المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: 391 ـ 405
(391)
    وصلى عليه  ، ويقال : وضعه مع قتلى أهل بيته ( عليهم السلام ) (1).
    ولله درّ الشيخ محمد رضا الخزاعي عليه الرحمة إذ يقول :
وَلَوْ تَرَاهُ حَامِلا طِفْلَهُ مُخَضَّباً مِنْ فَيْضِ أَوْدَاجِهِ تَحْسَبُ أنَّ السَّهْمَ في نَحْرِهِ وَمُذْ رَنَت لَيْلَى إليه غَدَتْ تقولُ عَبْدُ اللهِ مَا ذَنْبُهُ قد كنتُ أرجو فيه لي سلوةً لَمْ يَمْنَحُوه الْوِرْدَ إِذْ صَيَّروا أَفْدِيهِ مِنْ مُرْتَضِع ظامياً رَأَيْتَ بدراً يَحْمِلُ الْفَرْقَدا أَلْبَسَهُ سَهْمُ الرَّدَى مِجْسَدَا طَوْقٌ يُحَلِّي جِيْدَه عَسْجَدا تدعو بصوت يَصْدَعُ الْجَلْمَدَا مُنْفَطِماً آبَ بِسَهْمِ الرَّدَى فَخَيَّبوا ما كنتُ أَرْجُو العِدَى فَيْضَ وَرِيْدَيْهِ لَهُ مَوْرِدا بِمُهْجَتي لو أَنَّهُ يُفْتَدَى (2)

    روى الصفار عليه الرحمة في بصائر الدرجات : عن أبي الجارود  ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : لمّا حضر الحسين ( عليه السلام ) ما حضر دعا ابنته الكبرى فاطمة بنته  ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة ووصية باطنة  ، وفي رواية : وكان علي بن الحسين مبطوناً لا يرون إلاَّ لما به (3)   ، فقال : يا بنتي! ضعي هذا في أكابر ولدي.
1 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 273.
2 ـ رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 502.
3 ـ وفي إعلام الورى  ، الطبرسي : 1/483 : وكان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) مريضاً لا يرون أنه يبقى بعده.


(392)
    فلمّا رجع علي بن الحسين ( عليه السلام ) دفعته إليه  ، وهو عندنا  ، قلت : ما ذاك الكتاب ؟ قال ( عليه السلام ) : ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا حتى تفنى (1).
    وروي عن الفضيل بن يسار  ، قال : قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : لمَّا توجَّه الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق  ، دفع إلى أمِّ سلمة زوج النبيِّ ( صلى الله عليه وآله ) الوصيّة والكتب وغير ذلك  ، وقال لها : إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليكِ  ، فلمَّا قُتل الحسين ( عليه السلام ) أتى عليُّ بن الحسين أمَّ سلمة فدفعت إليه كلَ شيء أعطاها الحسين ( عليه السلام ) (2).
    وروى أصحاب الحديث : أن الحسين ( عليه السلام ) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين ( عليهما السلام )   ، وسلَّم إليه الاسم الأعظم  ، ومواريث الأنبياء  ، ونصَّ عليه بالإمامة من بعده  ، وفي حديث آخر : أن الحسين ( عليه السلام ) في وقت قتاله بكربلاء أحضر علي بن الحسين ( عليهما السلام )   ، وكان عليلا  ، فأوصى إليه بالاسم الأعظم  ، ومواريث الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وعرَّفه أنه قد دفع العلوم والمصاحف والسلاح إلى أمِّ سلمة  ، وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه (3).
    وروى الراوندي عليه الرحمة : عن زين العابدين ( عليه السلام )   ، قال : ضمَّني والدي ( عليه السلام ) إلى صدره يوم قُتل والدماء تغلي  ، وهو يقول : يا بنيَّ! احفظ عنّي دعاء علَّمتنيه فاطمة صلوات الله عليها  ، وعلَّمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وعلَّمه جبرئيل في الحاجة والمهمِّ والغمِّ  ، والنازلة إذا نزلت  ، والأمر العظيم الفادح  ، قال ادع : بحقِّ يس والقرآن الحكيم  ، وبحقِّ طه والقرآن العظيم  ، يا من يقدر على حوائج السائلين  ، يا من يعلم ما في الضمير  ، يا منفِّس عن المكروبين  ، يا مفرِّج عن المغمومين  ، يا راحم
1 ـ بصائر الدرجات  ، الصفار : 184 ح 6  ، و168 ح 9.
2 ـ الغيبة  ، الطوسي : 195 ـ 196 ح 159.
3 ـ إثبات الهداة  ، الحر العاملي : 5 ح 9.


(393)
الشيخ الكبير  ، يا رازق الطفل الصغير  ، يا من لا يحتاج إلى التفسير  ، صلِّ على محمد وآل محمد  ، وافعل بي كذا وكذا (1).
    وروى الكليني عليه الرحمة عن أبي حمزة  ، قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لمَّا حضرت أبي علي بن الحسين ( عليهما السلام ) الوفاة  ، ضمَّني إلى صدره وقال : يا بنيَّ! أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة  ، وممَّا ذكر أن أباه أوصاه به : يا بنيَّ! اصبر على الحقِّ وإن كان مرّاً (2) وفي رواية أخرى أيضاً قال ( عليه السلام ) : قال : يا بنيّ! إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله (3).
    وعن محمد بن مسلم  ، قال : سألت الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) عن خاتم الحسين بن علي ( عليهما السلام ) إلى من صار ؟ وذكرت له أنّي سمعت أنّه أُخذ من إصبعه فيما أُخذ. قال ( عليه السلام ) : ليس كما قالوا ! إنّ الحسين ( عليه السلام ) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين ( عليهما السلام )   ، وجعل خاتمه في إصبعه  ، وفوَّض إليه أمره  ، كما فعله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأمير المؤمنين ( عليه السلام )   ، وفعله أمير المؤمنين بالحسن  ، وفعله الحسن بالحسين ( عليهم السلام ) ، ثمَّ صار ذلك الخاتم إلى أبي ( عليه السلام ) بعد أبيه  ، ومنه صار إليَّ  ، فهو عندي  ، وإنّي لألبسه كل جمعة وأصلّي فيه  ، قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي  ، فلمَّا فرغ من الصلاة مدَّ إليَّ يده فرأيت خاتماً نقشه ( لا إله إلاَّ الله عدّة للقاء الله ) فقال : هذا خاتم جدّي أبي عبدالله الحسين بن علي ( عليه السلام ) (4).
    وجاء في كتاب الدمعة الساكبة في بعض الروايات : لمَّا ضاق الأمر بالحسين ( عليه السلام ) وقد بقي وحيداً فريداً  ، التفت إلى خيم بني أبيه فرآها خاليةً منهم  ، ثمَّ التفت إلى خيم بني عقيل فوجدها خاليةً منهم  ، ثمَّ التفت إلى خيم أصحابه فلم ير
1 ـ مهج الدعوات  ، الراوندي : 54 ح 137.
2 ـ الكافي الكليني : 2/91 ح 13.
3 ـ الكافي الكليني : 2/331 ح 5.
4 ـ الأمالي  ، الصدوق : 207 ـ 208 ح 13.


(394)
أحداً منهم  ، فجعل يُكثر من قول : لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم.
    ثمّ ذهب إلى خيم النساء  ، فجاء إلى خيمة ولده زين العابدين ( عليه السلام ) فرآه ملقى على نطع من الأديم  ، فدخل عليه وعنده زينب تمرِّضه  ، فلمَّا نظر إليه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أراد النهوض فلم يتمكَّن من شدة المرض  ، فقال لعمَّته : سنِّديني إلى صدرك فهذا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد أقبل  ، فجلست زينب خلفه وأسندته إلى صدرها  ، فجعل الحسين ( عليه السلام ) يسأل ولده عن مرضه  ، وهو يحمد الله تعالى  ، ثمَّ قال : يا أبتاه! ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : يا ولدي! قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله  ، وقد شبَّ الحرب بيننا وبينهم ـ لعنهم الله ـ حتى فاضت الأرض بالدم منّا ومنهم.
    فقال علي ( عليه السلام ) : يا أبتاه! أين عمّي العباس ؟ فلمَّا سأل عن عمِّه اختنقت زينب بعبرتها  ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه; لأنه لم يخبره بشهادة عمِّه العباس خوفاً من أن يشتدَّ مرضُه.
    فقال ( عليه السلام ) : يا بني! إنَّ عمَّك قد قُتل  ، وقطعوا يديه على شاطىء الفرات  ، فبكى علي بن الحسين ( عليه السلام ) بكاء شديداً حتى غشي عليه  ، فلمَّا أفاق من غشيته جعل يسأل عن كل واحد من عمومته والحسين ( عليه السلام ) يقول له : قُتل. فقال : وأين أخي علي  ، وحبيب بن مظاهر  ، ومسلم بن عوسجة  ، وزهير بن القين ؟ فقال له : يا بنيّ! اعلم أنه ليس في الخيام رجل حيٌّ إلاَّ أنا وأنت  ، وأمّا هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلُّهم صرعى على وجه الثرى.
    فبكى علي بن الحسين ( عليه السلام ) بكاءً شديداً  ، ثمَّ قال لعمَّته زينب : يا عمّتاه! عليَّ بالسيف والعصا  ، فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟ فقال : أمَّا العصا فأتوكَّأ عليها  ، وأمَّا السيف فأذبُّ به بين يدي ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، فإنّه لا خير في الحياة بعده  ، فمنعه الحسين من ذلك  ، وضمَّه إلى صدره  ، وقال له : يا ولدي! أنت أطيب ذرّيّتي  ،


