الالهيّات ::: 331 ـ 340
(331)
1 ـ عرشُه سبحانه و استواؤُه عليه
     إِنَّ من صفاته سبحانه كونه مستوياً على عرشه. و قد جاء هذا الوصف في كثير من الآيات ، فقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم اثنين و عشرين مرة. كما ورد لفظ « عرشه » مرة واحدة ، و الكل راجع إلى عرشه سبحانه إلاّ آيتان هما : قوله سبحانه : ( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) (1). و قوله سبحانه : ( وَ رَفَعَ أَبَويْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) (2) كما ورد الإستواء اثنى عشر مرة ، و هي ما عدا ثلاث آيات ـ راجعة إلى استوائه سبحانه على العرش.
    و قد ادعى أَهل الحديث و تبعهم الأشعري أَنَّ الآيات ظاهرة في أنَّ له سبحانه عرشاً و أنه مستو عليه ، غير أَنَّ الكيف مجهول. و قد أخذ المشبّهة بما ادعاه أهل الحديث من الظاهر من دون القول بكون الكيف مجهولا.
    و قد أثارت هذه المسألة في الأوساط الإِسلامية ضجيجاً و عجيجاً بالغين بين الصّفاتية و المؤوّلة. و نحن نقول ، لو أنَّ الباحثين أمعنوا النَّظر في هذه الآيات مجرّدين عن كل ما يحملونه من العقائد الموروثة ، لوقفوا على
     1 ـ سورة النمل : الآية 23.
     2 ـ سورة يوسف : الآية 100.


(332)
     مفادها ، و أنها لا تهدف إلى ما عليه الصفاتية من أنَّ له سبحانه عرشاً و سريراً ذا قوائم ، موضوعاً على السماء والله جالس عليه ، والكيف إمَّا معلوم أو مجهول. و لا على ما عليه المؤوّلة من تأويل الآية بمعنى حاجة الآية إلى حملها على خلاف ظاهرها ، بل القرائن الموجودة في بعض هذه الآيات تُضفي على الآية ظهوراً في المعنى المراد من دون مس بكرامة التنزيه و لا تَعَمّد و تَعَمّل في التأويل ، فالآيات لا تحتاج إلى التأويل أي حملها على معان ليست الآيات ظاهرة فيها.
    لا شك أَنَّ العرش بمعناه الحرفي معلوم لكل أحد بلا شبهة.
    قال ابن فارس : « عرش : العين و الراء و الشين أصل صحيح واحد ، يدل على ارتفاع في شيء مبني ، ثم يستعار في غير ذلك. من ذلك العرش ، قال الخليل العرش : سرير المَلِك. و هذا صحيح ، قال الله تعالى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ ). ثم استعير ذلك ، فقيل لأمر الرجل و قوامه : عرش. و إذا زال عنه قيل : ثلّ عرشه. قال زهير :
تَدَاركْتُما الأَحلافَ قَدْ ثلّ عَرْشَها و ذبَيانَ إذْ زلّتْ بأقْدامِها النَّعْلُ » (1)
كما أنَّ الاستواء معلوم لغة فإِنَّه التمكّن و الاستيلاء التام. قال الرَّاغب في مفرداته : « واستوى يقال على وجهين : أحدهما يسند إليه فاعلان فصاعداً. نحو : استوى زيد و عمرو في كذا ، أي تساويا. و قال تعالى : ( لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله ). و الثاني أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو : ( ذُو مِرَّة فَاسْتوى ) ، ( فإذا استويت أنت ) ، ( لِتَسْتَوُوا على ظُهُورِه ) ، ( فَاْستَوَى عَلى سُوقِهِ ). و متى عُدّي ب ـ « على » اقتضى معنى الاستيلاء كقوله : ( الرّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) » (2).
     1 ـ معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 264.
     2 ـ مفردات الراغب ، مادة « سوا ».


