|
||||||||||||||||||||||||
(436)
العُرى ، بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء ، بأبي من جدّه رسول إله السماء ، بأبي من هو سبط نبيِّ الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء ، بأبي من ردَّت له الشمس حتى صلَّى ، قال : فأبكت والله كل عدوّ وصديق.
ثم إن سكينة بنت الحسين ( عليه السلام ) اعتنقت جسد أبيها ، فاجتمع عدَّة من الأعراب حتى جرّوها عنه (1) ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
ولله درّ من قال من الشعراء في وداعها للحسين ( عليه السلام ) ومسيرها من كربلاء :
1 ـ لواعج الأشجان ، السيد محسن الأمين : 197 ـ 198. 2 ـ مثير الأحزان ، الجواهري : 137. 3 ـ وفيات الأئمة ( عليهم السلام ) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 452. (437)
المجلس الثاني ، من اليوم الحادي عشر
قال الراوي : وسأل عبدالله بن رباح القاضي أعمى عن عمائه فقال : كنت حضرت كربلاء وما قاتلت ، فنمت فرأيت شخصاً هائلا قال لي : أجب رسول الله! فقلت : لا أطيق ، فجرَّني إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فوجدته حزيناً وفي يده حربة ، وبسط قدّامه نطع ، وملك قبله قائم في يده سيف من النار ، يضرب أعناق القوم ، وتقع النار فيهم فتحرقهم ، ثم يُحيون ويقتلهم أيضاً هكذا ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، والله ما ضربت بسيف ، ولاطعنت برمح ، ولا رميت سهماً ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ألست كثَّرت السواد ؟ فسلَّمني ، وأخذ من طست فيه دم فكحَّلني
في من رأى رسول الله( صلى الله عليه وآله ) بعد مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) (438)
من ذلك الدم ، فاحترقت عيناي ، فلمَّا انتبهت كنت أعمى (1).
وروى السيّد ابن طاووس عليه الرحمة في كتاب الملهوف وابن شهر آشوب وغيرهما ، عن عبدالله بن رباح القاضي قال : لقيت رجلا مكفوفاً قد شهد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، فسئل عن بصره فقال : كنت شهدت قتله عاشر عشرة ، غير أني لم أطعن برمح ، ولم أضرب بسيف ، ولم أرم بسهم ، فلمّا قُتل رجعت إلى منزلي وصلّيت العشاء الآخرة ، ونمت ، فأتاني آت في منامي فقال : أجب رسول الله! فقلت : مالي وله ؟ فأخذ بتلابيبي وجرّني إليه ، فإذا النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) جالس في صحراء ، حاسر عن ذراعيه ، آخذ بحربة ، وملك قائم بين يديه وفي يده سيف من نار يقتل أصحابي التسعة ، فكلّما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً ، فدنوت منه وجثوت بين يديه ، وقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فلم يردَّ عليَّ ، ومكث طويلا ، ثم رفع رأسه وقال : يا عدوَّ الله ، انتهكت حرمتي ، وقتلت عترتي ، ولم ترع حقي وفعلت وفعلت ، فقلت : يا رسول الله ، ما ضربت بسيف ، ولا طعنت برمح ، ولا رميت بسهم ، فقال : صدقت ولكنك كثَّرت السواد ، ادن مني! فدنوت منه فإذا طست مملوء دماً ، فقال لي : هذا دم ولدي الحسين ، فكحَّلني من ذلك الدم ، فانتبهت حتى الساعة لا أبصر شيئاً (2). وروي عن سعيد بن المسيب ، لما استشهد سيدي ومولاي الحسين ( عليه السلام ) وحجَّ الناس من قابل دخلت على علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقلت له : يا مولاي ، قد قرب الحج فماذا تأمرني ؟ فقال : امض على نيّتك وحجّ ، فحججت فبينما أطوف بالكعبة وإذا أنا برجل مقطوع اليدين ، ووجهه كقطع الليل المظلم ، وهو متعلِّق بأستار الكعبة ، وهو يقول : اللهم ربَّ هذا البيت الحرام ، اغفر لي وما أحسبك تفعل 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/303. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/306. (439)
ولو تشفَّع فيَّ سكَّان سماواتك وأرضك ، وجميع ما خلقت ، لعظم جرمي.
