الالهيّات ::: 291 ـ 300
(291)
     قال ابن أبي الحديد : « هذان الركنان هما ركنا علم الكلام و هما شعار أصحابنا المعتزلة لنفيهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري و أصحابه ، و لتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح ، و معنى قوله : « أنْ لا تتوهمه » : أنْ لا تتوهمه جسماً أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئاً لكل الجهات ، كما ذهب إليه قوم ، أو نوراً من الأنوار ، أو قوة سارِيّة في جميع العالم كما قاله قوم ، أو من جنس الأَعراض التي تحل الحالّ أو تحل المَحَل و ليس بعَرض ، كما قاله النصارى ، أو تحله المعاني والأعراض فمتى تُوُهّم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد.
    و أما الركن الثاني فهو « أنْ لا تتهمه » : أي أَنْ لا تتهمه في أنَّه أَجبرك على القبيح و يعاقبك عليه ، حاشاه من ذلك و لا تتهمه في أنَّه مكّن الكذّابين من المعجزات فأضل بهم الناس ، و لا تتهمه في أَنَّه كلّفك ما لا تطيقه و غير ذلك من مسائل العدل التي يذكرها أَصحابنا مفصلة في كتبهم ، كالعوض عن الأَلم فإِنه لا بدّ منه ، و الثواب على فعل الواجب فإِنه لا بد منه ، و صدق وعده و وعيده فإِنه لا بد منه.
    و جملة الأمر أَنَّ مذهب أَصحابنا في العدل و التوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ). و هذا الموضع من المواضع التي قد صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه و في فرض كلامه من هذا النمط ما لا يحصى » (1).
    2 ـ روى (الصدوق) عن الصادق ( عليه السَّلام ) أَنَّ رجلا قال له : إِنَّ أساس الدين التوحيد والعدل ، و عِلْمُهُ كثيرٌ ، و لا بُدّ لعاقل منه ، فاذكر ما يَسْهُلُ الوقوفُ عليه و يتهيّأ حفظُه. فقال ( عليه السَّلام ) : « أَمّا التّوحيدُ فَأَنْ لا تُجَوِّزَ عَلى رَبِّك ما جازَ عليكَ ، و أمّا العَدْل فَأَنْ لا تَنْسبَ إلى خَالِقِكَ ما لاَمَكَ عَلَيْهِ » (2).
     1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 20 ، ص 227.
    2 ـ التوحيد ، باب معنى التوحيد والعدل ، الحديث الأول ، ص 96.



(292)
     3 ـ و قال علي ( عليه السَّلام ) : « وَ أشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ عَدَل ، و حَكَمٌ فَصَل » (1).
    4 ـ و قال ( عليه السَّلام ) : « الذي صَدَقَ في ميعادِهِ ، و ارتَفَعَ عن ظُلْمِ عبادِهِ ، و قَامَ بالقِسْطِ في خَلْقِهِ ، و عَدَلَ عليهم في حُكْمِهِ » (2).
    5 ـ و قال صلوات الله عليه : « الذي أعْطى حِلْمُهُ فَعَفَا ، و عَدَلَ في كل ما قَضَى » (3).
    6 ـ و قال ( عليه السَّلام ) : « اللّهُمَّ احمِلني على عَفْوِكَ ، و لا تَحْمِلني على عَدْلِكَ » (4).
    إلى غير ذلك من المأثورات عن أَئمة أَهل البيت ، و سيوافيك قسم منها عند البحث عن القضاء و القدر ، و البحث عن الجبر و الاختيار.
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 214.
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 185.
    3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 191.
    4 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 227.


(293)
ثمرات التحسين و التقبيح العقليين
(4)


ما هو المصحح لعقوبة العبد؟
    لقد تضافرت النصوص السماوية على عقوبة المجرمين و التنكيل بالظالمين و عندئذ يقع الكلام في مقامين :
الأول : ما هو الغرض من العقوبة؟ فهل هو التّشفي كما في قوله سبحانه : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ) (1)؟ ولكن هذه الغاية منتفية في جانب الحق سبحانه لأنه أجلّ من أنْ يكون له هذا الداعي لاستلزامه طروء الإِنفعال إلى ذاته. أو لاعتبار الآخرين؟ و هذا إنَّما يصح في دار التكليف لا في دار الجزاء. يقول سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِد مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَة وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
    فقوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قرينة على أنَّ الغاية
     1 ـ سورة الإِسراء : الآية 33.
    2 ـ سورة النور : الآية 2.


