وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن الحديث فيه مدح للإمام عليه السلام بأنه وقى شيعته بنفسه ، فكيف يتحقق بهته عليه السلام بذلك ؟!
هذا مع أن الجزائري قد أكثر من الحلف بالله على ما لا يعلم ، والله سبحانه يقول ( ولا تجعلوا الله عرضة لأَيمانكم ) (1) ، فحلفه دائر بين أمرين اثنين ، لأنه لا يخلو إما أن يكون كاذباً فحلفه محرَّم ، وإما أن يكون صادقاً فحلفه مكروه.
قال الفخر الرازي : الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني ـ وهو الأحسن ـ أن قوله ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به.
وقال : وقد ذم الله تعالى مَن أكثر الحلف بقوله ( ولا تطع كل حلاَّف مهين ) وقال ( واحفظوا أيمانكم ) ، والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف... والحكمة في الأمر بتقليل الأَيمان أن مَن حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يؤمَن إقدامه على اليمين الكاذبة ، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين ، وأيضاً : كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ، ومن كمال العبودية أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية (2).

* * * * *

قال الجزائري : 3 ـ اعتقاد نبوّة موسى الكاظم رحمه الله ، وما هو والله بنبي ولا رسول ، فقول المفتري : إن الله أخبر موسى الكاظم بأنه غضبان على الشيعة ، وأنه خيَّره بين نفسه وشيعته فاختار شيعته ، ورضي لنفسه
____________
(1) سورة البقرة ، الآية 224.
(2) التفسير الكبير 6|75.

( 140 )

بالقتل فداءاً لهم ، يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم ، مع العلم بأن المسلمين مجمعون على كفر من اعتقد نبوة أحد بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك لتكذيبه بصريح قوله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ).

والجـواب :
أن عقيدة الشيعة الإمامية في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام أشهر من أن تُذكر ، وأظهر من أن تُنكر ، ولا أحد من الشيعة يعتقد بنبوة الإمام الكاظم أو غيره من الأئمة عليهم السلام.
والحديث الذي رواه الكليني رحمه الله مع ضعفه لا يدل على أن الله سبحانه أوحى إلى الإمام عليه السلام ، ولو سلَّمنا بدلالته على ذلك فالوحي لا يستلزم النبوة ، فإن الله جل شأنه أوحى إلى أُم موسى عليه السلام ، فقال ( وأوحينا إلى أُم موسى أن أرضعيه فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) (1).
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى ( قال قد أُوتيتَ سؤلك يا موسى * ولقد منَنَّا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أُمك ما يوحى ) (2) : اتفق الأكثرون على أن أُم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل ، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء. وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة ، بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكَّن من تزويج نفسها ، فكيف تصلح للنبوة ؟! ويدل عليه قوله تعالى ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ) ، وهو صريح في الباب ، وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة ، قال تعالى ( وأوحى ربّك إلى
____________
(1) سورة القصص ، الآية 7.
(2) سورة طه ، الآيات 36 ـ 38.

( 141 )

النحل ) ، وقال ( وإذ أوحيت إلى الحواريين ) (1).
وقال القرطبي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أُوحي إليها كما أوحي إلى النبيين (2).
والحاصل أن زعمه بأن الحديث يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم زعم باطل ، فإن الحديث بمنطوقه لا يدل ـ كما قلنا ـ على أكثر من أن الإمام الكاظم عليه السلام قد علم أن الله غضب على جماعة من الشيعة ، فخيَّره الله نفسه أو الشيعة ، فاختار عليه السلام وقايتهم بنفسه.
أما كيف علم الإمام عليه السلام أن الله قد غضب على الشيعة  ، وكيف خيَّره الله بين ذينك الأمرين ، فهذا لم يتضح لا من منطوق الحديث ولا من مفهومه كما هو واضح ، وقد بيَّنَّاه فيما تقدم .
وأما المفهوم ، فإن كان لهذا الحديث مفهوم فهو مفهوم اللقَب ، وهو غير حجة كما هو معلوم عند الأصوليين.
والظاهر أن الجزائري ذكر هذه الكلمة وهو لا يعرف معناها في الاصطلاح ، ويدل على ذلك زعمه دلالة المنطوق والمفهوم كليهما على معنى واحد ، وهو غير صحيح ، لأن المنطوق والمفهوم لا بـد أن يـدل كل واحد منهما على معنى لا يدل عليه الآخر ، وهو واضح لمن لديه أدنى معرفة بالمفاهيم.
وعلى كل حال ، فإنا لو سلَّمنا جدَلاً بدلالة هذا الحديث على ما قاله فعقيدة الشيعة في الإمام موسى الكاظم عليه السلام معروفة غير خافية على أحد ، ولا يمكن أن يُشكَّك فيها بحديث ضعيف مروي في كتاب الكافي أو في غيره من مصادر الحديث المعتمدة عند الشيعة.
____________
(1) التفسير الكبير 22|51.
(2) الجامع لأحكام القرآن 11|195.