(395)
وأفضل عترتي  ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال  ، فإنهم غرباء مخذولون  ، قد شملتهم الذلّة واليتم شماتة الأعداء ونوائب الزمان  ، سكِّتهم إذا صرخوا  ، وآنسهم إذا استوحشوا  ، وسلِّ خواطرهم بليِّن الكلام  ، فإنّهم ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك  ، ولا أحد عندهم يشكون إليه حزنهم سواك  ، دعهم يشمّوك وتشمّهم  ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم.
    ثمَّ لزمه بيده  ، وصاح بأعلى صوته : يا زينب! ويا أمَّ كلثوم! ويا سكينة! ويا رقيّة! ويا فاطمة! اسمعن كلامي  ، واعلمن أنّ ابني هذا خليفتي عليكم  ، وهو إمامٌ مفترضُ الطاعة  ، ثمَّ قال له : يا ولدي! بلِّغ شيعتي عنّي السلام فقل لهم : إنّ أبي مات غريباً فاندبوه  ، ومضى شهيداً فابكوه (1).
شيعتي مهما شربتم عذبَ ماء فاذكروني فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني ليتكم في يوم عاشورا جميعاً تنظروني أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني وبجرد الخيلِ بعد القتل عمداً سحقوني كيف استسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني (2)
    وجاء في بحار الأنوار : ثمَّ التفت الحسين ( عليه السلام ) عن يمينه فلم ير أحداً من الرجال  ، والتفت عن يساره فلم ير أحداً  ، فخرج علي بن الحسين زين العابدين ( عليهما السلام )   ، وكان مريضاً لا يقدر أن يُقِلَّ سيفَه  ، وأمُّ كلثوم تنادي خلفَه : يا بُنيَّ! ارجع  ، فقال : يا عمَّتاه! ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا أمَّ كلثوم! خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) (3).
1 ـ الدمعة الساكبة : 4/351.
2 ـ مثير الأحزان  ، الجواهري : 93.
3 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/46.


(396)
    ولله درُّ الشيخ سعيد العسيلي إذ يقول :
وَتَحَرَّكَتْ بالهاشميِّ حَمَاسَةٌ وهو العليلُ تَنَاهَبَتْهُ عِلَّةٌ لله زَيْنُ العابدينَ وَخَوْفُهُ تَرَكَ الْفِرَاشَ عَلَى الْعَصَا مُتَوَكِّئاً إِذْ كَانَ حَمْلُ السيفِ يُعْجِزُ رَاحَةً وَرَآهُ وَالِدُهُ فَصَاحَ بِلَهْفَة رُدّيهِ يَا أُخْتَاهُ عَنْ سَاحِ الرَّدَى وَبِذَاكَ يَفْنَى نَسْلُ آلِ محمَّد رَدَّتْهُ عَمَّتُهُ وفي أَجْفَانِها شَمَّاءُ أَنْشَدَها الزمانُ نشيدا تَرَكَتْهُ في حِضْنِ الفِرَاشِ قَعيدا مِنْ رَبِّهِ مَلأَ السُّهُولَ سُجُودَا وَالكَفُّ جَرَّتْ صارماً مهنودا حَوَتِ المَكَارِمَ وَالْعُلَى وَالجُودا كالنارِ زَادَت جَانِحَيْهِ وَقيدا كي لا أراه مِنَ الحياةِ فقيدا والدينُ يُصْبِحُ تَائِهاً وَشَريدا دَمْعٌ يُجَرِّحُ مُقْلَةً وَخُدُودَا (1)
    وجاء في ثمرات الأعواد روي أن فاطمة ( عليها السلام ) لمَّا دنت منها الوفاة دعت ابنتها زينب  ، فشمَّتها في نحرها  ، وقبَّلتها في صدرها  ، وقالت لها : هذه وديعةٌ لي عندك  ، فإذا رأيتِ أخاكِ وحيداً فريداً شمّيه في نحره  ، وقبِّليه في صدره  ، فإنّ نحرَه موضعُ سيف ابن ذي الجوشن  ، وإنّ صدرَه موضعُ حوافرِ خيولِ بني أميّة  ، قال : فامتثلت الحوراء زينب ذلك.
    ولمَّا كان يوم عاشورا  ، وبقي الحسين ( عليه السلام ) وحيداً فريداً  ، وأراد أن يودِّع العيال ويمضي إلى القتال  ، أقبلت إليه أمُّ المصائب ( عليها السلام ) وقالت له : أخي! اكشف لي عن صدرك وعن نحرك  ، فكشف لها الحسين ( عليه السلام ) عن صدره  ، فقبَّلته في صدره  ، وشمَّته في نحره  ، ثمَّ وجَّهت وجهها نحو المدينة صائحةً : يا أمَّاه! قد استُرجعت الوديعة  ، وأُخذت الأمانة  ، فتعجَّب الحسين ( عليه السلام ) من كلامها  ، فقال لها : أخيَّة! وما هي الأمانة ؟ قالت : اعلم يا بن أُم  ، لمَّا دنت الوفاة من أمِّنا فاطمة ( عليها السلام ) قرَّبتني إليها  ،
1 ـ كربلاء ( ملحمة أدبية ) للشاعر سعيد العسيلي : 517 ـ 518.

(397)
وشمَّتني في نحري  ، وقبَّلتني في صدري  ، وقالت لي : يا بينَّة! هذه وديعةٌ لي عندك فإذا رأيتِ أخاكِ الحسين ( عليه السلام ) فريداً شمِّيه في نحره  ، وقبِّليه في صدره.
    قال الراوي : فلمَّا سمع بذكر أمِّه بكى ( عليه السلام )   ، وسُمِعَ مناد ينادي بين السماء والأرض : واولداه واحسيناه (1).
    ولله درّ السيِّد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
سَطَا وهو أَحْمَى مَنْ يَصُونُ كريمةً فَرَافِدُهُ في حَوْمَةِ الضربِ مُرْهَفٌ تَعَثَّرَ حَتَّى مات في الْهَام حَدُّهُ كأنَّ أخاه السَّيْفَ أُعْطِي صَبْرَهُ وَأَشْجَعُ مَنْ يَقْتَادُ للحربِ عَسْكَرا على قِلَّةِ الأنصارِ فيه تَكَثَّرا وَقَائِمُهُ في كَفِّهِ مَا تَعَثَّرا فَلَمْ يَبْرَحِ الهيجاءَ حَتَّى تكسَّرا
    وقال الشيخ حسن التاروتي عليه الرحمة :
وَبَقِي الحسينُ الطُّهْرُ في جَيْشِ العِدَى يَسْطُو بِعَضْب كالشِّهَابِ فَتَنْثَنِي عُذْراً إَذَا نَكَصُوا فِرَاراً من فَتَىً وهذاكَ أَطْعَمَهُمْ ببدر مُمْقِرَاً كالبدرِ في جُنْحِ الظَّلاَم تَحَجَّبَا مِنْ بَأْسِهِ كالضَّانِ وَافَتْ أَشْهَبَا قد كان حيدرةُ الكَمِيُّ لَهُ أَبَا وبكربلا هذا أَغَصَّ الْمَشْرَبَا (2)

    روي في بعض المقاتل : لمَّا أراد الحسين ( عليه السلام ) أن يتقدَّم إلى القتال نظر يميناً وشمالا  ، ونادى : ألا هل من يقدِّم لي جوادي ؟ فسمعت زينب ( عليها السلام ) فخرجت
1 ـ ثمرات الأعواد  ، السيِّد علي بن الحسين الهاشمي : 1/31 و272.
2 ـ رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 93.


(398)
وأخذت بعنان الجواد  ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي ؟ وقد قرحت فؤادي  ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
مَنْ ذا يقدِّمُ لي الجَوَادَ وَلاَمَتِي فَأَتْتهُ زينبُ بالجَوَادِ تَقُودُهُ وتقولُ قد قَطَّعْتَ قلبي يَا أَخِي وَلِمَنْ تُنَادي والحُمَاةُ عَلَى الثَّرَى مَا في الخيامِ وَقدْ تَفَانَى أَهْلُها أَرَأَيْتَ أُخْتاً قد أتت لِشَقِيقِهَا فَتَبَادَرَتْ منه الدُّمُوعُ وَقَالَ يَا فبكت وقالت يابنَ أُمّي ليس لي يَا نُوْرَ عَيْني يَا حُشَاشَةَ مُهْجَتي وَرَنَتْ إلى نَحْوِ الخيامِ بِعَوْلَة قُومُوا إِلَى التوديعِ إنَّ أَخِي دَعَا فَخَرَجْنَ رَبَّاتُ الخُدُورِ عَوَاثِراً اللهُ مَا حَالُ العليلِ وَقَدْ رَأَى وَالصَّحْبُ صَرْعى والنصيرُ قليلُ والدَّمْعُ مِنْ ذِكْرِ الْفِرَاقِ يَسِيلُ حُزْناً وياليتَ الجبالَ تزولُ صَرْعَى وَلاَ مِنْهُمْ يُبَلُّ غَلِيلُ إلاَّ نِسَاءٌ وُلَّهٌ وَعليلُ فَرَسَ الْمَنُونِ وَلاَحِمَىً وكفيلُ أُخْتَاهُ صبراً فالمصابُ جليلُ وَعَلَيْكَ ما الصَّبْرُ الجميلُ جميلُ مَنْ لِلنِّسَاءِ الضَّائِعَاتِ دليلُ عُظْمَى تَصُبُّ الدَّمْعَ وَهِيَ تقولُ بِجَوَادِهِ إِنَّ الفِرَاقَ طويلُ وَغَدَا لها نَحْوَ الحسينِ عويلُ تلك المَدَامِعَ لِلْوِدَاعِ تسيلُ (1)
    قال الشيخ الطريحي عليه الرحمة : ثمَّ إنّ الحسين ( عليه السلام ) لمَّا نظر إلى اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته صرعى  ، فالتفت إلى الخيمة ونادى : يا سكينة! يا فاطمة! يا زينب! يا أم كلثوم! عليكنَّ منّي السلام  ، فنادته سكينة : يا أبه! استسلمت للموت ؟! فقال : كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين ؟! فقالت : يا أبه! ردَّنا إلى حرم جدِّنا  ، فقال : هيهات  ، لو ترك القطا لنام  ، فتصارخن النساء
1 ـ معالي السبطين  ، الحائري : 2/27.

