الالهيّات ::: 51 ـ 60
(51)
برهان النَّظم بتقرير رابع
برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة
    و يمكن تقرير برهان النَّظم بصورة رابعة و ليست هي دليلا مستقلا و إِنما هو اختلاف في التقرير ، فروح البرهان واحدة ، وصور التقرير مختلفة ، و هذا التقرير ما نسميه ب ـ « برهان حساب الإِحتمالات في نشأة الحياة ».

الحياة رهن قيود و شروط
    إِنَّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كل شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة ، و تكون ظاهرة الحياة مستحلية بفقدان واحد منها فضلا عن كثير منها أو جميعها ، و هذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك ، و منها ما يرتبط بالهواء المحيط و الغازات ، و منها ما يرتبط بالأرض و ما فيها من نبات و حيوان و جماد. و قد تكفلت العلوم الطبيعية بتبيين تلك الشروط و نحن في غنى عن سردها ، غير أَنَّا نقول : إِنَّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب و النسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة ، احتمالا في مقابل ما لا يحصى من الإِحتمالات ، و يكون الإِحتمال في الظآلة على وجه لا يعتمد عليه. مثلا إِنَّ تحقق الحياة يحتاج إلى عوامل و أَسباب نشير إلى أَقل القليل منها :


(52)
     1 ـ يحيط بالأَرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه ثمانمائة كيلومتر و هو بمثابة مظلة و اقية تصون الكرة الأَرضية من التعرض لخطر النيازك التي تنفصل يومياً من الكواكب و تتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين و لولا هذا الغلاف لسقطت على كل بقعة من الأَرض ملايين النيازك المحرقة.
    2 ـ الأَرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلا ، و لأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة ، و يتناسب مع متطلباتها ، فلو زادت المسافة بين الشمس و الأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس ، و لو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف ، و في كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.
    3 ـ إِنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% و الأوكسيجين 21% ، فلو تغير المقدار و صارت نسبة الأُوكسيجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للإِشتعال إلى مواد محترقة ، و لبلغ الأَمر إلى درجة لو أَصابت شرارة غابة ، لأحرقت جميع ما فيها دون أَنْ تترك غصناً يابساً ، ولو تضاءلت نسبة الأُكسجين في الهواء و بلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.
    هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إِمكان الحياة في هذه الكرة ، و هي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعد فيها و لا تحصى. و على هذا الأَساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول : إِنَّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضرورية لا بدّ منها فإِذا ما فقدت عاملا من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة و استحال على الكائنات الحية استمرارها.
    و على ذلك فإِنَّ فرض توفر هذه الشروط اللازمة المتناسقة ، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة ، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه ، لأن المادة


(53)
     الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى. من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلاّ بصورة خاصة أو بحالة واحدة ، فعندئذ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور و عقل واسع إلى هذه الصورة الخاصة التي تمكّن الحياة من الإِستقرار.
    فلنأخذ من جميع الظواهر الحيوية حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة و قد ركبت بنسبها المعينة الخاصة. فبوسع المادة الأُولى أَنْ تظهر بأَشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة ، و إِنَّما الصالحة لها واحدة منها. و عندئذ نتساءل : كيف استطاعت المادة الأُولى عن طريق « الصدفة » ، من بين الصور الكثيرة الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها؟!
    و هذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الإِحتمالات ، و على توضيحه نأتي بمثال :
    نفترض أَنَّ شخصاً بصيراً جالساً وراء آلة طابعة و يحاول بالضغط على الأزرار ، و عددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة ، أَنْ يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها :
ألا كُلُّ شَيء مَا خلا الله باطلُ وَ كُلُّ نَعيم لا محالةَ زائلُ
    فاحتمال أَنَّ الضربة الأُولى أَصابت صدفة الحرف الأَول من هذه القصيدة (أ) ، و الضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا) ، و الضربة الثالثة أَصابت صدفة الحرف الثالث منها (كـ ) ، و هلم جرّاً ....هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة.
    و إِنْ أرْدتَ تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليكَ أَنْ تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها ، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة ، و عدد حروف البيت من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه (76) من الأصفار.