(294)
     من جلد الزانية و الزاني هو اعتبار الآخرين ، أو أنه أَحد الغايات.
الثاني : أنَّ من السنن العقلية المقررة مساواة العقوبة للجُرْم كماً و كَيْفاً ، غير أن هذه المعادلة منتفية في العقوبات الأخروية ، فإنَّ قسماً من المجرمين يخلدون في النار مع أن معصيتهم أقل مدة من مدة التعذيب.
    قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ) (1).
    و قال سبحانه : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (2).
    قال المفيد : « إتّفقت الإِمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفّار خاصة دون مرتكبى الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الإِقرار بفرائضه من أَهل الصلاة » (3).
    وقال الصدوق في عقائده : « اعتقادنا في النار أنه لا يخلد فيها إلاَّ أهل الكفر والشرك ، فأما المذنبون من أهل التوحيد فيخرجون منها بالرحمة الّتي تدركهم » (4)
و أما الجواب : عن السؤال الأول ، فنقول : إن السؤال عن غاية العقوبة ، و إنها هل هي للتشفي أو لإِيجاد الإِعتبار في غير المعاقَب إنما يتوجه على العقوبات التي تترتب على العمل عن طريق التقنين و التشريع ، فللتعذيب في ذلك المجال إحدى الغايتين : التَشَفّي أو الإِعتبار.
     1 ـ سورة البقرة : الآية 39.
    2 ـ سورةالتوبة : الآية 68.
    3 ـ أوائل المقالات ، ص 14.
    4 ـ عقائد الصدوق ، ص 90 ، الطبعة القديمة الملحقة بشرح الباب الحادي عشر.


(295)
     و أما إذا كانت العقوبة أثراً وضعياً للعمل بالوجهين الآتيين ، فالسؤال ساقط ، لأَن هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجوده في الحياة الأخروية ، فعند ذلك لا يصح أن يُسأل عن أن التعذيب لماذا ، و إِنما يتجه السؤال مع إمكان التفكيك ، و الوضع والرفع ، كالعقوبات الإِتفاقية.
    ثم إِنَّ الملازمة الخارجية بين الإِنسان و العقوبة تتصور على وجهين :
الأول : إِنَّ كلاًّ من الأَعمال الإِجرامية أو الصالحة التي تصدر من الإِنسان في عالم الطبيعة تُوجژد في النفس مَلَكَةً مناسبة لها ، بسبب تكرار العمل و ممارسته. و هذه المَلَكات النَفْسانية ليست شيئاً مفصولا عن وجود الإِنسان ، بل تشكل حاقّ وجوده و صَميم ذاته. فالإِنسان الصالح و الطالح إِنما يحشران بهذه الملكات التي اكتسباها في الحياة الدنيوية عن طريق الطاعة و المعصية ، ولكل ملكة أثر خاص يلازمها. و إن شئت قلت : إنّ كل نفس مع ما اكتنفها من الملكات تكون خَلاّقةً للصور التي تناسبها ، إِما الجنة والروح و الريحان ، أو النار ولهيبها و عذابها. فعلى ذلك يكون الثواب و العقاب مخلوقين للنفس قائمين بها على نحو لا يتمكن من ترك الإِيجاد. و هذا كالإِنسان الصالح الذي ترسخت فيه الملكات الصالحة في هذه الدنيا ، فإنه لا يزال يتفكر في الأمور الصالحة ، و لا تستقر نفسه و لا تهدأ إلاّ بالتفكر فيها ، و في مقابله الإِنسان الطالح الّذي ترسخت فيه الملكات الخبيثة عن طريق الأعمال الشيطانية في الحياة الدنيوية فلا يزال يتفكر في الأمور الشرّيرة و الرديئة ، و لو أراد إِبعاد نفسه عن التفكر فيما يناسب ملكتها لم يقدر على ذلك.
    و يظهر من العلامة (الطباطبائي) أَنَّ الثواب والعقاب الأخرويين من الحقائق التي يكتسبها الإِنسان بأعماله الصحيحة و الفاسدة ، و هما موجودان في هذه النشأة غير أَنَّ الأحجبة تحجز بينه و بين ما أعد لنفسه من الجنة والنار ، قال : « إِن ظاهر الآيات أنَّ للإِنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش


(296)
     بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية ، ذات أصول و أعراق ، يعيش بها فيها وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الأسباب وارتفاع الحُجُب ».
    إلى أنْ قال : « إِنَّ الأَعمال تُهيء بأنفسها أو باستلزامها و تأثيرها أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيراً أو شراً هي التي سيطلع عليها الإِنسان يوم يكشف عن ساق » (1).
    و قد استظهر ما ذكره من عدة آيات ذكرها في كتابه.
    و على ضوء ما ذكرنا ، فالإِنسان الوارد إلى الحياة الجديدة إنما يردها بملكات طيبة أو خبيثة ، و لها لوازم تطلبها ضرورة وجود شاء أم لم يشاء ، و هذه اللوازم تتجلى بصورةالنِعَم و النِقَم لكل من الطائفتين.
    فعند ذلك يسقط السؤال عن الهدف من التعذيب. و هذا نظير من شرب السم فيُقْتل ، أو شرب الدواء النافع فيبرأ ، فلا يصح السؤال عن الهدف من القتل و الإِبراء.
الثاني : إِنَّ من المقرر في محله أنَّ لعمل الإِنسان صورتين ، صورة دنيوية و صورة أخروية ، فعمل الإِنسان يتجلى في كل ظرف بما يناسبه ، فالصلاة لها صورتها الخاصة في هذه الحياة من حركات و أذكار ، ولكن لها صورة أخرى في الحياة الأخروية.
    كما أنَّ الصوم له وجود خاص في هذا الظرف يعبر عنه بالإِمساك عن المفطرات ، و له وجود آخر في العالم الأَعلى يعبر عنه بكونه جُنّة من النار. و هكذا سائر الأَعمال من طالحها و اطلحها. و هذا ما أخبر عنه الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (2).
     1 ـ الميزان ، ج 1 ، ص 91 ـ 93.
    2 ـ سورة النساء : الآية 10.


(297)
     و قال سبحانه : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَ ـ اهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (1).
    و قال سبحانه : ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (2).
    إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على حضور نفس العمل يوم القيامة ، لكن باللباس الأخروي ، و هذا يعرب عن أَنَّ لفعل الإِنسان واقعية تتجلى في ظرف بصورة و في آخر بأُخرى.
    و هذه الإعمال تلازم وجوده و لا تنفك عنه ، فإِذا كان عمل كل إِنسان يعد من ملازمات وجوده ، و ملابسات ذاته ، فالسؤال عن أنَّ التعذيب لماذا ، يكون ساقطاً ، إِذ السؤال إِنما يتوجه إذا كان التفكيك أمراً ممكناً.
    والفرق بين الوجهين واضح : ففي الوجه الأول تكون نفس الإِنسان الصالح أو الطالح خلاّقةً لثوابه و عقابه وجنته و ناره حسب المَلَكات التي إكتسبتها في هذه الدنيا بحيث لا يمكن لصاحب هذه المَلَكَة السكون و الهدوء إِلاّ بفعل ما يناسبها. و في الوجه الثاني يكون العمل متجلياً في الآخرة بوجوده الأخروي من دون أنْ يكون للنفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأَعمال بتلك الصور بل هي من ملازمات وجود الإِنسان المحشور ، فلا يُحْشَر الإِنسان وحده بل يحشر مع ما يلازم وجوده و يقارنه و يلابسه و لا ينفك عنه. و باختصار تكون رابطة الجزاء مع الإِنسان في القسم الأَول رابطة إِنتاجية بحيث تكون النفس منتجة و مولّدة للجزاء الحسن و السيء. و أما في الثاني فهي من ملازمات وجود الإِنسان و ملابِساته من دون انتاج.
    قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَان أَلْزَمْنَاهُ طائرَهُو فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
     1 ـ سورة آل عمران : الآية 180.
    2 ـ سورة التوبة : الآية 35.


