المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 1 ـ 15

المجالس العاشوريّة
في
المآتم الحسينيّة
تأليف
الشيخ عبدالله ابن الحاج حسن آل درويش


(4)
بسم الله الرحمن الرحيم
    « قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » (1).
    روي عن أبان بن تغلب  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح  ، وهمّه لنا عبادة  ، وكتمان سرِّنا جهاد في سبيل الله. ثم قال أبو عبدالله : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.
الأمالي  ، المفيد : 338 ح 3  ، بحار الأنوار  ، المجلسي 44/279 ح 4
    وروي عن الإمام الرضا ( عليه السلام )   ، قال : من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا  ، كان معنا في درجتنا يوم القيامة  ، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون  ، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
الأمالي  ، الصدوق : 131 ح 4  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/278 ح 2

1 ـ سورة الشورى  ، الآية : 23.

(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
    إن الثورة العملاقة التي فجَّرها أبو الأحرار ( عليه السلام ) ضدَّ الحكم الأموي القائم على الظلم والاستبداد والطغيان  ، قد أوضح الله تعالى بها الكتاب  ، وجعلها عبرة لأولي الألباب.
    إن هذه الثورة الخالدة المباركة قد غيَّرت مجرى التأريخ  ، وأيقظت العالم الإسلامي من سباته وتخديره  ، فبعد ما كان يرزح في العبوديّة والذلّ والقهر من حكم الأمويين راح بنشاط وعزم وتصميم رافعاً لواء الحريّة  ، وهو يهتف بسقوط الحكم الأموي  ، ويعمل على إزالته وتحطيم عروشه  ، فكانت الثورات الشعبيّة التي قام بها بعض العلويين وغيرهم حتى أطاحت به  ، ونسفت قواعده وقلاعه.
    إن الثورة الحسينيّة العظيمة قائمة في قلوب المسلمين وفي دخائل نفوسهم  ، وهي تدفعهم إلى التحرير والكرامة والتخلّص من الاستعمار وعملائه وأذنابه  ، وإنا نهيب بالمسلمين أن يستفيدوا من أنوارها في هذه المرحلة الحاسمة من تأريخهم  ، ليكونوا قدوة فذّة لبقية الشعوب  ، ويلحقوا بقافلة الأمم المتطوِّرة.
    ومن الخير أن نشيد بالأستاذ الفاضل الشيخ عبدالله حسن آل درويش فيما


(6)
ألَّفه من بعض الكتب النافعة كالمناظرات وغيرها  ، وأخصّ كتابه الذي كتبت له هذه الكلمات  ، وهو : المجالس العاشورية في المآتم الحسينية  ، وهو من الكتب الجيِّدة التي عرضت بصورة موضوعيّة إلى ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام )   ، وقد أجاد بهذا الكتاب  ، رفع الله مقامه وأجزل ثوابه  ، والسلام عليه.
باقر شريف القرشي
21 ـ رجب ـ 1424 هـ


(7)
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله ربِّ العالمين  ، وبه تعالى نستعين  ، وصلَّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين  ، وبعد :
    فإن من نعم الباري تعالى علينا تلكم المجالس التي تُعقد لإحياء أمر أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين  ، وذكر فضائلهم وما حلَّ بساحتهم الشريفة  ، وخصوصاً المآتم الحسينيّة التي تقام في كل عام في أيام العشرة من المحرَّم الحرام  ، وممَّا لا شك فيه أنها مجالس يُحبّها الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ; إذ يتمّ من خلالها تأدية الواجب الملقى على عواتقنا  ، وهو تشييد ذكرهم وإحياء أمرهم  ، ومواساتهم في أحزانهم وما حلَّ بهم  ، والتعرّف على منهجهم القويم السويّ  ، والسير على خطاهم وتعاليمهم وإرشاداتهم  ، وهذه المجالس تُعدّ الرافد الأول لثقافتنا الدينيّة والأخلاقيّة  ، إذ يتم من خلالها عرض تعاليم أهل البيت ( عليهم السلام ) وإرشاداتهم ووصاياهم  ، ذلك المعين الصافي الذي لا ينضب.
    وهذا الاهتمام التشديد الذي يلمسه كل إنسان عند أتباع وشيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) في ارتياد هذه المجالس التي تُعقد في شتى المناسبات المرتبطة بتأريخ وحياة أهل البيت ( عليهم السلام ) وإحيائها والعناية الشديدة بها  ، نابع ـ بلا شك ـ من ولائهم الصادق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومواساتهم لعترته وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، الذين أُوذوا وشُرِّدوا