(54)
     و لو أَضفنا إلى البيت الأول بيتاً آخر ، فإِنَّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة ، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.
    و يستحيل على المفكر أَنْ يتقبل هذا الإِحتمال الضئيل ـ الذي هو المناسب لتحقق المراد ـ من بين تلك الإِحتمالات و الفرضيات الهائلة. و كل من يرى البيتين و قد حُرّرا بالآلة الطابعة و بصورة صحيحة ، يقطع بحكمة و علم محررها. و لم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.
    هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون و الحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط و العوامل بنسب معينة في غاية الإِتقان و الدّقة ، فهل يصح لعاقل أَنْ يتفوه بأَنَّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأُولى و تحققت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. و يعد الإِعتماد على هذا الإِحتمال ، رياضياً ، اعتماداً على صفر ، و في ذلك يقول العلامة (كريسي موريسن) :
    « إِنَّ حجم الكرة الأَرضية و بعدها عن الشمس ، و درجة الحرارة في الشمس ، و أَشعتها الباعثة للحياة ، و سمك قشرة الأَرض ، و كمية الماء ، و مقدار ثاني أوكسيد الكاربون ، و حجم النيتروجين ، و ظهور الإِنسان و بقاءه على قيد الحياة كل هذه الأُمور تدل على خروج النظام من الفوضى (أَي إِنَّه نظام لا فوضى) ، و على التصميم و القصد. كما تدل على أنهـ طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ـ ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أَنْ يحدث هكذا ، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد » (1).
    و تقرير هذا البرهان و هذه الصورة الرياضية ، يدل على أنَّ برهان النَّظم يتماشى مع جميع العصور ، و يناسب جميع العقول و المستويات ، و لا
     1 ـ العِلْم يدعو للإِيمان ـ كريسي موريسن.

(55)
     ينحصر تقريره بصورة واحدة. و بهذا يعلم سر تركيز القرآن على ذاك البرهان ، و في الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لآَيَ ـ ات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ ) (1).

إِشكال على برهان النَّظم :
    إِعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم (2) على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم ـ كما توهمه هيوم و فلاسفة الغرب ـ قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشرية المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر ، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء ، و السفينة لا توجد بلا عمال ، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لشباهته بتلك المصنوعات البشرية.
    ثم انتقد هذا الإِستدلال بأَنَّه مبني على التَّشابه بين الكائنات الطبيعية ، و المصنوعات البشرية. ولكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعدية حكم أَحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فإِنَّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما ، فكيف يمكن أَنْ نستكشف من أَحدهما حكم الآخر؟
    و صحيح أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إِلا بصانع
     1 ـ سورة البقرة الآية 164.
    2 ـ و هو اسكتلندي المولد ، ولد عام 1711 م و توفي عام 1776 م. و كان يعد من أَكبر الفلاسفة المشككين ، و قد أورد هذا الإِشكال في كتابه المسمى ب ـ « المحاورات » و هو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أَحدهما يمثل مشككاً في برهان النَّظم باسم « فيلون » و الآخر يمثل المدافع عنه باسم « كلثانتس ».