قال سعيد بن المسيب : فشغلت وشغل الناس عن الطواف حتى حفَّ به الناس واجتمعنا عليه ، فقلنا : يا ويلك ، لو كنت إبليس ما كان ينبغي لك أن تيأس من رحمة الله ، فمن أنت ؟ وما ذنبك ؟ فبكى وقال : يا قوم ، أنا أعرف بنفسي وذنبي وما جنيت ، فقلنا له : تذكره لنا ، فقال : أنا كنت جمّالا لأبي عبدالله ( عليه السلام ) لما خرج من المدينة إلى العراق ، وكنت أراه إذا أراد الوضوء للصلاة يضع سراويله عندي ، فأرى تكّة تُغشي الأبصار بحسن إشراقها ، وكنت أتمنّاها تكون لي ، إلى أن صرنا بكربلاء ، وقُتل الحسين ( عليه السلام ) وهي معه ، فدفنت نفسي في مكان من الأرض فلمّا جنَّ الليل ، خرجت من مكاني ، فرأيت من تلك المعركة نوراً لا ظلمةً ، ونهاراً لا ليلا ، والقتلى مطرَّحين على وجه الأرض ، فذكرت لخبثي وشقائي التكّة ، فقلت : والله لأطلبنَّ الحسين وأرجو أن تكون التكة في سراويله فآخذها ، ولم أزل أنظر في وجوه القتلى حتى أتيت إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فوجدته مكبوباً على وجهه وهو جثّة بلا رأس ، ونوره مشرق مرمَّلٌ بدمائه ، والرياح سافية عليه ، فقلت : هذا والله الحسين ، فنظرت إلى سراويله كما كنت أراها فدنوت منه ، وضربت بيدي إلى التكة لآخذها فإذا هو قد عقدها عقداً كثيرة ، فلم أزل أحلّها حتى حللت عقدة منها ، فمدَّ يده اليمنى وقبض على التكة ، فلم أقدر على أخذ يده عنها ولا أصل إليها ، فدعتني النفس الملعونة إلى أن أطلب شيئاً أقطع به يديه ، فوجدت قطعة سيف مطروح ، فأخذتها واتكّيت على يده ، ولم أزل أحزّها حتى فصلتها عن زنده ، ثمّ نحَّيتها عن التكّة ، ومددت يدي إلى التكة لأحلَّها ، فمدَّ يده اليسرى فقبض عليها ، فلم أقدر على أخذها ، فأخذت قطعة السيف فلم أزل أحزُّها حتى فصلتها عن التكة ، ومددت يدي إلى التكة لآخذها ، فإذا الأرض ترجف والسماء تهتزّ ، وإذا بغلبة عظيمة ، وبكاء ونداء ، وقائل يقول : واإبناه ، وامقتولاه ، واذبيحاه ، (440)
واحسيناه ، واغريباه! يا بنيَّ قتلوك وما عرفوك ، ومن شرب الماء منعوك.
