الالهيّات ::: 81 ـ 90
(81)
أسماؤُه و صفاتُه و أَفعالهُ سبحانه
    قد كانَ متوقعاً أَنْ يشكّل الإِلهيون صفاً واحداً في كل ما يرجع إلى المَبْدأ و أسمائه و صفاته و أفعاله ، إلاَّ أنهم اختلفوا فيما بينهم من أبسط المسائل إلى أعمقها. و يرجع أَكثر ما يختلفون فيه إلى معرفة أَسمائه و صفاته و أَفعاله. و الإِختلاف في هذه المسائل هو الحجر الأَساس لظهور الديانات و المذاهب في المجتمع الإِنساني العالمي.
    فالثنوية ، رغم إقرارهم بوجود الإِله الخالق للعالم ، يتشعبون إلى عشرات الفرق و الطوائف ، و يكفي في ذلك أنْ نلاحظ الديار الهندية و الصينية التي تتواجد فيها الثنوية أكثر من أيّ مكان آخر.
    و لا تقصر عنهم المسيحية ، فقد انقسمت هذه الديانة إلى يعقوبية و نسطورية و ملكانية و غيرها من الطوائف.
    و أما المسلمون ، الذين يشكلون أُمة كبيرة من الإِلهيين في العالم فقد افترقوا إلى طوائف مختلفة أيضاً. و جلّ اختلافهم ناش من اختلافهم في صفات المَبْدأ و أفعاله.


(82)
     فها هم أَصحاب الحديث من الحشويَّة و الحنابلة لهم آراء خاصَّة في صفات البارئ و أفعاله يقف عليها كل من نظر في كتب أَهل الحديث ، لا سيما كتاب « التوحيد » لابن خزيمة ، و « السنة » لأحمد بن حنبل و غير ذلك.
    و لا يقصر عنهم اختلاف المعتزلة ، و هم أَصحاب العدل و التوحيد ، فقد تشتتوا إلى مذاهب متعددة. فمن واصلية إلى هذيلية ، و من نظامية إلى خابطية. إلى غير ذلك من الفرق.
    و أَمَّا الجبرية من المسلمين ، فقد تشعبوا إلى جهمية و نجّارية و ضرارية حتى ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري ، فجاء بمنهج معدّل بين أهل الحديث و المعتزلة و الجبرية ، فعكف العلماء على دراسة عقائده و أَفكاره ، إلى أَنْ صار مذهباً رسمياً لأهل السنة.
    فهذه الطوائف لم تختلف غالباً إِلاّ في أَسمائه و أَفعاله و صفاته. و هذا الأَمر يعطي لهذا الفصل من العقائد أَهمية قصوى ، فلا يمكن التهاون فيه و العبور عنه بسهولة و يسر.

الصفاتُ الجَماليّة و الجَلاليَّة الذاتيّة
    إِنَّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين : ثبوتية و سلبية ، أَوْ جمالية و جلالية.
    فإِذا كانت الصفة مثبتة لجمال في الموصوف و مشيرة إلى واقعية في ذاته سميت « ثبوتية ذاتيّة » أَو « جمالية ». و إِذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص و حاجة عنه سبحانه سميت « سلبية » أو « جلالية ».
    فالعلم و القدرة و الحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال


(83)
     و واقعية في الذات الإِلهية. ولكن نفي الجسمانية و التحيز و الحركة و التغير من الصفات السلبية الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته سبحانه.
    و قد أَشار صدر المتأَلهين إلى أنَّ هذين الإِصطلاحين « الجمالية » و « الجلاليَّة » قريبان مما ورد في الكتاب العزيز. قال سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالاِْكْرَام ) (1) فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير ، و صفة الإِكرام ما تكرمت ذاته بها و تجملت (2). فيوصف بالكمال و ينزّه بالجلال.
    إِنَّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثمانية و هي : العلم ، القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، الإِرادة ، التكلم ، و الغنى. كما حصروا الصفات السلبية في سبع و هي أنَّه تعالى ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و أنَّه غير مرئي و لا متحيز و لا حال في غيره و لا يتّحد بشيء.
    غير أَنَّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين ، فإِنَّ الحق أَنْ يقال إِنَّ الملاك في الصفات الجمالية و الجلالية هو أَنَّ كل وصف يعد كمالا ، فالله متصف به. و كل أَمر يعتبر نقصاً و عجزاً فهو منزَّه عنه ، و ليس علينا أَنْ نحصر الكمالية و الجلالية في عدد معين.
    و على ذلك يمكن إِرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد و الصفات السلبية إلى أَمر واحد. و يؤيد ما ذكرناه أَنَّ الأَسماء و الصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرات العدد الذي ذكره المتكلمون.
    و قد وقع الإِختلاف في بعض ما عُدّ من الصفات الثُّبوتية بأَنها هل هي من الصفات الثبوتيّة الذاتية أوْ الثبوتية الفعلية. كالتكلم و الإِرادة ، حتى أَنَّ
     1 ـ سورة الرحمن : الآية 78.
    2 ـ الأسفار ، ج 6 ، ص 118.


(84)
     بعض ما عدّ من الصفات الذاتية في بعض المناهج ، ليس من صفات الذات قطعاً ككونه صادقاً بل من صفات الفعل. و سيوافيك الفرق بينهما.

صفات الذات و صفات الفعل
    قسم المتكلمون صفاته سبحانه إلى صفة الذات و صفة الفعل ، و الأَول ما يكفي في وصف الذات به ، فرض نفس الذات فحسب ، كالقدرة و الحياة و العلم.
    و الثاني ما يتوقف توصيف الذات به على فرض الغير وراء الذات و هو فعله سبحانه.
    فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى أنَّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل ، و ذلك كالخلق و الرزق و نظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل. و معنى انتزاعها ، أَنَّا إِذْ نلاحظ النّعم التي يتنعم بها الناس ، و ننسبها إلى الله سبحانه ، نسميها رزقاً رزقه الله سبحانه ، فهو رزّاق. و مثل ذلك الرحمة و المغفرة فهما يطلقان عليه على الوجه الذي بيّناه.
    و هناك تعريف آخر لتمييز صفات الذّات عن الفعل و هو أَنَّ كل ما يجري على الذات على نَسَق واحد (الإثبات دائماً) فهو من صفات الذات. وأَمَّا ما يجري على الذات على الوجهين ، بالسلب تارة و بالإِيجاب أُخرى ، فهو من صفات الأَفعال.
    و على ضوء هذا الفرق فالعلم و القدرة و الحياة لا تحمل عليه سبحانه إِلا على وجه واحد و هو الإِيجاب. ولكن الخلق و الرزق و المغفرة و الرحمة تحمل عليه بالإِيجاب تارة و السلب أُخرى. فتقول خَلَقَ هذا و لم يخلق ذلك. غفر للمستغفر ولم يغفر للمصرّ على الذنب.


(85)
     و باختصار ، إِنَّ صفات الذات لا يصحّ لصاحبها الإِتصاف بأضدادها و لا خلوه منها. ولكن صفات الفعل يصح الإِتصاف بأضدادها.
    ثم إِنَّ الصفات الفعلية حيثيات وجودية نابعة من وصف واحد و هي القيومية ، فإِنَّ الخلقَ و الرزقَ و الهدايةَ كلها حيثيات وجودية قائمة به سبحانه مفاضة من عنده بما هو قيوم.

تقسيم آخر
    و للصفات تقسيم آخر و هو تقسيمها إلى النفسية و الإِضافية. و المراد من الأولى ما تتصف به الذات من دون أَنْ يلاحظ فيها الإِنتساب إلى الخارج و لا الإِضافة إليه ، كالحياة. و يقابلها الصفات الإِضافية ، و هي ما كان لها إِضافة إلى الخارج عن الذات ، كالعلم بالمعلوم و القدرة على المقدور.
    و على هذا المِلاكِ ، فكل من النفسية و الإِضافية تجريان على الذات و تحكيان عن واقعية فيه.
    و ربما تُفَسِّر الإِضافيّةُ بالخالِقيّة و الرازقيّة و العِلِّيَّة (1). و الأَولى تسميتها بالإِنتزاعية لا بالإِضافية ، و تخصيص الإِضافية بما يقابل النفسِيّة.

الصفات الخبرية
    إِنَّ هناك اصطلاحاً آخر يختص بأَهل الحديث في تقسيم صفاته سبحانه فهم يقسمونها إلى ذاتية و خبرية. والمراد من الأُولى هو الصفات الكمالية ومن الثانية ما وصف سبحانه به نفسه في الكتاب العزيز من العلو ، و كونه ذا وجه ، ويدين ، و أعين ، إلى غير ذلك من الأَلفاظ الواردة في القرآن التي لو
     1 ـ الأَسفار ، ج 6 ، ص 118.

(86)
     أُجريَتْ على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف لزم التجسيم و التشبيه.
    هذه هي التقسيمات الرائجة في صفاته سبحانه.

الإِبتعاد عن التشبيه و المقايسة أَساس معرفة صفاته سبحانه
    إِعتاد الإِنسان الساكن بين جدران الزمان و المكان أنْ يتعرف على الأشياء مقيّدة بالزمان و المكان ، موصوفة بالتحيز و التجسم ، متسمة بالكيف والكم ، إلى غير ذلك من لوازم المادة و مواصفات الجسمانية.
    إِنَّ مزاولة الإِنسان للحس و المحسوس مدى حياته و انكبابه على المادة و إِخلاده إلى الأرض ، عوّده على تمثيل كل ما يتعقله ، بصورة الأَمر الحسي حتى فيما لا طريق للحس و الخيال إلى حقيقته كالكليات و الحقائق المنزهة عن المادة. و يؤيّده في ذلك أنَّ الإِنسان إِنَّما يصل إلى المعقولات و الكليات من طريق الإِحساس و التخيل فهو أنيسُ الحسّ و أليفُ الخيال (1).
    و كأَنَّ البشرَ جُبلوا على المعرفة على أَساس المقايسة و التشبيه فلا يمكنهم أَنْ يجرّدوا أَنفسهم من ذلك إِلاَّ بالرياضة و التمرين. فقد قضت العادة الملازمة للإِنسان أعني أُنْسَهُ بالمادة ، و اعتيادَه على معرفة كل شيء في الإِطار المادي ، أَنْ يصوِّر لربّه صُوَراً خيالية على حسب ما يألفُه من الأُمور المادَّية الحسية. و قلَّ أَنْ يتفقَ لإِنسان أَنْ يتوجه إلى ساحة العزَّة و الكبرياء ، و نفسه خالية عن هذه المحاكاة.
     1 ـ الميزان ، ج 10 ، ص 273.

(87)
بين التشبيه و التعطيل
    على ذلك الأَساس افترق الإِلهيون إلى مشبهة تشبه ربَّها بإِنسان له لحم ، ودم ، و شعر ، وعظم ، و له جوارح و أعضاء حقيقيّة من يد ، ورجل ، و رأْس ، و عينين ، مصمت ، له وفرة سوداء ، و شعر قطط. يجوز عليه الإِنتقال و المصافحة (1).
    فهؤلاء تورَّطوا في مغبة التجسيم و مهلكة التشبيه. و إنكارُ بارئ بهذه الأَوصاف المادية المُنْكَرَة أَولى من إثباته رباً للعالم ، لأَن الإعتقاد بالبارئ على هذه الصفات يجعل الأُلوهيَّة و الدعوة إليها أَمراً مُنْكَراً تتنفر منه العقول و الأَفكار المنيرة.
    فإِذا كانت تلك الطائفة متهورة في تشبيهها و مفرطة في تجسيمها ، فإِنّا نَجِدُ في مقابلها طائفةً أخرى أَرادت التحرز عن وصمة التشبيه و عار التجسيم فوقعت في إِسارة التعطيل ، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه و معرفة صفاته و أفعاله ، قائلة بأنه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأَعلى بشيء من الأحكام ، و ليس إلى معرفته من سبيل إلاّ بقراءة ما ورد في الكتاب و السنة ، فقالت : إنَّ النجاة كل النجاة في الاعتراف بكل ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث و نقاش ومن دون جدل و تفتيش. فهذا « مالك » عندما سئل عن معنى قوله سبحانه : ( ثم استوى على العرش ) ، قال : الإِستواء معلوم ، والكيف مجهول ، و الإِيمان به واجب ، و السؤال عنه بدعة (2).
    و قد نُقل عن سفيان بن عيينة أنَّه قال : « كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه » (3).
     1 ـ الملل و النحل ، ج 1 ، ص 104.
    2 ـ الملل و النحل ، ج 1 ، ص 93.
    3 ـ الرسائل الكبرى لابن تيمية ، ج 1 ، ص 32.


(88)
     ولكن هناك طائفة ثالثةترى أَنَّ من الممكن التعرف على صفاته سبحانه من طريق التدبر و ترتيب الأَقيسة المنطقية و تنظيم الحجج العقلية على ضوء ما أَفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل و الفكر ، بشرط أنْ يكون الباحث محايداً ، منحازاً عن أَيَّ رأْي مسبق ، و أَن يكون في بحثه و نقاشه مخلصاً للحق غير مبتغ إِلاَّ إِياه.
    وحجتهم في ذلك أَنَّ الله سبحانه ما نص على أَسمائه و صفاته في كتابه و سنة نبيه إلاّ لكي يتدبر فيها الإِنسان بعقله و فكره في حدود الممكن و المستطاع مجتنباً إِفراط المشبهة و تفريط المعطلة. فهذا أمر يَدْعُو إِليه العقل و الكتاب العزيز و السنَّة الصحيحة.
    و هناك كلمة قيمة للإِمام علي ( عليه السَّلام ) تدعو إلى ذلك الطريق الوسط ، قال ( عليه السَّلام ) : « لم يُطْلِع العقولَ على تحديد صفته ، و لم يحجُبْها عن واجب معرفته » (1). و العبارة تهدف إلى أَنَّ العقول و إِنْ كانت غير مأْذونة في تحديد الصفات الإِلهية لكنها غير محجوبة عن التعرف حسب ما يمكن ، كيف و قد قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (2). والعبادة الصحيحة و الكاملة لا تتيسّر إِلاّ بعد أَنْ تتحقق المعرفة المستطاعة بالمعبود.
    و يكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أَوائل سورة الحديد من الآيات الستّ و نذكرها تبركاً و هي قوله سبحانه : ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يُحْيي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ * هُوَ الاَْوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 39.
    2 ـ سورة الذاريات : الآية 56.


(89)
    عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ* يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (1).
    و هل يظن عاقل أنَّ الآيات الواردة في آخر سورة الحشر إنما أَنزلها الله تعالى لمجرد القراءة و التلاوة ، و هي قوله سبحانه : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَ ـ هَ إِلاَّ هُوَ عَ ـ الِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَ ـ ادَةِ هُوَ الرَّحْمَ ـ نُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَ ـ هَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَ ـ الِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (2). و مع ذلك فما معنى التدبر في الآيات القرآنية؟.
    و بذلك تقف على مدى و هن ما أُثِر عن بعض علماء السلف حيث يقول : « إِنما أُعطينا العقل لإِقامة العبودية لا لإِدراك الربوبية فمن شغل ما أُعْطِيَ لإِقامةِ العبودية بإِدراك الربوبية فاتته العبودية ولم يدرك الرّبوبية » (3).
    إِنَّ إِقامة العبودية الكاملة رهن معرفة المعبود بما في إمكان العبد. و إِلاّ فإِنَّ العالم بجميع ذراته يسبّح الله سبحانه و يحمده و يقيم العبودية له بما أُعْطِيَ من الشعور و الإِدراك المناسب لوجوده ، قال سبحانه : ( وَ إِنْ مِنْ شَيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (4). فلو كانت وظيفةُ الإِنسان
     1 ـ سورة الحديد : الآيات 1 ـ 6.
    2 ـ سورة الحشر : الآيات 22 ـ 24.
    3 ـ الحجة في بيان المحجة ، كما في « علاقة الاثبات و التفويض » ، ص 33.
    4 ـ سورة الأسراء : الآية 44.


(90)
     إقامة العبودية مجرداً عن المعرفة التفصيلية للمعبود ، تكون عبوديته أَشبه بعبودية سائر الموجودات بل أنزل منها بكثير ، إذ في وسع الإِنسان معرفة معبوده تفصيلا بمقدار ما أُعْطِيَ من المقدرة الفكرية التي لم يُعطها غيره.
    فإِنّْ أُريد من إِدراك الربوبية إِدراك كنه الذات فهو أَمر محال ، و لم يدَّعِه أَحد. و إِنْ أُريد معرفتة أَسمائه و صفاته و أَفعاله حسب المقدرة الإِنسانية في ضوء الأقيسة المنطقية و الكتاب و السنَّة الصحيحة القطعية فهذه وظيفة العقل.
    و جميعنا نرى أَنَّه سبحانه يذم المشركين الذين لم يَعْرِفوه حق معرفتهـ بما في وسع الإِنسان ـ إِذ يقول سبحانه : ( ما قَدَروُا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1).
    و باختصار : لو كان الهدف هو معرفة كنه الذات الإِلهية و حقيقة الصفات و الأَسماء ، كان ترك البحث متّجهاً ، و أَمَّا إِذا كان المقصود هو التعرف على ما هناك من الجمال و الكمال و نفي ما ربما يتصور في الذَّات الإِلهية من النقص و العجز ، فلا شك أَنَّ للعقل أنْ يطرق هذا المجال ، و في مقدوره أنْ يصل إِليه.

الطرق الصحيحة إلى معرفة الله
    إِنَّ ذاتَه سبحانه و أَسماءَه و صفاتَه و أَفعالَه ، و إنْ كانت غيرَ مسانخة لمُدْرَكات العالَم المحسوس ، لكنها ليست على نحو يستحيل التعرفُ عليها بوجه من الوجوه. و من هنا نجد أَنَّ الحكماء و المتكلمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرف على ملامح العالَم الرُّبوبي ، و هم يرون أَنَّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أُفق الإِدراك مطلقاً ، بل هناك نوافذ على الغيب عقليةٌ و نقليةٌ ، يُرى منها ذلك العالم الفسيح العظيم.
     1 ـ سورة الحج : الآية 74.
الالهيّات ::: الفهرس