(56)
     عاقل ، و لكننا لم نجرّب ذلك في الكون ، فإِنَّ الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإِنسان على كيفية خلقه و إِيجاده ، بل واجهه لأول مرة ، و بهذا لا يمكن أَنْ يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إِلا إِذا جرّبه من قبل عشرات المرات ، و شهد عملية الخلق و التكوّن كما شاهد ذلك و جرَّبه في المصنوعات البشرية ، حتى يقف على أَنَّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أَنْ يوجد من دون خالق عليم و صانع خبير. هذا هو محصل إِشكاله أَوردناه بغاية الوضوح.
    إِنَّ ماذكره من الإِشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النَّظم ، و يعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك و تستوعب برهان النَّظم بصورته الصحيحة ، فإِنَّ هذا البرهان لا يرتبط أَبداً بالتشابه و التمثيل و التجربة ، و إِنَّما هو برهان عقلي تام ، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام و ماهيته بأَنَّه صادر من فاعل عاقل و خالق قدير.
    توضيح ما ذكرناه أَنَّ برهان النَّظم ليس مبنياً على التشابه بين مصنوعات البشر و الموجود الطبيعي كما جاءَ في اعتراض « هيوم » ، حتى يقال بالفرق بين الصنفين ، و يقال هذا صناعي و ذاك طبيعي و لا يمكن إِسراء حكم الأَول إلى الثاني.
    و لا على التماثل ـ الذي هو المِلاك في التجربة ـ حتى يقال إِنَّا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية و لم نجرّبه في الكون لعدم تكرر وقوعه و عدم وقوفنا على تواجده مراراً ، فلا يصح سحب حكم الأَول على الثاني و تعديته إليه.
    و إِنَّما هو قائم على ملاحظة العقل للنَّظم و التناسق و الإِنضباط بين أَجزاء الوجود ، فيحكم بما هو هو ، من دون دخالة لأَية تجربة و مشابهة ، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً ذا عقل و شعور ، و إليك البيان :


(57)
     إِنَّ برهان النَّظم مركَّب من مقدمتين ، إِحداهما حسّية و الأَخرى عقليَّة و دور الحسّ ينحصر فى إِثبات الموضوع ، أَيْ وجود النظام في الكون و السنن السائدة عليه ، و أَمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أَنَّ هذا النّظام بالكيفيَّة و الكميَّة المحددة ، لا يمكن أنْ يكون نتيجة الصّدفة أَو أَيِّ عامل فاقد للشعور.
    أَمّا الصغرى ، فلا تحتاج إلى البيان. فإِنَّ جميع العلوم الطبيعيَّة متكفلة ببيان النُّظُم البديعة السائدة على العالم من الذرة إلى المجرة ، و إِنَّما المهم هو بيان الكبرى ، و هي قضاء العقل بأَنه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أَو التجربة. بل يستقل به مجرداً عن كل ذلك فنقول :

1 ـ الإِرتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور
    إِنَّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقية بين النظم و دخالة الشعور ، و ذلك لأَنَّ النظم ليس في الحقيقة إِلاّ أُمور ثلاثة :
    1 ـ الترابط بين أَجزاء متنوعه مختلفة من حيث الكمية و الكيفية.
    2 ـ ترتيبها و تنسيقها بنحو يمكن التعاون و التفاعل فيما بينها.
    3 ـ الهادفية إلى غاية مطلوبة و متوخاة من ذلك الجهاز المنظم.
    والنظام بهذا المعنى موجود في كل أَجزاء الكون من ذرته إلى مجرته ، فإذا نظر العقل في كل جوانب الكون ابتداءً من الذرة و مروراً بالإِنسان و الحيوان و النبات وانتهاءً بالنجوم و الكواكب و المجرّات و رأى فيها أجزاءً مختلفة في الكمية و الكيفية أَولا ، و منسقة و مرتبة بنحو خاص ثانياً ، ورأى كيف يتحقق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثاً ، حكم من فوره بأَنَّ ذلك لا يمكن أَنْ يصدر إِلاّ من فاعل عاقل ، و خالق هادف شاعر ، يوجد الأجزاء المختلفة كمّاً و كيفاً ، و يرتبها و ينسّقها بحيث يمكن أَنْ تتفاعل فيما بينها و تتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.


(58)
     و هذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شيء غير النظر إلى ماهية النظام و طبيعة الآبية للتحقق بلا فاعل عاقل مدبر. و هو لا يستند لا إلى التشابه و لا إلى التجربة كما تخيل (هيوم) و أَضرابه.
    إِنَّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أَو الأذن أَو المخ أَو القلب أو الخلية من النظام ، بمعنى وجود أَجزاء مختلفة كمّاً و كيفاً ، أولا ، و تناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانياً ، و تحقيق الهدف الخاص منها ثالثاً ، يدفع العقل إلى الحكم بأنها من فعل خالق عليم ، لاحتياجها إلى دخالة شعور و عقل و هادفية و قصد.
    و بهذا تبين أَنَّ بين الجهاز المنظّم ، و دخالة العقل و الشعور رابطة منطقية. و إِنْ شئت قلت : إِنَّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة (الترابط ، و التناسق ، و الهادفية) تنادي بلسانها التكويني : إِنَّ النظام مخلوق عقل واسع و شعور كبير.

2 ـ تقرير الرابطة المنطقية بين النظام و دخالة الشعور بشكل آخر
    إِنَّ العقل عندما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة ، أو عندما يرى اجتماع آلاف الأَجزاء و العناصر اللازمة للإِبصار ، في العين ، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدم أو تأخر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية واستحال الإِبصار ، يحكم أَنَّ هناك عقلا جباراً أرسى مثل هذا النظام ، و أوجد مثل هذا التنسيق و الإِنسجام و الترتيب و التوفيق ، و يحكم بدخالة الشعور في ذلك و نفي حصوله بالصدفة و الإِتفاق ، لأنَّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ ولا يحصى من الصور و الكيفياتْ الأُخرى غير المناسبة ، و حينئذ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة ، احتمالا ضعيفاً جداً يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضآلته ، و هو ما لا يذهب إليه الإِنسان العادي فضلا عن العاقل المحاسب.


(59)
     أَجل ، إِنَّ هذه المحاسبة الرياضيَّة التي يُجريها العقل إِذا هو شاهد النظام السائد في الكون ، تدفعه إلى الحكم بأَنَّ هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد و إِرادة ، و جمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة (1).
    و بهذا يبقى برهان النظم قوياً صامداً سليماً عن أَيَّ نقد و لا يرتبط بشيء من التمثيل أَوْ التجربة كما تصور « هيوم » ، و إِنما هو العقل وحده ينتهي إِليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء ، و بهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإِذعان بأَنَّ الساعة وجدت بلا صانع أَو أنَّ السيارة وجدت بلا علة ، فإِنما هو لأَجل ملاحظة نفس الظاهرة (الساعة و السيارة) حيث يرى أَنَّها تحققت بعد ما لم تكن ، فيحكم من فوره بأَنَّ لها موجداً. و ليس هذا الحكم إِلا لأَجل الإِرتباط المنطقي بين وجود الشيء بعد عدمه ، و لزوم وجود فاعل له ، و إِنْ شئت قلت لأَجل قانون العلية و المعلولية الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.
    كما أَنَّ حكم العقل في المقام بأَنَّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير ، ناشئ من الإِرتباط المنطقي بين النظام و دخالة الشعور ، أَو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرّت ، لا لأَن العقل مثل أَو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.
    و حصيلة الكلام : إِنَّ طبيعة النظام و ماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أَنَّها صادرة عن فاعل شاعر و خالق عاقل ، و هذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني ، من دون النَّظر إلى شيء آخر (2).
     1 ـ راجع التقرير الرابع لبرهان النَّظم ، فقد أَشرنا فيه إلى ماها هنا مفصّلا.
    2 ـ إِنَّ الأسئلة المتوجهة إلى برهان النَّظم لا تنحصر بما ذكرناه ، و إِنْ كان هو أَقواها. و قد ذكر الأُستاذ (دام ظله) جميع الإِشكالات المطروحة حول هذا البرهان و تربو على السبع ، و أَجاب عنها في كتاب « الله خالق الكون » فمن أراد التوسع فيها فليرجع إلى الصفحات التالية من : (220 إلى 279).
الالهيّات ::: الفهرس