( 142 )

قال الجزائري : 4 ـ إتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء ، فكما أن النصارى يعتقدون أن عيسى فدى البشرية بنفسه ، إذ رضي بالصلب تكفيراً عن خطيئة البشرية ، وفداءً لها من غضب الرب وعذابه ، فكذلك الشيعة يعتقدون بحكم هذه الحقيقة أن موسى الكاظم خيَّره ربه بين إهلاك شيعته أو قتل نفسه ، فرضي بالقتل وفدى الشيعة من غضب الرب وعذابه ، فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهما واحدة ، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عز وجل ، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان ؟

قد هيَّؤوكَ لأمــرٍ لو فطنتَ له * فاربأ بنفسِكَ أن ترعَى مع الهمَلِ

والجـواب :
أنا قد أوضحنا أن الحديث الذي بنى عليه الجزائري حقيقته هذه مع ضَعفه لا يدل على ما ادَّعى الجزائري دلالته عليه ، والذي دلَّ عليه الحديث ـ كما مرَّ مكرَّراً ـ أن الإمام عليه السلام قد وقى الشيعة بنفسه لئلا يقتلهم هارون الرشيد ، لا أن قتله عليه السلام كان تكفيراً عن ذنوب الشيعة وفداءً لهم من غضب الرب وعذابه كما زعم الجزائري.
ولعل غضب الله عليهم إنما كان لتركهم التقية كما تقدم ، إذ صرَّحوا باسم الإمام عليه السلام ، أو لأنهم تركوا طاعة الإمام عليه السلام فعملوا ما يستوجب غضب الرشيد ، فرأى الإمام عليه السلام أنه إن نجا بنفسه تتبَّع الرشيد الشيعة ولاحقهم ، فإما أن يهلكهم ، أو يظفر بالإمام عليه السلام ، فاختار الإمام عليه السلام أن يظهر للرشيد وقاية للشيعة مما يتوقع نزوله بهم من القتل.
فالإمام عليه السلام أخبر بأنه فعل ما يوجب حفظ الشيعة وحقن دمائهم مع ما صدر منهم من الأفعال التي نتج عنها تعريض الإمام عليه السلام للقتل.
والحاصل أن الحديث لا يدل على أن الإمام فدى الشيعة من غضب الله وعذابه حتى يلزم منه اتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء.


( 143 )

