الالهيّات ::: 61 ـ 70
(61)
البرهان الثاني
برهان الإِمكان
    و توضيحه يتوقف على بيان أمور :
    
    الأمر الأول : تقسيم المعقول إلى الواجب و الممكن و الممتنع.
    إنَّ كل معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود و التحقق ، فإما أن يَصِحَّ اتصافُه به لذاته أو لا.
    الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين.
    و الأَول : إما أَنْ يقتضي وجوبَ اتصافه به لذاته أو لا. و الأول هو واجب الوجود لذاته.
    و الثاني ، هو ممكن الوجود لذاته ، أعني به ما تكون نسبة كل من الوجود و العدم إليه متساوية.
    و بعبارة أخرى : إذا تصورنا شيئاً ، فإما أنْ يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله. و الأول هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما ، و اجتماع الضدين ، ووجود المعلول بلا علة.
    و الثاني ، إما أنْ يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده و لزوم تحققه


(62)
     في الخارج ، فهذا هو الواجب لذاته. و إما أَنْ يكون متساوي النسبة إلى الوجود و العدم فلا يستدعي أَحدهما أَبداً ، و لأجل ذلك قد يكون موجوداً و قد يكون معدوماً ، و هو الممكن لذاته ، كأفراد الإِنسان و غيره.
    و هذا التقسيم ، دائر بين الإِيجاب و السلب و لا شق رابع له ، و لا يمكن أَنْ يُتصور معقول لا يكون داخلا تحت هذه الأَقسام الثلاثة.
    
    الأَمر الثاني : وجود الممكن رهن علّته.
    إِنَّ الواجب لذاته بما أَنَّه يقتضي الوجود من صميم ذاته ، لا يتوقف وجوده على وجود علة توجده لا ستغنائه عنها. كما أَنَّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الإِتصاف بالعدم إلى علة. و لأَجل ذلك قالوا إِنَّ واجب الوجود في وجوده ، و ممتنع الوجود في عدمه ، مستغنيان عن العلة ، لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الفقر و الفاقة ، والواجب ، واجبُ الوجود لذاته. و الممتنع ، ممتنعُ الوجود لذاته. و ما هو كذلك لا حاجة له في الإِتصاف بأَحدهما إلى علة. فالأَول يملك الوجود لذاته ، و الثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات.
    و أما الممكن فبما أَنَّ مَثَلَه إلى الوجود و العدم كَمَثَلِ مركَزِ الدائرةِ إلى محيطها لا ترجيحَ لواحد منها على الآخر ، فهو في كلٍّ من الإِتصافين يحتاج إلى علة تخرجه من حالة التساوي و تجرُّه إما إلى جانب الوجود أَو جانب العدم.
    نعم ، يجب أن تكون علة الوجود أمراً متحققاً في الخارج ، و أما علة العدم فيكفي فيها عدمُ العلة. مثلا : إن طردَ الجهل عن الإِنسان الأُمّي و إحلال العلم مكانَه ، يتوقفُ على مبادىء وجودية ، و أما بقاؤه على الجهل و عدم العلم فيكفي فيه عدم تلك المبادئ.
    الأمر الثالث : في بيان الدور و التسلسل و بطلانهما.