(399)
فسكَّتهنَّ الحسين ( عليه السلام )   ، وحمل على القوم (1).
    وفي رواية أنه ( عليه السلام ) قال : يا نور عيني! كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ؟! ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا ولا في الآخرة  ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي  ، فإنّ الدنيا فانية  ، والآخرة باقية (2).
    وفي رواية أنه نادى ( عليه السلام ) : يا أمَّ كلثوم! ويا سكينة! ويا رقيّة! ويا عاتكة! ويا زينب!! يا أهل بيتي! عليكنَّ منّي السلام  ، فلمَّا سمعن رفعن أصواتهن بالبكاء  ، فضمَّ بنته سكينة إلى صدره  ، وقبَّل ما بين عينيها  ، ومسح دموعها  ، وكان يحبُّها حبّاً شديداً  ، ثم جعل يسكتها ويقول :
سيطولُ بَعْدِي يَا سكينةُ فَاعْلَمِي لاَ تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً فَإِذَا قُتِلْتُ فَأَنْتِ أَوْلَى بالّذي مِنْكِ الْبُكَاءُ إذَا الحِمَامُ دَهَاني مَادَامَ مِنّي الرُّوحُ في جُثَْمانِي تَأْتِيْنَهُ يَا خِيْرَةَ النسوانِ (3)
    وفي بعض الروايات : ثم دعا ( عليه السلام ) بأخته زينب ( عليها السلام ) وصبرها  ، وأمرّ يده على صدرها وسكّنها من الجزع  ، وذكر لها ما أعد الله من الثواب للصابرين ما وعدالله من الكرامات للمقربين فرضيت ( عليها السلام )   ، وقالت : يا ابن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنّك تجدني كما تحب وترضى  ، وقالت بلسان الحال :
صبرت على شيء أمر من الصبر سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري (4)
    قال بعض الرواة : وقال الحسين ( عليه السلام ) : ابعثوا إليَّ ثوباً لا يُرغب فيه أجعله تحت
1 ـ المنتخب  ، الطريحي : 440  ، الدمعة الساكبة : 4/336.
2 ـ ناسخ التواريخ : 2/360  ، أسرار الشهادة  ، الدربندي : 423.
3 ـ شرح إحقاق الحق  ، المرعشي : 11/633  ، ينابيع المودّة  ، القندوزي : 3/79  ، مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/257.
4 ـ معالي السبطين  ، الحائري : 2/26.


(400)
ثيابي لئلا أُجرَّد  ، فأُتي بتبّان  ، فقال : لا  ، ذاك لباس من ضربت عليه بالذلة فأخذ ( عليه السلام ) ثوباً خَلِقاً فخرَّقه وجعله تحت ثيابه  ، فلما قُتل ( عليه السلام ) جرَّدوه منه.
    ثم استدعى الحسين ( عليه السلام ) بسراويل من حبرة ففزرها ولبسها  ، وإنما فزرها لئلا يُسلبها  ، فلمَّا قتل ( عليه السلام ) سلبها أبجر بن كعب وتركه مجرَّداً  ، فكانت يدا أبجر بعد ذلك ييبسان في الصيف كأنهما عودان  ، ويترطَّبان في الشتاء فينضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه الله تعالى (1).
    ثم إنه ( عليه السلام ) أمر عياله بالسكوت وودعهم  ، وكانت عليه جبة خز دكناء  ، وعمامة مورَّدة أرخى لها ذوابتين  ، والتحف ببردة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقلد بسيفه (2)
    قال الراوي : ثمَّ قام الحسين ( عليه السلام ) وركب فرسه  ، وتقدَّم إلى القتال  ، ووقف ( عليه السلام ) قبالة القوم وسيفه مصلت في يده  ، آيساً من الحياة  ، عازماً على الموت  ، وهو يقول :
أنا ابنُ عليِّ الطُّهْرِ من آلِ هَاشِم وَجَدّي رسولُ اللهِ أَكرمُ مَنْ مَضَى وَفَاطِمٌ أمّي من سُلاَلةِ أحمد وفينا كِتَابُ اللهِ أُنْزِلَ صَادِقاً ونحنُ أَمَانُ اللهِ للنَّاسِ كُلِّهِمْ ونحنُ وُلاَةُ الْحَوْضِ نَسْقِي ولاتَنَا وَشِيْعَتُنا في الناسِ أَكْرَمُ شِيْعَة كَفَاني بهذا مَفْخَراً حين أَفْخَرُ ونحنُ سِرَاجُ اللهِ في الخَلْقِ نَزْهُرُ وَعَمِّيَ يُدْعَى ذَا الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ وفينا الْهُدَى والْوَحْيُ بالخيرِ يُذْكَرُ نُسِرُّ بهذا في الأَنَامِ وَنَجْهَرُ بِكَأْسِ رَسُولِ اللهِ ما ليس يُنْكَرُ وَمُبْغِضُنا يومَ القيامةِ يَخْسَرُ
    روى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في الاحتجاج أنه لما بقي ( عليه السلام ) فرداً ـ ليس معه إلاّ ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام )   ، وابن آخر في الرضاع اسمه عبدالله ـ أخذ الطفل
1 ـ بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/54.
2 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 271.


(401)
ليودِّعه فإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبَّة الصبيِّ فقتله  ، فنزل عن فرسه وحفر للصبيّ بجفن سيفه  ، ورَمّلهُ بدمه ودفنه  ، ثمَّ وثب قائماً وهو يقول... إلى آخر الأبيات (1).
    ثم إنّه ( عليه السلام ) دعا الناس إلى البراز  ، فلم يزل يقتل كل من دنا منه من عيون الرجال  ، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة.
لَهُ من عليٍّ في الحُرُوبِ شجاعةٌ ومن أَحْمَد عند الخِطَابةِ قيْلُ
    ثمَّ حمل ( عليه السلام ) على الميمنة  ، وقال :
الموتُ خيرٌ من رُكُوبِ العار والعارُ أولى من دُخُولِ النارِ
    ثم حمل على الميسرة وهو يقول :
أنا الحُسَينُ بنُ علي أحْمِي عَيَالاَتِ أَبِي آليتُ أنْ لاَ أَنْثَنِي أَمْضِي عَلَى دينِ النبي
    قال الشيخ المفيد والسيِّد وابن نما رحمهم الله : واشتدَّ العطش بالحسين ( عليه السلام ) فركب المسناة يريد الفرات  ، والعباس ( عليه السلام ) أخوه بين يديه  ، فاعترضه خيل ابن سعد فرمى رجل من بني دارم الحسين ( عليه السلام ) بسهم فأثبته في حنكه الشريف  ، فانتزع ( عليه السلام ) السهم  ، وبسط يده تحت حنكه  ، حتى امتلأت راحتاه من الدم  ، ثمَّ رمى به  ، وقال : اللهم إنّي أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيِّك  ، ثمَّ اقتطعوا العباس عنه وأحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه  ، وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي  ، فبكى الحسين ( عليه السلام ) لقتله بكاءً شديداً (2).
    قال السيِّد : ثمَّ إنَّ الحسين ( عليه السلام ) دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل مقتلة عظيمة وهو في ذلك يقول :
1 ـ الاحتجاج  ، الطبرسي : 2/25.
2 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 69 ـ 70  ، الإرشاد  ، المفيد : 2/109 ـ 110.


