الالهيّات ::: 91 ـ 100
(91)
     وها نحن نشير إلى هذه الطرق :

الأول ـ الطريق العقلي
    إِذا ثبت كونه سبحانه غنياً غيرَ محتاج إلى شيء ، فإِنَّ هذا الأَمر يمكن أَنْ يكون مبدأً لإِثبات كثير من الصفات الجلالية ، فإِنَّ كل وصف استلزم خللا في غناه و نقضاًله ، انتفى عنه ولزم سلبُه عن ذاته.
    و قد سلك الفيلسوف الإِسلامي نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال : « ووجوب الوجود يدل على سَرْمَدِيَّتِه ، و نفي الزائد ، و الشريك ، و المِثْل ، و التركيب بمعانيه ، و الضَّدّ ، و التَّحَيُّز ، والحُلول ، و الإِتحاد ، و الجهة ، و حلول الحوادث فيه ، و الحاجة ، و الأَلم مطلقاً و اللذة المزاجية ، و المعاني و الاحوال و الصفات الزائدة و الرؤية ».
    بل انطلق المحقق من نفس هذه القاعدة لإِثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود ، والمُلْك ، والتّمام ، والحقيّة ، والخيريّة ، والحكمة ، والتجبر ، والقهر ، والقيوميّة » (1).
    و قد سبقه إلى ذلك مؤلِّف الياقوت إذا قال : « و هو (وجوب الوجود) ينفي جملة من الصفات عن الذات الإِلهية و أَنَّهُ ليس بجسم ، و لا جوهر ، ولا عرض ، ولا حالاًّ في شيء ولا تَقُوم الحوادث به وإِلا لكان حادثاً » (2).
    و على ذلك يمكن الإِذعان بما في العالم الرُّبوبي من الكمال و الجمال
     1 ـ تجريد الإِعتقاد ، باب إِثبات الصانع و صفاته ، ص 178 ـ 185.
    2 ـ أنوار الملكوت في شرح الياقوت ، ص 76 و 80 و 81 و 99.


(92)
     بثبوت أصل واحد و هو كونُه سبحانَه موجوداً غنياً واجبَ الوجود ، لأَجل بطلان التسلسل الذي عرفته. و ليس إِثباتُ غناه و وجوبِ وجودهِ أَمراً مُشكلا على النفوس.
    و من هذا تنفتح نوافذ على الغيب و التعرف على صفاته الثبوتية و السلبية ، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.

الثاني : المطالعة في الآفاق و الأَنْفُس
    من الطرق و الاصول التي يمكن التَّعرفُ بها على صفات الله ، مطالعة الكون المحيط بنا ، و ما فيه من بديع النظام ، فإِنه يكشف عن علم واسع و قدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه ، و كلِّ القوانين التي تسود الكائنات. فمن خلال هذه القاعدة و عبر هذا الطريق أي مطالعة الكون ، يمكن للإِنسان أنْ يهتديَ إلى قسم كبير من الصفات الجمالية. و بهذا يتبين أَنَّ ذات الله سبحانه و صفاتهـ بحكم أَنها ليس كمثلها شيء ليست محجوبةً عن التعرُّفِ المُطْلَق و غيرَ واقعة في أٌفق التعقل ، حتّى نعطل العقول ونقول : « إنما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإِدراك الربوبية ». و قد أَمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق. يقول سبحانه : ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ ) (1). و قال سبحانه : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَات لاُِّوْلِي الاَْلْبَابِ ) (2). و قال سبحانه : ( إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لآَيَ ـ ات لِّقَوْم يَتَّقُونَ ) (3).
     1 ـ سورة يونس : الآية 101.
    2 ـ سورة آل عمران : الآية 190.
    3 ـ سورة يونس : الآية 6.


(93)
     و قد سلك هذا الطريق المحقق الطوسي في إثبات صفة العلم و القدرة حيث قال : « و الإِحكامُ والتَجَرّدُ و استنادُ كلِّ شيء إليه دليلُ العلم » (1).

الثالث : الرجوع إلى الكتاب و السنَّة الصحيحة
    و هناك أَصل ثالث يعتمد عليه أَتباع الشرع ، و هو التعرف على أَسمائه و صفاته و أَفعاله بما ورد في الكتب السماوية و أَقوال الأَنبياء و كلماتهم ، و ذلك بعدما ثبت وجودُه سبحانه و قسمٌ من صفاته ، ووقفنا على أنَّ الأَنبياءَ مبعوثون من جانب الله و صادقون في أَقوالهم و كلماتهم.
    و باختصار ، بفضل الوَحْي ـ الذي لا خطأ فيه ولا زَلَل ـ نَقِفُ على ما في المَبْدَأ الأَعلى من نعوت و شؤون. فَمِنْ ذلك قولُه سبحانه : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَ ـ هَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَ ـ الِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَ ـ اوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (2). و سيوافيك أنّ اسماءه في القرآن مائة و ثمانية و عشرون إِسماً.