(333)
     والذي نركّز عليه هو أنَّ الاستواء في الآية ليس ظاهراً في معنى الجلوس و الإِعتماد على الشيء ، بل المراد هو الاستيلاء و التمكن التام ، كناية عن سعة قدرته و تدبيره. و قد استعمل الإِستيلاء بهذا المعنى في غير واحد من أبيات الشعر. قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولي إمرة العراق :
ثُمَّ اسْتَوى بِشْرٌ على العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْف وَدَم مِهْراقِ (1)
و قال آخر :
فَلمَّا عَلَوْنا وَاستَوَيْنا عَلَيْهِم تَرَكْنَاهُم صَرْعَى لِنَسْر و كاسِرِ
إِنَّ المقصود هو استيلاء بِشْر على العراق و قوم القائل في البيت الثاني على العدو. و ليس العلوها هنا علواً حسيّاً بل معنوياً.
    إذا عرفت ذلك فنقول ، لو أخذنا بالمعنى الحرفي للعرش ، كما هو المتبادر من قوله سبحانه : ( وَلَها عَرْشٌ عَظِيْم ) (2) ، فيجب أنْ نقول إِنَّ لله سبحانه عرشاً ، كعروش الملوك و السلاطين. و عند ذلك يتمحض المراد من استوائه عليه ، بالجلوس عليه متمكّناً.
    و أما لو نبذنا هذا المعنى ، و قلنا بأنَّ المراد من الظاهر هو الظهور التصديقي. و هو المتبادر من مجموع الآية بعد الإمعان في القرائن الحافة بتلك الجملة ، يكون المراد من الآية هو الكناية عن استيلائه على مُلكه في الدنيا و الآخرة و تدبيره من دون استعانة بأحد.
    والجُمَل الواردة في كثير من الآيات الحاكية عن استوائه على العرش تدل
     1 ـ البداية و النهاية ، ج 9 ، ص 7.
     2 ـ سورة النحل : الآية 23.


(334)
     على أنَّ المراد هو الثاني دون الأول ، و تثبت بأنَّ المقصود بيان قيامه بتدبير الأمر قياماً ينبسط على كل مادَقَّ وَجَلّ ، و أنه سبحانه كما هو الخالق فهو المُدَبّر أيضاً.
    و قد إستعان ـ لتبيين سعة تدبيره الذي لا يقف على حقيقته أحد ـ بتشبيه المعقول بالمحسوس و هو تدبير الملوك و السلاطين ملكهم متكئين على عروشهم و الوزراء محيطون بهم. غير أَنَّ تدبيرهم تدبير تشريعيّ و تقنينيّ و تدبيره سبحانه تدبير تكوينيّ.
    و يدل على أَنَّ المراد هو ذلك أمران :
الأمر الأول : إنَّه سبحانه قد أتى بذكر التدبير في كثير من الآيات بعد ذكر إستوائه على العرش. فذكر لفظ التدبير تارة ، و مصداقه و حقيقته أخرى. أما ما جاء فيه التدبير بلفظه ، فقوله سبحانه :
أ ـ ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَدَبِّرُ الاَْمْرَ مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (1).
ب ـ ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَل مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الاَْمْرَ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (2).
ج ـ ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الاَْرْضِ ) (3).
     1 ـ سورة يونس : الآية 3.
     2 ـ سورة الرعد : الآية 2.
     3 ـ سورة السجدة : الآيتان 4 ـ 5.


(335)
     ففي الآية الأولى يُرَتِّب سبحانه التدبير على قوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْش ) ليكون المعنى « استوى على عرش التّدبير ». كما أنَّه في الآية الثانية بعد ما يذكر قسماً من التدبير وهو تسخير الشمس و القمر يُعطي ضابطة كلية لأمر التدبير و يقول : ( ويُدَبّرُ الأَمْرَ ). و على غرار الآية الأولى ، الآية الثالثة.
    و أما ما جاءت فيه الإِشارة إلى حقيقة التدبير من دون تسميته فمثل قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتِ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1).
    فقوله : ( يُغْشِي اللَّيل النَّهار ) الآية إشارة إلى حقيقة التدبير و بيان نماذج منه ، ثم أتْبَعَه ببيان ضابطة كلية و قال : ( ألا لَهُ الخَلْقُ و الأَمْرُ ). أي إليه يرجع الخلق و الإِيجاد و أمر التدبير.
    و قس على هاتين الطائفتين سائر الآيات. ففي الكل إلماع إلى أَمر التدبير إمّا بلفظه أَو ببيان مصاديقه ، حتى قوله سبحانه : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَحِدَةً * فَيَوْمَئِذ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذ تُعْرَضُونَ لاَتَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) (2). فالعرش في هذه الآية هو عرش التدبير و إدارة شؤون الملك يوم لا مُلْكٌ إلاّ ملكه. قال تعالى : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (3).
    و قال سبحانه : ( وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) (4).
     1 ـ سورة الاعراف : الآية 54.
     2 ـ سورة الحاقة : الآيات 13 ـ 18.
     3 ـ سورة غافر : الآية 16.
     4 ـ سورة الانعام : الآية 73.