ولو سلَّمنا بدلالة الحديث على ذلك فمع ضعف سنده لا يصلح للاحتجاج به على شيء.
ومع الإغماض عن ذلك ، وتسليم أن الشيعة يعتقدون أن الإمام الكاظم عليه السلام قد فداهم من غضب الرب وعذابه ، فهذا لا يستلزم أن تكون عقيدة الشيعة والنصارى واحدة ، لأن النصارى يعتقدون ذلك في المسيح عليه السلام لا الإمام الكاظم ، ولو سلمنا بأن الشيعة يعتقدون الفداء من الإمام الكاظم عليه السلام ، فهم لا يعتقدون ذلك من المسيح عليه السلام ، ومجرد تشابه المعتقدات من بعض الجهات لا يعني اتحادها ، فإن النصارى يعتقدون أن المسيح عليه السلام هو خاتم الأنبياء ، والمسلمون يعتقدون أن خاتمهم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في إحدى العقائد ، وإلا لكان المسلمون والوثنيون وعُبَّاد غير الله سبحانه متَّحدين في عقيدة الربوبية ، وهذا باطل بالإتفاق.
هذا مع أن مجرد الإتحاد بين الإديان في بعض المعتقدات لا يدل على اتحادها في كل العقائد ، فإن المسلمين والنصارى يعتقدون بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان ، وهـذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في عقائدهم حتى يترتب على أولئك ما يترتب على هؤلاء  ، ويلزم إحدى الطائفتين ما يلزم الأخرى.
والحاصل أن الشيعة والنصارى لم تتَّحد عقيدتهم في هذه المسألة التي ذكرها ، وهي عقيدة الصلب والفداء ، ولو سلَّمنا جدلاً باتحادهم فيها ، فهذا لا يعني أن عقائد الشيعة والنصارى واحدة كما هو واضح .
ومنه يتَّضح وجه المغالطة الواهية في قوله : فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهم واحدة ، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عز وجل ، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان ؟!


( 144 )

قال الجزائري : وأخيراً ، انقذ نفسك أيها الشيعي ، وتبرَّأ من هذه الخزعبلات والأباطيل ، ودونك صراط الله وسبيل المؤمنين.

وأقول :
إن الشيعي بحمد الله ومنِّه قد أنقذ نفسه بالسير في صراط الله المستقيم  ، واتَّباع سبيل المؤمنين ، والتمسّك بكتاب الله العزيز ، والعترة النبوية الطاهرة ، أخذاً بوصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمته حيث قال : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلِّفونِّي فيهما.
وقال : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس (1).
وقال : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها غرق (2).
وما أحسن قول القائل :

لما رأيتُ النــاسَ قد ذهبتْ بهـم * مذاهبُهم في أبحــر الغي والجهـلِ
ركبت على اسم الله في سفن النجا * وهم أهل بيت المصطفى سيدِ الرُّسْلِ

____________
(1) المستدرك 3|149 وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. مجمع الزوائد 9|168. إحياء الميت ، ص41 ـ 42. الخصائص الكبرى 2|266. حلية الاولياء 4|306. تاريخ بغداد 12|91. وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير 2|533 ورمز له بالحسن.
(2) المستدرك 2|343 ، 3|150. مجمع الزوائد 9|168. مشكاة المصابيح 3|1742. إحياء الميت ، ص41 ـ 42. الخصائص الكبرى 2|266. حلية الاولياء 4|306. تاريخ بغداد 12|91. المعجم الصغير 1|139|140.

( 145 )

وأمسكتُ حبلَ الله وهـو ولاؤهــم * كما قد أُمرنا بالتمسُّــك بالحبــلِ
إذا افترقتْ في الدين سبعون فرقـةً * فقُل لي بها يا ذا الرجاحة والعقــلِ
أفي الفِرقــة الهُلاَّك آلُ محمــدٍ * أم الفرقة اللاتي نجَتْ ؟ قــل لـي
فإن قلتَ في الناجين فالقـول واحد * وإن قلتَ في الهُلاَّك حدتَ عن العدل
إذا كان مولى القوم منهــم فإننـي * رضيتُ بهم لا زال في ظلِّهم ظلّـي
رضيتُ عليًّا لي إمامـاً ونسلَـــه * وأنت من الباقين في أوسـع الحِـل

ولهذا كان الشيعة هـم الفائزين الناجين من كـل فِرَق هذه الأمة ، وهـذا ما أخبر بـه الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال  : عليٌّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة (1).
ولما نزل قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) (2) ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : هو أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين (3).
ولستُ أدري بمَ يعتذر الجزائري وغيره عن طرح الأحاديث الصحيحة ـ كحديث الثقلين وغيره ـ الدالَّة بما لا يدع مجالاً للشك على لزوم اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم ، ناهيك عن غيرها من الأدلة الأخرى الكثيرة التي مُلِئتْ بها كتبهم.
وعليك قارئي العزيز بمطالعة ما كتبناه في كتابينا ( دليل المتحيِّرين ) و( مسائل خلافية ) من الأدلِّة الدالة على لزوم اتِّباع مذهب أهل البيت عليهم
____________
(1) الدر المنثور 8|589. فتح القدير 5|477. ترجمة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق 2|348. شواهد التنزيل ، ص820. الفردوس بمأثور الخطاب 3|61.
(2) سورة البينة ، الآية 7.
(3) جامع البيان في تفسير القرآن 30|171. الدر المنثور 8|589. فتح القدير 5|477. الصواعق المحرقة ، ص191. شواهد التنزيل ، ص814 ـ 819.

( 146 )

السلام ، وعلى أن أَتْباعهم بحق هم الشيعة الإمامية ، فإنه مهم جداً.


( 147 )

كشف
الحقيقة السَّادسة



( 148 )



( 149 )

قال الجزائري :

الحقيقة السادسة

اعتقاد أن أئمة الشيعة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العصمة والوحي
والطاعة وغيرها ، إلا في أمر النساء ، فلا يحل لهم ما يحل له صلى الله عليه وآله وسلم

هذا المعتقد الذي يجعل أئمة الشيعة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله أثبته صاحب الكافي بروايتين :
أولهما : أنه قال : كان المفضَّل عند أبي عبد الله ، فقال له : جُعلتُ فداك ، أيفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء ؟ فقال له أبو عبد الله ـ الإمام ـ : لا ، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً.

وأقـول :
هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها سهل ، وهو سهل بن زياد ، وقد مرّ بيان حاله.
ومن رواتها أيضاً جماعة بن سعد الخثعمي أو الجعفي ، وهو ضعيف في الحديث ، خطَّابي المذهب ، خرج مع أبي الخطاب الملعون على لسان


( 150 )

الإمام الصادق عليه السلام وقُتل معه.
وقد ضعَّفه ابن الغضائري وابن داود (1) والعلاَّمة الحلي (2) والمامقاني (3) والخوئي (4) وغيرهم (5).
ثم إن هذه الرواية كما لا يخفى لا تدل على ما عنوَن الجزائري به حقيقته هذه ، من أن الأئمة عليهم السلام بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العصمة والوحي والطاعة وغيرها.

* * * * *

قال الجزائري : فهذه الرواية تثبت بمنطوقها أن أئمة الشيعة قد فرض الله طاعتهم على الناس مطلقاً ، كما فرض طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنهم ـ أئمة الشيعة ـ يوحى إليهم ، ويتلقَّون خبر السماء صباحاً مساءً ، وهم بذلك أنبياء مرسلون أو كالأنبياء المرسلين سواء بسواء.

والجـواب :
أنا لو صرفنا النظر عن ضعف الرواية ، فهي ـ كما قلنا ـ لا تدل على ما قاله الجزائري ، بل إنها لا تدل على أكثر من أن الله سبحانه إذا فرض طاعة عبد على العباد ـ سواء أكان نبيًّا أم إماماً ـ فإنه لا يحجب عنه خبر السماء.
أما أن الأئمة عليهم السلام تجب طاعتهم مطلقاً أو في حدود معينة ، وأنهم يوحى إليهم أو يُلهمون أو يتلقَّون علومهم من بعضهم أو من غيرهم ، وأنهم
____________
(1) كما في تنقيح المقال 1|230.
(2) رجال العلامة الحلي ، ص211.
(3) تنقيح المقال 1|230.
(4) معجم رجال الحديث 4|143.
(5) مجمع الرجال 2|49. جامع الرواة 1|164.

( 151 )

معصومون أو يخطئون ، فهذا لم يرد له بيان في هذه الرواية كما هو واضح.
وعلى كل حال لو تركنا الرواية جانباً ، وأردنا أن ننظر إلى عقيدة الشيعة في طاعة الأئمة عليهم السلام ، وفي الوحي إليهم ، فإنا نقول :
أما طاعتهم فهي واجبة مطلقاً ، لأنه قد ثبت في محلِّه أنهم عليهم السلام معصومون ، والمعصوم تجب طاعته مطلقاً ، لأن عصمته مانعة من خطئه ، فلا ينطق ولا يأمر إلا بالحق ، والحق أحق أن يُتَّبع.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بـالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلاً ) (1).
قال الفخر الرازي : إنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة ، وهو قوله ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ، واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معاً. فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر (2).
قلت : كل مَن أوجب الله طاعته مطلقاً لا بد أن يكون معصوماً  ، لئلا تجب طاعته في فعل المعاصي والقبائح وفي ترك الواجبات ، وهو محال.
قال الفخر الرازي : إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم (3) في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي
____________
(1) سورة النساء ، الآية 59.
(2) التفسير الكبير 10|146.
(3) يعني أن الامر بالطاعة لم يقع مقيدا او مشروطا بشيء ، وهو معنى كونه مطلقا.

( 152 )

في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد  ، وإنه محال. فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم  ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوماً (1).
قلت : وعليه ، فإن قلنا بعصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام وجبت طاعتهم مطلقاً دون غيرهم.
وإن قلنا بعدم عصمتهم لزم التكليف بالمحال ، إذ أوجب الله علينا طاعة المعصوم ، والمعصوم معدوم حسب الفرض ، لتحقق إجماع المسلمين كافة على أن غيرهم ليس بمعصوم ، والتكليف بالمحال محال على الله ، وبهذا تثبت عصمتهم ووجوب طاعتهم مطلقاً.
وأما الوحي إليهم فإن أُريد به أنهم محدَّثون فهذا لا نمنعه ، وقد تقدم بيانه. وإن أُريد به أنهم عليهم السلام يُوحَى إليهم قرآن كما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فهذا لا نقول به ، ولا يدل عليه الحديث المزبور .
قال المجلسي أعلى الله مقامه : « خبر السماء » أي الخبر النازل من السماء ، سواءً نزل عليهم بالتحديث ، أو نزل على مَن قبله.
وقال : وكون مثل هذا العالِم بين العباد لطف ورأفة بالنسبة إليهم ، ليرجعوا إليه في كل ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ، والله أرأف بعباده من أن يمنعهم مثل هذا اللطف ، ويفرض طاعة من ليس كذلك ، فيصير سبباً لمزيد تحيّرهم (2).

* * * * *

قال الجزائري : وهم بذلك أنبياء مرسلون أو كالأنبياء المرسلين
____________
(1) التفسير الكبير 10|144.
(2) مرآة العقول 3|130.

( 153 )

سواءً بسواء.

وأقـول :
إن القول بأن الله تعالى لا يحجب عن الأئمة عليهم السلام خبر السماء لا يستلزم أن يكونوا أنبياء ، إذ يحتمل أنه تعالى يُلهِمهم أخبار السماء وما يحتاج إليه الناس ، أو يحدِّثهم الملَك ، أو أنهم تلقَّوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم إنا بيَّنَّا أن الأئمة عليهم السلام ليسوا بأنبياء مرسلين ، بل إن القول بنبوة واحد منهم كفر بلا إشكال ، وإنما هم علماء صادقون محدَّثون ملهَمون ، وبهذا نطقت الأخبار الثابتة ، كصحيحة محمد بن إسماعيل ، قال : سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : الأئمة علماء صادقون مفهَّمون محدَّثون (1).
أمَّا أنهم عليهم السلام كالأنبياء المرسلين فهذا لا نمنعه ، إذا كان المراد بذلك أنهم كالأنبياء في أنهم حُجج الله على خلقه ، وأن طاعتهم واجبة على العباد  ، وأنهم معصومون ، ويعلمون كل ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم.
وأما إذا أراد بذلك أن الشيعة يعتقدون أن الأئمة عليهم السلام كالأنبياء في أنهم يُوحى إليهم قرآن أو كُتُب ، أو في نزول الوحي عليهم  ، فهذا محض افتراء على الشيعة ، والحديث الذي ساقه لا يدل عليه بأي دلالة ، وهو جلي واضح.

* * * * *

قال الجزائري : واعتقاد نبي يوحي الله إليه بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله ردَّة في
____________
(1) الكافي 1|271. قال المجلسي في مرآة العقول 3|164 : علماء أي هم العلماء المذكورون في قوله تعالى ( هل يستوي الذين يعملون ) الاية. صادقون إشارة إلى قوله سبحانه ( وكونوا مع الصادقين ). مفهومون من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهمهم القرآن وتفسيره وتأويله وغير ذلك من العلوم والمعارف. محدثون من الملك.
( 154 )

الإسلام وكفر بإجماع المسلمين ، فسبحان الله كيف يرضى الشيعي المغرور بعقيدة تُفترى له افتراءً ، ويلزم اعتقادها ليعيش بعيداً عن الإسلام كافراً من حيث إنه ما اعتقد هذا الباطل إلا من أجل الإيمان والإسلام ليفوز بهما ويكون من أهلهما.

وأقـول :
لا ريب في أن من يعتقد بنبوَّة نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر بإجماع المسلمين ، إلا أن محل الكلام هو أن الشيعة الإمامية هل يعتقدون بنبوة واحد من الأئمة عليهم السلام أم لا ؟
ومن البيِّن أن هذه المسألة لا ينبغي الكلام ولا الخوض فيها ، لأنها فرية بلا مرية ، وبهتان عظيم لم يَسبق الجزائري إليه أحدٌ من العالَمين.
ومن الغريب أن هذا الرجل يعمد إلى أحاديث ضعيفة ، ويحمِّلها من الوجوه الفاسدة ما لا تحتمله ، ثم يأتي بما يزعم أنها لوازم يُلزم بها الشيعة ، ويكفِّرهم بها بلا رويَّة ولا خوف من الله ، مع أنه يعلم معتقَد الإمامية في المسألة التي يتحدَّث فيها.
ثم كيف يرضى هذا الرجل لنفسه أن يكتب مثل هذه الأباطيل المكشوفة والإفتراءات المفضوحة ، ليكفِّر بها طائفة من طوائف المسلمين ، والله جل شأنه يقول ( تالله لتُسألُنَّ عما كنتم تفترون ) (1) ، ويقول ( وليُسألُن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) (2) ، و( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) (3).
وبعد هذا كله لا أدري ما هي الغاية التي يريد الجزائري أن يحقِّقها من
____________
(1) سورة النحل ، الآية 116.
(2) سورة العنكبوت ، الآية 13.
(3) سورة النحل ، الآية 105.

( 155 )

تسرُّعه في تكفير الشيعة وبهتهم بهذا البهتان العظيم ، مع أن في تكفير المسلم إيقاعاً للنفس في المهالك ، فقد أخرج مسلم وغيره عن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّما امرئ قال لأخيه : « يا كافر » فقد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعتْ إليه (1).
وأخرج البخاري ومسلم ومالك وأحمد وغيرهم عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما (2).
هذا مع أن في تكفير مَن شهد الشهادتين مخالفة صريحة لما نصَّ عليه أعلام أهل السنة من عدم جواز تكفير أحد من أهل القبلة بذنب .
قال النووي : اعلم أن مذهب أهل الحق ـ يعني أهل السنة ـ أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة بذنب ، ولا يُكفَّر أهل الأهواء والبِدَع (3).

* * * * *

قال الجزائري : وثانيتهما : قال : عن محمد بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : الأئمة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهم ليسوا بأنبياء ، ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي ، فأما ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأقـول :
هذا الحديث أيضاً ضعيف السند ، وحسبك أن من جملة رواته عبد الله بن بحر ، وهو ضعيف في الحديث.
____________
(1) صحيح مسلم 1|79 كتاب الإيمان ، باب رقم 26.
(2) صحيح البخاري 8|32 كتاب الأدب ، باب منكفر أخاه بلا تأويل فهو كما قال. صحيح مسلم 1|79 كتاب الإيمان ، باب رقم 26. الموطأ ، ص538 ، مسند أحمد 2|44 ، 60 ، 77 ، 105 ، 113.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 1|150.

( 156 )

قال المامقاني قدس سره : عبد الله بن بحر... وقد ضعَّف الرجل ابن الغضائري ، حيث قال : عبد الله بن بحر كوفي صيرفي ، يروي عن أبي العباس ، ضعيف مرتفع القول (1).
ونقَل تضعيفه عن كل من العلاَّمة الحلي في الخلاصة ، وابن داود في رجاله ، والشيخ البهائي في الوجيزة (2).
قلت : وضعفه كذلك المحقق الخوئي (3) ، وضعف رواياته النجفي في الجواهر (4) ، والعاملي في المدارك ، والبحراني في الحدائق ، والحكيم في المستمسك وغيرهم (5).

* * * * *

قال الجزائري : هذه الرواية ، فإنها وإن كان في ظاهرها بعض التناقض ، فإنها كسابقتها تقرِّر عصمة الأئمة ووجوب طاعتهم ، وأنهم يُوحى إليهم ، لأن عبارة « الأئمة بمنزلة الرسول إلا في موضوع النساء » صريحة في أنهم يوحى إليهم وأنهم معصومون ، وأن طاعتهم واجبة ، وأن لهم جميع الكمالات والخصائص التي هي للنبي صلى الله عليه وسلم.
____________
(1) قال المامقاني في مقباس الهداية 2|305 : قولهم : « مرتفع القول » جعله في الدراية من الفاظ الجرح ، وفسره بأنه لا يقبل قوله ولا يعتمد عليه ... والذي أظن أن المراد بقولهم : « مرتفع القول » أنه من أهل الارتفاع والغلو ، فيكون لذلك جرحا حينئذ لذلك ، فتأمل.
(2) تنقيح المقال 2|169.
(3) معجم رجال الحديث 10|118.
(4) جواهر الكلام 1|231 ، 19|185.
(5) راجع مدارك الاحكام 8|56 ، الحدائق الناضرة 24|222 ، مستمسك العروة الوثقى 14|335.

( 157 )

والجـواب :
أن الرواية المذكورة مع ضعف سندها لا تناقض فيها ، والظاهر أنه ظن أن قوله : « الأئمة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » يستلزم القول بأنهم عليه السلام يُوحَى إليهم ، وهذا عنده يناقض قوله عليه السلام : « إلا أنهم ليسوا بأنبياء » ، مع أن المراد بالعبارة الأولى هو أن الأئمة عليه السلام بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العصمة ووجوب الطاعة ، وأنهم يعلمون كل ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم.
والمراد بأنهم ليسوا بأنبياء هو أنهم وإن اشتركوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الأمور ، إلا أنهم لا يشتركون معه في النبوة وأمر النساء.
ومن ذلك يتَّضح أن ليس المراد بأن الأئمة عليهم السلام بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أنهم يساوون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفضل ، فإن المسلمين قاطبة ـ سنة وشيعة ـ قد اتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو سيِّد ولد آدم من الأولين والأخرين.
وإنما المراد هو أنهم لمَّا كانوا هم القائمين بالأمر من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن ذلك يعني أنهم علماء معصومون صادقون مفهَّمون محدَّثون  ، يعلمون كل ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم ، وأنهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فتثبت لهم المودة الواجبة ، والطاعة المفروضة. إلا أنهم ليسوا بأنبياء ، ولا يحل لهم من النساء أكثر من أربع ، فإن ذلك ليس مما تقتضيه الخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما لا يخفى.
هذا وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خُم على أن أمير المؤمنين عليه السلام له ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، إذ قال : أيها الناس ، ألستُ أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه  ، اللهم والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه (1).
____________
(1) أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 1|118 ، 119 ، 4|281 ، 370 ، 372 ، 5|347

=