(8)
وقُتلوا في سبيل الله تعالى  ، والذين أوصى الأمة باتباعهم والتمسّك بهم  ، فقد روي عنه متواتراً قوله ( صلى الله عليه وآله ) : إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسَّكتم بهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي  ، فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتين.. (1)
    وقد جاء أيضاً الكثير من الروايات الشريفة في الحثّ على إحياء أمرهم  ، والبكاء على مصائبهم  ، والحزن لحزنهم  ، والفرح لفرحهم ( عليهم السلام ) ، والتي منها :
    ما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إن الله تبارك وتعالى اطلّع إلى الأرض فاختارنا  ، واختار لنا شيعة ينصروننا  ، ويفرحون لفرحنا  ، ويحزنون لحزننا  ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا  ، أولئك منّا وإلينا (2)
    وروي عن أبي عبدالله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : حدَّثوا عنا ولا حرج  ، رحم الله من أحيى أمرنا (3) وروي عن معتب مولى أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول لداود بن سرحان : يا داود  ، أبلغ مواليَّ عني السلام  ، وأني أقول : رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا  ، فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما  ، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلاَّ باهى الله تعالى بهما الملائكة  ، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر  ، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا  ، وخير الناس من بعدنا مَنْ ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا (4).
    وروي عن أبان بن تغلب  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : نفس المهموم لظلمنا
1 ـ الكافي  ، الكليني : 2/415  ، فضائل الصحابة  ، أحمد بن حنبل : 15  ، الطبقات الكبرى  ، ابن سعد : 2/194  ، تاريخ مدينة دمشق  ، ابن عساكر : 54/92  ، المناقب  ، الموفق الخوارزمي : 154.
2 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/287 عن الخصال.
3 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 2/151.
4 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 1/202 ح 8 عن أمالي المفيد.


(9)
تسبيح  ، وهمّه لنا عبادة  ، وكتمان سرِّنا جهاد في سبيل الله  ، ثم قال أبو عبدالله : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب (1).
    وروي عن الإمام الرضا ( عليهم السلام ) قال : من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منا  ، كان معنا في درجتنا يوم القيامة  ، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون  ، ومن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب (2).
    إلى غير ذلك من الأخبار والروايات الشريفة في ذلك.
    وانطلاقاً من هذا الأمر  ، واستجابة للمكرَّم النبيل الحاج عبدالسلام الدخيل الذي عرض إليَّ فكرة تأليف هذا الكتاب  ، ورغبة بعض الأخوة أيضاً من قرَّاء السيرة الحسينية  ، في تحقيق هذه الفكرة  ، وقد استشرت سيدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيد تقي القمي دام ظله الشريف في موضوع كتابة هذا الكتاب  ، وأخبرته برغبة بعض الأخوة من قرّاء السيرة في تأليف كتاب يحوي مجالس في السيرة الحسينية وما يتعلق بها ليقرأ في المجالس والمآتم الحسينيّة في أيام العشرة من المحرَّم الحرام  ، فرجح لي دام ظله في الإقدام على تأليف هذا الكتاب وقال : إنه من موجبات سعادتك  ، وفيه إحراز ثواب الباكين على مصاب الحسين ( عليه السلام ) كلما قُرأ في المجالس الحسينية  ، وقال لي : وأنا سوف أدعو لك في ذلك. فجزاه الله خير الجزاء على إحسانه وعطفه. فبعد ذلك كله قمت بإعداد هذا الكتاب الماثل بين يديك تلبية لرغبتهم.
    وقد جمعت في هذا الكتاب ما تسنَّى لي جمعه من كتب الحديث والسيرة الحسينيّة في خصوص ما يرتبط بسيرة سيِّد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) وذلك من بدء خروجه من المدينة وحتى استشهاده ( عليه السلام ) وما جرى على أهل بيته ونسائه في الأسر والسبي  ، مع ذكر شيء أيضاً من مناقبه ( عليه السلام ) الشريفة ومصائبه المفجعة  ، التي
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/279 ح 4.
2 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/278 ح 2.


