الالهيّات ::: 121 ـ 130
(121)
    فِي كِتَاب مُّبِين ) (1). و إلى الكتاب المكنون بقوله : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَ ـ اب مَّكْنُون ) (2). و إلى الكتاب الحفيظ بقوله : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ ) (3). و إلى الكتاب المؤجَّل بقوله : ( وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ) (4). و إلى الكتاب بقوله : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الاَْرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (5). و إلى أم الإمام المبين بقوله : ( وَكُلَّ شَيء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُّبِين ) (6). و إلى أم الكتاب بقوله : ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم ) (7). و إلى لوح المحو و الإِثبات بقوله : ( يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (8). و قد اكتفينا في الإِشارة إلى كل كتاب بآية واحدة مع أنَّ بعض هذه الكتب وردت الإِشارة إليها في آيات كثيرة.
    ثم إن المفسرين اختلفوا في حقيقة هذه الكتب و خصوصياتها فمن قائل بتجردها عن المادة و المادية حتى يَصِحَّ أنْ تُعَدَّ مظاهر لعلمه غير المتناهي. و من قائل بكونها ألواحاً و كتباً مادية سُطِّرَتْ فيها الأشياء و أعمارها و أوقاتها على وجه الرمز ، و لا يمكن الركون إلى هذين القولين بل يجب الإِيمان بها و تحرّي تفسيرها عن طريق الكتاب و السنَّة الصحيحة.
    ثم إِنَّه يُعَدّ من مظاهر علمه القضاء و القدر و سنبحث عنهما في فصل خاص بإذن منه سبحانه.
     1 ـ سورة الأنعام : الآية 59.
    2 ـ سورة الواقعة : الآيتان 77 و 78.
    3 ـ سورة ق : الآية 4 ـ
    4. سورة آل عمران : الآية 145.
    5 ـ سورة الإِسراء : الآية 4.
    6 ـ سورة يس : الآية 12.
    7 ـ سورة الزخرف : الآية 4.
    8 ـ سورة الرعد : الآية 39.


(122)
نكتتان يجب التنبيه عليهما :
أ ـ علمه سبحانه حضوريٌ لا حصوليّ :
    قد تعرَّفتَ على الفرق بين العِلْم الحصولي و الحضوري و لا نعيده. غير أنَّ الذي يجب إلفات النظر إليه أنَّ عِلْمَهُ سبحانه بذاته و بفعله حضوري : أَمَّا عِلمُه الذاتي بذاته فلعدم غيبوبة ذاته عن ذاته و حضورها لديها. و أمّا علمه بالأشياء فقد عرفت أنَّه على وجهين :
الأول : إنَّ العلم بالذات علم بالحيثية التي تصدر عنها الأشياء و العلم بتلك الحيثية علم بالأشياء. و بذلك يتضح أنَّ علمه سبحانه بذاته كَشْفٌ تفصيليٌ عن الأشياء على الوجه اللائق بذاته.
الثاني : حضور الممكنات لدى الواجب. لأن الممكن قائم بوجود الباري سبحانه حدوثاً و بقاءً و إنَّ قيامَه بذاته سبحانه أشبَهُ بقيام المعنى الحرفيّ بالإِسمي. و هذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة إذ هي مناطُ انعدامه و فنائه. فإِذا كانت الموجودات الإِمكانية بهذه الخصوصية ، فكيف يُتصور لها الانقطاع عنها؟ و ما هو إلا فَرْضُ انعدامِها و فنائِها. فعلى ذلك فالعالَم بعامة ذراته ، فعله سبحانه و إيجاده ، و في الوقت نفسه حاضر لديه و هو أي الحضور ، علمه. فعلم الله و فعله مفهومان مختلفان ولكنهما متصادقان في الخارج.
    و أمَّا أنَّ له سبحانه وراء العِلْم الحضوري علماً حصولياً أوْ لا ، فالبحث عنه موكول إلى محله في الكتب المُطَوَّلة. فإن المشائيّين من الفلاسفة زعموا أنَّ له سبحانه علماً حصولياً أسمَوْه بالصور المرتسمة.