فلمّا رأيت ذلك صعقت ورميت نفسي بين القتلى ، وإذا بثلاث نفر وامرأة وحولهم خلائق وقوف ، وقد امتلأت الأرض بصور الناس وأجنحة الملائكة ، وإذا بواحد منهم يقول : يا ابناه يا حسين ، فداك جدّك وأبوك وأخوك وأمك ، وإذا بالحسين ( عليه السلام ) قد جلس ورأسه على بدنه ، وهو يقول : لبيّك يا جدّاه يا رسول الله ، ويا أبتاه يا أمير المؤمنين ، ويا أمّاه يا فاطمة الزهراء ، ويا أخاه المقتول بالسمّ ، عليكم منّي السلام ، ثمَّ إنه بكى وقال : يا جدّاه ـ قتلوا ـ والله رجالنا ، يا جدّاه سلبوا ـ والله ـ نساءنا ، يا جدّاه نهبوا ـ والله ـ رحالنا ، يا جدّاه ذبحوا ـ والله ـ أطفالنا ، يا جدّاه يعزّ ـ والله ـ عليك أن ترى حالنا ، وما فعل الكفار بنا ، وإذا هم جلسوا يبكون حوله على ما أصابه ، وفاطمة تقول : يا أباه يا رسول الله ، أما ترى ما فعلت أمتك بولدي ؟ أتأذن لي أن آخذ من دم شيبه وأخضب به ناصيتي ، وألقى الله عزّ وجلَّ وأنا مختضبة بدم ولدي الحسين ؟ فقال لها : خذي ونأخذ يا فاطمة ، فرأيتهم يأخذون من دم شيبه وتمسح به فاطمة ناصيتها ، والنبيّ وعلي والحسن ( عليهم السلام ) يمسحون به نحورهم وصدورهم وأيديهم إلى المرافق ، وسمعت رسول الله يقول : فديتك يا حسين! يعزُّ ـ والله ـ عليَّ أن أراك مقطوع الرأس ، مرمَّل الجبينين ، دامي النحر ، مكبوباً على قفاك ، قد كساك الذارىء من الرمول (1) ، وأنت طريح مقتول ، مقطوع الكفين ، يا بنيَّ! من قطع يدك اليمنى وثنّى باليسرى ؟ فقال : يا جدّاه! كان معي جمّال من المدينة ، وكان يراني إذا وضعت سراويلي للوضوء ، فيتمنَّى أن تكون تكّتي له ، فما منعني أن أدفعها إليه إلاّ لعلمي أنه صاحب هذا الفعل ، فلمّا قتلت خرج يطلبني بين القتلى ، فوجدني جثة بلا رأس ، فتفقَّد سراويلي فرأى التكّة ، وقد كنت عقدتها عقداً كثيرة ، فضرب بيده إلى التكة فحلَّ عقدة منها ، فمددت يدي اليمنى 1 ـ قال في الهامش : جمع الرمل على الرمول على غير قياس. (441)
فقبضت على التكة ، فطلب في المعركة فوجد قطعة سيف مكسور فقطع به يميني ، ثمَّ حلَّ عقدة أخرى ، فقبضت على التكة بيدي اليسرى كي لا يحلَّها فتنكشف عورتي ، فحزَّ يدي اليسرى ، فلمّا أراد حلّ التكة حسَّ بك فرمى نفسه بين القتلى ، فلمَّا سمع النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) كلام الحسين بكى بكاء شديداً ، وأتى إليَّ بين القتلى إلى أن وقف نحوي ، فقال : مالي ومالك يا جمال ؟ تقطع يدين طالما قبَّلهما جبرئيل وملائكة الله أجمعون ، وتباركت بها أهل السماوات والأرضين ؟ أما كفاك ما صنع به الملاعين من الذلّ والهوان ، هتكوا نساءه من بعد الخدور ، وانسدال الستور ، سوَّد الله وجهك ـ يا جمال ـ في الدنيا والآخرة ، وقطع الله يديك ورجليك ، وجعلك في حزب من سفك دماءنا وتجرَّأ على الله ، فما استتمَّ دعاءه حتى شلَّت يداي ، وحسست بوجهي كأنه أُلبس قطعاً من الليل مظلماً ، وبقيت على هذه الحالة ، فجئت إلى هذا البيت أستشفع وأنا أعلم أنه لا يغفر لي ، فلم يبق في مكة أحد إلاَّ وسمع حديثه وتقرَّب إلى الله بلعنته ، وكل يقول : حسبك ما جنيت يا لعين ، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.
