|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
(676)
ورضعت من ثدي الإيمان ، وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، غير أن قلوب المؤمنين غير طيِّبة بفراقك ، ولا شاكَّة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
ثمَّ جال ببصره حول القبر وقال : السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلَّت بفناء الحسين ( عليه السلام ) وأناخت برحله ، أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين ، والذي بعث محمداً بالحقّ ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطية : فقلت لجابر : فكيف ولم نهبط وادياً ، ولم نعلُ جبلا ، ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، وأوتمت أولادهم ، وأرملت الأزواج ؟! فقال لي : يا عطيَّة! سمعت حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : من أحبَّ قوماً حُشر معهم ، ومن أحبَّ عمل قوم أُشرك في عملهم ، والذي بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله ) بالحقّ ، إن نيّتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه (1). قال عطية : فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام ، فقلت : يا جابر! هذا سواد قد طلع من ناحية الشام ، فقال جابر لعبده : انطلق إلى هذا السواد وأتنا بخبره ، فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإن كان زين العابدين فأنت حرٌّ لوجه الله تعالى. قال : فمضى العبد ، فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول : يا جابر! قم واستقبل حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، هذا زين العابدين ( عليه السلام ) قد جاء بعمَّاته وأخواته ، فقام جابر يمشي ، حافي الأقدام ، مكشوف الرأس ، إلى أن دنا من زين العابدين ( عليه السلام ) فقال الإمام : أنت جابر ؟ فقال : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : يا جابر! 1 ـ بشارة المصطفى ، الطبري : 125 ـ 126 ح 72. (677)
ههنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا ، وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا (1).
وفي بعض الأخبار قال الراوي : فتلاقوا في وقت واحد ، وأخذوا بالبكاء والنحيب واللطم ، وأقاموا العزاء ، واجتمع إليهم نساء أهل السواد ، فخرجت زينب في الجمع ، وأهوت إلى جيبها فشقَّته ، ونادت بصوت حزين يقرح القلوب : وا أخاه ، وا حسيناه ، وا حبيب رسول الله ، وا ابن مكة ، ومنى ، وا ابن فاطمة الزهراء ، وا ابن علي المرتضى ، آه آه ، ثمَّ آه ، ووقعت مغشيّاً عليها ، فاجتمعن النساء إليها ، ورششن الماء عليها حتى أفاقت ، وكأني بها تنادي بلسان الحال :
1 ـ لواعج الأشجان ، السيد محسن الأمين : 238 ـ 242. (678)
ولما قيل لزينب ( عليها السلام ) : قومي ، قالت : إلى أين ؟ قالوا : إلى المدينة ، قالت : ومن ذا بقي لي في المدينة (2).
مما روي من الأحاديث في فضل زيارة سيد الشهداء الحسين بن علي ( عليه السلام ) ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : إن موسى بن عمران سأل ربَّه عزَّ وجلَّ زيارة قبر الحسين بن علي ، فزاره في سبعين ألف من الملائكة (3). وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) ، قال : سُئل جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) عن زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) ، فقال : أخبرني أبي أن من زار قبر الحسين ( عليه السلام ) عارفاً بحقّه كتبه الله في 1 ـ وفيات الأئمة ( عليهم السلام ) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 167 ـ 168 ، معالي السبطين ، الحائري : 197 ـ 198 بتفاوت. 2 ـ مجمع المصائب ، الهنداوي : 2/167. 3 ـ الفردوس بمأثور الخطاب ، الديلمي : 1/227 ح 870. (679)
علّيّين ، وقال : إن حول قبر الحسين ( عليه السلام ) سبعين ألف ملك ، شعثاً غبراً ، يبكون عليه إلى يوم القيامة (1).
وقال دعبل الخزاعي يحثُّ على زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) :
1 ـ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : 151 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 98/69 ح 1. 2 ـ مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي : 2/114. 3 ـ دمية القصر وعصرة أهل العصر ، الباخرزي : 1/385 ـ 386. (680)
عليهم ، وشرط أن يُرشدوا إلى قبره ، ويُضيِّفوا من زاره ثلاثة أيام.
وروى محمد بن أحمد بن داوود القمي عن مولانا الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : حرم الحسين ( عليه السلام ) الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال ، فهو حلال لولده ومواليه ، حرام على غيرهم ممن خالفهم ، وفيه البركة ، وذكر السيِّد الجليل السيّد رضي الدين ابن طاووس : أنها إنّما صارت حلالا بعد الصدقة لأنهم لم يفوا بالشرط. قال : وقد روى محمد بن داود عدم وفائهم بالشرط في باب نوادر الزيارات (1). وروى هارون بن خارجة ، قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول : وكَّل الله بقبر الحسين ( عليه السلام ) أربعة آلاف ملك شعث غبر ، يبكونه إلى يوم القيامة ، فمن زاره عارفاً بحقّه شيَّعوه حتى يبلغوه مأمنه ، وإن مرض عادوه غدوة وعشيَّة ، وإن مات شهدوا جنازته ، واستغفروا له إلى يوم القيامة (2). ومما جاء في فضل زيارة الحسين ( عليه السلام ) أيضاً ما رواه ابن قولويه عليه الرحمة ، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا حسين! من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي ( عليه السلام ) إن كان ماشياً كتب له بكل خطوة حسنة ، ومحي عنه سيئة ، حتى إذا صار في الحَير كتبه الله من المفلحين المنجحين ، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين ، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقرئك السلام ، ويقول لك : استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى. وروي عن عبدالله بن الطمحان ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته وهو يقول : ما من أحد يوم القيامة إلاَّ وهو يتمنَّى أنه من زوَّار الحسين بن علي ( عليه السلام ) ; لما 1 ـ مستدرك الوسائل ، النوري : 10/321 ح 6 و7. 2 ـ الكافي ، الكليني : 4/581 ح 6. (681)
يرى مما يُصنع بزوَّار الحسين من كرامتهم على الله (1).
ولله درّ الشاعر إذ يقول :
وعن زيد الشحام قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : ما لمن زار الحسين ( عليه السلام ) ؟ قال : كمن زار الله في عرشه ، قال : قلت : فما لمن زار أحداً منكم ؟ قال : كمن زار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (3) ، وعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) ، فإن إتيانه يزيد في الرزق ، ويمدُّ في العمر ، ويدفع مدافع السوء ، وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقرُّ للحسين بالإمامة من الله. وعن منصور بن حازم قال : سمعناه يقول : من أتى عليه حول لم يأتِ قبر الحسين ( عليه السلام ) أنقص الله من عمره حولا ، ولو قلت : إن أحدكم ليموت قبل أجله 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 89/72. 2 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 144 ح 1. 3 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 283 ح 4. (682)
بثلاثين سنة لكنت صادقاً ، وذلك لأنكم تتركون زيارة الحسين ( عليه السلام ) ، فلا تَدعوا زيارته يمدّ الله في أعماركم ، ويزيد في أرزاقكم ، وإذا تركتم زيارته نقص الله من أعماركم وأرزاقكم ، فتنافسوا في زيارته ، ولا تدعوا ذلك ، فإن الحسين شاهد لكم في ذلك عند الله وعند رسوله ، وعند أمير المؤمنين وعند فاطمة ( عليهم السلام ) (1).
ومما جاء في فضل زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) أيضاً ما رواه ابن قولويه عليه الرحمة عن معاوية بن وهب ، قال : استأذنت على أبي عبدالله ( عليه السلام ) فقيل لي : ادخل ، فدخلت ، فوجدته في مصلاه في بيته ، فجلست حتى قضى صلاته ، فسمعته وهو يناجي ربه وهو يقول : اللهم يا من خصنا بالكرامة ، ووعدنا بالشفاعة ، وخصنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي ، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا ، اغفر لي ولإخواني ، وزوار قبر أبي عبدالله الحسين ، الذين أنفقوا أموالهم ، وأشخصوا أبدانهم ، رغبة في برنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيك ، وإجابةً منهم لإمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدونا ، أرادوا بذلك رضوانك ، فكافهم عنا بالرضوان ، واكلأهم بالليل والنهار ، واخلُف على آهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف ، واصحبهم ، واكفهم شرّ كل جبار عنيد ، وكل ضعيف من خلقك وشديد ، وشر شياطين الإنس والجن ، وأعطهم أفضل ما أملوا منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم. اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم ، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافا منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تتقلب على حفرة أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا ، اللهم إني أستودعك تلك الأبدان وتلك 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 284 ـ 285 ، ح 1 و2. (683)
الأنفس ، حتى توافيهم من الحوض يوم العطش إلى أن قال ( عليه السلام ) : يا معاوية من يدعو لزواره في السماء أكثر ممن يدعو لهم في الأرض (1).
ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ كامل الزيارات : ابن قولويه : 228 ـ 229 ح 2. 2 ـ الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، للدكتور عبد الصاحب الموسوي : 346. (684)
جاء في الزيارة الناحية ( عليه السلام ) للإمام الحجة ( عليه السلام ) : السلام على الحسين الذي سمحت نفسه بمهجته ، السلام على من أطاع الله في سره وعلانيته ، السلام على من جُعل الشفاء في تربته ، السلام على من الإجابة تحت قبته ، السلام على من الأئمة من ذريته (1). جاء في الآمالي للشيخ الصدوق عليه الرحمة عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر و جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) يقولان : إن الله تعالى عوض الحسين ( عليه السلام ) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعد أيام زائريه جائياً وراجعاً. قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : هذه الخلال تُنال بالحسين ( عليه السلام ) فما له في نفسه ؟ قال : إن الله تعالى ألحقه بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فكان معه في درجته ومنزلته ثم تلا أبو عبدالله ( عليه السلام ) « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَان أَلْحَقْنَا 1 ـ ديوان العلامة الجشي : 151 ـ 152. 2 ـ المزار ، المشهدي : 497. (685)
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » الآية (1).
وروي عن أبي بكار قال : أخذت من التربة التي عند رأس الحسين بن علي ( عليه السلام ) طينا أحمر فدخلت على الرضا ( عليه السلام ) فعرضتها عليه فأخذها في كفه ثم شمها ثم بكى حتى جرت دموعه ثم قال : هذه تربة جدي. وروي عن جابر الجعفي قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : طين قبر الحسين ( عليه السلام ) شفاء من كل داء وأمان من كل خوف وهو لما أخذ له (2). وروى مؤلف المزار الكبير بإسناده ، عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن أبيه ، عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : إن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانت سبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات ، وكانت ( عليها السلام ) تديرها بيدها تكبر وتسبح حتى قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس ، فلما قتل الحسين صلوات الله عليه عدل بالأمر إليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية. وقال أيضاً في المزار الكبير ، وروي أن الحور العين إذا أبصرن بواحد من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمر ما يستهدين منه السبح والتربة من طين قبر الحسين ( عليه السلام ) (3). وروى معاوية بن عمار قال : كان لأبي عبدالله ( عليه السلام ) خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبدالله ( عليه السلام ) فكان إذا حضرت الصلاة صبه على سجادته وسجد عليه ، ثم قال ( عليه السلام ) : السجود على تربة الحسين ( عليه السلام ) يخرق الحجب السبع (4). وقال بعض الشعراء : 1 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 89/69 ح 2. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 98/131. 3 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 98/133 ـ 134. 4 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 98/135 ـ 136. (686)
روي عن الإمام الرضا ، عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : كأني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين ( عليه السلام ) وكأني بالأسواق قد حفت حول قبره فلا تذهب الأيام والليالي حتى يُسار إليه من الآفاق ، وذلك عند انقطاع ملك بني مروان (2). ولله در الحجة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول : 1 ـ الغدير ، الأميني : 7/15. 2 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 98/114 ح 36. (687)
فقالت : لا يجزعنك ماترى فو الله إن ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدك وأبيك وعمك ، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنةُ هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يَدرس أثرُه ، ولا يعفو رسمُه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدَنَّ أئمةُ الكفرِ وأشياعُ الضلالة في محوه وتطميسه ، فلا يزدادُ أثرُه إلا ظهوراً ، وأمرُه إلا 1 ـ شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 2/29. (688)
علواً (1).
فمن الثوابت التأريخية التي لا تُنكر اعتداء المتوكِّل العباسي الناصبي (2) الجاحد لحقّ أهل البيت ( عليهم السلام ) على قبر سيِّد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فعمد أولا إلى منع الناس من زيارة قبره الشريف ، ومعاقبة كل من يزوره بالقتل ، ومع ذلك وجدهم مصرّين على تعاهد زيارته ، ولثم تربته الطاهرة ، ولكنه وجدهم يتفانون في إتيان قبره الشريف ، حتى ولو كلَّفهم ذلك أنفسهم ، ولمَّا رأى أن الناس لا ينتهون عن نهيه ، ولا يكترثون به عمد إلى هدم القبر الشريف ، ولم يكتف بذلك حتى عمد إلى حرثه وتخريبه ، وقلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرقه ، وأجرى الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، وعمد إلى ذلك كله كي يضيِّع معالمه على زوَّاره ومحبّيه ، وليمحو ذكره ، لكن أنَّى له ذلك ، وإذا تمكَّن من تخريب القبر الشريف وهدمه فأنّى له أن يزيل محبَّته من قلوب شيعته ونفوس محبّيه ؟ قال المسعودي : وكان آل أبي طالب قبل خلافة المنتصر في محنة عظيمة ، وخوف على دمائهم ، وقد منعوا زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) والغري من أرض الكوفة ، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكِّل سنة ست وثلاثين ومائتين ، وفيها أمر المعروف بالديزج بالسير إلى قبر الحسين بن علي ( عليه السلام ) وهدمه ، ومحو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب من وجد به ، فبذل الرغائب لمن تقدَّم على هذا القبر ، فكلٌّ خشي العقوبة ، وأحجم ، فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين ( عليه السلام ) ، فحينئذ أقدم الفعلة فيه ، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد فلم يروا فيه أثر رمّة ولا غيرها ، ولم تزل الأمور 1 ـ كامل الزيارات ، ابن قولويه : 445 ح 1 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 45/179 ـ 180 ح 30 و 28/57 ح 23. 2 ـ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : 12/18 : وكان المتوكل فيه نصب. (689)
على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر (1).
وروى أبو الفرج الأصفهاني في ذكر أيام المتوكل ، ومن ظهر فيها فقتل أو حبس من آل أبي طالب ( عليه السلام ) ، قال : وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتمّاً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له أن عبيدالله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين ( عليه السلام ) وعفَّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لا يجدون أحداً زاره إلاَّ أتوه به فقتله ، أو أنهكه عقوبة. قال : وبعث برجل من أصحابه يقال له : الديزج ـ وكان يهودياً فأسلم ـ إلى قبر الحسين ( عليه السلام ) ، وأمره بكرب قبره ومحوه ، وإخراب كل ما حوله ، فمضى إلى ذلك وخرَّب ما حوله ، وهدم البناء ، وكرب ما حوله نحو مائتي جريب ، فلمَّا بلغ إلى قبره لم يتقدَّم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكَّل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلاَّ أخذوه ووجَّهوا به إليه. قال : فحدَّثني محمد بن الحسين الإشناني ، قال : بَعُد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ، ثمَّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطَّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين ، نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل ، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمُّه ونتحَّرى جهته حتى أتيناه ، وقد قُلع الصندوق الذي كان حواليه وأُحرق ، وأُجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه ، فشممنا منه رائحة ما شممت 1 ـ مروج الذهب ، المسعودي : 4/51. (690)
مثلها قط كشيء من الطيب ، فقلت للعطّار الذي كان معي : أيُّ رائحة هذه ