وقال أيضاً في نفس المصدر : ومما نقم على ابن معين وعيب به قوله في الشافعي : إنه ليس بثقة. وقال : قد صح عن ابن معين أنه كان يتكلم في الشافعي.
إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، فراجع إن شئت كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1) ، فإنه ذكر شيئاً كثيراً من هذه النظائر.
وبعد هذا كله ، نسأل الجزائري : أي ساحة من هذه الساحات هي التي نظفر فيها بمعرفة الإيمان الصحيح والعمل الصالح ؟!
إن الأدلة الصحيحة الثابتة ـ وهي الكتاب والسنة المتواترة ـ التي يلزمنا الرجوع إليها لمعرفة الطريق الذي نسلكه والمذهب الذي نتَّبعه ، كلها ترشد إلى اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم.
وأما مذاهب أهل السنة فما أمر الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعها والأخذ منها ، وما أحسن قول الشاعر :

قال الشريفُ الفاطمـي أحمدُ * أَبدأُ باسـم الله ثم أَحمَـــدُ
مصلِّياً على النبي المرسَــلِ * مدينةِ العلـمِ وبابِهــا علي
وأهلِ بيتِ الوحيِ والتنزيـلِ * ومعدَنِ الحكمـةِ والتأويــلِ
بعدُ : فهاك ما عن المختـارِ * مضمونَ ما شاع من الأخبارِ
تفترقُ الأمَّةُ بعدما ضحــى * ظِل النبيِّ فِرَقاً لن تبـرحـا
واحدةٌ ناجيـةٌ والباقيـــهْ * هالكةٌ وفي الجحيـمِ هاويـهْ
فاصغِ لما أقول يا عمروُ فما * تقول في آلِ النبيِّ الكُرمـا ؟
هل هلكوا ؟! أَستغفرُ الله وقدْ * قام لفسطـاط الهدى بهم عَمَدْ
لا بل نجوا ومَن عداهم هلكوا * ونحـن ممن بهمُ تمسَّكــوا
وقد أخذنا قولَهـم ففزنـــا * وعن سوى آل النبي جزنــا

____________
(1) المصدر السابق 2|150 ـ 163.
( 216 )

متَّخذيـــن مذهب الأطائـــبِ * من آلِه لا سائـــرَ المذاهــبِ
فمَذهب الصادق (1) خيـرُ مذهبِ * وهو وبيــتِ اللهِ أولى بالنبــي
وما أخذتــم منهـمُ وعنهـــمُ * بل اتَّبعتــم مَـن همُ دونَهـــمُ
حتى انتهـى الأمـرُ إلى التقليد في * شرائع الديــن القويــم الحنفي
قلَّدتـمُ النعمـــان أو محمــدا * أو مالكَ بنَ أنــسٍ أو أحمدا (2)
فهل أتى الذِّكْرُ بـه أو وصَّـــى * به النبـيُّ أو وجـدتم نصَّا ؟! (3)

وأما زعمه أنا نجد عند أهل السنة كتاب الله خالياً من شوائب التأويل الباطل فغير صحيح ، لأن كل متأمل فيما كتبه علماء أهل السنة في تفسير القرآن الكريم يجد أنهم يصرِفون أكثر الآيات النازلة في أهل البيت عامة وفي علي عليه السلام خاصة إلى غيرهم ، أو يؤوِّلونها بما يخرجها عن أن تكون فضيلة خاصة بهم.
فصرفوا آية التطهير ـ وهي قوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً ) ـ عن أصحاب الكساء ، وزعموا نزولها في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، أو فيهن وفي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، مع أن الأحاديث الدالة على أن المراد بأهل البيت في الآية هم علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام كثيرة جداً (4).
منها : ما أخرجه الترمذي وصحَّحه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصحَّحه وابن مردويه والبيهقي في سُننه من طُرُق (5) ، عن أم سلمة قالت :
____________
(1) هو مذهب الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، وهو مذهب الشيعة الامامية الجعفرية الاثني عشرية.
(2) يعني بالنعمان أبا حنيفة ، ومحمد هو الشافعي ، وأحمد هو ابن حنبل.
(3) منظومة الشهاب الثاقب ، ص119 ـ 120.
(4) راجع ما كتبناه حول هذه الآية في كتابنا دليل متحيرين ، ص206 ـ 215.
(5) عن فتح القدير 4|279.

