قال الجزائري : على هذا الأساس أيها الشيعي وُضعت عقائد الشيعة وسُن مذهبها ، فكان ديناً مستقلاً عن دين المسلمين ، له أصوله ومبادئه وكتابه وسنَّته وعلومه ومعارفه. وقد تقدم في هذه الرسالة مصداق ذلك وشاهده ، فارجع إليه وتأمله إن كنت فيه من الممترين.

والجـواب :
أن الشيعة الإمامية أخذوا عقائدهم من أئمة أهل البيت الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم والتمسك بحبلهم ، ونصَّ في أحاديث كثيرة على أنهم هم الناجون الفائزون دون غيرهم ، وقد ذكرنا ما يدل على ذلك فيما تقدم.
وأما أن الشيعة لهم دين مستقل عن دين المسلمين فإثبات ذلك دونه خرط القتاد ، والأحاديث المروية عند أهل السنة تكذِّب ذلك ، بل تثبت بما لا يدع مجالاً للريب أن الشيعة مسلمون مؤمنون محسنون.
فإن تلك الأحاديث دلَّت على أن الإسلام قد بُني على خمس كما روي عن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة  ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت (1).
كما دلَّت على أن الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقَدَر خيره وشرِّه. وأن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك كما في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام الذي
____________
(1) صحيح البخاري 1|10 كتاب الايمان ، باب رقم 2. صحيح مسلم 1|45 كتاب الايمان ، باب رقم 5. سنن الترمذي 5|5. سنن النسائي 8|107. مسند أحمد 2|26 ، 93 ، 120 ، 143 ، 4|363. صحيح ابن خزيمة 1|159 ، 3|187. السنن الكبرى 4|199. الإحسان بترتيب ابن حبان 1|188 ، 3|3. صحيح سنن النسائي 3|1029. إرواء الغليل 3|248.
( 200 )

تقدَّم ذكره (1).
وأما أصول مذهب الشيعة الإمامية ومبادئه وعلومه ومعارفه فهي معلومة ومبثوثة فيما صنَّفه علماء المذهب قدَّس الله أسرارهم ، وهي غير خافية على الجزائري ولا على غيره ممن كتب ضد الشيعة. وكان الأجدر بالجزائري الذي يزعم هذا الزعم أن ينقل لقارئه شيئاً من أصول ومبادئ وعلوم مذهب الإمامية التي خالفوا بها قواعد الإسلام  ، ليتيسَّر له ما يريد ، بدلاً من أن يتجشم تكفير الشيعة بلوازم فاسدة ، لأحاديث ضعيفة قد حمَّلها من الخيالات والأوهام ما لا تحتمله ، ثم نسب ذلك كله إلى الشيعة.

* * * * *

قال الجزائري : ولولا القصد السيئ والغرض الخبيث لما كان للولاية من معنى يفرق المسلمين ، ويبذر الشر والفتنة والعداء فيهم.

والجـواب :
أن ولاية أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت عليهم السلام مضافاً إلى ثبوت وجوبها بالأدلة الصحيحة فهي جامعة لشمل الأمة ، عاصمة لهم من الشقاق والافتراق كما دلَّت على ذلك الأخبار والآثار.
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس (2).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان
____________
(1) تقدم في صفحة 122 من هذا الكتاب.
(2) سبق تخريج مصادره في صفحة 144.

( 201 )

لأمتي (1).

* * * * *

قال الجزائري : إذ المسلمون أهل السنة والجماعة ، والذين هم وحدهم يُطلق عليهم بحق كلمة المسلمين ، لا يوجد بينهم فرد واحد يكره آل بيت رسول الله.

والجـواب :
أما أن الذين يُطلق عليهم بحق كلمة « المسلمون » هم أهل السنة وحدهم فهذا ادِّعاء محض ، لأن لفظ « المسلم » يصح إطلاقه على كل من شهد الشهادتين ، وأظهر شعائر الإسلام ، ولم ينكر ضروريًّا من ضروريات الدين. هذا ما دلَّت عليه الأحاديث النبوية ونصَّ عليه أعلام أهل السنة.
ومن تلك الأحاديث ما أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من شهد أن لا إله إلا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم (2).
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي : قوله « من صلى صلاتنا » أي من أظهر شعائر الإسلام (3).
____________
(1) الجامع الصغير 2|680 ورمز له بالحسن. مجمع الزوائد 9|174. المطالب العالية 4|74 ، 374. إحياء الميت ، ص37 ، 45. الخصائص الكبرى 2|266. فضائل الصحابة 2|671.
(2) صحيح البخاري 1|103 كتاب الصلاة ، باب فضل استقبال القبلة. سنن النسائي 7|75 ، 8|105 ، 109.
(3) سنن النسائي 8|105.

( 202 )

وأخرج البخاري عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَن صلَّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذاك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته (1).
فكل من أظهر شعائر الإسلام حُكِم بإسلامه ، وحَرُم إيذاؤه بنفي الإسلام عنه ، كما قال سبحانه ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا ) (2) ، وذلك لأن الإيمان أمر خفي لا يقدر أحد على الجزم بنفيه.
وأما أن أهل السنة لا يوجد بينهم فرد واحد يبغض آل البيت فغير صحيح ، لأن كثيراً من علمائهم وإن كانوا يزعمون أنهم يحبّون أهل البيت عليهم السلام إلا أن ما يظهر منهم خلاف ذلك.
ويكفي في الدلالة على ذلك أن علماء أهل السنة حكموا بأن التشيع لأهل البيت منقصة قادحة في وثاقة الراوي ، فيضعّفون الرجل لموالاته لأهل البيت عليهم السلام ، فيطرحون رواياته ، وإن كان صدوقاً ثبتاً ، وينبزونه بالرفض ، ويصمونه بما لا يحسن من قبيح الصفات ، فصار كل من يحبّهم أو يروي فضائلهم ، أو ينقل مآثرهم ، وينوِّه بذكرهم ، أو يفضّلهم على غيرهم ، شيعيًّا مذموماً ، أو رافضيًّا خبيثاً ، لا حرمة له ولا كرامة.
حتى أن الإمام الشافعي الذي هو علَم من أعلام أهل السنة وإمام من أئمتهم قد رُمي بالتشيع لما تجاهر بحب أهل البيت عليهم السلام ، فقيل له : إن أناساً لا يصبرون على سماع منقبة أو فضيلة لأهل البيت ، فإذا رأوا أحداً يذكر شيئاً من ذلك قالوا : تجاوزوا عن هذا ، فهو رافضي. فأنشأ يقول :

إذا في مجلسٍ نذكر علياً * وابنيهِ وفاطمةَ الزكيَّــهْ

____________
(1) صحيح البخاري 1|103.
(2) سورة النساء ، الآية 94.

( 203 )

يُقــال : تجاوزوا يا قومُ هذا * فهـذا من حديثِ الرافضيــهْ
بـرئتُ إلى المهيمنِ من أناسٍ * يرون الرفضَ حبَّ الفاطميهْ (1)

وقيل له : إن فيك بعض التشيع! قال : وكيف ؟ قالوا : ذلك لأنك تظهر حب آل محمد. فقال : يا قوم... أليس من الدين أن أحب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا من المتقين ، لأنه كان يحب قرابته ، وأنشد  :

يا راكبا قفْ بالمحصَّبِ من مِنى * واهتفْ بساكنِ خيفِها والناهــضِ
سحَراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنى * فيضاً كملتطمِ الفـراتِ الفائــضِ
إن كان رفضاً حُـبُّ آل محمدٍ * فليشهدِ الثقلانِ أني رافضــي (2)

وهناك جمع من الحفَّاظ والرواة والعلماء البارزين من أهل السنّة عُرفوا ببغض أهل البيت عليهم السلام ومعاداتهم لهم.
فمن حفاظ الحديث إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : عدَّه الذهبي (3) والسيوطي (4) من حفَّاظ الحديث ، وهو من رجال الجرح والتعديل عندهم ، روى له أبو داود والترمذي والنسائي ، ووثَّقه النسائي والدارقطني وابن حبان ، مشهور بالنصب والتحامل على علي عليه السلام (5).
ومنهم : حريز بن عثمان الحافظ أبو عثمان الرحبي : عدَّه الذهبي (6) والسيوطي (7) وابن العماد الحنبلي (8) من حفَّاظ الحديث ، وهو ناصبي
____________
(1) نور الابصار ، ص200 ، والأبيات موجودة في الديوان ، ص90.
(2) الانتقاء في فضائل الثلاثة الائمة الفقهاء ، ص91.
(3) تذكرة الحفاظ 2|549. العبر 1|372. ميزان الاعتدال 1|75.
(4) طبقات الحفاظ ، ص244.
(5) راجع تهذيب التهذيب 1|158. ميزان الاعتدال 1|75.
(6) تذكرة الحفاظ 1|176. سير اعلام النبلاء 7|79.
(7) طبقات الحفاظ ، ص78.
(8) شذرات الذهب 1|257.