ب ـ عِلْمه سبحانه بالجزئيات :
    و إن تَعجب فَعَجَبٌ إنكار بعض الفلاسفة علمه سبحانه بالجزئيات


(123)
     متأثرين ببعض الشبهات الواهية التي ستقف على بعضها و جوابِها. و الإِمعان فيما ذكرنا حول الموجودات الإِمكانية يُوضِح لزومَ علمه سبحانه بالجزئيات وضوحاً كاملا. و يتضح حقيقته إذا وقفتَ على كيفية الخِلْقة و إفاضةِ الوجود من الله سبحانه ، و إليك بيانه :
    إنَّ الكون ـ بكل ما فيهـ من الذرَّة إلى المجرَّة متجدد متغير لا بعوارضه و صفاته فقط بل بجواهره و ذواته. و ما يتراءى للناظر من الثبات و الاستقرار و الجمود في عالم الطبيعة فهو من خطأ الحواس ، و الحقيقة غير ذلك ، فالمادة بجميع ذرّاتها خاضعة للتغير و التبدل و السيلان في كل آن و أَوان. و معنى التغير في عالم المادة هو تجدد وجودها و سيلان تحققها آناً بعد آن. فكل ظاهرة مادية مسبوقة بالعدم الزماني.ووجود المادة ، التي حقيقتها التدرّج و السيلان ، أشبه بعين نابعة يتدفق منها الماء باستمرار ، فليس لها بقاء و ثبات وجمود و استقرار.
    فإِذا كانت الخلقة و إفاضة الوجود على وجه التدريج و التجزئة ، ولم يكن بإمكان المعلول الخروج عن حيطة علته ، يظهر أن العالَم بذرّاته و أجزائه ، حسب صدوره من الله تعالى ، معلوم له. فالإِفاضة التدريجية ، و الحضور بوصف التَدَرُّج لديه سبحانه ، يلازم علمَه تبارك و تعالى بالجزئيات الخارجيَّة.

شُبهات المنكرين
    قد عرفت برهان عِلْمه سبحانه بالجزئيات ، و بقي الكلام في تحليل الشبهات التي أُثيرت في هذا المجال. و إليك بيانها :

الشبهة الأولى : العلم بالجزئيات يلازم التغيُّرَ في عِلْمه
    قالوا لو عَلِم سبحانه ما يجري في الكون من الجزئيات لزم تغيُّرُ علمه


(124)
     بتغيّر المعلوم و إلاَّ لانتفت المطابقة. و حيث إنَّ الجزئيات الزمانية متغيرة ، فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيّر علمه ، و هو محال.
    و أوضحها العلاَّمة ابن ميثم البحراني بقوله : « ومنهم من أنكر كونَه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر ، و إنما يعلمها من حيث هي ماهيات معقولة. و حجتهم أنه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار ، فبعد خروجه منها ، إنْ بقي علمُه الأول ، كان جهلا ، و إن زال لزم التغير » (1).

تحليل الشبهة
    إنَّ الشبهة واهية جداً ، و الجواب عنها :
أولا : بالنقض بالقدرة ، و ذلك أنَّه لو استلزم تعلق العِلْم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم ، فإنه يلزم أيضاً تغيّر قدرتِه بتعلُّقِها بالجزئيات ، و القدرة من صفات الذات ، فما هو الجواب في جانب القدرة والجواب في جانب العلم؟.
وثانياً : بالحلّ. إِنَّ عِلْمَنا بالحوادث الموجودة في أزمنة مختلفة علم زماني و أمَّا علمه تعالى فليس بزماني أصلا. فلا يكون ثمة حالٌ و ماض و مُسْتَقْبَلٌ. فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى الموجود الزماني الذي يعيش فيه ، و يسمى ما يزاوله من الزمان حالا ، و ما مضى بالنسبة إليه ماضياً ، و ما سيوافيه ، مستَقْبَلا. و أما الموجود الخارج عن إطار الزمان و المحيط به و بكل مكان فلا يتصور في حقه ماض و حاضر و مستقبل. فالله سبحانه عالم بجميع الحوادث الجزئية دفعة واحدة لا من حيث أنَّ بعضَها واقع في الحاضر و بعضَها في الماضي و بعضَها في المستقبل. بل يعلمها علماً شاملا متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة.
     1 ـ قواعد المرام ، ص 98.