(63)
     الدورعبارة عن كون الشيء مُوجِداً لشيء ثانِ ، و في الوقت نفسه يكون الشَّيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأَول. و هذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأَول علة للثاني ، تقدُّمُه عليه و تأخُّرُ الثاني عنه : و مقتضى كون الثاني علة للأول تقدُّمُ الثاني عليه. فينتج كونُ الشيء الواحد ، في حالة واحدة ، و بالنسبة إلى شيء واحد ، متقدِّماً و غير مُتَقَدِّم ، و متأخراً و غير متأخر. و هذا هو الجمع بين النقيضين ، و بطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية. فينتج أنَّ الدّورَ و ما يستلزمه محال.
    و لتوضيح الحال نمثل بمثال : إِذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة و اشترط كلُّ واحد منهما لإِمضائها ، إمضاءَ الآخر ، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر و عند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة ، لما ذكرنا من المحذور.
    و هاك مثالا آخر : لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع ، غيرَ أَنَّ كلاًّ يشترط في اقدامه على حمله إِقدام الآخر. فلن يحمل المتاع إلى مكانه أَبداً.
    و أما التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل و المعاليل الممكنة ، مترتبةً غير متناهية ، و يكون الكل متَّسِماً بوصف الإِمكان بأَنْ يتوقف (أ) على (ب) ، و الثاني على (ج) ، و الثالث على رابع و هكذا دواليك تتسلسل العلل و المعاليل من دون أَنْ تنتهي إلى نقطة.
    و باختصار : حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّبِ علل و معاليل ، تكون متناهيةً من جانب ـ أعني آخرها ـ و غيرَ متناهية من جانب آخر ، أعني أوّلها. و على ذلك ، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأَجزاء ، فإِنَّ كلا منها مع كونه معلولا لما فوقه ، علة لما دونه ، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع ، سائدة على السلسلة و على أجزائها كلها بخلاف


(64)
     العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير. هذا واقع التسلسل و أما بيان بطلانه :
    إِنَّ المعلولية كما هي وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة ، وصف لنفس السلسلة أَيضاً. و كما أَنَّ كلِّ واحدة من الحَلقات معلولة ، فهكذا مجموعها الذي نُعبِّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة ، أَيضاً معلول. فعندئذ يَطرَحُ هذا السؤال نفسَه : إِذا كانت السلسلةُ الهائلة معلولةً ، فما هي العلةُ التي أَخرجَتها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالم الوجود ، و من الظُّلْمَةِ إلى عالم النور؟ مع أَنَّ حاجَةَ المعلول إلى العلّةِ أَمرٌ بديهي. و قانونُ العليّةِ من القوانينِ الثابتة لا ينكره إِلاّ الغبي أَو المجادل في الأمور البديهية ، هذا من جانب. و من جانب آخر إِنَّ السلسلة لم تقف ولن تقف عند حدّ حتى يكونَ أولُ السلسلة علةً غيرَ معلول ، بل هي تسير و تمتد بلا توقف عند نقطة خاصة ، و على هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلولية من دون أنْ يكونَ فيها شيءٌ يَتَّسِمُ بِسِمَةِ العليَّةِ فقط. و عندئذ يعود السؤال : ما هي العلة المحققة لهذه السلسلة المعلولة ، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود؟
    ولك إجزاءُ هذا البيان في كل واحدة من حلقات السلسلة ، كما أُجْرِيَ في نفسِ السلسلة بعيِنها و تقول : إذا كان كلُ واحد من أَجزاءِ السلسلة معلولا و متسِماً بِسِمَةِ المعلولية ، فيطرح هذا السؤال نَفْسَهُ : ما هي العلة التي أخرجت كلَّ واحدة من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلولية ، من حَيِّزِ العدم إلى عالَم الوجود.
    و إذا كانت المعلولية آيةَ الفقر و علامة الحاجة إلى العلة ، فما تلك العلةُ التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات و البَسَتْها لِبَاسَ الوجود و التحقّق و صيّرتها غنية بالغَير؟.