( 204 )

معروف ، روى له البخاري والأربعة ، سُئل عنه أحمد بن حنبل فقال : ثقة ثقة. وقال : ليس بالشام أثبت من حريز. ووثَّقه ابن معين ودحيم وأحمد ابن يحيى والمفضل بن غسان والعجلي وأبو حاتم وابن عدي والقطان. قال ابن المديني : لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثِّقونه. كان يلعن أمير المؤمنين عليه السلام وينتقصه وينال منه. قال ابن حبان : كان يلعن عليًّا بالغداة سبعين مرة  ، وبالعشي سبعين مرة (1).
وأما النواصب من رواة الأحاديث فكثيرون :
منهم : عبد الله بن شقيق العقيلي ، وإسماعيل بن سميع الكوفي الحنفي ، والحصين بن نمير الواسطي ، وزياد بن جبير بن حية الثقفي البصري ، وزياد بن علاقة بن مالك الثعلبي ، وعبيد الله بن زيد بن قلابة الجرمي ، ومحمد بن زياد الألهاني ، ونعيم بن أبي هند الأشجعي  ، وخالد ابن سلمة بن العاص المعروف بالفأفأ وغيرهم (2).
وأما النواصب من علماء أهل السنة فكثيرون أيضاً ، منهم ابن تيمية وابن كثير الدمشقي وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حزم الأندلسي وغيرهم ، وهؤلاء وإن نفوا عن أنفسهم النَّصْب إلا أن المتأمل في كتبهم يحصل له الجزم بما قلناه ، ولولا خشية الإطالة والخروج عن موضوع الكتاب لأقمنا الأدلة الواضحة الدالة على عداوتهم لأهل البيت عليهم السلام من كتبهم ومن أقوال العلماء الآخرين فيهم.

* * * * *

قال الجزائري : فلماذا تمتاز طائفة الشيعة بوصف الولاية ، وتجعلها هدفاً وغاية ، وتعادي من أجلها المسلمين ، بل تكفرهم وتلعنهم كما سبق
____________
(1) راجع تهذيب التهذيب 2|207. ميزان الاعتدال 1|457. تهذيب الكمال 5|568. سير اعلام النبلاء 7|79. تاريخ بغداد 8|265.
(2) راجع ما كتبناه عن هؤلاء الرواة في كتابنا دليل المتحيرين ، ص358 ـ 359.

( 205 )

أن عرفت وقدمناه.

والجـواب :
أن الولاية وإن كانت من شعائر الإسلام المؤكدة التي دلَّت عليها آيات الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة ، إلا أن الشيعة لم يجعلوها هدفاً وغاية ـ كما زعم الجزائري ـ يُعادون من أجلها المسلمين ، أو يكفِّرونهم أو يلعنونهم.
بل إن أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا يحثُّون شيعتهم ومواليهم على حسن الجوار مع أهل السنة وعلى التلطّف في معاشرتهم (1) ، وأحاديثهم في ذلك كثيرة جداً.
منها : صحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت له : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا ؟ قال : تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم ، فتصنعون كما يصنعون ، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدّون الأمانة إليهم (2).
وفي صحيحة زيد الشحام ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : إقرأ على من ترى أنه يطيعني ويأخذ بقولي السلام ، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أدّوا الأمانة إلى من
____________
(1) كل من خالط الشيعة الامامية وجاورهم يتضح له انهم يتوددون إلى اهل السنة ، ولا يحملون حقدا ولا ضغينة على احد منهم . قال الشيخ محمد ابو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الاسلامية 1|50 : والاثنا عشرية يوجدون الآن في العراق ... وهم عدد كبير يقارب النصف ، يسيرون على مقتضى المذهب الاثنا عشري في عقائدهم ونظمهم في الاحوال الشخصية والمواريث والوصايا والاوقاف والزكوات والعبادات كلها ، وكذلك أكثر أهل إيران ، ومنهم من ينبثون في بقاع من سوريا ولبنان وكثير من البلاد الاسلامية ، وهم يتوددون إلى من يجاورونهم من السنيين ولا ينافرونهم.
(2) الكافي 2|636.