(298)
     كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) (1).
    و لعلك لو نظرت إلى الآيات التي تحكي عن حضور نفس العمل في الآخرة ، و أضفت إليها « احتمال كون هذه الأعمال بِصُوَرِها الأُخروية من ملازمات ذات الإِنسان صالِحِهِ و طالِحِهِ » لسَهُل عليك الإِجابة عن السؤال من أنَّ التعذيب لماذا. قال سبحانه ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُّحْضَراً ) (2) و قال سبحانه : ( وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَيَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) (3). و قال سبحانه : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) (4). و قال سبحانه حاكياً عن لقمان : ( يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُن فِى صَخْرَة أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ) (5).
    فليس الحاضر يوم الجزاء إلاّ نفس العمل الذي يعبَّر عنه بتجسم الأعمال و تحققها بالصور المناسبة لذلك الظرف.
    و لعل ما ورد في الآيات و الروايات من أنَّ العمل الصالح حرث الآخرة أو مطلق العمل كذلك إِشارة إلى هذا الجواب. فذات العمل طاعة كان أو عصيانا ، حَبٌّ يزرعه الإِنسان في حياته الدنيوية ، و هذا الحَبّ ينمو و يتكامل و يصير حرثاً له في الاخرة يحصده بحسب ما زرع ، قال سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِن نَّصِيب ) (6).
    قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « العَملُ الصالحُ حرثُ
     1 ـ سورة الإسراء : الآية 13.
    2 ـ سورة آل عمران : الآية 30.
    3 ـ سورة الكهف : الآية 49.
    4 ـ سورة التكوير : الآية 14.
    5 ـ سورة لقمان : الآية 16.
    6 ـ سورة الشورى : الآية 20.


(299)
     الآخرة » (1).
    كل ذلك يعرب عن أنَّ رابطة الجزاء مع الإِنسان رابطة العلية والمعلولية.
    فالإِنسان بوجوده علة لجزائه ، إما بخلقه و إِيجاده أو كونه زارعاً في هذه الدنيا زرعاً يحصد جناه في الآخرة ، و ليس بينه و بين حرثه انفكاك. فإذا كانت الرابطة بهذه الصورة (العلية والمعلولية) لم يكن للسؤال مجال.
    نعم ، لا يصحّ لمتشرع ملمّ بالكتاب و السنَّة أنْ يحصر النّعمة والنّقمة في هذين القسمين و ينكر جنة مفصولة أو عذاباً كذلك عن وجود الإِنسان و عمله ، فإِن الظاهر أَنَّ لكل من الجنة و النار وجودين مستقلين يرد إِليهما الإِنسان حسب أعماله. و مع ذلك كله ، لا مانع من أنْ يكون هناك تعذيب أو تنعيم بأحد المعنيين الماضيين. و لمّا كان الإِشكال عقلياً ، كفى في رفعه ما ذكرنا من الوجهين.
و أما الجواب عن السؤال الثاني فنقول :
    إِنَّ ماذُكر مِنَ السُّنة العقلية من التطابق بين الجرم و العقوبة كَمّاً و كيفاً ، إنما يرتبط بالعقوبات الجعلية ، و أما إِذا كانت العقوبة أثراً وضعياً للعمل فلا نجد تلك المطابقة في الكم و لا في الكيف.
    فالسائق الغافل لحظة واحدة ربما يتحمل خسارات نفسية و مالية تدوم مدة عمره. و الإِنسان الذي يستر بذرة شوك أو بذرة ورد تحت التراب ، يحصد الأشواك والورود ما دام العمر ، فالعمل كان آنياً والنتيجة دائمية ، فليست المعادلة محفوظة بين العمل و ثمرته.
     1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 22 ، طبعة عبده.

(300)
     فإِذا كان عمل الإِنسان في هذه الحياة بذوراً لما يحصده في الآخرة فلا مانع من أن تكون النتيجة دائمية والعمل آنياً أو قصير المدة. و هذا بنفسه كاف في ردّ الإِشكال ، و قد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة و أنَّ أَعماله القصيرة سوف تورث حسرة طويلة أو دائمة و أنّ عمله هنا سينتج له في الآخرة أشواكاً تؤذيه أو وروداً تطيّبه ، و قد أقدم على العمل عن علم و اختيار ، فلو كان هناك لوْم فاللوم متوجه إليه ، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الاَْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّ ـ الِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1).
    و فيما مرّ من الآيات التي تَعُدُّ الجزاء الأُخروي حَرْثاً للإِنسان تأييد لهذا النظر.
    على أنَّ من المحتمل أَنَّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة و إمكان الإِفاضة. قال تعالى : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2).
    و لعل قوله : ( وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) إحاطتها به إحاطة توجب زوال أي قابلية و استعداد لنزول الرحمة ، و الخروج عن النقمة (3).
    و كيف كان ، فيظهر صحة ما ذكرنا إذا أَمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأول و هو أنَّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإِنسان و في مثله لا تجري السنة العقلية كما هو واضح.
     1 ـ سورة ابراهيم : الآية 22.
    2 ـ سورة البقرة : الآية 81.
    3 ـ الميزان ، ج 12 ، ص 86.
الالهيّات ::: الفهرس