الالهيّات ::: 111 ـ 120
(111)
علمُه سبحانه بذاتِه
    إِنَّ علمه سبحانه بذاته ليس حصولياً بمعنى أخذه الصورة من الذات و مشاهدتها عن ذاك الطريق لإمتناع هذا القسم من العلم عليه كما سيأتي ، بل حضوري بمعنى حضور ذاته لذاته ، و يدل على ذلك أمران :
الأول ـ إِنَّ مفيض الكمال لا يكون فاقده.
    إِنَّه سبحانه خلق الإِنسان العالم بذاته علماً حضورياً ، فمُعطي هذا الكمال يجب أنْ يكون واجداً له على الوجه الأتمّ و الأكمل لأن فاقد الكمال لا يعطيه ، فهو واجد له بأحسن ما يمكن. و نحن و إِنْ لم نُحِطْ ولن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته غير أنَّا نرمُز إلى هذا العِلْم ب ـ « حضور ذاته لدى ذاته و علمه بها من دون وساطة شيء في البَيْن ».
    و باختصار : لا يسوغ عند ذي فطرة عقلية أنْ يكون واهبُ الكمال و مفيضُه ، فاقداً له. و إلاّ كان الموهوب له أشرف من الواهب ، و المستفيدُ أكرمَ من المفيد. و حيث ثبت استناد جميع الممكنات إليه و منها الذوات العالمة بأنفسها ، وجب أنْ يكون الواجب واجداً لهذا الكمال أي عالماً بذاته عِلماً يكون نفس ذاته لا زائداً عليها (1).
الثاني ـ إنَّ عوامل غيبوبة الذَّات و اختفائها غير موجودة.
    توضيحه : إنَّ الموجود المادي بما أنَّه موجود كمّي ذو أبعاض و أجزاء ليس لها وجود جمعي ـ إذ لا تجتمع أجزاؤه في مقام واحد ـ تغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنَّه مادي أنْ يعلم بذاته ، لمكان الغيبوبة المسيطرة على أجزاء ذاته.
    فالغيبوبة مضادة لحضور الذات و تمنع تحقق علم الذات بالذات. فإِذا
     1 ـ أنظر الأسفار ، ج 6 ، ص 176. و سيوافيك عينيّة صفاته مع ذاته في الأبحاث الآتية.

(112)
     كان الموجود منزّهاً من الغَيْبة و الجزئية و التَّبَعُّض و كان موجوداً بسيطاً جمعياً دون أجزاء و أبعاض ، كانت ذاتُه حاضرةً لديها حضوراً كاملا مطلقاً. و بذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا لكن لا بمعنى حضور أبعاض أجسامنا و أبداننا بل بمعنى حضور الواقعية الإِنسانية المعبر عنها بلفظة « أنا » المنزهة عن الكمّ و البَعْض و التجزئة. فلو فرضنا موجوداً على مستوى عال من التجرد و البساطة عارياً عن كل عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادي ، كانت ذاته حاضرة لديه. و هذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتم وجه لتنزهه عن المادية و التركّب و التفرّق كما سيوافيك برهان بساطته عند البحث عن الصفات السلبية.
    و هناك دلائل أُخر تركناها رَوْماً للاختصار. غير أنَّ هناك جماعة ينفون علمه بذاته و إليك بيان مذهبهم :

العلم بالذَّات يستلزم التغاير
    استدلَّ النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنَّ العِلْم نسبةٌ قائمةٌ بين العالمِ و المعلوم و النسبة إنَّما تكون بين الشيئين المتغايرين ، و نسبة الشيء إلى نفسه محال إذْ لا تغاير و لا إثنينيَّة. و باختصار : الشيء الواحد أعني سبحانه تعالى ، بما هو شيء واحد ، لا تتصور فيه نسبة.
    و قد أجاب عنه المحققون بما هذا حاصله إِنَّ التعدّد و التغاير إنما هو في العلم الحصولي لأنه عبارة عن إضافة العالِم إلى الخارج بالصورة الذهنية ، ففيه الصورة المعلومة غير الهُويَّة الخارجية. و أمَّا العلم الحضوري فلا يشترط فيه التغاير خارجاً بل يكفي التعدد اعتباراً.
    مثلا : إنَّه سبحانه بما أنّ ذاته غير غائبة عن ذاته فهو عالم ، و بما أنَّ الذات حاضرة لديها فهي معلومة.
    و بعبارة أخرى : إنَّ إطلاق العِلْم و العالِم و المعلوم لأجل حيثيات


(113)
     و اعتبارات. فباعتبار انكشاف الذات للذات يسمى ذلك الانكشاف « عِلْماً » ، و باعتبار كون الذات مكشوفة لدى الذات يطلق عليها « معلومة » ، و باعتبار كونها واقفة على ذاتها تسمى « عالِمة ». و لو اعتبرتَ كيفية علم الإِنسان بذاته ، لربما يسهل عليك تصديق ذلك.
    و إلى ما ذكرنا يعود قول المحققين إِنَّ المغايرة قد تكون بالذات و قد تكون بنوع من الاعتبار. و هنا ، ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرةٌ لها من حيث إنها معلومة ، و ذلك كاف في تعلق العِلْم (1).