وقال بعض الرواة : حُكي عن رجل كوفي حدّاد ، قال : لما خرج العسكر من الكوفة لحرب الحسين بن علي ( عليهما السلام ) جمعت حديداً عندي ، وأخذت آلتي وسرت معهم ، فلمَّا وصلوا وطنَّبوا خيمهم بنيت خيمة ، وصرت أعمل أوتاداً للخيم ، وسككاً ومرابط للخيل ، وأسنّة للرماح ، وما اعوجَّ من سنان أو خنجر أو سيف كنت بكل ذلك بصيراً ، فصار رزقي كثيراً ، وشاع ذكري بينهم ، حتى أتى الحسين ( عليه السلام ) مع عسكره فارتحلنا إلى كربلاء وخيَّمنا على شاطىء العلقمي ، وقام القتال فيما بينهم ، وحرموا الماء عليه ، وقتلوه وأنصاره وبنيه ، وكانت مدّة إقامتنا وارتحالنا تسعة عشر يوماً ، فرجعت غنياً إلى منزلي ، والسبايا معنا ، فَعُرِضَتْ على عبيدالله ، فأمر أن يشهِّروهم إلى يزيد إلى الشام ، فلبثت في منزلي أياماً قلائل ، وإذا (442)
أنا ذات ليلة راقد على فراشي فرأيت طيفاً كأن القيامة قامت ، والناس يموجون على الأرض كالجراد إذا فقدت دليلها ، وكلهم دالع لسانه على صدره من شدّة الظمأ ، وأنا أعتقد بأن ما فيهم أعظم مني عطشاً ، لأنه كلَّ سمعي وبصري من شدّته ، هذا غير حرارة الشمس يغلي منها دماغي ، والأرض تغلي كأنها القير إذا أشتعل تحته نار ، فخلت أن رجلي قد تقلَّعت قدماها ، فوالله العظيم لو أني خُيِّرت بين عطشي وتقطيع لحمي حتى يسيل دمي لأشربه لرأيت شربه خيراً من عطشي ، فبينا أنا في العذاب الأليم ، والبلاء العميم ، إذا أنا برجل قد عمَّ الموقف نوره ، وابتهج الكون بسروره ، راكب على فرس ، وهو ذو شيبة ، قدحفت به ألوف من كلِّ نبيّ ووصيّ وصدّيق وشهيد وصالح ، فمرَّ كأنه ريح أو سيران فلك ، فمرَّت ساعة وإذا أنا بفارس على جواد أغرّ ، له وجه كتمام القمر ، تحت ركابه ألوف ، إن أمر ائتمروا ، وإن زجر انزجروا ، فاقشعرَّت الأجسام من لفتاته ، وارتعدت الفرائص من خطراته ، فتأسَّفت على الأول ما سألت عنه خيفة من هذا ، وإذا به قد قام في ركابه ، وأشار إلى أصحابه ، وسمعت قوله : خذوه ، وإذا بأحدهم قابض بعضدي كلبة حديد خارجة من النار ، فمضى بي إليه ، فخلت كتفي اليمنى قد انقلعت ، فسألته الخفّة فزادني ثقلا ، فقلت له : سألتك بمن أمرك عليَّ من تكون ؟
قال : مَلِكٌ من ملائكة الجبار ، قلت : ومن هذا ؟ قال : عليّ الكرار ، قلت : والذي قبله ؟ قال : محمد المختار ، قلت : والذي حوله ؟ قال : النبيون ، والصدّيقون ، والشهداء والصالحون ، والمؤمنون ، قلت : أنا ما فعلت حتى أمرك عليَّ ؟ قال : إليه يرجع الأمر ، وحالك حال هؤلاء ، فحقَّقت النظر وإذا بعمر بن سعد أمير العسكر ، وقوم لم أعرفهم ، وإذا بعنقه سلسلة من حديد ، والنار خارجة من عينيه وأذنيه ، فأيقنت بالهلاك ، وباقي القوم منهم مغلَّل ، ومنهم مقيَّد ، ومنهم مقهور بعضده مثلي ، فبينا نحن نسير وإذا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي وصفه الملك جالس على كرسيّ عال (443)
يزهو ، أظنّه من اللؤلؤ ، ورجلين ذي شيبتين بهيتين عن يمينه ، فسألت الملك عنهما فقال : نوح وإبراهيم ، وإذا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ما صنعت يا عليّ ؟ قال : ما تركت أحداً من قاتلي الحسين إلاّ وأتيت به.
فحمدت الله تعالى على أني لم أكن منهم ، وردّ إليَّ عقلي ، وإذا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : قدّموهم ، فقدَّموهم إليه ، وجعل يسألهم ويبكي ، ويبكي كل من في الموقف لبكائه ، لأنه يقول للرجل : ما صنعت بطفّ كربلاء بولدي الحسين ؟ فيجيب : يا رسول الله! أنا حميت الماء عنه ، وهذا يقول : أنا قتلته ، وهذا يقول : أنا وطئت صدره بفرسي ، ومنهم من يقول : أنا ضربت ولده العليل ، فصاح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : واولداه ، واقلّة ناصراه ، واحسيناه ، واعليّاه ، هكذا جرى عليكم بعدي أهل بيتي ، انظر يا أبي آدم ، انظر يا أخي نوح ، كيف خلفوني في ذرّيّتي ؟ فبكوا حتى ارتجَّ المحشر ، فأمر بهم زبانية جهنم يجرّونهم أولا فأولا إلى النار. وإذا بهم قد أتوا برجل ، فسأله فقال : ما صنعت شيئاً ، فقال : أما كنت نجّاراً ؟ قال : صدقت يا سيدي ، لكني ما عملت شيئاً إلاّ عمود الخيمة لحصين بن نمير; لأنه انكسر من ريح عاصف فوصلته ، فبكى وقال : كثَّرت السواد على ولدي ، خذوه إلى النار ، وصاحوا : لا حكم إلاَّ لله ولرسوله ووصيّه. قال الحدّاد : فأيقنت بالهلاك ، فأمر بي فقدَّموني ، فاستخبرني فأخبرته ، فأمر بي إلى النار ، فما سحبوني إلاَّ وانتبهت ، وحكيت لكلِّ من لقيته ، وقد يبس لسانه ، ومات نصفه ، وتبرَّأ منه كل من يحبّه ، ومات فقيراً لا رحمه الله ، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون (1). وروي عن داود البكري ، عن علي بن دعبل بن علي الخزاعي ، حدَّثه أنه رأى أباه دعبل الخزاعي في المنام ، وسأله عن حاله فأخبره ، وقال له فيما قال : لقيت 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 45/316 ـ 322. (444)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء ، فقال لي : أنت دعبل ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فأنشدني قولك في أولادي ، فأنشدته قولي :
قال ابن سيرين : أُخبرنا أن الحمرة التي مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين ( عليه السلام ) (2) ، وفي رواية أخرى قال : لم يكن في السماء حمرة حتى قتل الحسين (3) ، إن السماء بكت ، وبكاؤها حمرتها. وقال غيره : احمَّرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ لا زالت الحمرة تُرى بعد ذلك (4). وروى أبو نعيم وابن عساكر ، عن هشام ، عن محمد قال : لم تُر هذه الحمرة التي في آفاق السماء حتى قُتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (5). قال ابن الجوزي : وحكمته أن غضبنا يؤثِّر حمرة الوجه ، والحق تنزَّه عن الجسمية ، فأظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين ( عليه السلام ) بحمرة الأفق إظهاراً لعظم 1 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، الشيخ الصدوق : 1/297. 2 ـ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 3/20 ـ 21 ح 36 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/228. 3 ـ المعجم الكبير الطبراني : 3/114 ح 2840 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/197. 4 ـ ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 3/20 ـ 21 ح 36. 5 ـ حلية الأولياء ، أبو نعيم : 2/276 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 93/493. (445)
الجناية (1).
