الالهيّات ::: 311 ـ 320
(311)
ثمرات التَّحسين و التقبيح العقليَّيْن
(6)


القدرة على الفعل قبله
    هل الاستطاعة والقدرة في الإِنسان متقدمان على الفعل أو مقارنان له؟.
    العدليّة على الأول ، والأشاعرة على الثاني. و الحق التفصيل و لعلّ هذا مراد الجميع.
    بيان ذلك : إِنَّ القدرة تطلق و يراد منها أحد الأمرين :
الأول : صحة الفعل و الترك ، و إن شئت قلت : كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل. فلو أريد من القدرة هذا المعنى ، فلا شك أنها مقدمة على الفعل فطرة ووجداناً ، فإنَّ القاعد ، قادر على القيام حال القعود ، و الساكت قادر على التكلم في زمان سكوته ، لكن بالمعنى المزبور.
الثاني : ما يكون الفعل معه ضروري الوجود باجتماع جميع ما يتوقف وجود الفعل عليه ، و تحقق العلة التامة التي لا ينفك المعلول عنها. فالقدرة بهذا المعنى مقارنة للفعل ، ليست مقدمة عليه تقديماً زمانياً و إنْ كانت متقدمة رتبة.


(312)
     والحق إِنَّ المسألة بديهية للغاية و ما أثير حولها من الشبهات خصوصاً ما ذكره الشيخ الأشعري في (اللمع) أشبه بالشبه السوفسطائية (1). و مثله ما ذكره تلاميذ مدرسته ، كالتفتازاني في (شرح المقاصد) و نظام الدين القوشجي في (شرح التجريد) (2). و ما ذكرناه من التفصيل هو الحاسم في البحث ، و يظهر لبّه من فخر الدين الرازي الذى نقله السيد الجرجاني في (شرح المواقف) (3).
    و بذلك يظهر أَنَّ ما أقامته المعتزلة من البراهين على تقدم القدرة على الفعل تنبيهات على المسألة ، و لا يحتاج الأمر إلى هذا التفصيل المُسْهَب. ولكن الذي ينبغي البحث عنه هو تبيين الحافز الذي دعى الشيخ الأشعريّ إلى اختيار ذلك المذهب (مقارنة القدرة للفعل). مع أَنَّ التقدم و المقارنة بانسبة إلى ما جاء في الكتاب و السنّة متساويان ، فإذاً يقع الكلام في تعيين الداعي إلى اختيار القول بالتقارن بل التركيز عليه.
    المحتمل قوياً أنْ يكون الداعي هو قوله بمسألة خلق أفعال العباد ، و إنها مخلوقة لله لا للعباد لا أصالة و لا تبعاً ، حتى أنَّ القدرة الحادثة في العبد عند حدوث الفعل غير مؤثرة في إيجاده بل مقارنة له. فإذاً المناسب لتلك العقيدة نفي القدرةالمتقدمة على الفعل ، والإكتفاء بالمقارن له ، و كأن الشيخ تصوّر أن القدرة المتقدمة على الفعل تزاحم قدرة الله تعالى فلأجل ذلك وجد في نفسه دافعاً روحياً إلى البرهنة على بطلان التقدم و إثبات التقارن.
     1 ـ لا حظ اللمع ، ص 93 ـ 94.
    2 ـ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 240 و شرح القوشجي ، ص 392.
    3 ـ شرح المواقف ، ج 6 ، ص 154.
    و قد جاء الأستاذ دام حفظه بجميع ما تورته الأشاعرة من البراهين العقلية في كتابه « الملل و النحل » فلاحظ ج 2 ، ص 172 ـ 193.


(313)
     نعم ، القول بالتقارن و نفي التقدم لا يختص بالشيخ الأشعري و تلامذته ، بل وافقهم عليه بعض المعتزلة ، كالنّجار ، و محمد بن عيسى ، و ابن الراوندي ، و غيرهم (1).
    و قد اتفقت كلمة الجميع على أنّ قدرة الله تعالى متقدمة على الفعل. و ذلك أيضاً معلوم حسب أصولنا ، لأن القدرة في غيره سبحانه عين القوة و الإِمكان. و في الواجب تعالى عين الفعلية و الوجوب ، و أَنَّ وجوده بالذات ، و كل صفة من صفاته ، بالفعل ليس فيها قوة و لا إمكان و لا استعداد.
    و قد أسهب صدر المتألهين الكلام في هذا المقام في أسفاره و دفع بعض الإِشكالات التي ترد على القول بقدم قدرته و فعليته (2).

الاستطاعة في أحاديث أئمة أهل البيت
    لقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت على تقدم الاستطاعة على الفعل. و إليك بعض ما روي عنهم في هذا الشأن :
    1 ـ روى الصدوق عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله ( عليه السَّلام )قال : « ما كَلَّف الله العبادَ كُلْفَةَ فِعل و لا نهاهم عن شيء حتى جَعَل لهم الإِستطاعة ، ثم أَمَرَهُم و نهاهم ، فلا يكون العبد آخذاً و لا تاركاً إلاّ بالإِستطاعة متقدمةً قبل الأمر و النَّهي ، و قَبْل الأخْذ و التَّرك و قبل القبض و البَسْط » (3).
    2 ـ وروى أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال : سمعته يقول ـ و عنده قوم يتناظرون في الأفاعيل و الحركات ـ فقال : « الإِستطاعة قبل الفعل
     1 ـ شرح المواقف ، ج 6 ، ص 92.
    2 ـ الأسفار الأربعة ، ج 6 ، ص 312.
    3 ـ التوحيد للصدوق ، باب الإستطاعة ، الحديث 19 ، ص 352.


(314)
     لم يأمر الله عزوجل بِقَبْض و لا بَسْط إِلاَّ والعبدُ لذلك مستطيع » (1).
    3 ـ و روى أيضاً عن سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السَّلام ـ يقول : « لا يكونُ مِنَ العَبَدِ قَبضٌ وَ لاَ بَسْطٌ إِلاَّ باسْتِطَاعَة متَقَدّمة للقبْضِ والبَسْطِ » (2).
    4 ـ وروى أيضاً عن محمد بن أبي عمير عمن رواه من أصحابنا عن أبي عبدالله ( عليه السَّلام ) قال سمعته يقول : « لا يكُون العَبْدُ فاعلا إِلاَّ و هو مُسْتَطيعٌ وَ قَدْ يَكُون مُسْتطيعاً غير فاعل ، وَ لا يكونُ فاعلا أبداً حتَّى يكُونَ معه الإِستطاعة » (3) و هناك رواياتٌ كثيرةٌ أخرى مبثوثة في باب الإِستطاعة من (التوحيد) فلاحظها.
    و من لطيف ما استدلَّ به أئمة أهل البيت على تقدم الإِستطاعة على الفعل قوله سبحانه : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (4) ، فقد « سأل هشام بن الحكم الإِمام الصادق عن معنى الآية و قال : ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحاً في بدنه ، مُخلىً سِرْبُه ، له زاد وراحلة » (5).
    « و قال أبو بصير : سمعت أبا عبدالله ( عليه السَّلام ) يقول : « من عُرِضَ عليه الحجُّ ولو على حِمار أَجْدَعَ مَقْطُوعِ الذَّنَبِ فَأَبى ، فهو مِمَّن يَسْتطيع الحجّ » (6).
     1 ـ التوحيد للصدوق ، الحديث 21 ، ص 352.
    2 ـ المصدر السابق ، الحديث 20 ، ص 352.
    3 ـ المصدر السابق ، الحديث 13 ، ص 350.
    4 ـ سورة آل عمران : الآية 97.
    5 ـ التوحيد للصدوق ، الحديث 14 ، ص 350.
    6 ـ المصدر السابق ، الحديث 11 ، ص 350.


(315)
الباب الثالث
الصّفات الخَبَريَّة
    *الإِثبات مع التكييف و التشبيه.
    * الإِثبات بلا تكليف و لا تشبيه.
    * التَّفويض.
    * التَّأويل.
    * الإِجراء بالمفهوم التصديقي
    1 ـ عرشُهُ سبحانه و استواؤه عليه.
    2 ـ وجهُه سبحانه.
    3 ـ يدُه سبحانه.


(316)

(317)
الصّفات الخَبَرية
    قسَّم بعض المتكلمين صفاتِه سبحانه إلى ذاتية و خبرية ، و المراد من الأولى أوصافه المعروفة : من العلم و القدرة و الحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات و الأحاديث له سبحانه من العلو ، والوجه ، و اليدين إلى غير ذلك. و قد اختلفت نظريات المتكلمين في تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال :

الأول ـ الإِثبات مع التكييف والتشبيه
    زعمت المُجَسّمة والمُشَبّهة أنَّ لله سبحانه عينين و يدين مثل الإِنسان. قال الشهرستاني : « أما مُشَبِّهة الحَشَوِيَّة فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، و أَنَّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا و الآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإِخلاص » (1).
     1 ـ الملل و النحل ، ج 1 ، ص 105. لاحظ بقية كلامه في هذا المجال فإنه يوقفك على مبلغ وعي المشبهة!.

(318)
     و بما أَنَّ التشبيه و التجسيم باطل بالعقل و النقل فلا نحوم حول هذه النظرية.

الثاني ـ الإِثبات بلا تكييف و لا تشبيه
    إِنَّ الشيخ الأشعري و من تبعه يُجْرُون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون « بلا تشبيه و لا تكييف ».
    يقول الأشعري في كتاب (الإِبانة) : « إن لله سبحانه وجهاً بلا كيف ، كما قال : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (1) ، و إِنَّ له يدين بلا كيف ، كما قال : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (2) » (3).
    و ليست هذه النظرية مختصة بالأشعري ، فقد نقل عن أبي حنيفة أنَّه قال : « و ما ذكر الله تعالى في القرآن من الوجه واليد و النفس فهو له صفات بلا كيف ».
    و قد نقل عن الشافعي أنَّه قال : « و نثبت هذه الصفات و ننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال : ( ليس كمثله شيء ) ».
    و قال ابن كثير : « نحن نسلك مسلك السلف الصالح و هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف و لا تشبيه » (4).
    و حاصل هذه النظرية أَنَّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في
     1 ـ سورة الرحمن : الآية 27.
    2 ـ سورة ص : الآية 75.
    3 ـ الإِبانة ، ص 18.
    4 ـ لا حظ فيما نقلناه عن أبي حنيفة و الشافعي و ابن كثير « علاقة الإِثبات و التفويض » ، ص 46 ـ 49.


(319)
     البشر. فله يدٌ وعينٌ ، لا كأيدينا و أعيننا و بذلك توفقوا ـ على حسب زعمهم ـ في الجمع بين ظواهر النّصوص و مقتضى التنزيه.

تحليل هذه النظرية
    لا شك أَنَّه يجب على كل مؤمن الإِيمان بما وصف الله به نفسه ، و ليس أحَدٌ أعْرَفَ به منه ، يقول سبحانه : ( ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) (1). كما أنَّه ليس لأحد أَنْ يصرف كلامه سبحانه في أَيّ مورد من الموارد عما يتبادر من ظاهره من دون قرينة قطعية تستوجب ذلك. فإِنَّ قول المؤوِّلة ـ الذين يُؤوّلون ظواهر الكتاب و السنة بحجة أنَّ ظواهرها لا توافق العقل ـ مردود ، إذ لا يوجد في الكتاب و السنة الصحيحة ما يخالف العقل ، و إن ما يتصورونه ظاهراً و يجعلونه مخالفاً للعقل ليس ظاهر الكتاب المتبادر منه ، و إنما يتخيلونه ظاهراً كما سيبين.
    ثم إِنَّ ما جاء به الأشاعرة في هذه النظرية و قولهم بأنَّ لله يداً حقيقة بلا كيف ـ مثلا ـ لا يرجع إلى معنى صحيح. و ذلك أنَّ العقيدة الإِسلامية تتسم بالدقة والحصافة ، و في الوقت نفسه بالسلامة من التعقيد و الإِبهام ، و تبدو جلية مطابقة للفطرة و العقل السليم. و على ذلك فإبرازها بصورة التشبيه و التجسيم المأثور من اليهودية و النصرانية ، كما في النظرية الأولى ، أو بصورة الإِبهام و الإِلغاز كما في هذه ، لا يجتمع مع موقف الإِسلام و القرآن في عرض العقائد على المجتمع الإِسلامي. فالقول بأنَّ لله يداً لا كأيدينا ، أو وجهاً لا كوجوهنا ، و هكذا سائر الصفات الخبرية أشبه بالألغاز. و ما يلهجون به ويكررونه من أنَّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة. إذ لو كان إمرارها على الله
     1 ـ سورة البقرة : الآية 140.

(320)
     تعالى بنفس معانيها الحقيقية ، لوجب أنْ تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنَّ الواضع إنما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي قوامها بنفس كيفيتها. فاستعمالها في المعاني الحقيقية و إثبات معانيها على الله سبحانه بلا كيفية ، أشبه بكون حيوان أسداً حقيقة ولكن بلا ذنب ولا مخلب و لا ناب ولا ولا ... .
    و باختصار ، قولهم إِنَّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي ، كلام يناقض ذيله صدره. فاليد الحقيقية عبارة عن العضو الذي له تلك الكيفية المعلومة ، و حذف الكيفية حذف لحقيقتها و لا يجتمعان.
    أضف إلى ذلك أنَّه ليس في النصوص من الكتاب و السنَّة من هذه « البلكفة » (أي بلا كيف) عينٌ ولا أثر ، و إنما هو شيء اخترعته الأفكار للتدرع به في مقام رد الخصم عن تهجمه عليهم بتهمة التجسيم و لذلك يقول العلامة الزمخشري :
وَقَدْ شَبّهوهُ بِخَلْقِهِ وَ تَخَوَّفُوا شَنْعَ الوَرَى فَتَسَتَّروا بالبَلْكَفَة
ليت شعري ، لو كَفَتْ هذه اللفظة في دفع التجسيم و التشبيه ، فليكف في مجالات أُخر بأنْ يُقال في حقه سبحانه إِنَّ له جسماً لا كسائر الأجسام ، و إِنَّ له دماً لا كسائر الدماء ولحماً لا كسائر اللحوم. حتى إِنَّ بعض المتجرئين من المشبَهة قال : « إنَّما استحييت ، عن إثبات الفرج و اللحية ، واعفوني عنهما واسألوا عمّا وراء ذلك » (1).
    و بذلك تبين أنَّ عقيدة الأشعري في باب الصفات الخبرية لا تخرج ، عن إطار أحد الأمرين التاليين :
     1. الملل و النحل ج 1 ، ص 105.
الالهيّات ::: الفهرس