(125)
و بعبارة أخرى : إنَّه تعالى لمَّا لم يكن مكانياً أيضاً (كما أنَّه لم يكن زمانياً) كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس بالقياس إليه قريب و بعيد و متوسط. و على ذلك تكون نسبته إلى جميع الأشياء في جميع الأزمنة على السواء. فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له و ليس في علمه « كان » و « كائن » و « سيكون » ، بل هي حاضرة عنده بكل خصوصياتها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة ، إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه تعالى. و مثل هذا العلم لا يكون متغيراً بل مستمراً كالعلم بالكليات.
    و لتقريب الذهن نأتي بمثال : إذا كان الشارع حافلا بالسيّارات العابرة واحدة تلو الأخرى و كان هناك إنسان ينظر إليه من نافذة ضَيّقة. فإنه يرى في كل لحظة سيارة واحدة. فالسيارات حينئذ بالنسبة إليه على أقسام ثلاثة سيارة مرّت ، و سيارة تمرّ ، و سيارة لم تمرّ بعد. و هذا التقسيم صحيح بالنسبة إليه في هذا الموضع.
    و لكن لو كان هذا الإِنسان ينظر إلى هذا الشارع من أُفُق عال ، فإِنه يرى مجموع السيارات دفعة واحدة و لا يصح هذا التقسيم بالنسبة إليه عندئِذ.
    و على ذلك الأصل فالموجود المنزَّه عن قيود الزمان و حدود المكان يقف على جميع الأشياء مرة واحدة ، و تنصبغ الموجودات المتغيرة بصبغة الثَّبات بالنسبة إليه.
    فالعِلْمُ في المثال الذي ذُكِر في بيان الشبهة من كون زيد جالساً في الدار ساعة ثم خروجه منها في ساعة أخرى ، يتعلق بالجلوس و الخروج مرة واحدة و لا معنى للتقدم و التأخر.

حل الشّبهة بوجه آخر
    إنَّ الشبهة قائمة على فرض كون علمه سبحانه بالأشياء علماً حصولياً


(126)
     عن طريق الصور المرتسمة القائمة بذاته سبحانه و عند ذلك يكون التغير في المعلوم ملازماً لتغير الصُّوَر القائمة به ويلزم على ذلك كون ذاته محلا للتغير و التبدّل.
    وأما لو قلنا بأنَّ علمه سبحانه بالجزئيات علمٌ حضوريٌ بمعنى أنَّ الأشياء بهُويّاتها الخارجية و حقائقها العينية ، فعلُه سبحانه و في الوقت نفسه عِلمه ، فلا مانع من القول بطروء التغير على عِلْمِه سبحانه إِثْرَ طروء التغير على الموجودات العينية. فإنَّ التغير الممتنع على عِلْمه إنما هو العلم الموصوف بالعلم الذاتي و أما العلم الفعلي ، أي العلم في مقام الفعل ، فلا مانع من تغيره كتغيّر فعله. فإنَّ العلم في مقام الفعل لا يعدو عن كون نفسِ الفعل علمَه لا غير. و إلى ذلك يشير المحقق الطوسي بقوله : « و تغير الإِضافات ممكن » (1).
    أي إنَّ التغير إنَّما هو في الإِضافات لا في الذات. و المقصود من الإِضافات هو فعله الذي هو علمُه ، و لا مانع من حدوث التغير في الإِضافات و المتعلَّقات من دون حدوث تغيّر في الذات.

الشبهة الثانية : إدراك الجزئيَّات يحتاج إلى آلة
    إنَّ إدراك الجزئيات يحتاج إلى أدوات ماديَّة و آلات جسمانية ، و هو سبحانه منزه عن الجسم و لوازم الجسمانية.
والجواب عن هذه الشبهة واضح ، ذلك أنَّ العلم بالجزئيات عن طريق الأدوات المادية إنما هو شأن من لم يُحِط الأشياء إحاطة قَيْموميّة ، ولم تكن الأشياء قائمة به حاضرة لديه ، كالإِنسان ، فإنَّ علمه بها لمَّا كان عن طريق انتزاع الصور بوسيلة الأدوات الحسيّة كان إدراك الجزئيات متوقفاً على تلك الأدوات و إعمالها.
     1 ـ تجريد الاعتقاد ، ص 176.

(127)
     و أما الواجب عزّ اسمه ، فلمَّا كان علمه عن طريق إحاطته بالأشياء و قيامها به قياماً حقيقياً فلا يتوقف علمه بها على الأدوات و إعمالها.
    و إلى هذا الجواب يشير الفاضل القوشجي فى شرح التجريد بقوله : « إن إدراك الجزئيات إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم بانتزاع الصورة ، و أما إذا كان إضافة محضة بدون الصورة فلا حاجة إليها » (1).

الشبهة الثالثة : العلم بالجزئيات يلازم الكثرة في الذات
    إِنَّ العِلمَ صورةٌ مساوية للمعلوم مرتسمةٌ في العالِم ، و لا خفاء في أنَّ صُور الأشياء مختلفة ، فيلزم كثرة المعلومات و كثرة الصور في الذات الأحَدِيَّة من كل وجه (2).
والإِجابة عن الإِشكال ـ حسب ما عرفت ـ واضحةٌ ، فإِنَّه مبنيٌّ على كون علمه بالأشياء مُرْتَسِماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإِنسانية ، فيلزم حدوثُ الكَثَرَات في الذات الأحَدِيَّة. و قد عرفت أنَّ عِلْمَه بالأشياء ليس بهذا النَّمَط ، بل الهُوِيّات الخارجيَّة حاضرة لدى ذاته بلا ارتسام ، و هذا النَّوع من العِلْم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الشبهة الرابعة : العِلْم بالجزئيات يوجب انقلابَ الممكن واجباً
    لو تعلَّق العِلْمُ بالمتجدد قبل تجدُّدِه لزم وجوبُه و إِلاَّ لجاز أنْ لا يوجد ، فينقلب علمُه تعالى جهلا و هو محال (3).
    و بعبارة أخرى : إنَّ علمَه تعالى لا يتعلق بالحوادث قبل وقوعها و إِلاَّ
     1 ـ شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي ، ص 414.
    2 ـ المصدر السابق.
    3 ـ كشف المرا ، ص 176.


(128)
     يلزم أنْ تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معاً. أما الأول فلكونها حادثة ، و أمَّا الثاني فلأنها لولاه لجاز أنْ لا توجد ، فينقلب علمه جهلا.
والإِجابة عن الشبهة واضحة ، فإِنَّ المحال هو اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالذات و أما اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالغير فهو أمر لا شبهة فيه. فإنَّ المعاليل عند وجود العلَّة التامة ممكناتٌ بالذات واجباتٌ بالغير.
    و على ذلك فلو تعلق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت خاص فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الإِمكان الذاتي. إذ غاية ما يقتضي كون علمِه موافقاً للواقع ، وجوبَ وجودِه بالغير ، سواءٌ أكان السببُ هو الله سبحانه أو غيرهُ و هو يجتمع مع الممكن بالذات.
    وباختصار : إنَّ الحادثَ الذي يقع في ظرف خاص لا يَخْرُج عن حدّ الإمكان بعد تعلُّق علمه تعالى به وحصول علّته التامة. فالعالَم كلُّه ممكنٌ بالذات و في الوقت نفسِه واجبٌ بالغير.