( 217 )

في بيتي نزلت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين ، فجلَّلهم رسول الله بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهِبْ عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً.
والتجلُّل بالكساء يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يبيِّن أن الذين أذهب الله عنهم الرجس هم هؤلاء الخمسة دون نسائه صلى الله عليه وآله وسلم ومنهن أم سلمة التي وقعت الحادثة أو نزلت هذه الآية في بيتها ، ولهذا جذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكساء من يدها لما أرادت أن تدخل معهم ، ومنعها من ذلك  ، وقال لها : أنت على خير ، أنت على خير (1).
ولولا دلالة التجلُّل بالكساء على ذلك لكان هذا الفعل عبثاً لا يليق بأدنى الناس فضلاً عن سيد الأنبياء والمرسلين.
وكذلك صرفوا قوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (2)عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فزعموا أن المراد بـ ( الذين أمنوا ) هم المؤمنون عامة ، مع أنهم رووا الأحاديث الكثيرة الدالة على نزول هذه الآية في علي عليه السلام لما تصدَّق بخاتمه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
والولي هنا لا يصح أن يكون بمعنى الناصر والمحب ، بل هو بمعنى الأولى بالتصرّف ، لأن الولاية لو كانت بمعنى النصرة والمحبة لكانت عامة للمؤمنين ،
____________
(1) راجع فتح القدير 4|279. سنن الترمذي 5|351. مسند أحمد 6|292 ، 304. المستدرك 2|416 وصححه ووافقه الذهبي. تفسير القرآن العظيم 3|484 ، 485. الدر المنثور 6|603 ، 604. الجامع لأحكام القرآن 14|183.
(2) سورة المائدة ، الآية 55.
(3) راجع تفسير القرآن العظيم 2|71. الدر المنثور 3|104 ـ 106. جامع البيان في تفسير القرآن 6|186. الجامع لأحكام القرآن 6|221 ـ 222. فتح القدير 2|53. الكشاف 1|347. التفسير الكبير 12|26.

( 218 )

لقوله تعالى ( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) (1) مع أن الآية نزلت في علي عليه السلام كما دلَّت عليه الأحاديث الكثيرة.
مضافاً إلى أن الآية حصرت الأولياء في ثلاثة ، وهم : الله ، ورسوله ، والمؤمنون المتصفون بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم راكعون. وعموم المؤمنين لم يتصفوا بهذه الصفات ، وهذا يدلّ بوضوح على أن المراد بالذين آمنوا في الآية بعض المؤمنين لا كلهم.
ومن هذا البيان يتضح أن معنى هذه الآية هو معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه. لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيَّن المراد بالمولى بقوله قبل ذلك : أيها الناس ، ألستُ أولى بكم من أنفسكم ؟ وقد تقدَّم بيان ذلك مكرراً.
وكذلك صرفوا قوله تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (2) عن آل البيت عليهم السلام ، وزعموا أن النبي سأل قريشاً أن يودُّوه لأجل القربى التي بينه وبينهم ، أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم سأل الناس عامة أن يودُّوا قراباتهم ، مع أن الأحاديث المؤكَّدة على لزوم مودّة أهل البيت عليهم السلام أكثر من أن تحصر ، وأشهر من أن تُذكر.
منها : ما أخرجه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم غدير خم : أُذكِّركم الله في أهل بيتي (3).
وأخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم والهيثمي وغيرهم ، أن
____________
(1) سورة التوبة ، الآية 71.
(2) سورة الشورى ، الآية 23.
(3) صحيح مسلم 4|1873 كتاب الفضائل ، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الجامع الصغير 1|244 ورمز له بالصحة. وصححه الالباني في صحيح الجامع الصغير 1|287 وتخريج شرح العقيدة الطحاوية ، ص490. كتاب السنة ، ص629.

( 219 )

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبّكم لله ولقرابتي (1).
وأخرج الترمذي عن ابن عباس ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحِبُّوا الله لما يغذُوكم بنِعَمه ، وأحبّوني بحب الله ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي (2).
هذه نماذج من تأويل علماء أهل السنة لآيات الكتاب العزيز التي صرفوها عن المراد بها إلى ما يوافق عقيدتهم وإن خالفوا الأحاديث الصحيحة التي يروونها في كتبهم المعتمدة.
ولعل الجزائري أراد بالتأويل الباطل الذي تبرَّأ منه هو تأويل بعض الآيات القرآنية التي اشتملت على نسبة اليد أو الوجه أو الأعين أو الساق أو ما شاكل ذلك إلى الله جل شأنه ، فإن الشيعة الإمامية أوَّلوا هذه الآيات بالمعاني المناسبة لها الدالة على تنزيه الله سبحانه عن أن يكون له أجزاء أو أعضاء كأعضاء الآدميين.
أما أهل السنة ـ وبالأخص الحنابلة منهم ـ فإنهم نظروا في الآيات التي ورد فيها ذكر ذلك فحملوها على معانيها الحقيقية ، فأثبتوا لله يداً ووجهاً وساقاً وعيناً تليق بجلاله في زعمهم.
قال السفاريني : وجب أن يُحمَل الوجه في حق الباري على وجه يليق به ، وهو أن يكون صفة زائدة على تسمية قولنا ذات (3).
وقال أبو الحسن الأشعري : مَن سأَلَنا فقال : أتقولون إن لله سبحانه وجهاً ؟ قيل له : نقول ذلك خلافاً لما قاله المبتدعون ، وقد دل على ذلك
____________
(1) سنن الترمذي 5|625 وقال : هذا حديث حسن صحيح. سنن ابن ماجة 1|50. مسند أحمد 1|207 ، 208 ، 4|165. المستدرك 4|75. مجمع الزوائد 1|88 ، 9|170. الفردوس بمأثور الخطاب 4|361.
(2) سنن الترمذي 5|664 وقال : حديث حسن.
(3) لوامع الأنوار البهية 1|227.

( 220 )

قوله عز وجل ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )... فإن سُئلنا : أتقولون إن لله يدَيْن ؟ قيل : نقـول ذلك ، وقد دلَّ عليه قوله عز وجـل ( يد الله فوق أيديهم ) وقوله عز وجل ( لما خلقت بيدي ) (1).
وقال : إن معنى قوله ( بيدي ) إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قُدرتين ولا نعمتين ، ولا يوصفان إلا بأنهما يدان ليستا كالأيدي ، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة (2).
وقال السفاريني : مذهب السلف والأئمة الأربعة وبه قال الحنفية والحنابلة وكثير من الشافعية وغيرهم هو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها (3).
أقول : إن إثبات اليد والوجه والساق وغيرها لله تعالى هو عين التشبيه والتكييف ، فإن اليد وإن اختلفت صُوَرها إلا أن حقيقتها واحدة ، ولولا ذلك لما سُمّيتْ يداً ، وكذلك الوجه والساق والعين وغيرها ، فأهل السنة شبهوا الله بخلقه ، وجعلوه جسماً وإن نفوا عنه الجسمية ، فإنهم ينفون التسمية ، ويثبتون الماهية.
وقد وجدتُ كلاماً يناسب المقام لتاج الدين السبكي في الرد على أستاذه الحافظ شمس الدين الذهبي الذي حاول الغضَّ من أبي الحسن الأشعري في ترجمته له في كتابه تاريخ الإسلام ، فقال مخاطباً له :
وأما إشارتك بقولك « ونبغض أعداءك » إلى أن الشيخ من أعداء الله ، وأنك تبغضه ، فسوف تقف معه بين يدي الله تعالى ، يوم يأتي وبين يديه طوائف العلماء من المذاهب الأربعة ، والصالحين من الصوفية ، والجهابذة الحفَّاظ المحدّثين ، وتأتي أنت تتسكَّع في ظُلَم التجسيم الذي تدَّعي
____________
(1) الإبانة عن اصول الديانة ، ص78.
(2) المصدر السابق ، ص82.
(3) لوامع الانوار البهية 1|225.

( 221 )

أنك بريء منه ، وأنت من أعظم الدعاة إليه ، وتزعم أنك تعرف هذا الفن وأنت لا تفهم فيه نقيراً ولا قطميراً ، وليت شعري مَن الذي يصف الله بما وصف به نفسه ؟ مَن شبَّهه بخَلْقه ، أم من قال : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ؟! (1)

* * * * *

قال الجزائري : وتجد السنة النبوية خالية من الكذب والتشيُّع ، وبذلك يمكنك أن تفوز بالإيمان الصحيح والعقيدة الإسلامية السليمة  ، وبالعمل الصالح الذي شرعه الله تعالى لعباده يزكّي به أنفسهم ، ويعدهم به للفوز والفلاح.

والجـواب :
أن صحاح أهل السنة وكتبهم الحديثية والكلامية مملوءة بالأحاديث الكثيرة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الدالة على ما يخالف آيات الكتاب العزيز  ، وما لا يصح شيء منه في دين الإسلام.
وهي أحاديث كثيرة لا يسعنا استقصاؤها في هذا الكتاب ، إلا أنا نذكر منها ما يدل على بطلان قوله وفساد زعمه ، ونكتفي بذكر طائفتين من تلكم الأحاديث.
الطائفة الأولى : ما نسَبَتْ إلى الله جل شأنه ما لا يليق به.
منها : ما دل على أن لله صورة كصورة آدم عليه السلام : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، قال : خلق الله آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً... (2)
____________
(1) طبقات الشافعية 3|353.
(2) صحيح البخاري 8|62 كتاب الاستئذان ، الباب الاول. صحيح مسلم 4|2183 كتاب الجنة ، باب رقم 11.

( 222 )

وأخرج مسلم في الموضع نفسه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه ، فإن الله خلق آدم على صورته.
قال السيد عبد الحسين شرف الدين أعلى الله مقامه : وهذا مما لا يجوز على رسول الله (ص) ولا على غيره من الأنبياء ولا على أوصيائهم عليهم السلام. ولعل أبا هريرة إنما أخذه عن اليهود بواسطة صديقه كعب الأحبار أو غيره ، فإن مضمون هذا الحديث إنما هو عين الفقرة السابعة والعشرين من الإصحاح الأول من إصحاحات التكوين من كتاب اليهود ـ العهد القديم ـ ، وإليك نصها بعين لفظه ، قال : فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلَقه ذكراً وأنثى خلَقهم (1).
ومنها : ما دل على أن لله أصابع : فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : جاء حَبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا محمد ، إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع  ، وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدَت نواجذه تصديقاً لقول الحَبر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) (2).
ومنها : ما دل على أن لله قدماً : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول : هل من مزيد. حتى يضع رب العزة فيها قدَمه ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قَط قَط ، بعزّتك وبكرمك (3).
____________
(1) أبو هريرة ، ص60
(2) صحيح البخاري 6|157 كتاب التفسير ، سورة الزمر.
(3) صحيح البخاري 8|168 كتاب الايمان والنذور ، باب الحلف بعزة الله وصفاته.

=


( 223 )

وفي رواية أخرى : فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رِجله ، فتقول  : قَط قَط قَط. فهنالك تمتلئ ويُزوى بعضها إلى بعض (1).
ومنها : ما دلَّ على أن الله على صورة الآدميين وأن صورته تتبدَّل وتتغير : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثاً طويلاً رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال فيه : يجمع الله الناس فيقول : مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم. فيقولون  : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتانا ربنا عرفناه. فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم. فيقولون : أنت ربّنا. فيتبعونه (2).
الطائفة الثانية : ما نسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يليق به.
منها : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدَّم لغيره طعاماً ذُبح على الأنصاب : فقد أخرج البخاري عن سالم أنه سمع عبد الله يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَح ، وذاك قبل أن يُنَزَّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي ، فقدَّم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرة فيها لحم  ، فأبى أن يأكل منها ، وقال : إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا مما ذُكر اسم الله عليه (3).
____________
=
9|143 كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى ( أنا الرزاق ذو القوة المتين ). صحيح مسلم 4|2188 كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب رقم 13.
(1) صحيح البخاري 6|173 كتاب التفسير ، سورة ق. صحيح مسلم 4|2187 ـ 2188.
(2) صحيح البخاري 8|147 كتاب الرقاق ، باب الصراط جسر جهنم. 9|156 كتاب التوحيد ، باب وكان عرشه على الماء. صحيح مسلم 1|163 ، 167 كتاب الايمان ، باب معرفة طريق الرؤية.
(3) صحيح البخاري 7|118 كتاب الذبائح والصيد ، باب ما ذبح على النصب والاصنام.

( 224 )

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم همَّ بالصلاة جُنُباً : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أنه قال : أُقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياماً ، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنُب ، فقال لنا : مكانكم. ثم رجع فاغتسل ، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبَّر فصلّينا معه (1).
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغضب ويسب ويلعن بغير حق : فقد أخرج مسلم عن عائشة ، قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان فكلّماه بشيء لا أدري ما هو ، فأغضباه فلعنهما وسبَّهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله مَن أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان. قال : وما ذاك ؟ قالت : قلت : لعنتهما وسببتهما. قال : أوما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنما أنا بشَر ، فأي المسلمين لعنتُه أو سببتُه فاجعله له زكاة وأجراً.
وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنما أنا بشَر ، فأيما رجل من المسلمين سببتُه أو لعنتُه أو جلدتُه فاجعلها له زكاة ورحمة (2).
ومنها : أن النبي يبول قائماً : فقد أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة ، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً ، ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ (3).
ومنها : أن النبي أبدى عورته أمام الناس : فقد أخرج البخاري
____________
(1) صحيح البخاري 1|74 كتاب الغسل ، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب ، 1|155 كتاب بدء الأذان ، باب هل يخرج من المسجد لعلة ، وباب إذا قال الامام مكانكم حتى رجع. صحيح مسلم 1|422 ـ 423 كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(2) صحيح مسلم 4|2007 كتاب البر والصلة ، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة. وراجع صحيح البخاري 8|96 كتاب الدعوات ، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة.
(3) صحيح البخاري 1|64 كتاب الوضوء ، باب البول قائما وقاعدا. وراجع الباب الذي يليه ، وهو باب البول عند سباطة قوم ، وباب البول عند صاحبه والتستر بالحائط. صحيح مسلم 1|228 كتاب الطهارة ، باب رقم 22.

( 225 )

ومسلم ـ واللفظ له ـ عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمُّه : يا ابن أخي ، لو حللتَ إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة. قال : فحلَّه فجعله على منكبه ، فسقط مغشياً عليه ، قال : فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً (1).
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الغناء : فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة : أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في أيام منى ، تدفِّفان وتضربان والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مُتَغَشٍّ بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهه فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد. وتلك الأيام أيام منى (2).
ومنها : أن النبي في رأسه قمل ، وتفليه امرأة أجنبية : فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل على أم حَرَام بنت مِلحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه... (3) ومنها : أن النبي لا يغسل ثيابه من المني : فقد أخرج مسلم عن عائشة في المني قالت : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (4).
____________
(1) صحيح مسلم 1|268 كتاب الحيض ، باب الاعتناء بحفظ العورة. صحيح البخاري 5|51 كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب بنيان الكعبة.
(2) صحيح البخاري 2|20 كتاب العيدين ، باب الحراب والدرق يوم العيد ، وباب سنة العيدين لأهل الإسلام ، وباب إذا فاته العيد يصلي ركعتين. 4|225 كتاب المناقب باب قصة الحبش. صحيح مسلم 2|607 ـ 609 كتاب صلاة العيدين ، باب رقم 4.
(3) صحيح البخاري 4|19 كتاب الجهاد ، باب الدعاء بالجهاد والشهادة. صحيح مسلم 3|1518 كتاب الإمارة ، باب رقم 49.
(4) صحيح مسلم 1|238 كتاب الطهارة ، باب حكم المني.

( 226 )

وفي رواية أخرى ، قالت : لقد رأيتني وإني لأحكُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يابساً بظفري (1).
وفي رواية ثالثة ، قالت : إن كنت لأفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يصلي فيه (2).
ومنها : أن النبي كلما أبطأ عنه الوحي أراد أن يقتل نفسه : فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما ، عن عائشة ـ في حديث طويل ـ قالت : وفَتَر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلَغَنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذِروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل ، فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال مثل ذلك (3).
هذا غيض من فيض ، ولو أردنا أن نستقصي ما روي في كتب أهل السنة من أمثال هذه الأحاديث الباطلة لطال بنا المقام ، ولخرجنا بذلك عن موضوع الكتاب ، إلا أن فيما ذكرناه غنىً وكفاية (4).
ثم كيف نجد السنة النبوية الصحيحة عند أهل السنة وهم يروون بأنهم ضيَّعوا كل شيء كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى الصلاة. فقد أخرج البخاري وغيره عن الزهري أنه قال : دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه
____________
(1) صحيح مسلم 1|240.
(2) السنن الكبرى 2|417.
(3) صحيح البخاري 9|38 كتاب تعبير الرؤيا ، الباب الأول. مسند أحمد 6|233.
(4) للأطلاع على المزيد من أمثال هذه الاحاديث راجع كتاب ( أبو هريرة ) للسيد عبدالحسين شرف الدين رضوان الله عليه ، وكتاب ( تأملات في الصحيحين ) لمحمد صادق نجمي ، وكتاب ( فاسألوا أهل الذكر ) للدكتور محمد التيجاني السماوي.

( 227 )

الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ.
وفي رواية أخرى قال : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قيل : الصلاة ؟ قال : أليس ضيَّعتم ما ضيَّعتم فيها ؟! (1)
وكيف نجد هذه السنَّة النبوية الصحيحة خالية من الكذب مع أن أبا حنيفة ـ كما قيل ـ لم يصح عنده إلا سبعة عشر حديثاً أو نحوها ، ولم يصح عند الإمام مالك بن أنس إلا ما في الموطَّأ فقط ، وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها (2).
هذا مضافاً إلى أن أهل السنة قد تفرَّقوا إلى مذاهب كثيرة ، واختلفوا في أكثر المسائل إلى أقوال عديدة ، فأين كانت هذه السنة الصحيحة الخالية من الكذب التي يلزمهم الرجوع إليها لرفع ذلك الخلاف الحاصل بينهم ؟!
ثم إنك لا تجد إماماً من أئمتهم إلا وله فتاوى غريبة وأقوال عجيبة مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وما أحسن قول الزمخشري :

إذا سألوا عن مذهبي لم أبُحْ به * وأكتمُـــهُ كتمانُـهُ لي أسلَـمُ
فإن حنفيًّا قلتُ قالوا بأننــي * أبيح الطلا وهو الشرابُ المحرَّمُ
وإن مالكيًّا قلتُ قالوا بأننـي * أبيحُ لهم أكلَ الكلابِ وهمْ هـمُ
وإن شافعيًّا قلتُ قالوا بأننـي * أبيحُ نكاح البنتِ والبنتُ تحـرمُ
وإن حنبليًّا قلتُ قالوا بأننـي * ثقيلٌ حلولي بغيـضٌ مجسِّــمُ

____________
(1) صحيح البخاري 1|133 كتاب مواقيت الصلاة وفضلها ، باب تضييع الصلاة عن وقتها.
(2) مقدمة ابن خلدون ، ص444. وأحاديث الموطأ المطبوع تنيف على الف وثمانمائة حديث أكثرها مراسيل ، ولعل المسند منها ثلاثمائة حديث أو نحوها.

( 228 )

وإن قلتُ من أهلِ الحديثِ وحزبِهِ * يقولـون تَيْسٌ ليس يدري ويفهمُ (1)

وقال ابن الحجاج :

الشافعيُّ من الأئمــةِ قائـــلٌ * اللعْبُ بالشطرنجِ غيــرُ حــرامِ
وأبو حنيفةَ قـالَ وهو مصــدَّق * فيمــا يبلِّغُــه منَ الأحكـــامِ
شُرْبُ المثلّثِ والمنصَّفِ جائــز * فاشرب على طــرَبٍ من الأيـامِ
وأباحَ مالــك الفُقاعَ تطرّقـــاً * وبه قوامُ الدينِ والإســـلامِ (2)
والحَبْرُ أحمدُ حلَّ جَلْدَ عميرة (3) * وبذاك يُستغنــى عن الأرحــامِ
فاشرب ولُط وازنِ وقامرْ واحتجِجْ * في كل مسألةٍ بقــول إمـــامِ

* * * * *

قال الجزائري : واعلم أخيراً أني لم أتقدم إليك بهذه النصيحة طمعاً فيما عندك ، أو عند غيرك من بني الناس ، أو خوفاً منك أو من غيرك من البشر ، كلا والله ، وإنما هو الإخاء الإسلامي وواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، هذا الذي حملني على أن أقدم إليك هذه النصيحة ، راجياً من الله تعالى أن يشرح صدرك لها ، وأن يهديك بها إلى ما فيه سعادتك في دنياك وآخرتك ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.

وأقـول :
لقد اتضح للقارئ العزيز أن كل ما أورده الجزائري في هذا الكتيِّب مما أطلق عليه حقائق لا يعدو أن يكون اتهامات باطلة وادعاءات فاسدة.
والظاهر أن هذا الكتيِّب قد أبرز رغبة في نفس الجزائري لتكفير الشيعة
____________
(1) تفسير الكشاف 4|310.
(2) جلد عميرة هو الاستمناء.
(3) رواه بعضهم هكذا : وأباح مالك اللواط تكرما في ظهر جارية وظهر غلام.

( 229 )

الإمامية ، فأظهر هذا التكفير في صورة نصيحة منمَّقة ، وتظاهر بأنه مشفق على الشيعة حريص على هدايتهم ، إلا أن فلتات لسانه قد فضحته ، فبدا لكل ذي عينين بادي العورة ، منكشف السريرة ، قد باء بالخيبة والخذلان ، ورجع بالحسرة والخسران.
ومن الغريب أنه في الوقت الذي يُكفِّر فيه الشيعة ويخرجهم من دائرة المسلمين ، يذْكر أن الذي حداه لهذه النصيحة هو الإخاء الإسلامي وواجب النصيحة للمسلمين ، فما أبعد ما بين حكمه على الشيعة بأنهم كفَّار ، وبين اعتبارهم إخوة مسلمين تجب عليه نصيحتهم .
وعلى كل حال ، فإن الشيعة لا يردُّون النصيحة الصادقة ، ولا يأبون سماع وأخذ الحقيقة ، ولا يرفضون الأخوة الإسلامية ، ولكن يردُّون الإتهامات الباطلة ، والإفتراءات الكاذبة ، ويمقتون إلباس الحق بالباطل والصدق بالكذب ، وتسمية الفرية حقيقة ، والغش نصيحة ، والباطل هداية .
هذا تمام ما تيسَّر لي كتابته في الرد على ما كتبه أبو بكر الجزائري في كتيّبه الذي أسماه « هذه نصيحتي إلى كل شيعي » ، ولولا خشية الإطالة لأشبعت الجواب عن كل مسألة ذكَرها بأكثر مما صنعت ، إلا أن فيما ذكرته من الردود غنىً وكفاية لكل طالب للحق راغب فيه.



هذه نصيحتي



( 232 )



( 233 )

هذه نصيحتي

نصيحتي للجزائري أن يقرأ كتابي هذا قراءة متأمِّل منصف ، ليرى أن حقـائقه قد تهدَّمت أركانها ، وصارت خاوية على عروشها ، وما كانت إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وليعلم أنه قد أذنب ذنباً فاحشاً ، وارتكب موبقة عظيمة بكتابة هذا الكتيِّب ، لأنه ألْبَسَ الحق بالباطل ، ونصر الباطل وخذل الحق ، وكفَّر طـائفة كبيرة مـن طوائف المسلمين بغير حـق ، ونسَب إليهم مـا هم بُرآء منه ، واتَّهم شيعة أهل البيت عليهم السلام بأنهم يريدون تقويض الإسلام عدوِّ المجوسية واليهودية ، وزعم أن مذهب أهل البيت عليهم السلام مذهب هدَّام مظلم ، فظَلَمَهم سلام الله عليهم أيَّ ظلم ، وجارَ على شيعتهم ومحبّيهم أيَّ جور.
فليستغفر الله من ذنبه العظيم ، وليكفِّر عن خطيئته ، وليرجع إلى ما كتبه في ذلك فيضرب عليه بالقلم ، وليكتب في نقضه ما يكون لله فيه رِضا وللناس فيه صلاح وفائدة .
وأرجو ألا يكون قد ضلَّ بكتابه واحد من جُهَّال الشيعة ، أو شكَّ مؤمن بسببه في إيمانه ، أو جزَم مبطل بسببه بباطله ، فإنه إن وقع ذلك كان الجزائري من الهالكين.
وآمُل منه ـ كما آمل من كل كاتب من كتَّاب أهل السنة ـ ألا يكتب إلا ما به تجتمع الكلمة ، وتأتلف الفرقة ، وتطيب النفوس ، وتبرأ الكلوم ،


( 234 )

وتزول الضغائن والأحقاد ، فنحن المسلمين اليوم أحوج ما نكون للألفة ، ونبذ الاختلاف والفرقة ، فإن أعداء الإسلام يتربّصون به وبأهله الدوائر ، وهم كثيرون ، والمسلمون غافلون ، بأْسُهم بينهم شديد ، قد شُغِلوا ببعضهم عن الخطر المحدق بهم الذي ينتظرهم ، فصار بعضهم يكفِّر بعضاً ، وبعضهم يطعن في بعض ، وبعضهم يحارب بعضاً.
فليكتب كل كاتب ما يسرُّه أن يكون في صحيفة أعماله الصالحة مما ينفع الناس ويمكث في الأرض ، ولا يكتب ما يكون عليه عاراً في الدنيا ووبالاً في الآخرة.
وما أحسن قول من قال :

وما مِن كاتــب إلا وتبقى * كتابته وإن فنِيـَتْ يــداهُ
فلا تكتبْ بخطِّك غير شيءٍ * يسرُّك في القيامـة أن تراهُ

وعلى الكاتب الرسالي أن يدعو إلى ما يرى أنه هو الحق بما أمر الله به الداعي إليه ، إذ قال ( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، فيسلك سبيل الرِّفق واللِّين ، ويلتزم بالحق وقول الصدق ، ويجتنب التكفير وكيل الإتهامات الباطلة ، لتتحقّق الغاية المرجوة والمنفعة المطلوبة.

* * * * *

ونصيحتي لإخواني المؤمنين من الشيعة الكرام ألا يُعنَوا بأمثال هذه الكتب الهدَّامة ، التي مُلِئتْ بالأباطيل المنمَّقة ، والإتِّهامات الملفَّقة  ، والأكاذيب المزوَّقة ، فإنها عديمة الفائدة ، معلومة المضرَّة ، لأنها إن لم تُحدِث في نفس قارئها شكًّا ، فلا بد أن تحدث في قلبه همًّا وحزناً وغيضاً.
وعليهم أن يقرأوا ما كتبه في هذا المجال علماؤنا الأعلام جزاهم الله نقَّحوا المذهب ، وزيَّفوا شُبُهات المخالفين ، وأبطلوا تشكيكاتهم وحججهم بما


( 235 )

لا مزيد عليه ، حتى بدا الحق جليًّا واضحاً لا مرية فيه ، ولا شبهة تعتريه. فإن أقل ما ينتفع به قارِئُها أنها تزيده إيماناً في دِينه ، ورسوخاً في معتقده ، ناهيك عما فيها من علم جليل نافع ، ومعرفة كثيرة بما يصح في الدين وبما لا يصح.

* * * * *

ونصيحتي لإخواني الكرام من أهل السنة ألا يأخذوا كل ما كتبه كُتَّابهم في نقض عقائد الشيعة أخذ المسلَّمات ، وليحتملوا فيه الخطأ كما يحتملون فيه الصواب ، وعليهم أن يقرأوا بالمقابل ما كتبه علماء الشيعة في هذا الشأن ، ليحصل لهم اليقين بصحة ما هم عليه أو بفساده ، ولئلا يكـونوا جائـرين في حكمهم ، ظـالمين لغـيرهم ، ومقصِّرين في حق أنفسهم ، إذا سمعوا قول أحد الخصمين المتنازعين ، ولم يسمعوا قول الآخر ، فحكموا بصحة القول الذي سمعوه دون غيره.
وليعلموا ـ وفَّقهم الله لطاعته ـ أن علماء الشيعة حمَلَة حق ودعاة إلى الصدق ، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادلون غيرهم بالتي هي أحسن ، رغبة في ثواب الله ، وطمعاً في جزيل إحسانه. وأن قضيَّتهم ليست هي تكفير أهل السنة ، أو تكفير أحد من المسلمين ، ولو شاؤوا إبداء عورات أهل السنة وكشف فضائحهم من كتبهم لفعلوا وهم قادرون ، ولكنهم رأوا أن السبيل الأقوم هو أن يدْعوا كافة طوائف المسلمين إلى الوحدة ، وأن يناشدوهم بالأخوة والمحبة والألفة ، ليكونوا معهم كالبنيان المرصوص الذي يشدّ بعضه بعضاً ، وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعَت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

* * * * *

وفي الختام أسأل الله أن يجمع شمل المسلمين ، ويوحِّد صفوفهم  ،


( 236 )

ويجمع كلمتهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجعل كلمتهم هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.