(10)
جاءت في الأخبار على لسان النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) وبعض الرواة  ، وأضفت إلى ذلك أيضاً جملة من الأشعار الحسينية في المواضع التي يناسبها.
    وقد رتَّبت هذا الكتاب في قسمين  ، القسم الأول : في عدّة مجالس لأيام العشرة من المحرم  ، وقد جعلت لكل يوم مجالسه الخاصة به  ، وذكرت فيها ما يناسبه من الأحاديث الشريفة والسيرة الحسينية  ، وشيئاً من مناقب أهل البيت ( عليهم السلام ) وتأريخهم المشرق.
    وأمّا القسم الثاني من الكتاب فعرضت فيه عدّة مجالس إضافيّة تناسب قرائتها أيضاً في أيام العشرة  ، وهي تحوي جملة من تأريخ الحسين ( عليه السلام ) وسيرته الشريفة وماورد فيه من الأحاديث والأخبار  ، مع ذكر بعض الأمور التي تتعلّق بتأريخ أهل البيت ( عليهم السلام ) وظلاماتهم.
    كما أقدّم شكري الجزيل لكل من ساهم معي في إخراج هذا الكتاب وأسأل الله تعالى لهم التوفيق لما يحبه ويرضاه.
    وأرجو من الله العليّ القدير أن يتقبَّل مني هذا الجهُد المتواضع  ، وأن يجعله في ميزان الأعمال وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم  ، وينفعني به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم إنه سميع الدعاء  ، وعسى أن يكون هذا الكتاب قد لبى رغبة إخواني المؤمنين قرَّاء السيرة الحسينيّة  ، ومحقِّقاً أمنيتهم في هذا المجال  ، وأرجو منهم أن لا ينسوني في مظان الإجابة من صالح دعائهم  ، والله تعالى وليُّ التوفيق  ، إنه نعم المولى ونعم النصير  ، وسُبحانَ ربِّك ربِّ العزّة عمّا يصفون  ، وسلام على المرسلين  ، والحمد لله ربِّ العالمين.
عبدالله حسن آل درويش
يوم الأحد 14 ـ 4 ـ 1424 هـ


(11)
    القسم الأول :     فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما  ، فليبك الباكون  ، وإياهم فليندب النادبون  ، ولمثلهم فلتذرف الدموع  ، وليصرخ الصارخون  ، ويضجَّ الضاجون  ، ويعجَّ العاجون أين الحسن وأين الحسين  ، أين أبناء الحسين  ، صالح بعد صالح  ، وصادق بعد صادق  ، أين السبيل بعد السبيل  ، أين الخيرة بعد الخيرة  ، أين الشموس الطالعة  ، أين الأقمار المنيرة  ، أين الأنجم الزاهرة  ، أين أعلام الدين وقواعد العلم (1).
يا غيرة الله اغضبي لنبيِّه من عصبة ضاعت دماء محمد صفدات مال الله ملءُ أكفِّها وتزحزحي بالبيض عن أغمادها وبنيه بين يزيدها وزيادها وأكفُّ آل الله في أصفادها (2)

1 ـ المزار  ، محمد بن المشهدي : 578.
2 ـ المجالس السنية  ، السيد محسن الأمين : 1/278.


(12)
    روي أنه قيل للإمام الصادق ( عليه السلام ) : سيدي جعلت فداك  ، إن الميت يجلسون له بالنياحة بعد موته أو قتله  ، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أول الشهر بالمأتم ولاعزاء على الحسين ( عليه السلام ) فقال ( عليه السلام ) : يا هذا إذا هل هلال محرم نشرت الملائكة ثوب الحسين ( عليه السلام ) وهو مخرق من ضرب السيوف  ، وملطخ بالدماء فنراه نحن وشيعتنا بالبصيرة لا بالبصر  ، فتنفجر دموعنا (1).
    عظَّم الله لكم الأجر أيها المؤمنون  ، وأحسن الله لكم العزاء بمصاب سيِّد شباب أهل الجنة  ، فهذا شهر المحرَّم قد أقبل عليكم بأحزانه فحقَّ لكم أن تندبوا الحسين ( عليه السلام ) وتبكوه بالدموع الجارية  ، وتظهروا الأحزان  ، وتتركوا الأفراح  ، وتجتمعوا لإقامة المآتم كما أوصى بذلك سيِّدُ شباب أهل الجنة ( عليه السلام ) فقد روي أنه ( عليه السلام ) أوصى ابنه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) قائلا له : يا ولدي  ، بلِّغ شيعتي عني السلام  ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه  ، ومضى شهيداً فابكوه (2).
    ويروى أن سكينة ( عليها السلام ) اعتنقت أباها الحسين ( عليه السلام ) بعد مقتله الشريف وجعلت تمرِّغ وجهها على جسده  ، وهي تبكي حتى غشي عليها  ، ثمَّ جاء أعداء الله فجذبوها منه وأبعدوها عنه وأركبوها  ، قالت سكينة : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول وأنا مغشى عليَّ :
شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني ليتكم في يوم عاشورا جميعاً تنظروني أو سمعتم بقتيل أو شهيد فاندبوني وبجرد الخيل بعد القتل عمداً سحقوني كيف أستسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني (3)

1 ـ ثمرات الأعواد  ، السيد علي الهاشمي : 36 ـ 37.
2 ـ الدمعة الساكبة  ، البهبهاني : 4/351  ، معالي السبطين  ، الحائري : 2/22.
3 ـ مثير الأحزان  ، الجواهري : 93.


(13)
    ولله درّ الشيخ عبدالكريم الفرج رحمه الله تعالى إذ يقول في هلال شهر المحرم الحرام :
هلَّ المحرَّمُ فاستهلَّت أدمعي مذ أبصرت عيني بزوغَ هلالِهِ وتنغَّصت فيه عليَّ مطاعمي اللهُ يا شهرَ المحرَّمِ ما جرى اللهُ من شهر أطلَّ على الورى شهرٌ لقد فُجع النبيُّ محمَّدٌ شهرٌ به نزل الحسينُ بكربلا فتلألأت منها الربوعُ بنورِهِ وورى زنادُ الحزنِ بين الأضلعي ملأ الشجا جسمي ففارق مضجعي ومشاربي وازداد فيه توجّعي فيه على آلِ النبيِّ الأنزع بمصائب شيَّبن روسَ الرضَّعِ فيه وأيُّ موحِّد لم يُفْجَعِ في خيرِ صحب كالبدورِ اللُّمَّعِ وعلت على هامِ السماكِ الأرفعِ (1)
    روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس  ، قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن ( عليه السلام ) فلمَّا رآه بكى  ، ثمّ قال : إليَّ يا بني  ، فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى  ، ثم أقبل الحسين ( عليه السلام )   ، فلمَّا رآه بكى  ، ثمَّ قال : إليَّ يا بني  ، فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى  ، ثم أقبلت فاطمة ( عليها السلام )   ، فلمَّا رآها بكى  ، ثمَّ قال : إليَّ بابنية فأجلسها بين يديه  ، ثمَّ أقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلمّا رآه بكى  ، ثمَّ قال : إليَّ يا أخي  ، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن  ، فقال له أصحابه : يا رسول الله  ، ما ترى واحداً من هؤلاء إلاَّ بكيت  ، أو ما فيهم من تسرُّ برؤيته! ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله ) : والذي بعثني بالنبوة  ، واصطفاني على جميع البرية  ، إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عزَّ وجلَّ  ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم.
    أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي  ، وصاحب الأمر بعدي  ، وصاحب
1 ـ شعراء القطيف  ، الشيخ علي المرهون : 273 ـ 274.

(14)
لوائي في الدنيا والآخرة  ، وصاحب حوضي وشفاعتي  ، وهو مولى كل مسلم  ، وإمام كل مؤمن  ، وقائد كل تقي  ، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد مماتي  ، محبُّه محبي  ، ومبغضُه مبغضي  ، وبولايته صارت أمتي مرحومة  ، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة  ، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي حتى إنه ليزال عن مقعدي  ، وقد جعله الله له بعدي  ، ثم لا يزال الأمر به حتى يُضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ » (1).
    وأما ابنتي فاطمة  ، فإنها سيِّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين  ، وهي بضعة مني  ، وهي نور عيني  ، وهي ثمرة فؤادي  ، وهي روحي التي بين جنبي  ، وهي الحوراء الإنسية  ، متى قامت في محرابها بين يدي ربِّها جلَّ جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض  ، ويقول الله عزَّ وجلَّ لملائكته : يا ملائكتي  ، انظروا إلى أمتي فاطمة سيِّدة إمائي  ، قائمةً بين يدي  ، ترتعد فرائصُها من خيفتي  ، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي  ، أُشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار  ، وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي  ، كأني بها وقد دخل الذلّ بيتها  ، وانتُهكت حرمتها  ، وغصبت حقَها  ، ومُنعت إرثها  ، وكُسر جنبُها  ، وأُسقطت جنينها  ، وهي تنادي : يا محمداه  ، فلا تجاب  ، وتستغيث فلا تغاث  ، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية  ، تتذكِّر انقطاع الوحي عن بيتها مرَّة  ، وتتذكَّر فراقي أخرى  ، وتستوحش إذا جنَّها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجَّدتُ بالقرآن  ، ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة  ، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة  ، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران  ، فتقول : يا فاطمة « إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ »   ، يا فاطمة « اقْنُتِي لِرَبِّكِ
1 ـ سورة البقرة  ، الآية : 185.

(15)
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ».
    ثم يبتدىء بها الوجع فتمرض  ، فيبعث الله عزَّ وجلَّ إليها مريم بنت عمران  ، تمرِّضها وتؤنسها في علّتها  ، فتقول عند ذلك : يا رب  ، إني قد سئمت الحياة  ، وتبرَّمت بأهل الدنيا  ، فألحقني بأبي. فيلحقها الله عزَّ وجلَّ بي  ، فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي  ، فتقدم عليَّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة  ، فأقول عند ذلك : اللهم العن من ظلمها  ، وعاقب من غصبها  ، وأذِلَّ من أذلَّها  ، وخلِّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها  ، فتقول الملائكة عند ذلك : آمين. وللهِ درّ السيِّد صالح الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
قد أسقطوا جنينَها واعترى فما سقوطُ الحملِ ما صدرُها ما وكزُها بالسيفِ في ضلعِها ما دفنُها بالليل سِرّاً وما من لطمةِ الخدِّ العيونَ احمرارْ مالطمُها ما عصرُها بالجدار وما انتثارُ قُرْطِها والسوار نَبْشُ الثرى منهم عناداً جِهَارْ (1)
    وقال آخر :
ولأي الأمور تدفن ليلا ابنة المصطفى ويعفى ثراها
    تتمة الحديث قال : قال ( صلى الله عليه وآله ) : وأمَّا الحسن فإنه ابني وولدي  ، ومني  ، وقرّة عيني  ، وضياء قلبي  ، وثمرة فؤادي  ، وهو سيِّد شباب أهل الجنة  ، وحجة الله على الأمة  ، أمره أمري  ، وقوله قولي : من تبعه فإنه مني  ، ومن عصاه فليس مني  ، وإني لما نظرت إليه تذكَّرت ما يجري عليه من الذلّ بعدي  ، فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسم ظلماً وعدواناً  ، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته  ، ويبكيه كل شيء حتى الطير في جوّ السماء  ، والحيتان في جوف الماء  ، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون  ، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب  ، ومن زاره في بقيعه
1 ـ رياض المدح والرثاء  ، القديحي : 309.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس