الطائفة الثانية : تدل على نقصان سورة براءة والأحزاب.
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم والهيثمي وغيرهما عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : ما تقرأون ربعها ، وإنكم تسمُّونها سورة التوبة  ، وهي سورة العذاب (1).
وأخرج الحاكم وصحَّحه وأحمد ـ واللفظ له ـ والسيوطي والبيهقي والطيالسي وغيرهم ، عن زر بن حبيش قال : قال لي أُبَي بن كعب  : كائن تقرأ سورة الأحزاب ؟ أو كائن تعدُّها ؟ قال : قلت : ثلاثاً وسبعين آية. فقال : قط ؟ لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم (2).
وفي لفظ آخر له : قال : كم تقرأون سورة الأحزاب ؟ قال : بضعاً وسبعين آية. قال : لقد قرأتُها مع رسول الله صلى الله عليه وآله مثل البقرة أو أكثر ، وإن فيها آية الرجم (3).
الطائفة الثالث : تدل على ذهاب آيات من القرآن ، منها :
1 ـ آية الرجْم : أخرج البخاري ومسلم ـ واللفظ له ـ والترمذي وأبو
____________
(1) المستدرك 2|331. وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد 7|28. وقال : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. الدر المنثور 4|120.
(2) المستدرك 4|359 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. مسند أحمد 5|132. السنن الكبرى 8|211. كنز العمال 2|480. مسند أبي داود الطيالسي، ص73. الدر المنثور 6|558 عن عبدالرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدار قطني في الأفراد والحاكم وابن مردويه والضياء في المختارة.
(3) مسند أحمد 5|132.

( 62 )

داود وابن ماجة ومالك وأحمد والحاكم والبيهقي والهيثمي وغيرهم ، عن عبد الله بن عباس ، قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجْم ، قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجَم رسول الله ورجَمْنا بعـده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : « ما نجد الرجم في كتاب الله » فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ... (1)
وفي رواية أبي داود ، قال : وأيم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتُها (2).
وفي رواية الموطأ ، قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، يقول قـائل : « لا نجد حدَّين في كتاب الله » ، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وآله ورجمنا ، والذي نفسي بيده لولا يقول الناس : « زاد عمر في كتاب الله » لكتبتها : « الشيخ والشيخة فارجموهما البتة » فإنا قد قرأناها (3).
وأخرج الحاكم عن أبي أمامة أن خالته أخبرته ، قالت : لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وآله آية الرجم : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما
____________
(1) صحيح البخاري 8|208 ـ 209 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت. صحيح مسلم 3|1317 كتاب الحدود ، باب رجم الثيب في الزنا. سنن الترمذي 4|38 ـ 39. سنن أبي داود 4|144 ـ 145 . سنن ابن ماجة 2|359. الموطأ ، ص458 حديث 1501 ، المستدرك 4|359 وصححه ووافقه الذهبي. السنن الكبرى 8|212 ـ 213. مجمع الزوائد 6|5 ـ 6.
(2) سنن أبي داود 4|144 ـ 145 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3|835 وإرواء الغليل 8|3. قال الزركشي في « البرهان في علوم القرآن » 2|36 : ظاهر قوله : « لولا أن يقول الناس ... الخ » أن كتابتها جائزة لزم أن تكون ثابتة ، لأن هذا شأن المكتوب.
(3) الموطأ ، ص458.

( 63 )

قضيا من اللذة (1).
2 ـ آية ثانية : ورد ذكرها في حديث طويل أخرجه البخاري عن ابن عباس ، أن عمر قال : ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : « أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم » (2).
3 ـ آية ثالثة : تقدم ذكرها في الطائفة الأولى ، وهي قوله : « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ».
وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى عمر رحمه الله يسأله ، فجعل عمر ينظر إلى رأسه مرة وإلى رجليه أخرى ، هل يرى عليه من البؤس ، ثم قال له عمر : كم مالك ؟ قال : أربعون من الإبل. قال ابن عباس : قلت : صدق الله ورسوله : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب  ، ويتوب الله على من تـاب . فقال عمر : مـا هذا ؟ قلت : هكذا أقرأنيها أُبيّ. قال : فمُرْ بنا إليه. قال : فجاء إلى أُبي ، فقال : ما يقول هذا ؟ قال أُبي : هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله. قال : أفأثبتُها في المصحف ؟ قال : نعم (3).
وأخرج الترمذي ـ واللفظ له ـ وأحمد والطيالسي والحاكم والسيوطي والهيثمي وغيرهم عن أُبي بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له : إن الله أمرني أن أقرأ عليك. فقرأ عليه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب )
____________
(1) المستدرك 4|359 وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه بهذه السياقة. ووافقه الذهبي.
(2) صحيح البخاري 8|210 كتاب المحاربين أهل من الكفر والردة ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
(3) عن مجمع الزوائد 7|141 وقال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

( 64 )

فقرأ فيها : إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة ، لا اليهودية ولا النصرانية  ، مَن يعمل خيراً فلن يكفره. وقرأ عليه : ولو أن لابن آدم وادياً من مال لابتغى إليه ثـانياً ، ولو كـان له ثانياً لابتغى إليه ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب (1).
الطائفة الرابعة : تدل على سقوط كلمات من بعض آيات القرآن أو زيادتها.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري أن أبا الدرداء سأل علقمة ( راوي الحديث ) ، قال : كيف كان عبد الله (2) يقرأ ( والليل إذا يغشى * والنـهار إذا تجلى ). قلت : ( والذكر والأنثى ). قال : ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستزلوني عن شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله (3).
وفي رواية أخرى : فقرأت ( والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى ). قال : أقرأنيها النبي صلى الله عليه وآله فاه إلى فيَّ ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يَردُّوني (4).
ومنه ما أخرجه الحاكم وغيره عن علي رضي الله عنه ، أنه قرأ :
____________
(1) سنن الترمذي 5|665 ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. مسند أحمد 5|132. مسند أبي داود الطيالسي ، ص73. المستدرك 2|224 ، 531 ، وقال الحاكم في الموضعين : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد 7|140. الدر المنثور 8|586 ـ 588. تفسير القرآن العظيم 4|536.
(2) يعني ابن مسعود.
(3) صحيح البخاري 5|31 كتاب فضائل أصحاب النبي (ص) ، باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما.
(4) المصدر السابق 5|35 كتاب فضائل أصحاب النبي (ص) ، باب مناقب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

( 65 )

والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر (1).
وأخرج مسلم وغيره عن أبي يونس مولى عائشة ، أنه قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً ، وقالت : إذا بلغتَ هذه الآية فآذنِّي : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ). فلما بلغتُها آذنتُها ، فأملَتْ عليَّ : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله (2).
الطائفة الخامسة : تدل على أن المعوذتين ليستا من القرآن.
ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند  ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قـال : كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يَحُكّ المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله (3).
قال السيوطي : أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طُرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يَحُك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه ، إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أُمر النبي صلى الله عليه وآله أن يتعوذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما (4).
هذا مع أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : مَن أحبّ أن يقرأ القرآن
____________
(1) المستدرك 2|534 وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. الدر المنثور 8|621. تفسير الطبري 30|187 وزاد : وإنه فيه : إلى آخر الدهر.
(2) صحيح مسلم 1|437 كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب رقم 36. سنن الترمذي 5|217. سنن النسائي 1|236. سنن أبي داود 1|112.
(3) مسند أحمد بن حنبل 5| 129 ـ 130. وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7|149 وقال : رواه عبدالله بن أحمد والطبراني ، ورجال عبدالله رجال صحيح ، ورجال الطبراني ثقات.
(4) الدر المنثور 8|683. وراجع مجمع الزوائد 7|149. قال الهيثمي : رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات.

( 66 )

غضاً كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد (1) ـ يعني ابن مسعود.
ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام كل عام مرة ، فلما العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين ، وكان آخر القراءة قراءة عبد الله (2).
ورووا عن مسروق أنه قال : ذُكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال : ذلك رجل لا أزال أُحبه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ـ فبدأ به ـ وسالم مولى أبي حذيفة ومعاد بن جبل وأُبي بن كعب (3).
قال الفخر الرازي : إن قلنا إن كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما ، وإن قلنا إن كونهما من القـرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر .
قال : وهذا عقدة عصبة (4).

* * * * *

هذا غيض من فيض ، ولو شئنا أن نذكر كل ما وقفنا عليه من هذه
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|49. مسند أحمد 1|7 ، 26 ، 38 ، 445 ، 454. المستدرك 3|227 ، 318 وصححه الحاكم على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي. مجمع الزوائد 9|287 أخرجه بطرق رجاله بعضها ثقات. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1|29 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5|379.
(2) مجمع الزوائد 9|288 قال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(3) صحيح البخاري 5|45 باب مناقب أبي بن كعب ، ص34 باب مناقب بن مسعود. صحيح مسلم 4|1913 كتاب فضائل الصحابة ، باب 22. سنن الترمذي 5|674. المستدرك 3|225 ، 527.
(4) فتح الباري 8|604.

( 67 )

الأحاديث لطال بنا المقام ، وخرجنا عن موضوع الكتاب.
وهنا نسأل الجزائري : ألا تدل هذه الأحاديث الصحيحة على تكذيب قول الله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ؟
فإن أجاب : بأن هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن من آيات القرآن الكريم ما نُسخت تلاوته ، بمعنى أن آية الرجم وغيرها كانت مما أُنزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله ، إلا أنها نُسخت ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بإزالتها من المصاحف ونهى عن التعبد بتلاوتها.
قلنا له : إن ظاهر كثير من الأحاديث يدفع هذا التخريج ، فإن قول عمر : « لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها » دال ـ كما تقدّم عن الزركشي ـ على أن هذه الآية كانت ثابتة في كتاب الله ، إلا أن خوف عمر من الناس منعه عن كتابتها في المصحف .
كما أن جواب أُبيّ بن كعب بـ « نعم » ، لما سأله عمر عن إثبات « لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » في المصحف ، دال بوضوح على أنها من القرآن  ، ولم تُنسخ تلاوتها ، وإلا لما جاز إثباتها في المصحف.
وقول أبي الدرداء : « ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستزلّوني عن شيء سمعته من رسول الله » ظاهر في أن ( وما خلق الذكر والأنثى ) ليست من القرآن المنزل على النبي ، وإنما هو شيء أثبته القوم من عند أنفسهم.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على ما قلناه.
هذا مضافاً إلى أن هناك أحاديث أُخر تصرِّح بأن التحريف وقع بعد زمان النبي صلى الله عليه وآله :
منها : ما أخرجه مسلم ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وغيرهم عن عائشة ، أنها قالت : كان فيما أُنزل من القرآن « عَشر رضعات معلومات


( 68 )

يُحرِّمن » ثم نُسخن بـ « خمس معلومات » ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهن فيما يُقرأ من القرآن (1).
ومنها : ما أخرجه ابن ماجة وأحمد والدارقطني وغيرهم عن عائشة  ، قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وتشاغلنا بموته دخَل داجن (2) فأكلها (3).
ومنها : ما أخرجه السيوطي عن عائشة ، قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم يُقْدَر منها إلا على ما هو الآن (4).
وأخرج عن حميدة بنت أبي يونس ، قالت : قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة « إن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصَلّون في الصفوف الأُوَل ». قالت : قبل أن يغير عثمان المصاحف (5).
وعن ابن عمر ، قال : لَيقولنَّ أحدكم : « قد أخذتُ القرآن
____________
(1) صحيح مسلم 2|1075 كتاب الرضاع ، باب 6. الموطأ ، ص324 كتاب الرضاعة ، باب 3. سنن الترمذي 3|456. سنن أبي داود 2|223 ـ 224. سنن النسائي 6|100. صحيح سنن أبي داود 2|389. صحيح سنن النسائي 2|696. إرواء الغليل 7|218. سنن الدارمي 2|157. السنن الكبرى 7|454. كتاب الأم 5|26.
(2) الداجن : هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم ، وقد يطلق على غير الشاة مما يألف البيوت كالطير وغيرها.
(3) سنن ابن ماجة 1|625 ـ 626. مسند أحمد 6|269. سنن الدارقطني 4|179. الدر المنثور 2|471 في تفسيره الآية 23 من سورة النساء. صحيح سنن ابن ماجة 1|328.
(4) الدر المنثور 6|560. الإتقان في علوم القرآن 2|52 ـ 53.
(5) الإتقان في علوك القرآن 2|53.

( 69 )

كلّه » ، وما يدريه ما كلّه ، قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقُل : قد أخذتُ منه ما ظهر (1).
وثانياً : أن ما ذكروه من آية الرجم وغيرها لا يشبه أُسلوبها الأُسلوب القرآني ولا يدانيه ، بل هو كلام ألفاظه ركيكة ، ومعانيه ضعيفة ، لا يصح نسبة مثله إلى الله جل شأنه.
والحاصل أن دلالة هذه الأحاديث على التحريف ثابتة ، لا تندفع بما قالوه من نسخ التلاوة وغيره من الوجوه التي لا يخفى ضعفها.

* * * * *

قال الجزائري : هل يجوز لأهل البيت أن يستأثروا بكتاب الله تعالى وحدهم دون المسلمين إلا من شاؤوا من شيعتهم ؟!

أقول :
أما كتاب الله العزيز فهو بين أيدي المسلمين ، لم يرفعه الله تعالى منذ أن أنزله على نبيه الكريم صلى الله عليه وآله. وأما فهم معانيه الظاهرة والباطنه ومعرفة أحكامه فهو مما اختص الله به أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وأهل البيت عليهم السلام لم يألوا جهداً في هداية الناس وإرشادهم والنصح لهم ، إلا أن كثيراً من الناس أعرضوا عنهم ورغبوا عما عندهم ، وقدموا غيرهم عليهم.
وقوله : « أليس هذا احتكاراً لرحمة الله واغتصاباً لها ، يُنَزَّه أهل البيت عنه » كلام ركيك المعنى ، إذ كيف يتحقق احتكار الرحمة واغتصابها حتى يُنزَّه أهل البيت عليهم السلام عنها ؟!
إن رحمة الله سبحانه واسعة كما قال الله في كتابه العزيز
____________
(1) المصدر السابق 2|52.
( 70 )

( ورحمتي وسعت كل شيء ) (1) ، إلا أنه تعالى قد يختص بعض عباده برحمة منه كما قال ( والله يختص برحمته من يشـاء والله ذو الفضل العظيم ) (2) ، وقال ( نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) (3).
وفهْم أهل البيت عليهم السلام معاني القرآن ومعرفة أحكامه رحمة اختصهم الله سبحانه وتعالى بها فيما اختصّهم به ، وهذا لا محذور فيه.

* * * * *

قال : اللهم إنا لنعلم أن آل بيت رسولك بُرَآء من هذا الكذب  ، فالعن اللهم من كذب عليهم وافترى.

أقول :
لقد أوضحنا فيما تقدم أنا لم نقُل إن كل إمام من أئمة العترة النبوية الطاهرة جمع ألفاظ القرآن الكريم في مصحف ، فإنا قد بيَّنا فساده.
بل الذي ذهب إليه مَن وقفنا على قوله من علماء الشيعة الأبرار أن القرآن كان مجموعاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله غير متفرق.
فقد ذكر أمين الإسلام الطبرسي رضوان الله عليه ( ت 548هـ ) ما أفاده السيد المرتضى رحمه الله في هذه المسألة إذ قال :
وذكر [ في أجوبة المسائل الطرابلسيات ] أيضاً أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله مجموعاً مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن  ، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يُدرَس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه كان يُعرَض على النبي صلى الله عليه وآله ويُتلَى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأُبَي بن كعب
____________
(1) سورة الاعراف ، الآية 156.
(2) سورة البقرة ، الآية 105.
(3) سورة يوسف ، الآية 56.

( 71 )

وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله عدة ختمات ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتَّباً غير مبتور ولا مبثوث. وذكَر أن مَن خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يُعتَد بخلافهم ، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحَّتها ، لا يُرجَع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته (1).
وقال السيد شرف الدين قدس سره : إن القرآن عندنا كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة ، مؤلَّفاً على ما هو عليه الآن ، وقد عرَضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وتَلَوه عليه من أوله إلى آخره ، وكان جبرئيل عليه السلام يعارضه صلى الله عليه وآله بالقرآن في كل عام مرة ، وقد عارضه به عام وفاته مرتين ، وهذا كله من الأمور الضرورية لدى المحقّقين من علماء الإمامية ، ولا عبرة ببعض الجامدين منهم ، كما لا عبرة بالحشوية من أهل السنة القائلين بتحريف القرآن والعياذ بالله ، فإنهم لا يفقهون (2).
وهذا ما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة ، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأحمد والطيالسي وغيرهم ، عن أنس رضي الله عنه أنه قال : جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله أربعة كلهم من الأنصار : أُبَيّ ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد بن ثابت (3).

* * * * *

قال الجزائري : لازم هذا الاعتقاد أن طائفة الشيعة هم وحدهم
____________
(1) مجمع البيان 1|15.
(2) أجوبة مسائل جار الله ، ص30.
(3) صحيح البخاري 5|45 كتاب مناقب الأنصار ، باب مناقب زيد بن ثابت. صحيح مسلم 4|1914 ، 1915 كتاب فضائل الصحابة ، باب رقم 23. سنن الترمذي 5|666. مسند أحمد 3|233 ، 277. مسند أبي داود الطيالسي ، ص270.

( 72 )

أهل الحق والقائمون عليه ، لأنهم هم الذين بأيديهم كتاب الله كاملاً غير منقوص ، فهم يعبدون الله بكل ما شرع. وأما من عداهم من المسلمين فهم ضالون لحرمانهم من كثير من كتاب الله تعالى وهدايته فيه .

أقول :
كل طائفة من طوائف هذه الأمة تعتقد أو تدَّعي بأنها هي الطائفة المحقِّة والفرقة الناجية ، أهل السنة والشيعة في ذلك سواء.
والشيعة الإمامية يعتقدون بأنهم هم أهل الحق ، لأنهم تأمَّلوا المذاهب ، ونظروا في قول النبي صلى الله عليه وآله : « ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة » (1) ، ورأوا أن النبي قد عيَّن هذه الفرقة في أحاديث
____________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 5|25 ، 26 ، وأبو داود في سننه 4|197 ، 198 ، وابن ماجة كذلك 2|1321 ، 1322 ، والدارمي كذلك 2|241 ، واحمد في المسند 2|32 ، 3|120 ، 145 ، والحاكم في المستدرك 1|6 ، 128 ، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8|258 ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1|7 ، 25 ، 32 ، 33 ، والسيوطي في الجامع الصغير 1|184 ، والدر المنثور 2|289 ، والبيهقي في السنن الكبرى 10|208 ، والبغوي في شرح السنة 1|213 ، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح 1|61 ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 3|86 ، 87 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 7|258 ، 260. وصححه الترمذي والحاكم والذهبي والبغوي والسيوطي فيما تقدم من كتبهم ، والبوصيري في مصباح الزجاجة 3|239 ، والسخاوي في المقاصد الحسنة ، ص158 ، والشاطبي في الاعتصام 2|189 ، والسفاريني في لوامع الأنوار البهية 1|93 ، والزين العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار 3|230 ، وابن تيمية في كتاب المسائل كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1|359 ، والألباني في سلسلته الصحيحة 1|356 ، 358 ، وصحيح الجامع الصغير 1|245 ، 516 ، وصحيح سنن أبي داود 3|869. وصحيح سنن ابن ماجة 2|364 ، بل ادعى السيوطي تواتره كما في فيض القدير 2|21 ، وكذلك الكتاني في نظم المتناثر ، ص57.
( 73 )

صحيحة ، منها قوله صلى الله عليه وآله : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما فلن تضلُّوا بعدي أبداً » (1) ، وكَشَف المراد بأهل بيته في أحاديث أخر ، حيث قال  : « اللهم هؤلاء أهلي » أو «... أهل بيتي » (2) ، يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
وعيَّن صلى الله عليه وآله عدد أئمة الحق بقوله : « لا يزال الاسلام عزيزاً إلى اثني
____________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 5|662 ، 663 ، وأحمد في المسند 3|14 ، 17 ، 26 ، 59 ، 5|181 ، 189 ، والحاكم في المستدرك 3|109 ـ 110 ، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2|194 ، وابن ابي عاصم في كتاب السنة ، ص629 ـ 630 ، والسيوطي في الجامع الصغير 1|402 والدر المنثور 7|349 في تفسير الآية 23 من سورة الشورى ، وفي إحياء الميت ، ص 28 ، 29 ، 39 ، 40 ، 48 ، 55 ، 56 ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 4|65 ، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح 3|1735 ، أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء 1|335 ، والبغوي في شرح السنة 14|119 ، والنسائي في خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ص96 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 1|170 ، 9|162 وما بعدها ، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4|113 ، وفي البداية والنهاية 5|184. وصححه الترمذي والحاكم والذهبي والسيوطي وابن حجر العسقلاني والهيثمي وابن كثير فيما تقدم من كتبهم . وصححه كذلك ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ، ص45 ، 228 ، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4|355 وصحيح الجامع الصغير 1|482.
(2) قال صلى الله عليه وآله ذلك في أحاديث كثيرة ، مها حديث المباهلة وحديث الكساء. راجع صحيح مسلم 4|1871 ، 1883 ، وسنن الترمذي 5|225 ، 352 ، والمستدرك 3|108 ـ 109 ، 133 ، 146 ، 147 ، 150 ، 158 ، ومجمع الزوائد 9|166 ، وما بعدها ، ومسند أحمد 1|185 ، 330 ـ 331 ، 4|107 ، 6|292 ، 323 ، والاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9|61 ، والسنن الكبرى 2|149 ، ومسند أبي داود الطيالسي ، ص274 ، وكتاب السنة ، ص588 ـ 589 ، ومشكاة المصابيح 3|1731 ، والدر المنثور 6|603 وما بعدها في تفسير آية التطهير ، وتاريخ بغداد 10|278 ، وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ص 30 ـ 7 ، 47 ـ 49 ، 73.

( 74 )

عشر خليفة... كلهم من قريش » (1). ورأوا أن أئمة أهل البيت الاثني عشر قد اتفقت الأمة على نجاتهم ونجاة أتباعهم.
فلما رأوا كل ذلك اتبَّعوهم ، فصاروا بذلك هم الناجين دون غيرهم (2).
أما أن الشيعة رأوا أنهم هم أهل الحق لما قاله الجزائري فهذا غير صحيح ، وقد أوضحنا ذلك فيما تقَّدم ، فلا نعيده.

* * * * *

قال الجزائري : أرأيت لو قيل لهذا القائل : أرِنا هذا القرآن الذي خَصَّ به آل البيت شيعتهم ، أرنا منه سورة أو سوراً ـ يتحداه في ذلك  ، فماذا يكون موقفه ؟
____________
(1) أخرج حديث الخلفاء الاثني عشر باختلاف ألفاظه : البخاري في صحيحه 9|101 كتاب الأحكام ، باب 51 ، ومسلم في صحيحه 3|1452 ـ 1454 كتاب الإمارة ، باب 1 بتسعة طرق ، والترمذي في سننه 4|501 بطريقين صححهما ، وأبو داود في مسنده 4|106. بثلاثة طرق صحّحها الألباني في صحيح سنن أبي داود 3|807 . وأخرجه أحمد في مسنده 1|398 ، 5|86 ـ 90 ، 92 ـ 101 ، 106 ـ 108 ، والحاكم في المستدرك 3|617 ، 618 ، وأبو داود الطيالسي في مسنده ، ص180 ، وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الاولياء 4|333 ، وأبو عوانة في مسنده 4|396 ـ 399 ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة 2|518 ، 534 ، 544 ، 549 ، والبيهقي في دلائل النبوة 6|519 ـ 523 والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2|126 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 5|190 ، 191 ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 2|197 ، وابن حبان في صحيحه كما في الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8|226 ، 229 ، 230 ، والبغوي في شرح السنة 15|30 ، 31 والألباني في صحيح ابن الجامع الصغير 2|1274 ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1|651 رقم 376 ، 2|690 رقم 964.
(2) راجع كتابنا دليل المتحيرين ، فإنا ذكرنا فيه مزيداً من الأدلة الدالة على ان الفرقة الناجية هم الشيعة الإمامية دون غيرهم.

( 75 )

أقول :
إن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يخصُّوا شيعتهم بقرآن غير هذا القرآن الذي يتداوله الناس ، ولو كان عندهم قرآن آخر لأظهروه ولما خافوا في الله لومة لائم ، وكل مَن نسب إليهم غير هذا فهو كاذب مفترٍ عليهم ، وقد أوضح ذلك أعلام المذهب في مصنفاتهم المعروفة ، وأثبتوا أن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو ما بين الدفتين ، لم يُزَد فيه ولم يُنقَص منه.
قال الشيخ الصدوق : إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سُوَره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة... ومَـن نسب إلينا أنا نقول : « إنه أكثر من ذلك » فهو كاذب (1).
وقال أمين الاسلام الطبرسي ( ت 548 هـ ) : الكلام في زيادة القرآن ونقصانه... لا يليق بالتفسير ، فأما الزيادة فيه فمُجمَع على بطلانها ، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييراً ونقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء (2).
وقال شيخ الطائفة الشيخ الطوسي ( ت 460 هـ ) : الكلام في زيادته ونقصانه... الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهـو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى رحمه الله ، وهو الظاهر في الروايات (3).
وقال الشيخ المفيد أعلى الله مقامه : أما النقصان فإن العقول لا تحيله ولا تمنع منه... وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنه لم ينقص من
____________
(1) الاعتقادات ، ص74 ـ 75.
(2) مجمع البيان 1|15.
(3) التبيان في تفسير القرآن 1|3.

( 76 )

كلِمِه ولا من آيِهِ ولا من سورِه ، ولكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله...
وقد يسمَّى تأويل القرآن قرآناً... وعندي أن هذا القول أشبه مِن مقال مَن ادَّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل  ، وإليه أميل.
وقال : وأما الزيادة فمقطوع على فسادها (1).
وقال السيد رضي الدين ابن طاووس ( ت 664 هـ ) : كان القرآن مصوناً من الزيادة والنقصان كما يقتضيه العقل والشرع (2).
وقال الميرزا محمد حسن الإشتياني قدس سره : المشهور بين المجتهدين والأصوليين ، بل أكثر المحدثين عدم وقوع التغيير مطلقاً ، بل ادّعى غير واحد الإجماع على ذلك (3).
والحاصل أن القول بسلامة القرآن من التحريف بالزيادة أو النقصان هو الذي عليه عامة علماء الشيعة الإمامية قديماً وحديثاً ، ومن ذهب إلى غير هذا القول فهو شاذ لا يعتد به ولا يعول عليه.
____________
(1) أوائل المقالات ، ص91 ـ 92.
(2) سعد السعود ، ص193 ـ 194.
(3) بحر الفوائد ، ص99.