إتقانه ، يقول سبحانه : ( بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَ ـ ارِهِم مُّهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِّن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (2).
     1 ـ سورة الاسراء : الآية 36.
    2 ـ سورة الزخرف : الآيتان 22 ـ 23.
الالهيّات ::: الفهرس