( 206 )

ائتمنكم عليها برًّا أو فاجراً ، وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه  ، وصدق في حديثه ، وأدَّى الأمانة ، وحسن خلقه مع الناس ، قيل : هذا جعفري. فيسرُّني ذلك ، ويدخل عليَّ منه السرور ، وقيل : هذا أدَب جعفر. وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره ، وقيل : هذا أدَب جعفر. فوالله لَحدَّثني أبي عليه السلام أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي عليه السلام فيكون زينها ، آداهم للأمانة  ، وأقضاهم للحقوق ، وأصدقهم للحديث ، إليه وصاياهم وودائعهم ، تسأل العشيرةَ عنه ، فتقول : مَن مثل فلان ؟ إنه لآدانا للأمانة ، وأصدقنا للحديث (1).
وفي خبر أبي علي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن لنا إماماً مخالفاً وهو يبغض أصحابنا كلهم. فقال : ما عليك من قوله ، والله لئن كنتَ صادقاً لأنت أحق بالمسجد منه ، فكن أول داخل وآخر خارج ، وأحسن خلقك مع الناس ، وقل خيراً (2).
والإنصاف أن أهل السنة هم الذين جعلوا موالاة كل الصحابة سبباً لتكفير كل من لا يرى رأيهم ، فقد أفتى جمع من أعلامهم بأن كل من كره واحداً منهم أو طعن في روايته فهو كافر.
قال ابن حجر بعد أن ساق قوله تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) إلى قوله ( ليغيظ بهم الكفار ) الآية (3) : ومن هذه الآية أخذ الإمام مالك بكفر الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأن الصحابة يغيظونهم ، ومن غاظه الصحابة فهو كافر.
وقال ابن حجر : وهو مأخذ حسن يشهد له ظاهر الأية ، ومن ثم
____________
(1) المصدر السابق.
(2) وسائل الشيعة 5|382.
(3) سورة الفتح ، الآية 29.

( 207 )

وافقه الشافعي رضي الله عنه في قوله بكفرهم ، ووافقه جماعة من الأئمة (1).
وقال القرطبي : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله ، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردَّ على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع الإسلام (2).
أقـول : إن الإنصاف في هذه المسألة يقتضي الحكم على كل من قال بعدالة كل الصحابة بأنه قد ردَّ آيات الكتاب العزيز الدالة بأوضح دلالة على وجود النفاق في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستفحاله ، حتى نزلت فيهم آيات كثيرة بل سورة بكاملها سُمّيت بهم ، ولم نعثر على دليل واحد تام يعدّل كل الصحابة ، وكل ما تمسَّكوا به إنما هو مجرد خيالات واهية وأوهام فاسدة كما هو واضح جلي لكل ذي عينين.
وأما هذه الآية فلا تدل على أن كل من اغتاظ من واحد من الصحابة فهو كافر ، وإلا لحكمنا بكفر جمع من الصحابة كانوا يحملون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ويبغضونه ، أمثال معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وبسر بن أرطأة ، وآخرين لا نود ذكرهم كانوا لا يستطيعون إخفاء بغضهم له عليه السلام حتى في محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما تريدون من علي ؟ إن عليًّا مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي.
بل ظاهر الآية أن صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ بنحو العموم المجموعي ـ يغيظ الله بهم الكفار ، لا بنحو العموم الأفرادي ، يعني أن الله سبحانه قد أغاظ الكفار بصحابته صلى الله عليه وآله وسلم بما هم مجموع ، لا بكل فرد منهم ، فإن بعضهم كما هو معلوم لم يُغظ واحداً من الكفار ، ولا سيما بعض من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة.
____________
(1) الصواعق المحرقة ، ص243. وراجع تفسير القرآن العظيم 4|204.
( 208 )

ولو سلَّمنا أن الآية تدل على هذا المعنى ، فهي لا تدل على أن كل من أغاظوه أو اغتاظ منهم فهو كافر ، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

* * * * *

قال الجزائري : والإمامة أيضاً : أليس من السخرية والعبث أن يترك الإسلام للمسلمين أمر اختيار مَن يحكمهم بشريعة الإلـه ربهم وهدي نبيّهم ، فيختارون مَن شاؤوا ممن يرونه صالحاً لإمامتهم وقيادتهم بحسب كفاءته ومؤهلاته ، فتقول جماعة الشيعة : لا ، لا ، يجب أن يكون موصى به ، منصوصاً عليه ، ومعصوماً ويوحى إليه ، ومتى يجد المسلمون هذا الإمام ؟ أمن أجل هذا تنحاز الشيعة جانباً تلعن المسلمين وتعاديهم ؟!

والجـواب :
أن الله سبحانه لم يجعل الخلافة شورى ، ولم يترك للمسلمين أمر اختيار مَن يحكمهم ، بل اختار لهم الأصلح لهم في دينهم ودنياهم.
ويدل على بطلان الشورى في الخلافة أمور :
1 ـ أن الشورى تسبِّب الاختلاف والتنازع ، وهذا ما وقع بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة ، واستمر الخلاف بسبب ذلك إلى يومنا هذا ، مع أن من غايات الشارع المقدس إغلاق كل باب يؤدي إلى النزاع ، وسد كل ثغرة تؤدي إلى الخلاف.
وعليه ، فلا يمكن أن يفتح الله للمسلمين باباً يؤدي إلى الفرقة مع إمكان النص على الخليفة الذي تجتمع عليه الأمة ، وتتَّحد به الكلمة.
2 ـ أن منصب الخلافة الكبرى والإمامة العظمى من أهم المناصب الدينية التي تترتب عليها أعظم المصالح وأشد المفاسد ، فلا يصح إيكالها إلى الناس الذين لا يعلمون بخفايا النفوس ولا خبايا القلوب ، إذ لا يؤمن حينئذ
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن 16|296.
( 209 )

من اختيار أهل الشقاق والنفاق خلفاء على المسلمين وأئمة للمؤمنين ، فيحرِّفون الكتاب ، ويبدِّلون السنَّة ، ويحرِّمون الحلال ، ويحلِّلون الحرام ، ويتَّخذون عباد الله خِوَلاً ، ومال المسلمين دِوَلاً.
3 ـ أن الشورى مبتنية على اختيار الأكثر ، والله سبحانه لم يجعل ذلك علامة على الحق ، بل ذمَّ الكثرة في آيات كثيرة من كتابه العزيز ، فقال جل شأنه ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله إن يتَّبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) (1). وقال ( لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) (2). وقال ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) (3) ، وقال ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (4).
وأما قوله تعالى ( وشاورهم في الأمر ) (5) وقوله ( وأمرهم شورى بينهم ) (6) فلا يراد بهما الشورى في الخلافة ، وإلا لكان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاور أصحابه في اختيار الخليفة من بعده ، مع أنه لم يصدر منه ذلك بالاتفاق ، وإنما كان يشاور أصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب ونحوها.
قال ابن كثير : كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها (7).
وقال الفخر الرازي : قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر ـ أي
____________
(1) سورة الانعام ، الآية 116.
(2) سورة الزخرف ، الآية 78.
(3) سورة يوسف ، الآية 103.
(4) سورة الأعراف ، الآية 178. سورة يوسف ، الآية 21. سورة النحل ، الآية 38. سورة الروم ، الآية 6. سورة القصص ، الآية 30, سورة سبأ ، الآية 36.
(5) سورة آل عمران ، الآية 159.
(6) سورة الشورى 38.
(7) تفسير القرآن العظيم 1|420.

( 210 )

في ( وشاورهم ) ـ مخصوص بالمشاورة في الحروب (1).
وقال القرطبي : وقد كان يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب (2).
ثم إن أهل السنة صحَّحوا خلافة عمر مع أنها لم تكن بمشورة من المسلمين ، وإنما كانت بنصٍّ من أبي بكر.
والحاصل أن مسألة الشورى لا دليل صحيح يدل على أنها من شرائع الإسلام ، ولو كانت كذلك لبُيِّنت أحكامها وحدودها ، فإن أهم أُسُسها ـ وهو مَن يدخل في الشورى ومَن لا يدخل ـ اختلف علماء أهل السنة فيه على أقوال كثيرة (3) ، فكيف بسائر أحكامها ؟!
وهذا دليل واضح على أن مسألة الشورى في اختيار الخلفاء إنما وضعها الناس من عند أنفسهم.
ولهذا قال القرطبي : وقد جعل عمر رضي الله عنه الخلافة ـ وهي أعظم النوازل ـ شورى (4).
أما أن الإمام يجب أن يكون معصوماً فلأن غير المعصوم ظالم لنفسه لوقوع المعاصي منه ، وكل من وقعت منه معصية فهو ظالم لنفسه على الأقل  ، فلا يصلح للإمامة العظمى ، لقوله جل وعلا ( قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (5).
ثم إن غير المعصوم لا يُوثق بصحة قوله ، ويُشَك في نفاذ أمره وحكمه ،
____________
(1) التفسير الكبير 9|67.
(2) الجامع لأحكام القرآن 16|37.
(3) قيل : لا يدخل في الشورى إلا أهل المدينة. وقيل : خصوص الصحابة. وقيل : أهل الحل والعقد. وقيل : سائر المسلمين. وقيل غير ذلك.
(4) الجامع لأحكام القرآن 4|251.
(5) سورة البقرة ، الآية 124.

( 211 )

لاحتمال خطئه ونسيانه وغفلته وجهله وتعمده للكذب ، فلا يتوجه الأمر بطاعته مطلقاً في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (1) مع أن الله سبحانه ساوى في هذه الآية بين طاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر ـ وهم الأئمة عليهم السلام ـ وذلك لانتفاء الخطأ في الكل ، وقد تقدّم بيان ذلك مفصَّلاً.
هذا مضافاً إلى أن الإمامة العظمى والخلافة الكبرى التي يتوقف عليها بقاء الدين واستقامة أمور المسلمين لا يصح أن توكل إلى إمام يصيب ويخطئ  ، ويحكم في القضية بحكم ثم ينقضه ، ويفتي في المسألة بفتوى ثم يبدّلها ، فينمحق الدين وتتبدَّل أحكام شريعة سيد المرسلين مع توالي الأئمة وتطاول الأزمنة.
لأجل ذلك كله وجب أن يكون إمام المسلمين معصوماً منصوصاً عليه.
أما متى يجد المسلمون هذا الإمام ؟ فالجواب أنه موجود ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على الأئمة من بعده ، فبيَّن أنهم من أهل بيته حيث قال : إني تارك فيكم الثقلين : « كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ».
وبيَّن المراد بأهل بيته فيما أخرجه مسلم عن عائشة ، قالت : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه مِرْط مرحَّل من شَعر أسوَد ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله  ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) (2).
____________
(1) سورة النساء ، الآية 59.
(2) صحيح مسلم 4|1883 كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل اهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي رواية قال (ص) : رب إن هؤلاء أهل بيتي ( المستدرك 3|108 ـ 109 وصححه

=


( 212 )

وبيَّن أن الأئمة من بعده اثنا عشر ، فقال : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلهم من قريش.
وبيَّن أن هؤلاء الأئمة هم الذين اجتمعت الأمّة على صلاحهم وحسن سيرتهم ، وطيب سريرتهم ، إذ قال في بعض الطرق الصحيحة  : كلهم تجتمع عليه الأمة (1).
ومن ذلك كله يتضح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على الأئمة من بعده ، فذكر عددهم وأوصافهم التي لا تنطبق إلا على أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم السلام.
هذا مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب قبل موته كتاباً يبيِّن فيه الخلفاء من بعده ، فأمر بإحضار دواة وكتف ، فعلم القوم بغرضه ، فحالوا بينه وبين كتابة ذلك الكتاب ، وقد مرَّ بيان ذلك ، فراجعه.
فإذا كانوا قد تجَّرأوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحالوا بينه وبين كتابة أسماء الخلفاء ، فجرأتهم من بعده على جحد النصوص الكلامية سهلة ومتوقعة ، إلا أن ما بقي من النصوص فيه غنىً وكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