الرابع : الكَشْفُ والشُّهود.
    و هناك ثُلَّةٌ قليلةٌ يشاهدون بعيونِ القلوبِ ما لا يُدْرَكُ بالأَبْصار ، فَيَرَوْن جمالَهُ و جلالَه و صفاتَه و أَفعالَه بإِدراك قلبي ، يدرك لأَصحابه و لا يوصَفُ لغيرهم. والفُتوحاتُ الباطنيّة من المكاشفات و المشاهدات الروحيّة و الإِلقاءات
     1 ـ تجريد الإِعتقاد ، ص 172 ، طبقة مطبعة العرفان ـ صيدا.
    2 ـ سورة الحشر : الآيتان 23 و 24.


(94)
     في الروع غَيْرُ مَسْدودَة ، بنص الكتاب العزيز. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ) (1). أَي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرِّقون به بين الحقِّ و الباطلِ و تُمَيِّزون به بين الصحيحِ و الزائفِ لا بالبَرْهَنَةِ و الإِستدلال بل بالشهود و المكاشَفَة.
    و قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2).
    و المُراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلةَ حياتِه ، في معاشه و معاده ، في دينه و دنياه. (3).
    و قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَ ـ اهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أَنَّ المُؤمِنَ يَصِلُ إلى معارف و حقائِق في ضوء المُجاهدة و التَّقوى ، إلى أَنْ يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية ، قال سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينَ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (5).
    نعم ليس كلُّ من رمى أصاب الغَرَض ، و ليست الحقائق رمية للنِّبال ، و إِنما يَصِل إليها الأَمْثَلُ فالأَمْثَل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية و الفتوحات الباطنية إِلاّ النزر القليل ممن خَلُصَ روحُه
     1 ـ سورة الأنفال : الآية 29.
    2 ـ سورة الحديد : الآية 28.
    3 ـ أَما في الدنيا فهو النور الذي أَشار إليه سبحانه بقول : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَ ـ هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ وفِي الظُّ ـ لُمَ ـ تِ لَيْسَبِخَارِج مِّنْهَا ) (سورة الأنعام : الآية 122).
    و أَما في الآخرة فهو ما أَشار إليه سبحانه بقوله : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَ ـ تِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَ ـ نِهِم ) (سورة الحديد : الآية 12).
    4 ـ سورة العنكبوت : الآية 69.
    5 ـ سورة التكاثر : الآية 5 ـ 6.


(95)
     و صفى قلبُه.
    و قد بان بهذا البحث الضافي ، أَنه ليس لمسلم التوقف عن محاولة التعرف على صفات الله و أَسمائه بحُجَّة أنَّه لا مسانخة بين البشر و خالقهم.
    نعم ، نحن لا نَدَّعي أَنَّ بعضَ هذه الطرق ميسورَةَ السلوكِ للعامة جميعاً ، بل منها ما هو عام مُتاحٌ لكلِّ إنسان يريد معرفة ربه ، و منها ما هو خاص يستفيد منه من بلغ مبلغاً خاصاً من العلم و المعرفة (1).

الإِعراض عن البحث عما وراء الطبيعة ، لماذا؟
    هناك طوائف تمنع من البحث عما وراء هذا العالم المشهود و تَعُدُّ حُدودَ المادّةِ أَقصى ما تَصِلُ إليه المعرفةُ البشرية و تسلُب كلَّ قيمة من العِلْم المتعلق بما وراء الطبيعة. و العجبُ أن بعض هذه الطوائف من الإِلهيين الذين يعتقدون بوجود الإِله ، ولكن لا يبيحون البحث عما وراء الطبيعة على الإِطلاق و يكتفون في ذلك بالإِيمان بلا معرفة.
    و إِليك هذه الطوائف :

الطائفة الأولى : المادّيون
    و هم الذين يعتقدون بأَصالة المادة و يَنْفُون أيَّ وجود وراءَ العالم الطبيعي ، فالوجود عندهم مساو للمادة. و قد فرغنا عن إِبطال هذه النظرية في الأبحاث السابقة التي دلتنا على حدوث المادة و نظامها و انتهائِها إلى وجود قديم قائم بالذات.
     1 ـ راجع في الوقوف على مفتاح هذا الباب : مفاهيم القرآن ، الجزء الثالث ، ص 244 إلى ص 259.

(96)
الطائفة الثانية : المفرِّطون في أدوات المعرفة
    و هؤلاء يعتقدون بما وراء الطبيعة ، غير أَنَّهم يعتقدون بارتفاع قمم ذلك العالم و شموخها بحيث لا يمكن أَنْ تبلُغَها العقول و تنالَها الأَفهام.
    و هؤلاء يدعون أَمراً و لا يَأْتون عليه بدليل ، فإِنَّ عند العقل قضايا بديهيةً كما أَنَّ لديه قضايا نظريةً منتهيةً إلى البديهية. و القضايا البديهيةُ صادقةٌ بالبداهة في حق المادة و غير المادة. و كما أنَّ العقل يستنتج من إِنهاء القضايا النظرية في الأمور الطبيعية إلى البديهية ، نتائجَ كانت مجهولة ، فهكذا عمله في القضايا الراجعة إلى ما وراء المادة. و ستقف على كيفية البرهنة على صفاته و أَفعاله بهذا الطريق في ثنايا الكتاب.

الطائفة الثالثة : مُدّعو الكشف و الشهود
    و هؤلاء يعتقدون أنّ الطريقَ الوحيد للتعرف على ما وراء الطبيعة هو تهذيبُ النفس و جعلُها مستعدةً لقبول الإِفاضات من العالم الرّبوبي ، و هذا في الجملةِ لا إِشكال فيه ، ولكن حصرَ الطريق بالكشف و الشهود ادعاء بلا دليل. فلا مانع من أَنْ تكون أَدوات المعرفة متعددةً من الحسّ و العقل و الكشف.

الطائفة الرابعة : الحنابلة و بعض الأَشاعرة
    و هؤلاء يعتقدون بأَنَّ الطريق الوحيد للتعرف على العالم الربوبي هو إِخبار السماء ، فلا يجوز لنا الحكم بوحدة الذات الإِلهية أَو كثرتِها ، و بساطَتِها أَو تَرَكُّبِها ، و جسمانِيَّتِها أو تَجَرُّدِها ، إِلاّ بالأَخبار و الأَنباء الواردة من السماء. و قد عزب عن هؤلاء أنَّ العقل عنصر سماوي موهوب من قبل الله تعالى للإِنسان لا كتشاف الحقائق بشكل نسبي. قال سبحانه : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ

(97)
    وَالاَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).
    و أَوضح دليل على قدرة العقل على البحث و دراسة الحقائق السُّفْلِيَّة و العُلْوِيَّة حَثُّ الوَحْي على التَّعَقُّل سبعةً و أَربعين مرةً ، والتَّفَكُّر ثمانيةَ عشر مرةً ، و التَّدَبُّر أربعَ مرات في الكتاب العزيز.
    و تخصيص هذه الآيات بما وقع في أفق الحس تخصيص بلا دليل.
    ثم لو كان الخوض في البحث عما وراء المادة أَمراً محظوراً ، فلِمَ خاض القرآن في هذه المباحث ، و دعى جميع الإِلهيين إلى سلوك هذا الطريق الذي سار عليه. قال سبحانه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَ ـ انَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2). و قال سبحانه : ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَ ـ ه إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَ ـ هِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (3). ترى في هاتين الآيتين أدَقَّ البراهين على التوحيد في التدبير بما لا يُتَصَوَّر فوقَهْ ، و سيوافيك تفسير الآيتين عند البحث عن وصف التوحيد.
    إِنَّ الكتاب الكريمَ يَذُمُّ المشركين بأَنَّهم يعتقدون بما لا برهان لهم علي ، و من خلال ذلك يرسم الطريق الصحيح للالهيين و هو أَنه يجب عليهم تحصيل البرهان على كل ما يعتقدونه في المبدأَ و المعاد. قال سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (4).
     1 ـ سورة النحل : الآية 78.
    2 ـ سورة الأنبياء : الآية 22.
    3 ـ سورة المؤمنون : الآية 91.
    4 ـ سورة الأنبياء : الآية 24.


(98)
     و لو كان عمل السلف في هذا المجال حجة ، فهذا الإِمام علي بن أبي طالب قد خاض في الإِلهيات في خُطبَه و رسائله و كلمه القصار بما ليس في وسع أَحد غيره.
    و لأَجل ذلك ترجع إليه كثير من المدارس الفكرية العقلية في الإِلهيات ، و عنه أَخذت المعتزلة العدل و التوحيد ، و الإِمامية أُصولها و عقائدها.
    فلا ندري لماذا تحتج سلفية العصر الحاضر و الماضي بعمل أَهل الحديث من الحنابلة و الأَشاعرة ، و لا تحتج بفعل الإِمام أَمير المؤمنين علي بن أبي طالب ربيب أَحضان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )و تلميذِه الأَول خليفة المسلمين أَجمعين.
    قال العلامة الطباطبائي ( رحمه الله ـ : « إنَّ للناس مسالك مختلفة في هذا المجال ، فهناك من يرى البحث عن الحقائق الدينية و التَّطَلُع إلى ماوراء ظواهر الكتاب و السُّنَة بدعةً ، و العقل يُخَطِّئُهُم في ذلك ، و الكتابُ والسنةُ لا يصدِّقانِهم.
    فآيات الكتاب تُحَرِّضُ كُلَّ التحريض على التدبر في آيات الله و بذل الجُهْد في تكميل معرفته و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الإِحتجاج بالحجج العقلية ، و متفرقات السنَّة المتواترة معنى توافقها. و هؤلاء هم الذين يحرِّمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة ، حتى البحث الكلاميّ الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية ثم الدفاع عنها بما تيسّر من المقدمات المشهورة و المُسَلَّمَةِ عند أَهل الدين » (1).
     1 ـ الميزان ، ج 8 ، ص 153.

(99)
عودة نظرية أَهل الحديث في ثوب جديد
    لقد عادت نظرية أَهل الحديث في العصر الحاضر بشكل جديد و هو أنَّ التحقيقَ في المسائل الإِلهيةِ لا يُمْكِن إلا من خلال مطالعة الطبيعة. قال محمد فريد وجدي : « بما أنّ خُصومَنا يعتمدون على الفلسفة الحِسِّية و العِلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم فنجعلهما عُمْدَتَنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الإِعتماد عليهما ، لأَنهما اللذان أَوصلا الإِنسان إلى هذه المِنصَّة من العهد الروحاني » (1).
    و قال السيد أبو الحسن النَّدَوي : « قد كان الأَنبياء ( عليهم السَّلام ) أَخبروا الناس عن ذات الله و صفاته و أَفعاله ، و عن بداية هذا العالم و مصيره و ما يهجم على الإِنسان بعد موته و آتاهم علم ذلك كلِّه بواسطتهم عفوا بلا تعب ، و كفوهم مؤنة البحث و الفحص في علوم ليس عندهم مبادؤها و لا مقدماتها التي يبنون عليها بحثَهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس و الطبيعة ، لا تعمل فيها حواسهم ، و لا يؤدي إِليها نظر هم و ليست عندهم معلوماتها الأَولية ... إلى أَنْ قال ... الذين خاضوا في الإِلهيات من غير بصيرة و على غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجَّة و معلومات ناقصة و خواطر سانحة و نظريات مستعجلة ، فضلّوا و أضلّوا » (2).
    أقول : لا شك أَنَّ القرآن يدعو إلى مطالعة الطبيعة ، كما مر. إلاّ أنّ الكلامَ هو في مدى كفاية النظر في الطبيعة و دراستها في البرهنة على المسائل التي طرحها القرآن الكريم مثل قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) (3).
     1 ـ على أطلال المذهب المادي ، ج 1 ، ص 16.
    2 ـ ماذا خسر العالم ، ص 97.
    3 ـ سورة الشورى : الآية 11.


(100)
    ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاَْعْلَى ) (1).
    ( لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى ) (2).
    ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (3).
    ( هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّ ـ هِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ ) (4).
    ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (5).
    إلى غير ذلك من المباحث والمعارف التي لا تنفع دراسة الطبيعة و مطالعة العالم المادّي في فكِّ رموزها و الوقوف على حقيقتها ، بل تحتاج إلى مبادئ و مقدمات عقلية و أسس منطقية.
    إِنَّ مطالعة العالمَ الطبيعي تهدينا إلى أنَّ للكون صانعاً عالماً قادراً ، و تهدينا إلى أَنَّه سبحانه عالم بكل شيء و قادر على كل شيء ، و انه خالق كل شيء ، و مدبر كل شيء.
    فإذا أردنا أن نحدد مدى المعرفة الحاصلة من النظر في الطبيعة ، فلنا أن نقول : إنَّ الإِمعان في الطبيعة يُوصلنا إلى حدود ماوراء الطبيعة ، و يوقفُنا على أنَّ الطبيعة تخضع لقوة قاهرة و تدبير مدبّر عالم قادر ، ولكن لا يمكن للإِنسان التَّخَطِّي عن ذلك إلى المسائل التي يطرحها القرآن أو العقل ، و للمثال نقول :
أَولا : إِذا كان ماوراء الطبيعة مصدراً للطبيعة فما هو المصدر لما وراءها نفسها؟
     1 ـ سورة النحل : الآية 60.
    2 ـ سورة طه : الآية 8 ، سورة الحشر : الآية 22.
    3 ـ سورة البقرة : الآية 115.
    4 ـ سورة الحديد : الآية 3.
    5 ـ سورة الحديد : الآية 4.
الالهيّات ::: الفهرس