(402)
القتل أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار
    قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : قال بعض الرواة : فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولدُه وأهل بيته وصحبه أربطَ جأشاً منه  ، وإن كانت الرجال لتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفه  ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدَّ فيها الذئب  ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمَّلوا ألفاً فينهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر  ، ثمَّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم (1).
    قال ابن شهر آشوب ومحمد بن أبي طالب : ولم يزل يقاتل حتى قتل ألف رجل وتسعمائة رجل وخمسين رجلا سوى المجروحين  ، فقال عمر بن سعد لقومه : الويل لكم  ، أتدرون لمن تقاتلون ؟ هذا ابن الأنزع البطين  ، هذا ابن قتّال العرب  ، فاحملوا عليه من كل جانب  ، وكانت الرماة أربعة آلاف  ، فرموه بالسهام  ، فحالوا بينه وبين رحله (2).
    قال محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب والسيِّد عليهم الرحمة : فصاح بهم : ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين  ، وكنتم لا تخافون المعاد  ، فكونوا أحراراً في دنياكم  ، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً  ، فناداه شمر فقال : ما تقول يا ابن فاطمة ؟ قال : أقول : أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني  ، والنساء ليس عليهنّ جناح  ، فامنعوا عتاتكم عن التعرُّض لحرمي مادمت حيّاً  ، فقال شمر : لك هذا  ، ثمَّ صاح شمر : إليكم عن حرم الرجل  ، فاقصدوه في نفسه  ، فلعمري لهو كفوٌ كريم.
    قال : فقصده القوم وهو في ذلك يطلب شربة من ماء  ، فكلَّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى أحلّوه عنه (3).
1 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 70 ومثله في تاريخ الطبري : 4/345.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 4/110.
3 ـ اللهوف  ، ابن طاووس : 71.


(403)
قَالَ اقْصدُوني بنفسي وَاتْرُكُوا حُرَمِي قَدْ حَانَ حَيْنِي وَقَدْ لاَحَتْ لَوَائِحُهُ
    ولله درّ الشيخ جعفر الخطي عليه الرحمة إذ يقول :
وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ وَاحِدُ الناسِ واحداً يُحَامي وَرَاءَ الطاهراتِ مجاهداً وَلاَ سِمِعَتْ أُذْنِي وَلاَ أُذْنُ سَامِع إلَى أَنْ أَسَالَ الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ نَفْسَهُ فَلَهْفِي لَهُ والخيلُ منهنَّ صَادِرٌ فَأَيُّ فَتَىً ظَلَّت خُيُولُ أُمَيَّة وَأَعْظَمُ شيء أَنَّ شِمْرَاً لَهُ عَلَى فَشُلَّتْ يَدَاه حين يَفْرِي بِسَيْفِهِ وَإَنَّ قتيلا مَيَّزَ الشِّمْرُ شِلْوَهُ يُكَابِدُ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا يُكَابِدُ بِأَهلي وَبِي ذاك المحامي المجاهِدُ بِأَثْبَتَ منه في اللِّقَا وهو وَاحِدُ فَخَرَّكُمَا يَهْوِي إلى الأرضِ سَاجِدُ خَضِيْبُ الحَوَامي مِنْ دِمَاهُ وَوَارِدُ تُعَادِي عَلَى جُثَْمانِهِ وَتُطَارِدُ جَنَاجِنِ صَدْر ابنِ النبيِّ مَقَاعِدُ مُقَلَّدَ مَنْ تُلْقَى إليه المَقَالِدُ لأَكْرَمُ مفقود يُبَكِّيهِ فَاقِدُ (1)
    قال محمد بن شهر آشوب : روى أبو مخنف عن الجلودي أن الحسين ( عليه السلام ) حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجاج الزبيدي  ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة  ، وأقحم الفرس على الفرات  ، فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب قال ( عليه السلام ) : أنت عطشان وأنا عطشان  ، والله لاذقت الماء حتى تشرب  ، فلمّا سمع الفرس كلام الحسين ( عليه السلام ) شال رأسه ولم يشرب كأنّه فهم الكلام  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فأنا أشرب  ، فمدَّ الحسين ( عليه السلام ) يده فغرف من الماء  ، فقال فارس : يا أبا عبدالله! تتلذَّذ بشرب الماء وقد هُتكت حُرمك ؟ فنفض الماء من يده  ، وحمل على القوم  ، فكشفهم فإذا الخيمة سالمة (2).
مَنَعُوه من مَاءِ الفُرَاتِ وَوِرْدِهِ وأبوه ساقي الحوضِ يَوْمَ جَزَاءِ

1 ـ شعراء القطيف  ، الشيخ علي المرهون : 1/14  ، رياض المدح والرثاء : 28.
2 ـ مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 4/5.


(404)
حَتَّى قَضَى عطشاً كما اشتهت العِدَى بِأَكُفِّ لاَ صِيْد وَلاَ أَكْفَاءِ
    ولله درّ السيِّد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
وَعَادَ أَبيُّ الضَّيْمِ بينَ عِدَاتِهِ فَتَىً تَرْجُفُ السَّبْعُ الطِّبَاقُ إذَا رَمَتْ إِذَا جَنَّ لَيْلُ النَّقْعِ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَيُوْرِدُهُ مِثْلَ اللُّجَيْنِ بِهَامِهِمْ إِذَا نَظَمَتْ حَبَّ القُلُوبِ قَنَاتُهُ فَلاَ الوِتْرُ وِتْرٌ حينَ تَقْتَرِعُ الظُّبا وَنَاصِرُهُ الْبَتَّارُ وَالأَرنُ الْمُهْرُ بِصَاعِقَةِ الأقْدَارِ أَنْمُلُهُ الْعَشْرُ فَيَنْشَقُّ فيه مِنْ سَنَا بَرْقِهِ فَجْرُ فَيَصْدُرُ عَنْهَا وَهُوَ مِنْ عَلَق تِبْرُ فللسيفِ في أَعْنَاقِ أَعْدَائِهِ نَثْرُ وَلاَ الشَّفْعُ شَفْعٌ حين تَشْتَبِكُ السُّمْرُ (1)
    قال أبو الفرج الإصبهاني : قال حميد بن مسلم : وجعل الحسين ( عليه السلام ) يطلب الماء وشمر يقول له : والله لا ترده أو ترد النار  ، فقال له رجل : ألا ترى إلى الفرات ـ يا حسين ـ كأنه بطون الحيتان  ، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اللهم أمته عطشاً  ، قال : والله لقد كان هذا الرجل يقول : اسقوني ماء  ، فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه  ، ثم يقول : اسقوني  ، قتلني العطش  ، فلم يزل كذلك حتى مات لعنه الله (2).
    قالوا : ثمَّ رماه رجل من القوم ـ يكنّى أبا الحتوف الجعفي ـ بسهم  ، فوقع السهم في جبهته  ، فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه ولحيته  ، فقال ( عليه السلام ) : اللهم إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة  ، اللهم أحصهم عدداً  ، واقتلهم بدداً  ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً  ، ولا تغفر لهم أبداً.
    ثمَّ حمل عليه كالليث المغضب  ، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلاَّ بعجه بسيفه فقتله  ، والسهام تأخذه من كل ناحية  ، وهو يتّقيها بنحره وصدره  ، ويقول : يا أمَّة
1 ـ مثير الأحزان  ، الجواهري : 115.
2 ـ مقاتل الطالبيين  ، أبو الفرج الإصفهاني : 78.


(405)
السوء! بئسما خلفتم محمداً في عترته  ، أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله  ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي  ، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني ربّي بالشهادة بهوانكم  ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.
    قال : فصاح به الحصين بن مالك السكوني  ، فقال : يا ابن فاطمة وبماذا ينتقم لك منّا ؟ قال : يلقي بأسكم بينكم  ، ويسفك دماءكم  ، ثم يصبُّ عليكم العذاب الأليم  ، ثم لم يزل يقاتل حتى أصابته جراحات عظيمة.
    وقال صاحب المناقب والسيِّد : حتّى أصابته اثنتان وسبعون جراحة (1)   ، وقال ابن شهر آشوب : قال أبو مخنف : عن جعفر بن محمد بن علي ( عليهم السلام ) قال : وجدنا بالحسين ثلاثاً وثلاثين طعنة وأربعاً وثلاثين ضربة  ، وقال الباقر ( عليه السلام ) : أصيب الحسين ( عليه السلام ) ووجد به ثلاث مائة وبضعة وعشرون طعنة برمح  ، وضربة بسيف  ، أورمية بسهم (2)   ، وروي : ثلاثمائة وستون جراحة  ، وقيل : ثلاث وثلاثون ضربة سوى السهام  ، وقيل : ألف وتسعمائة جراحة  ، وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ  ، وروي أنها كانت كلها في مقدمه ( عليه السلام ) (3).
    قال ابن العرندس عليه الرحمة :
فَفَرَّقَ جَمْعَ القومِ حتّى كأنَّهم فَأَذْكَرَهُمْ ليلَ الهريرِ فَأَجْمَعَ هُنَاكَ فَدَتْهُ الصَّالِحونَ بِأنْفُس وَحادُوا عَنِ الكُفَّارِ طَوْعاً لِنَصْرِهِ وَمَدُّوا إليه ذُبَّلا سَمْهَرِيَّةً طُيُورُ بُغاث شَتَّ شَمْلَهُمُ الصَّقْرُ الكلابُ على اللَّيْثِ الْهِزَبْرِ وَقَدْ هَرُّوا يُضَاعَفُ في يومِ الحِسَابِ لها الأَجْرُ وَجَادَ لَهُ بالنفسِ مِنْ سعدِهِ الحُرُّ لِطُولِ حَيَاةِ السِّبْطِ في مَدِّها جَزْرُ

1 ـ اللهوف  ، السيد ابن طاووس : 71.
2 ـ الأمالي  ، الصدوق : 228 ح1.
3 ـ راجع : مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 3/258 و114.
المجالس العاشورية في المآتم الحسينية ::: فهرس