وعن خلاّد صاحب السمسم ـ وكان ينزل بني جحدر ـ قال : حدَّثتني أمي ، قالت : كنّا زماناً بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، وإن الشمس تطلع محمَّرة على الحيطان والجدر بالغداة والعشي (2). وروى الطبراني بالإسناد عن أبي قبيل ، قال : لما قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار ، حتى ظننا أنها هي (3). وروي عن قرة بن خالد ، قال : ما بكت السماء على أحد إلاَّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها (4). وروي عن ابن سيرين ، قال : لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلاّ على الحسين بن علي ( عليهما السلام ) (5). وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبيد المكتب ، عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلاّ على اثنين ، قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن ، قال : ذاك مقامه حيث يصعد عمله ، قال : وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت : لا ، قال : تحمّر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قُتل احمَّرت السماء وقطرت دماً ، وإن الحسين بن علي ( عليهما السلام ) لما قُتل احمَّرت السماء (6) وفي ذلك يقول سليمان بن قبة الخزاعي :
1 ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 295 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 222. 2 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 14/226. 3 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/114 ح 2838 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 6/433. 4 ـ تفسير القرطبي : 10/220 و16/141 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 64/217. 5 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 14/225 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/312. 6 ـ تفسير ابن كثير : 4/154 ، الدر المنثور ، السيوطي : 6/31. (446)
وروي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها ، قالت : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) مطرنا دماً (3) وفي رواية ابن حمدون قال : قال سليم القاص : لما قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) مطرت السماء دماً عبيطاً (4). وعن مسلم بن إبراهيم قال : حدَّثتنا أم شوق العبدية ، قالت : حدَّثتني نضرة الأزدية ، قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً ، فأصبح جرارنا وكل شيء لنا ملأى دماً (5). وعن جعفر بن سليمان قال : حدَّثتني خالتي أم سالم ، قالت : لما قتل الحسين مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر ، قالت : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة (6). وعن قرط بن عبدالله قال : مطرت ذات يوم بنصف النهار ، فأصاب ثوبي فإذا دم ، فذهبت بالإبل إلى الوادي فإذا دم ، فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين ( عليه السلام ). 1 ـ أسد الغابة ، ابن الأثير : 2/21 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/314 ـ 315. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/285 ح 23 عن عيون أخبار الإمام الرضا ( عليه السلام ). 3 ـ ذخائر العقبى ، الطبري : 145 ، سبل الهدى والرشاد ، الشامي : 11/80. 4 ـ التذكرة الحمدونية ، ابن حمدون : 9/245 ، رقم : 479. 5 ـ الثقات ، ابن حبان : 4/329 رقم : 5862 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/227. 6 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/228 ـ 229 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6/433 ـ 434. (447)
ومن الآيات التي وقعت بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) ظهور الكواكب في النهار ، قال عيسى بن الحارث الكندي : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) مكثنا سبعة أيام إذا صلّينا العصر نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة ، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً (1) ، وعن خلف بن خليفة ، عن أبيه قال : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) اسودَّت السماء ، وظهرت الكواكب نهاراً حتى رأيت الجوزاء عند العصر ، وسقط التراب الأحمر (2).
وحدَّث عبد الملك بن كردوس ، عن حاجب عبيدالله بن زياد ، قال : دخلت معه القصر حين قتل الحسين ( عليه السلام ) ، قال : فاضطرم في وجهه ناراً أو كلمة نحوها ، فقال هكذا بكمِّه على وجهه ، وقال : لا تحدّثن بهذا أحداً (3). ومن الآيات التي وقعت أنه ما رُفع حجر إلاَّ وتحته دم عبيط ، فقد حدَّث خلاد صاحب السمسم عن أمه في مقتل الحسين ( عليه السلام ) قالت : وكانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وجد تحته دم (4). وعن محمد بن عمر بن علي ، عن أبيه ، قال : أرسل عبد الملك إلى ابن رأس الجالوت ، فقال : هل كان في قتل الحسين ( عليه السلام ) علامة ؟ قال ابن رأس الجالوت : ما كُشف يومئذ حجر إلاَّ وجد تحته دم عبيط (5). وعن الزهري قال : قال لي عبد الملك بن مروان : أيُّ واحد أنت إن أخبرتني 1 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/114 ح 2839 سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3/312. 2 ـ تهذيب الكمال ، المزي : 6/432 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 14/226. 3 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 37/451 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3/112 ح 2831. 4 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/226 ، ترجمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من كتاب بغية الطلب في تأريخ حلب ، ابن العديم : 173 ح 151. 5 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 14/230 ، ترجمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) من كتاب بغية الطلب في تأريخ حلب ، ابن العديم : 173 ح 150. (448)
أيَّ علامة كانت يوم قتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) ؟ قال : قلت : لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلاّ وجد تحتها دم عبيط ، فقال عبد الملك : إني وإياك في هذا الحديث لقرينان (1).