* * * * *

قال الجزائري : أيها الشيعي اعلم أنك مسؤول عن نجاة نفسك ونجاة أسرتك ، فابدأ بإنقاذهما من عذاب الله ، واعلم أن ذلك لا يكون إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ، وأن الإيمان الصحيح كالعمل الصالح لا
____________
=
ووافقه الذهبي ). وفي رواية أخرى قال : اللهم هؤلاء أهلي ( المستدرك 3|146 وصححه ووافقه الذهبي أيضا ). راجع روايات الباب في كتابنا دليل المتحيرين ص206 ـ 209.
(1) أخرجه أبو داود في سننه 4|106 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3|807.

( 213 )

تجدهما إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنك ـ وأنت محصور في سجن المذهب الشيعي المظلم ـ لا يمكنك أن تظفر بمعرفة الإيمان الصحيح ولا العمل الصالح إلا إذا فررت إلى ساحة أهل السنة والجماعة ، حيث تجد كتاب الله خالياً من شوائب التأويل الباطل ، الذي تعمّده المغرضون من دعاة الشيعة للإضلال والإفساد.

والجـواب :
أما أن المرء لا يمكنه أن يظفر بالإيمان الصحيح والعمل الصالح إلا إذا فرَّ إلى ساحة أهل السنة والجماعة فهذا ادِّعاء محض ، يدَّعيه أهل السنة ويدَّعي مثله غيرهم ، لأن ( كل حزب بما لديهم فرحون ) وبما عندهم راضون.
وساحة أهل السنة التي ذكرها رأيناها بعد مزيد الفحص والتتبُّع جدباء مقفرة ، فيها ظلمات بعضها فوق بعض.
ثم إن أهل السنة أنفسهم اختلفوا إلى مذاهب عديدة يطعن بعضهم في بعض ، ولو أردنا أن نستقصي هذه الطعون لملأنا الصحف والطوامير ، إلا أنا نذكر يسيراً يغني عن كثير :
ومن ذلك ما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن أبي بكر بي أبي داود السجستاني أنه قال يوماً لأصحابه : ما تقولون في مسألة اتفق عليها مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، والحسن بن صالح وأصحابه ، وسفيان الثوري وأصحابه ، وأحمد بن حنبل وأصحابه ؟ فقالوا : يا أبا بكر ، لا تكون مسألة أصح من هذه. فقال : هؤلاء كلهم اتفقوا على ضلال أبي حنيفة (1).
وقال الأوزاعي وحماد وسفيان الثوري وابن عون : ما وُلد مولود في
____________
(1) تاريخ بغداد 13|349.
( 214 )

الإسلام أضر على الإسلام من أبي حنيفة (1).
وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن ابن معين قال : كان مالك يتكلم في سعد سيد من سادات قريش. وقال : إنما ترك مالك الرواية عنه لأنه تكلم في نسَب مالك ، فكان مالك لا يروي عنه ، وهو ثَبْتٌ لا شك فيه.
قال ابن حجر : يقال إن سعداً وعظ مالكاً ، فوجد عليه فلم يروِ عنه (2).
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله : قال سلمة بن سليمان لابن المبارك : وضعتَ من رأي أبي حنيفة ، ولم تضع من رأي مالك ؟ قال : لم أره علماً (3).
وقال : وقد تكلم ابن أبي ذؤيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره ، وهو مشهور عنه... وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه ، وتكلم في مالك أيضاً ـ فيما ذكره الساحي في كتاب العلل ـ عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد ، وعابوا عليه أشياء من مذهبه ، وتكلم فيه غيرهم... وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسَداً لموضع إمامته ، وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر ، وفي كلامه في علي وعثمان ، ونسبوه في ذلك إلى ما لا يحسن ذكره (4).
____________
(1) راجع ما كتبه الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة في تاريخ بغداد 13|369 ـ 451 ، وكذلك ما كتبه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8|449.
(2) تهذيب التهذيب 3|403.
(3) جامع بيان العلم وفضله 2|157.
(4) المصدر السابق 2|160.