(65)
     إِنَّ معلولية الأَجزاء التي لا تنفك عن معلولية السلسلة آية التعلق بالعلة ، و علامة التدلي بالغير ، و سمةُ القيام به. فما هي تلك العلة التي تتعلق بها الأَجزاء؟ و ما ذاك الغير الذي تتعلق به السلسلة؟
    و أنت إذا سألت كل حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكويني بأنها مفتقرة في وجودها ، متعلقة في جميع شؤونها بالعلة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كل واحدة من هذا الحلقات ، كان هذا أيضاً حال السلسلة برمّتها. و عندئذ نخرج بهذه النتيجة : إنَّ كلَّ واحدة من أجزاءِ السلسلة معلولة ، و المركب من المعاليل (السلسلة) أيضاً معلول. و المعلول لا ينفك عن العلّة ، و المفروض أنَّه ليس هنا شيء يكون علّة و لا يكون معلولا و إلاّ يلزم انقطاع السلسلة و توقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علة و لا يكون معلولا ، و هذا خلف.
    فإنْ قلت : إِنَّ كلَّ معلول من السلسلة مُتَقَوِّم بالعلّة التي تتقدمه ، و متعلق بها ، فالجزء الأَول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني ، و الثاني بالثالث ، و هكذا إلى ما شاء الله من الأَجزاءِ غير المتناهية و الحلقات غير المحدودة. و هذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر و الحاجة.
    قلت : إِنَّ كل معلول ، و إِن كان يستند إلى علة تتقدمه ويستمد منها وجودَه ، ولكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمةً بسمة المعلولية كانت مفتقرات بالذات ، و مثل هذا لا يوجد معلولَه بالإستقلال ، و لا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأَصالة ، إذْ ليسَ لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإِفاضة بالأَصالة و دور الإِيجاد بالإِستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط والأَخذ من العلة المتقدمة و الدفع إلى معلوله ، و هكذا كل حلقة نتصورها علة لما بعدها. فهي عند ذاك لا تملك شيئاً بذاتها و إنما تملك ما تملكه من طرف العلة التي تتقدمها و مثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك. و مثل هذا لا يصيِّر السلسلة و لا أَجزاءَها غنية بالذات بل تبقى على ما


(66)
     و صفناها به من كونها مفتقرات بالذات و متعلقات بالغير. فلا بدّ أَنْ يكون هناك علة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها و تكون سناداً لها.
    و بعبارة أخرى : اِنَّ كلَّ حلقة من هذه الحلقات (غير الأخيرة) تحمل سمتين : سمة العلية ، و بهذه السمة تُوجِدُ ما قبلها ، و سمةِ المعلولية و بهذه السمةِ تعلن أَنَّهَا لم تملك ما ملكَتْهُ ولم تدفع ما دفعَتْهُ إِلى معلولها إِلاَّ بالاكتساب مما تقدمها من العلّة. و هذا الأَمر جار و سائدٌ فيكل حلقة و كل جزء يقع في أفق الحس أو الذهن. فإِذاً تصبح نفسُ السلسلة و جميعُ أَجزائِها تحمل سمة الحاجة و الفقر ، و التعلّقِ و الرَّبطِ بالغير. و مثل تلك السلسلة لا يمكن أَنْ تُوجَد بنفسها إلاَّ بالإِستناد إلى موجود يحمل سمةً واحدة و هي سمةُ العلية لا غير ويتنزه عن سمة المعلولية. و عند ذاك تنقطع السلسلة و تخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي.

تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل
    إذا أردْتَ أن تستعينَ في تقريب الحقائقِ العقْلية بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك :
    الأول : إنَّ كل واحدة من هذه المعاليل ـ التي نشير إليها بالإِشارة العقلية و إن لم نقدر على الإِشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية ـ بحكم فقرها الذاتي ، بمنزلة الصفر. فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار. و من المعلوم أنَّ الصِّفْر بإضافة صِفْر ، بإضافة صِفْر ، صِفْرٌ مهما تسلسل ، و لا ينتج عدداً صحيحاً. فلأجل ذلك يحكم العقل بأنَّه يجب أن يكونَ إلى جانب هذه الأصفار عدداً صحيحاً قائماً بالنفس حتى يكون مصححاً لقراءتها ، و لولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيُّ دور في المحاسبة ، فلا يُقْرَأ الصفر مهما أُضيفَتْ إليه الأصفار.
    الثاني : إنَّ القضايا المشروطة إذا كانت غيرَ متناهية و غيرَ متوقفة على