ومما جاء وظهر من كرامات الرأس الشريف حينما حمله القوم إلى الكوفة ما رواه أبو مخنف ، قال : فسرّح برأسه ( عليه السلام ) من يومه ذلك مع خولي بن يزيد ، وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيدالله بن زياد ، فأقبل به خولي ، فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقاً ، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله ، وله امرأتان : امرأة من بني أسد ، والأخرى من الحضرميين يقال لها : النوار ابنة مالك بن عقرب ، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية. قال هشام : فحدَّثني أبي عن النوار بنت مالك ، قالت : أقبل خولي برأس الحسين ( عليه السلام ) ، فوضعه تحت إجانة في الدار ، ثمَّ دخل البيت فأوى إلى فراشه ، فقلت له : ما الخبر ؟ ما عندك ؟ قال : جئتك بغنى الدهر ، هذا رأس الحسين معك في الدار ، قالت : فقلت : ويلك ، جاء الناس بالذهب والفضة ، وجئت برأس ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً. قالت : فقمت من فراشي ، فخرجت إلى الدار ، فدعا الأسدية فأدخلها إليه ، وجلست أنظر ، قالت : فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة ، ورأيت طيراً بيضاً ترفرف حولها ، قال : فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيدالله بن زياد لعنة الله.. (2). وعن المنهال بن عمرو قال : أنا ـ والله ـ رأيت رأس الحسين بن علي ( عليه السلام ) حين حمل وأنا بدمشق ، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتى بلغ قوله 1 ـ المعجم الكبير ، الطبراني : 3/119 ح 2856. 2 ـ تاريخ الطبري : 4/384 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8/206. (449)
تعالى : « أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً » (1).
قال : فأنطق الله الرأس بلسان ذرب ، فقال : أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي (2). وعن سلمة بن كهيل قال : رأيت رأس الحسين بن علي ( عليه السلام ) على القنا وهو يقول : « فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (3) (4). قال جرير بن محمد : فقلت لصالح : الله إنك سمعته من معاذ بن أسد ؟ قال : الله إني سمعته منه ، قال معاذ بن أسد : فقلت للفضل : الله إنك سمعته من الأعمش ؟ فقال : الله إني سمعته منه ، قال الأعمش : فقلت لسلمة بن كهيل : الله إنك سمعته منه ؟ قال : الله إني سمعته منه بباب الفراديس بدمشق ، مَثُل لي ولا شُبِّه لي ، وهو يقول : « فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (5). ولله درّ بعضهم إذ يقول :
1 ـ سورة الكهف ، الآية : 9. 2 ـ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 60/369 ـ 370 ، الخصائص الكبرى ، السيوطي : 2/127. 3 ـ سورة البقرة ، الآية : 137. 4 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 22/117. 5 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 22/118 ، ( هامش تاريخ ابن عساكر ، زيادة عن نسخة ( م ) ). (450)
قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة في اللهوف : وسار ابن سعد بالسبي المشار إليه ، فلمَّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن.
قال الراوي : فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت : من أيِّ الأسارى أنتنَّ ؟ فقلن : نحن أُسارى آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت المرأة من سطحها ، فجمعت لهن ملاء وأزراً ومقانع ، وأعطتهن فتغطَّين. قال الراوي : وكان مع النساء علي بن الحسين ( عليه السلام ) قد نهكته العلّة ، والحسن بن الحسن المثنى ، وكان قد واسى عمَّه وإمامه في الصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح ، وإنما ارتثّ وقد أُثخن بالجراح. وروى مصنف كتاب المصابيح أن الحسن بن الحسن المثنى قَتَلَ بين يدي عمّه الحسين ( عليه السلام ) في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً ، وأصابه ثمانية عشر جراحة ، فوقع فأخذه خاله أسماء بن خارجة ، فحمله إلى الكوفة وداواه حتى برىء وحمله إلى المدينة. وكان معهم أيضاً زيد وعمر ، ولدا الحسن السبط ( عليهم السلام ) ، فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون ، فقال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : تنوحون وتبكون مِن أجلِنا فمَن ذا الذي قتلنا ؟ (1) قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : رأيت في بعض الكتب المعتبرة روي مرسلا عن مسلم الجصاص قال : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الأمارة بالكوفة ، 1 ـ اللهوف ، السيد ابن طاووس : 85 ـ 86. |
||||||||||||||||||||||||
|