(336)
     فهذه الآيات تعبّر عن معنى واحد و هو تصوير سيطرة حكمه تعالى في ذلك اليوم الرهيب. قال سبحانه : ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (1).
    و قال سبحانه : ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) (2).
    فالمتدبّر في هذه الآيات يقف على أنها تهدف إلى حقيقة واحدة و هي أنَّ خلق السموات والأرض ، لم يعجزْه عن إدارة الأمور و تدبيرها ، و أما جلوسه على العرش بمعناه الحرفي فليس بمراد قطعاً.
الأمر الثاني : إنه قد جاء لفظ الإِستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله و هو رفع السموات بغير عمد ، أو خلق السَّموات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام أو ما يشبه ذلك. فإِنَّ ذاك قرينة على أنَّ المراد منه ليس هو الإِستواء المكاني ، بل الإِستيلاء و السيطرة على العالم كله. فكما لا شريك له في الخلق و الإيجاد ، لا شريك له أيضاً في المُلك و السلطة. ولأجل ذلك يحصر التدبير بنفسه ، كما يحصر الخلق بها و يقول : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (3).
    فالجمود على ظهور المفردات و ترك التفكّر و التعمّق ، ابتداع مفض إلى صريح الكفر. حتى أَنَّ من فسِّر قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) (4) بأنَّ لله مِثْلا ، و ليس كَمِثْلِهِ مِثْل ، وقع في مغبة الشّرك و حبائله.
    والإستناد إلى الأحاديث التي يرويها ابن خزيمة و من تبعه ، استناد إلى أمور جذورها من اليهود و النَّصارى. و قد عرّف الرازي ابن خزيمة و كتابه المعروف ب ـ « التوحيد » بقوله : « واعلم أن محمد بن اسحاق بن خزيمة
     1 ـ السورة الأنعام : الآية 62.
     2 ـ سورة الكهف : الآية 44.
     3 ـ سورة الاعراف : الآية 54.
     4 ـ سورة الشورى : الآية 11.


(337)
     أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) في الكتاب الذي سماه ب ـ « التوحيد ». و هو في الحقيقة كتاب الشرك ، و اعترض عليها. و أنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأنه كان رجلا مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقِصَ العقل » (1).
    ولأجل ما في التشبيه و التجسيم ، و القول بالقدر و الجبر ، من مفاسد لا تحصى ، قال الدكتور أحمد أمين :
    « و في رأيي لوسادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي ، و قد اعجزهم التسليم و شَلّهم الجبر و قعد بهم التواكل » (2).
    أقول : و في رأيي ، لو سادت الحرية الفكرية على المسلمين ، و تجرد المسلمون عن كل رأي سابق ورثوه من أهل الحديث ، و نظروا إلى الكتاب العزيز و تمسكوا بالسنَّة الصحيحة المروية عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )عن طريق أهل بيته ( عليهم السَّلام ) الذين عرّفهم الرسول في الحديث المتواتر (حديث الثقلين) لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي.
    هذا ، و على ضوء ماقررنا من الضابطة و الميزان ، تَقْدِر على تفسير ماورد في التنزيل من الوجه والعين واليدين و الجنب و الإِتيان والفوقية و ما يشابهها ، دون أن تمسّ كرامة التنزيه ، و من دون أنْ تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة. والإِجراء ، على النمط التصديقيّ ، لا المعنى الحرفي التَّصوريّ.
     1 ـ تفسير الامام الرازي ، ج 27 ، ص 150.
     2 ـ ضحى الإِسلام ، ج 3 ، ص 70.


(338)

(339)
2 ـ وجهه سبحانه
     قد عرفت أنَّ الإِمام الأشعري قال في كتابه (الإِبانة) : « بأنَّ لله وجهاً بلا كيف كما قال : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّ ـ كَ ذُو الْجَلالِ وَالاِْكْرَامِ ) (1). و هو يريد بذلك إثبات الوجه لله سبحانه بمعناه الحرفي ولكن فراراً عن التشبيه يذيله بالبلكفة و يقول « بلا كيف ».
    والمُؤَوِّلة يعتقدون بلزوم التأْويل في الآية و يقولون تأْويلها الذات ، ولكن ما قالت به المؤوّلة و إن كان صحيحاً نتيجة ، إلاّ أنَّ الآية لا تحتاج إلى التأويل ، و إِنما تحتاج إليه لو فرضنا أنَّ الوجه ظاهر في العضو الخاص. و أما لو كان ظاهراً ـ بسبب القرينة التي سنذكرها ـ في ذات الشيء و شخصه ، فلا تحتاج إليه ، و يكون الظاهر المتبادر هو المتبع.
    والدليل عليه هو أنَّ الوجه ، كما يأتي بمعنى العضو الخاص ، يأتي بمعنى الذات. قال ابن فارس : « ربما عبر عن الذات بالوجه ، قال :
اَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيهِ رَبَّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ » (2)

     1 ـ سورة الرحمن : الآية 27.
     2 ـ المقاييس ، ج 6 ، ص 88 ، مادة « وجه ».


(340)
     و لعل وجه التعبير عن الذات بالوجه ، أنَّ وجه الإِنسان أو وجه كل شيء تمام حقيقته عند الناظر ، و لأجل ذلك إذا رأى شخص وجه إنسان آخر يقول رأيته ، كأنه رأى الذات كلها. و على ذلك فيحتاج حمل اللفظ على واحد من المعنيين الرائجين إلى قرينة ، لأَن المعنى الثاني بلغ بكثرة الإِستعمال إلى حد الحقيقة.
    والقرينة تعين المعنى الثاني ، حيث وصف الوجه بقوله : ( ذُو الْجَلاَلِ وَ الإِكْرَام )و من المعلوم أنَّها من صفات الرب ، أي ذاته سبحانه ، لا من صفات الوجه ، أعني الجزء من الكل. ولو كان الوجه هنا بمعنى العضو المخصوص ، لوجب أن يجعل « الجلال و الاكرام » ، و صفاً للربّ (المضاف إليه) ، و يقول « ذي الجلال و الاكرام ».
    ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه جعله و صفاً للمضاف إليه ، (الرب) لا المضاف ، في آية أخرى و قال سبحانه : ( تَبَارَكَ اْسمُ رَبِّكَ ذي الجَلالِ و الإِكرام ) ، و من المعلوم أنَّ الإِسم ليس صاحب هذا الوصف ، و إِنما صاحبه هو نفس الرب ، و سيوافيك توضيح وافر عند البحث عن كونه سبحانه ليس بجسم في الصفات السلبية.
    و هناك كلمة مروية عن الرسول الأعظم و هي : « إِنَّ الله خلق آدم على صورته » فاستدل به المشبهة على أَنَّ لله سبحانه صورة و خلق آدم على طبقها. ولكن القوم لو رجعوا إلى أئمة أَهل البيت لوقفوا على أنَّ الحديث نقل مبتوراً ، فقد رَوَى الصدوق بسنده عن علي ( عليه السَّلام ) قال : « سمع النبيُّ رجلا يقول لرجل : قبح الله وجهك و وجه من يشبهك. فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مَهْ ، لا تقل هذا ، فإِن الله خلق آدم على صورته » (1).
    أي على صورة هذا الرجل الذي تسبه و تسب من يشبهه و هو آدم.
     1 ـ التوحيد للصدوق ، الباب 12 ، الحديث 10 ، ص 152.
الالهيّات ::: الفهرس