(67)
     قضية مطلقة ، لا تخرج إلى عالم الوجود. مثلا إذا كان قيام زيد مشروطاً بقيام عمرو ، و قيامُه مشروطاً بقيام بكر ، و هكذا دواليك إلى غير النهاية ، فلن يتحقق القيام عندئذ من أي واحد منهم أَبداً ـ كما إِذا شرط الأَول إِمضاءَه للورقة بإِمضاءِ الثاني ، و الثاني بإِمضاءِ ثالث و هكذا ، فلن تُمْضَى تلك الورقة إلى الأبد ـ إلاَّ إِذا انتهت تلك القضايا إِلى قضية مُطْلَقَة بأَنْ يكونَ هناك من يقومُ أَو يمضي الورقة من دون أَنْ يكون فعلُه مشروطاً بشيء.
    فهذه المعاليلُ المتسلسلة ـ بما أَنَّ وجودَ كلٍّ منها مشروط بوجودِ علة تتقدمهـ تكون قضايا مشروطةً متسلسلةً غيرَ متناهية فلا تَخْرُجُ إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضية مطلقَة ، أَي إلى موجود يكون علةً محضةً و لا يكونَ وجوده مشروطاً بوجودِ علَّة أخرى ، و عندئذ يكون ما فرضناه متسلسلا غير متسلسل ، و ما فرضناه غير متناه متناهياً.
    فقد خرجنا بهذه النتيجة و هي أَنَّ فَرْضَ عِلَل و معاليلَ غير متناهية ، فرضٌ محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علة. فيكون الصحيح خلافَه أَي انقطاع السلسلة ، إذ لا واسطة بين الإِيجاب و السلب (1).
    إلى هنا تمت المقدمات التي لها دور فى توضيح برهان الإِمكان و إليك نفس البرهان.

تقرير برهان الإِمكان
    لا شك أَنَّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإِمكانية بدليل أنها توجَد
     1. إنّ بطلان التسلسل من المسائل المهمة في الفسلفة الإِلهية و قد طرحه الفلاسفة في أَسفارهم و أَثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر. ولكنَّ أَكثرها غيرُ مُقنع لأَنهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسية التي لا تجري إلا في الامور المتناهية و ما ذكرناه من البرهان ، برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أَسَّسها صَدْرُ الدين الشّيرازي و أَرْسى قواعدها تلامذة مدرسته و أبرزهم في العصر الأخير سيّدنا الراحل المغفور له العلاّمة الطباطبائي ( قدس سرّه ) .


(68)
     و تنعدم ، و تَحْدُث و تفنى ، و يطرأ عليها التبَدل و التغيّر ، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإِمكان و سمات الافتقار.
    و هذه الموجودات الإمكانية ، الواقعة في أفق الحس إمَّا موجودات بلا علة أَوْ لها علّة. و على الثاني فالعلّة إِمّا ممكنة أَوْ واجبة. ثم العلّة الممكنة إما أَنْ تكون متحققة بمعاليلها (أي الموجودات الإِمكانية) ، أَوْ بممكن آخر.
    فعلى الأَول ـ أي كونها موجودات بلا علة ـ يلزم نقضُ قانونِ العليّةِ و المعلولية و أنّ كلَّ ممكن يحتاج إِلى مؤثر. و مثلُ هذا لو قلنا بأن علَّتَها نفسُها ، مضافاً إلى أَنَّ فيه مفسدةَ الدور.
    و على الثاني ـ أى كونها متحققة بعلّة ممكنة و العلة الممكنةُ متحققةٌ بهذه الموجوداتِ الإِمكانية ـ يلزم الدور المحال.
    و على الثالث ـ أي تحققها بممكن آخر و هذا الممكن الآخر متحقق بممكن آخر و هكذا ـ يلزم التسلسل الذي أَبطلناه.
    و على الرابع ـ أَي كون العلة واجبة ـ يثبت المطلوب.
    فاتضح أَنَّه لا يصح تفسير النظام الكوني إِلاّ بالقول بانتهاء الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه ، فهذه الصورة هي الصورة التي يصحَّحُها العقلُ و يَعُدُّها خاليةً عن الإِشكال. و أما الصور الباقية فكلها تستلزم المحال ، و المستلزم للمحال محال.
    فالقول بكونها متحققة بلا علة أَوْ كونِ علتِها نفسَها ، يدفعه قانون العليّة الذي هو معترف به عند الجميع ، كما أَنَّ القول بكون بعضها متحققاً ببعضها الآخر ، و ذاك البعضِ الآخر متحقق بالبعض الأَول يستلزم الدور.
    و القول بأَنَّ كلَّ ممكن متحققٌ بممكن ثان و الثاني بثالث و هكذا يستلزم التسلسل.


(69)
     فلم يبق إِلاّ القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات ، القائم بنفسه ، المفيض للوجود على غيره.

بُرهانُ الإِمكان في الذكرِ الحكيم
    إنَّ الذكرَ الحكيم طرح معارفَه و أصولَه مدعومة بالبراهين الجليّة ، و لم يكتف بمجرد الدعوى بلا دليل ، فهو كالمعلِّم يلقي دروسه على تلاميذه بالبينة و البرهان. فالإِستدلالُ بهذه الآياتِ ليس كاستدلال الفقيه بها على الفروع ، فإنَّ الفقيه أثبَتَ أنَّ الوحيَ حجةٌ فأخَذَ بتفريعِ الفروع و إقامةِ الحُجَّةِ عليها من الوحي ، بل الإِستدلال بها في هذا الموقف الذي نحن فيه كالإِستدلال بسائر البراهين الموروثة عن الحكماء و المتألهين. و قد أشار سبحانه في الآيات التالية إلى شقوق برهان الإِمكان.
    فإلى أَنَّ حقيقةَ الممكن ، حقيقةٌ مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً و تحقُّقاً و لا أيَّ شيء آخر ، أشار بقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (1).
    و مثله قوله سبحانه : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) (2).
    و قوله سبحانه : ( وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ) (3).
    و إِلى أنَّ الممكنَ ، ومنه الإِنسان ، لا يتحقق بلا علَّة ، و لا تكون علَّتُهُ نفسَهُ ، أَشار سبحانه بقوله : ( أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (4).
     1 ـ سورة فاطر : الآية 15.
    2 ـ سورة النجم : الآية 48.
    3 ـ سورة محمد : الآية 38.
    4 ـ سورة الطور : الآية 35.


(70)
     و إلى أَنَّ الممكن لا يصح أَنْ يكونَ خالقاً لممكن آخر بالأَصالة و الإِستقلال و من دون الإِستناد إِلى خالق واجب ، أَشار سبحانه بقوله : ( أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بَل لاَّيُوقِنُونَ ) (1).
    فهذه الآيات و نظائِرُها تستدل على المعارف العقلية ببراهين واضحة و لا تتركها بلا دليل. (2)

سؤال و جواب
    السؤال : إنَّ القول بانتهاء الممكنات إلى علة أزلية موجودة بنفسها ، غير مخلوقة و لا متحققة بغيرها ، يستلزم تخصيص القاعدة العقلية ، فإنَّ العقل يحكم بأنَّ الشيء لا يتحقَّق بلا علّة. والواجب في فرض الإِلهيين شيءٌ متحقق بلا علّة ، فلزم نقض تلك القاعدة العقلية.

والجواب على وجوه :
    الأول ـ إِنَّ هذا السؤال مُشْتَرَك بين الإِلهي و الماديّ ، فكلاهما يعترف بموجود قديم غير متحقق بعلة. فالإِلهي يرى ذلك الموجود فوقَ عالَمِ المادةِ و الإِمكان ، و أنَّ الممكناتِ تنتهي إليه. و الماديُّ يرى ذلك الموجودَ ، المادة الأولى التي تتحول و تتشكل إِلى صور و حالات ، فإنها عنده قديمة متحققة بلا علة. فعلى كلٍّ منهما تجب الإِجابة عن هذا السؤال و لا يختص بالإِلهي (3).
     1 ـ سورة الطور : الآية 36.
    2 ـ كما أَنَّ فيها دلالة واضحة على أَنَّ التفكّر المنطقيّ مما يتوخَّاه القرآن الكريم و يدعو البشرية إِليه. ولو كانت الفلسفة بمعنى التفكّر الصحيح و البرهنة المبتنية على المدعى ، فقد فتح بابها القرآن الكريم.
    3 ـ والعجب أَنَّ الفيلسوف الإِنكليزي « برتراند راسل » زعم اختصاصه بالإِلهي و أَنَّ مَنْهَجَه يستلزم وجود الشي بلا علة و قد عرفت خلافه.
الالهيّات ::: الفهرس