الالهيّات ::: 341 ـ 347
(341)
     ورَوَى أيضاً عن الحسين بن خالد أنَّه قال للرضا ( عليه السَّلام ) : « يا ابن رسول الله : إِنَّ الناس يروون أنَّ رسول الله قال إِنَّ الله خلق آدم على صورته ، فقال : قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث : إِنَّ رسول الله مرّ برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ، ووجه من يشبهك ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عبدالله ، لا تقل هذا لأخيك ، فإِنَّ الله عزوجل خلق آدم على صورته » (1).
     1 ـ التوحيد للصدوق ، الباب 12 ، الحديث 11 ، ص 153.

(342)

(343)
3 ـ يده سبحانه
    قال الإِمام الأشعري : « إِنَّ الله سبحانه يدين بلا كيف ، كما قال ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (1). و هو يريد حمل اليد على معناها الحرفي والظهور الإِفرادي ، ولكن فراراً عن التشبيه يردفه بقوله « بلا كيف ».
    لا شك أَنَّ اليد أو اليدين إذا أطلقتا مفردتين ، يتبادر منهما العضو الخاص. ولكن هذا ظهوره الإِفرادي ، ولا يُتَّبع إلاّ إذا كان موافقاً لظهوره التصديقيّ. و أمَّا إذا كانا متخالفين فالمتبع هو الثاني ، فربما يكون ظاهراً في غير هذا ، و إليك البيان :
    1 ـ ربما يكون ظاهراً في القوة : قال سبحانه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (2). ولا شك أنَّه ليس المراد منه العضو الخاص ، بل المراد هو القوة ، كما يقال : « لفلان يَدٌ على كذا » ، أو يقال « مالي بكذا يد » قال الشاعر :
فَاعْمَد لِما تَعْلُو فَمَالَكَ بالذي لا تَسْتَطيعُ مِنَ الأُمورِ يَدانِ
و بهذا الإِعتبار شبه الدهر و الريح فجعل لهما اليد ، و يقال : « يَدُ الدَّهر »
     1 ـ سورة ص : الآية 75.
    2 ـ سورة ص : الآية 17.


(344)
     و قال الشاعر « بيد الشمال زمامها » ، لما لهما من القوة.
    2 ـ وربما يكون ظاهراً في النعمة : يقال « لفلان عندي أيادي كثيرة » أي فواضل و إِحسان ، « وله عندي يد بيضاء » أي نعمة. قال الشاعر : « فإِنَّ له عندي يَدَيّا و أنْعُماً ». فهل يصح أنْ نحمل اليد في هذين الموضعين على العضو الخاص ، و نتهم من فسّرها بالقوة في الموضع الأول ، و النعمة في الموضع الثاني ، بالتأويل و تحريف الآيات؟ كلا ، لا.
    و بذلك يظهر صحة ما قلناه من أنَّ المتبع ليس هو الظهور الأفرادي بل الظهور التصديقي. ألاترى أنَّه سبحانه ينسب الخدعة والمكر والنسيان إلى نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (1).
    والظهور الإِفرادي و المعنى الحرفي لهذه اللفظة ( المكر ) هو الخدعة ، و من المعلوم أنَّ الخدعة ، و سيلة العاجز ، تعالى عنه سبحانه. بينما الظهور التصديقي يمنع من حمله على المعنى الإِفرادي ، لأَنَّ الآية و ما يضاهيها وردت من باب المشاكلة ، و هو متوفر في كلام العرب و غيرهم. فليس لنا الحمل على المعنى الحرفي بحجة أنَّه يجب حمل كلام الله على ظاهره ، وليس لنا تأُويله وتحريفه. ونحن نقول أَيضاً ، يجب علينا حَمْل كلام الله على ظاهره. لكن ما يدعونه من الظاهر ليس ظاهراً للآية و إنما هو ظاهر كلمة من الآية ، والمتبع هو ظهورها التصديقي والجمَلي ، و هو القوة في الموضع الأَول والنعمة في الموضع الثاني.
    إذا وقفت على ما ذكرنا ، فيجب إِمعان النظر في قوله سبحانه : ( لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) فإِنَّ للمفسرين فيه آراء.
    أ ـ اليد بمعنى القدرة.
     1 ـ سورة الانفال : الآية 30.