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها
    إنَّ علمَه سبحانه بالأشياء على قسمين : على قبل الإِيجاد ، و علم بعده. و الأول هو الذي نرتئيه و هو من أهم المسائل الكلاميَّة ، و إليك الدليل عليه :

1 ـ العلم بالسببيَّة علم بالمسبَّب
    إِنَّ العِلْم بالسبب ، بما هو سبب ، علم بالمسبَّب. و العلم بالعلَّة ، بما هي علَّة ، علم بوجود المعلول ، و المراد من العلم بالعلَّة ، العلم بالحيثية التي صارت مبدأً لوجود المعلول و حدوثه. و لتوضيح هذه القاعدة نمثل بالأمثلة التالية.
    أ ـ إنَّ المنجم العارف بالقوانين الفلكية و المحاسبات الكونية يقف على أنَّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقق في وقت أو وضع خاص.
    و ليس علمه بهذه الطوارئ إلاّ من جهة علمه بالعلة من حيث هي علّة لكذا و كذا.
     1 ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 175 ، و شرح القوشجي ، ص 313.

(114)
     ب ـ إنَّ الطبيب العارف بحالات النَّبض و أنواعه و أحوال القلب و أوضاعه يقدر على التنبوء بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه. و ليس هذا العلم إلاّ من جهة علمه بالعلَّة من حيث هي علَّة.
    ج ـ إنَّ الصيدلي العارف بخصوصية السّم إذا شربه الإِنسان يخبر عن أنَّه سيقضي على حياة الشارب في مدة معينة ، أيضاً.
    إذا عرفت هذه الأمثلة نقول : إنَّ العالَم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه و ليس له علَّة إلاّ ذاته سبحانه. فالعِلْم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم و تكوّنه. و بعبارة أخرى : العِلْمُ بالذات ـ كما عرفت دلائلهـ علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأجمعه ، و العلم بتلك الحيثية يلازم العلم بالمعلول. و هذا البرهان مبني على مقدمات مسلمة عند الإِلهيين نشير إلى خلاصتها :
الأولى ـ إنَّ العالم بجميع أجزائه مستند إليه سبحانه و هو مقتضى التوحيد في الخالقية ، و إنَّه لا خالق إلاّ هو.
الثانية ـ علّيَّة شيء لشيء عبارة عن كونه مشتملا على خصوصية تقتضي صدور المعلول عنه و توجب إيجاباً قطعياً وجود المعلول في الخارج بحيث لولا تلك الخصوصية لما تحقق المعلول. و لأجل ذلك تكون بين الخصوصية القائمة بالعلَّة و وجود المعلول رابطةٌ وصلةٌ خاصةٌ تقتضي وجودَ المعلول ، ولولا تلك الخصوصية لكانت نسبةُ المعلول إلى العلَّة ، و غيرِها الفاقد لها ، متساوية ، مع أنه ضروري البطلان.
    فالخصوصية الموجودة في النار الموجبة للحرارة غير الخصوصية الموجودة في الماء المقتضية للرطوبة.
الثالثة ـ إنَّ فاعليته تعالى لِمَا عداه ، بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة ، وجهة زائدة عليها. فهو بنفس ذاته فاعل الكل ، كما هو مقتضى بساطة ذاته


(115)
    و غناه عن كل شيء (الخصوصية الزائدة) سواه. فالواجب تبارك و تعالى فاعل بذاته لا بحَيْثِيَّة منضمة إليها.
الرابعة ـ إنَّ العِلْم بالجهة المقتضية للشيء ، علم بذاك الشيء.
    فيتحصل أنَّ علمه تعالى بذاته ، علم بتلك الخصوصية و الجهة. و يترتب عليه لازمه ، أعني علمه بالأشياء قضاءً للملازمة.
    و قد أشار إلى هذا البرهان أعاظم المتكلمين و الفلاسفة. قال صدر المتألهين : « إنَّ ذاته سبحانه لما كانت علَّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ و العلم بالعلة يستلزم العلم بمعلولها ، فتعقّلها من هذه الجهة لا بُدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد » (1).
    و إلى ذلك يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله :
و عالِمٌ بِغَيْرِهِ إِذا اسْتَنَد بالسَّبَبِ العِلْم بما هُوَ السَّبَب إليه و هو ذاتَه لقد شَهِد عِلْمٌ بِما مُسَبَّبٌ بِهِ وَجَب

2 ـ الإِحكام و الإِتقان دليل علمِهِ بالمصنوعات
    إنَّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنَّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين و العلاقات. كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها و جامعيها بما فيها.
    و بعبارة أخرى : إنَّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة ، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته ، فالعالَم بما أنه مخلوق لله سبحانه
     1 ـ الأسفار ، ج 6 ، ص 275. وراجع في ذلك أيضاً التجريد و شروحه.
    2 ـ شرح المنظومة ، قسم الفلسفة ، ص 164.


(116)
     يدل ما فيه من بديع الخلق و دقيق التركيب على أنَّ خالقَه عالمٌ بما خلق ، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.
    و قد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإِنَّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في اجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض ، و من جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع ، على أنَّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات ، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية ، فيجب أنْ يكون عالماً به. و الإِنسان إذا نظر إلى بيت و أدرك أنَّ الأساس قد صُنع من أجل الحائط و أنَّ الحائط من أجل السقف ، يتبين له أنَّ البيت قد وُجِدَ عن عالِم بصناعة البناء.
    و الحاصل ، أنَّ المصنوع بما فيه من إتقان ودقة و نظام بديع و مقادير معينة و مضبوطة يحكي عن أنّ صانِعَه مطّلع على هذه القوانين و الرموز ، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير و أنظمة. و من هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرة الدقيقة و انتهاء إلى المجرة الهائلة ، و من الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم ، بما يسوده من أنظمة و تخطيطات بالغة الدقة ، على أنَّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار و قوانين و أن من المستحيل أن يكون جاهلا. و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1).
    و قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) (2).
    و قال الإِمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « عَلِمَ ما يَمْضِي و ما مَضَى ، مُبْتَدِعُ الخلائِقِ بِعِلْمِه و مُنْشِؤُوها بِحِكْمَتِه » (3).
     1 ـ سورة الملك : الآية 14.
    2 ـ سورة ق : الآية 16.
    3 ـ نهج البلاغة ، قسم الحكم ، 191.


(117)
     و قال الإِمام علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) : « سبحان من خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرتِه ، أتقَنَ ما خَلَق بِحِكْمَتِه وَ وَضَعَ كُلَّ شيء موضِعَهُ بِعِلْمِه » (1).
    و إلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله : « و الإِحكامُ دليلُ العِلْم ».
فإن قُلتَ : قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها و معيشتِها ، كما في النحل و النمل و كثير من الوحوش و الطيور ، مع أنها ليست من أولي العلم؟
قلتُ : إنَّ ما ذكرنا من أن الإِتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضيةٌ عقلية غيرُ قابلة للتخصيص ، و أما هذه الحيوانات فإن عملها بإِلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية. قال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) (2).
    و ما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات ، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصَّمَّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها. و للتفسير مجال آخر.

علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها
    قد تعرفت على براهين علمه بذاته و بأفعاله قبل الإِيجاد ، و حان وقت
     1 ـ بحار الأنوار ج 4 ، ص 65.
    2 ـ سورة النحل : الآيتان 68 ـ 69.


(118)
     البحث عن علمه سبحانه بأفعاله بعد إيجادها و تكوينها فنكتفي في المقام بالبرهانين التاليين :

1 ـ علمُه سبحانه فعلُه
    إنَّ الأَشياء الخارجية تنتهي في مقام الوجود إلى الله سبحانه و يُعَدُّ الكلُّ معلولا له. و كلُّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علته لا يغيب و لا يحجب عنها. و قد عرفت أنَّ حقيقة العلم هو حضور المعلوم لدى العالم.
    و بعبارة أخرى : إنَّ كل موجود سواه ممكن ، جوهراً كان أوْ عَرَضاً ، خارجياً كان أوْ ذهنياً. فالكل مصبوغ بِصبغة الإِمكان ، و لا محيص للممكن عن الاستناد إليه. و ليس الاستناد إلاّ الحضور لديه و إحاطته سبحانه به (1).
    توضيح هذا الدليل : إنَّ كل ممكن معلول في تحققه لله سبحانه ، و ليس للمعلولية معنى سوى تعلق وجود المعلول بعلته و قيامه بها قياماً واقعياً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الإِسمي. فكما أنَّ المعنى الحرفي بكل شؤونه قائم بالمعنى الإِسمي فهكذا المعلول قائم بعلته. و كما أنَّ انقطاع المعنى الحرفي عن الإِسمي يقضي على وجوده ، فهكذا انقطاع المعلول عن العلة ينتهي إلى انعدامه.
    فإذا قلتَ : « سرتُ من البصرة » ، فهناك معنى إسمي و هو السير و البصرة ، و معنى حرفي و هو ابتداء السير من ذلك البلد. ولكن المعنى الثاني قائم بالطرفين و لولاهما لما كان له قوام. ومثله المعلول أي الوجود الإِمكاني المفاض ، قائم بالمفيض و ليس له واقعية سوى تعلقه بعلته. و إلاّ يلزم استقلاله و هو ، مع فرض الإِمكان ، خلف.و ما هذا شأنه لا يكون خارجاً عن وجود علته ، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال و هو لا يجتمع
     1 ـ كشف المراد ، ص 175 ، بتصرف.

(119)
     مع كونه ممكناً. فلازم الوقوع في حيطته و عدم الخروج عنها ، كون الأشياء كلها حاضرة لدى ذاته. والحضور هو العِلْم لما عرفت من أنَّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.
    و يترتب على ذلك أنَّ العالَم كما هو فعلُه ، فكذلك علمه سبحانه. و على سبيل التقريب لاحظ الصور الذهنية التي تخلقها النفس في مسرح الذهن ، فهي فعل النفس و في نفس الوقت علمها ، و لا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية ، و كما أنَّ النفس محيطة بتلك الصور و هي قائمة بفاعلها و خالقها فهكذا العالَم دقيقُه و جليلُه مخلوقٌ لله سبحانه قائمٌ به ، و هو محيطٌ به.

2 ـ سَعةُ وجودِه دليلُ عِلْمه
    أثبتتْ البراهين القاطعة أنَّ وجوده سبحانه منزَّهٌ عن الجسم و المادَّة و الزمان و المكان. و هو فوق كل قيد زماني أو مكاني و ما كان هذا شأنه يكون وجوده غير محدود ولا متناه إذ المحدودية و التقيّد فرع كون الشيء سجين الزمان و المكان. فالموجود الزماني و المكاني لا يتجاوز إطار محيطه و أمَّا المنزَّه عن ذينك القيدين فلا يحدّه شيء و لا يحصره حاصر. و ما هذا حاله لا يغيب عنه شيء و لا يحيطه شيء بل هو يحيط كل شيء.
    و على سبيل التقريب نقول إنَّ الإِنسان الجالس في الغرفة الناظر إلى خارجها من كُوَّة صغيرة لا يرى من القطار العابر إلاّ جزءاً منه و هو بخلاف الواقف على السطح أو الناظر من أُفق أعلى كالطائرة.
    و على هذا الأصل فكلما كان الإِنسان متجرّداً عن القيود تكون إحاطته بالأشياء أكثروأكثر. و الله المنزه عن الزمان و المكان و كل حد و قيد لا يحيط به شيء من الأشياء الواقعة في إطار الزمان و المكان ، بل هو المحيط بكل ما يجري على مسرح الوجود.


(120)
     و قد أشار الإِمام عليّ ( عليه السَّلام ) إلى بعض ما ذكرنا بقوله : « إِنَّ الله عزَّوجلَّ أيَّن الأيْن فلا أيْنَ له ، و جَلَّ أَنْ يحويه مكان ، و هو في كل مكان ، بغير مُماسَّة ، و لا مُجاوَرَة. يحيط عِلْماً بما فيها ، و لا يخلو شيء منها من تدبيره ».
    و سنتلو عليك بعض الآيات الكريمات عند البحث عن علمه سبحانه بالجزئيات ـ

مراتب علمه سبحانه
    قد تبين مما ذكرنا أنَّ علمه سبحانه بالأشياء ذو مرتبتين :
الأولى : عِلْمُهُ بها قبل إيجادها في مرتبة الذات و قد عرفت برهانه.
    الثانية : عِلْمُهُ بها بعد إيجادها خارج مرتبة الذات وقد عرفت برهانه.
    هذا حسب ما ساقتنا إليه البراهين الفلسفية. غير أنَّ الذكر الحكيم يذكر لعلمه سبحانه مظاهر عبّر عنها تارة :
    باللوح المحفوظ ، و أخرى بالكتاب المسطور ، و ثالثة بالكتاب المبين ، ورابعة بالكتاب المكنون ، و خامسة بالكتاب الحفيظ ، و سادسة بالكتاب المُؤَجَّل ، و سابعة بالكتاب ، و ثامنة بالإِمام المبين ، و تاسعة بأُم الكتاب. و عاشرةً بلوح المحو و الإِثبات.
    فإلى اللوح المحفوظ أشار سبحانه بقوله : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْح مَّحْفُوظِ ) (1). و إلى الكتاب المسطور بقوله : ( وَكِتَاب مَّسْطُور * فِي رَقّ مَّنشُور ) (2). و إلى الكتاب المبين بقوله : ( وَلاَ رَطْب وَلاَيَابِس إِلاَّ
     1 ـ سورة البروج : الآيتان 21 و 22.
    2 ـ سورة الطور : الآيتان 2 و 3.
الالهيّات ::: الفهرس