القرآن الكريم و سعةُ عِلْمه تعالى
    مما قدمنا تقف على عظمة الجملة القائلة « إنَّ الله بكلِّ شيء عليم » فهي تعني أنَّه تعالى عالم بما مضى و ما يأْتي و ما هو كائن و ما في الكون من الأسرار و الرموز. يقول سبحانه : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُ ـ لُمَ ـ اتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين ) (1).
    و يقول سبحانه : ( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
     1 ـ سورة الأنعام : الآية 59.

(129)
    وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ ) (1).
    و يقول سبحانه : ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْء عِندَهُ بِمِقْدَار ) (2).
    و قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (3).
    و قال عزَّ مِنْ قائل : ( عَ ـ الِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين ) (4).
    إلى غير ذلك من الآيات الدَّالة على عِلْمه تعالى بالجُزْئِيات.

رفعة التَّعبير القرآني عن سعة علمه
    إِنَّ من المفاهيم المُعْضِلَة هو تصور مفهوم اللامتناهي بحقيقته و واقعيته ، فإنَّ الإِنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الأمور المحدودة و لذلك أصبح تصور اللامتناهي أمراً مشكلا في غاية الصعوبة عليه. فهذه المنظومة بما فيها من السَّيَّارات جُزْءٌ من مَجَرَّتِنا الواسعة و مع ذلك فالجزء و الكُلُّ متناهيان من حيث الذرّات و المركبات. و إنَّ أكبر عدد تعارف الإِنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم المليارد الذي يتألف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار.
    ثم إِنَّ الحضارة البشرية بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصلت إلى
     1 ـ سورة آل عمران : الآية 29.
    2 ـ سورة الرعد : الآية 8.
    3 ـ سورة ق : الآية 16.
    4 ـ سورة سبأ : الآية 3.


(130)
     ما يسمى بالأرقام النجومية و مع ذلك فإنَّ كل ما توصل إليه الإِنسان من الأرقام حتى النجومية لا يتجاوز كونه عدداً متناهياً ، و القرآن الكريم عندما يريد بيان علمه سبحانه من حيث كونه لا متناهياً ، لا يستخدم الأرقام و الأعداد الرياضية و حتى النجومية لانتهائها إلى حدٍّ ما ، بل يأتي بمثال رائع يبين سعة علمه و يقول : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).
    أنظر إلى هذا التعبير الرائع الذي يفوق كل التعابير فلا تجد أيَّ رقم رياضي يصوِّر سعةَ علمه سبحانه يعادل قوله : ( ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله ). و لو قال أحدٌ إِنَّ مقدار علمه هو العدد الواحد أمامه مئات الأصفار لما أفاد أيضاً ما يفيده قوله : ( ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله ) و بذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) ، فإنه يعبر عن مَحْدُودِيَّة المقاييس و المعايير البشرية كما يُعَبِّر عن قِلّةِ عِلْمِ الإِنسان و ضآلةِ معارفه.

كلمات الإِمام علي ( عليه السَّلام ) في علمه تعالى بالجزئيات
    قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « لا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ السَّماءِ ، و لا نُجُومُها و لا سَوافي الريحِ في الهواء ، و لا دَبيبُ النَّملِ على الصَّفا ، و لا مَقيلُ الذَّرِّ في الليلةِ الظَّلْماءِ ، يَعْلَمُ مساقِطَ الأورَاقِ ، و خَفِيَّ الأحداق » (3).
    و قال ( عليه السَّلام ) : « الحَمْدُ لله الذي يَعْلَمُ عجيجَ الوحوشِ في الفَلَوات ، و معاصي العبادِ في الخَلَوات ، و اختلافَ النينانِ في البحارِ
     1 ـ سورة لقمان : الآية 27.
    2 ـ سورة الأسراء : الآية 85.
    3 ـ نهج البلاغة ، خطبة 178.
الالهيّات ::: الفهرس