(345)
     ب ـ اليد بمعنى النعمة.
    و أُورد عليهما أَنَّ قدرة الله واحدة فما وجه التثنية في قوله « بِيَدَيَّ »؟ كما أَنَّ نِعَمَهُ سبحانه لا تُحصى ، فلماذا ثنَّاها؟.
    ج ـ اليدان بمعنى القدرة و النعمة ، و به يرتفع الإِشكال المتقدم.
    أقول : لو دلت القرائن على أنَّ الآية ظاهرة فيما ذكر لوجب الأخذ به ، لما عرفت من أنَّ المتبع هو الظهور التصديقي لا الإِفرادي ، ولكن لم تتحقق القرائن عندنا.
    د ـ الحمل على المعنى اللُّغوي لكنه كناية عن كونه سبحانه متولياً لخلقه لا غيره ، فإِنَّ أكثر الأعمال التي يقوم بها ذواليدين ، فإِنما يباشرها بيديه ، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما. حتى قيل في عمل القلب « هو مماعملت يداك ». ولو سبَّ إِنسان إنساناً آخر و جُزي بعمله ، يقال له : « هذا ما قدَّمت يداك ». حتى قيل لفاقد اليدين : « يداك أوْكَتاوَفُوك نَفَخ ». و لأَجل ذلك ليس فرق بين قولك : « هذا مما عَمِلْتَه » و « هذا ما عملته يداك ». و منه قوله سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ ) (1).
    والكل ظاهر في كونه سبحانه هو المتولي للخلقة ، والمبدع لا غيره.
    إذا عرفت ذلك ، يتبين مرمى الآية و هو أنَّه سبحانه بصدد التنديد بالشيطان قائلا : بأَنك لماذا تركت السجود لآدم مع انّي توليت خلقه و إِيجاده ، و أنا أعلم بحاله ، والمصالح التي دعت إلى أمرك و أمر الملائكة بالسجود له. فهل استكبرت علي ، أم كنت من العالين.
    والدليل على أَنَّ الخلق باليدين كناية عن توليه سبحانه لخلقه بذاته و شخصه لا
     1 ـ سورة يس : الآية 71.

(346)
     عن توليه و تصديه لخلقه بالعضوين ، هو أَنَّ ملاك التنديد إعراض إبليس عن السجود لمصنوعه سبحانه من غير مَدْخَلِيَّة لخلقه بالعضو الخاص (اليد) بحيث لو خلقه بغيرها ـ و مع ذلك أعرض ابليس عن سجودهـ لما توجه إليه لوم.
    فالملاك هو الإِعراض عن السجود لما قام به سبحانه من الخلق من دون دخالة لأداة الخلقة.
    فإنْ قيل : إذا كان هو المُبدع و المُتَولي لخلق سائر الأَناسي ، فلماذا خص خلقه آدم بنفسه؟
    قلنا : إِنَّ الإِضافة و التخصيص لبيان كرامته و فضيلته و شنيع فعل إبليس. و مثله قوله سبحانه : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ) (1).
    فتخصيص الإِضافة لبيان تشريفه سبحانه ، كما يقول : ( أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (2).
    و مثل ما تقدم ، الكلام في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْه اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً ) (3) فهل عندما نزلت الآية فهم منها السلف الصالح ما ينسبه إليهم ابن تيمية من أنَّ المراد هو المعنى اللغوي لكن ليست يده كيد المخلوقات و هي فوق أيدي الصحابة ، أو أنهم فهموا أنَّ المراد سلطان الله و قدرته ، بدليل ما فيها من تهديد لمن ينكث ، بأنَّ مغبَّة النكث تعود عليه.
    فلو تكاثفت الجهود على تشخيص الظواهر ، سواء أكانت معان حقيقية أم مجازية ، لارتفعت جميع التوالي فلا يلزم تمثيل و لا تشبيه ، و لا تعطيل و لا تجهيل ، و لا تأويل و خروج عن الظواهر ، بل كان أخذاً بالظواهر بالمعنى المتبادر عند أهل اللغة أَجمعين.
     1 ـ سورة الحجر : الآية 29.
    2 ـ سورة البقرة : الآية 125.
    3 ـ سورة الفتح : الآية 10.


(347)
     و نحو ذلك لو تدبروا في قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُاللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (1) ، لأذعنوا بأنَّ المراد من إثبات بسط اليد لله سبحانه ليس هو البسط الحسي ، بل المراد بيان سعة جوده و بذله. كما يذعنون به عند الوقوف على قوله سبحانه : ( وَلاَتَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَتَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ) (2).
    فعندئذ نتساءل : أي فرق بين الآيتين بحيث أن المثبتين للصفات يحملون الآية الأولى على المعنى المتبادر من اليد عند الإِفراد ، ثم لأجل الفرار من التجسيم يعقبونه بقولهم « بلاكيف ». و في الوقت نفسه لا يشك هؤلاء أنفسهم في أنَّ المراد من الآية الثانية هو البذل و الجود أو التقتير و البخل؟!!
    إلى هنا ظهر أَنَّ ما تمسكت به الحنابلة و الأشاعرة في إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه ، يبتني على التمسك بالظهورات الحرفية و المعاني الإِفرادية ، غافلين عن أنّ المتبع في المحاورات هو الظهور التصديقي برعاية القرائن المتصلة بالكلام و المفهومة عند العرب سواء أوافقت المعاني الإِفرادية أم لا. ولو مشوا على تلك الضابطة لوقفوا على تنزيهه سبحانه عن إثبات هذه الأَعضاء و المعاني له. و قد اكتفينا في هذا المقام بتبيين الأَلفاظ الثلاثة : العرشُ واستواؤه عليه ، الوجه ، اليد. و على ضوء ما بيناه من الضابطة تقدر على تبيين سائر الأَلفاظ الواردة في الذكر الحكيم والسنَّة الصحيحة.
     1 ـ سورة المائدة الآية 64.
    2 ـ سورة الإِسراء : الآية 29.
الالهيّات ::: الفهرس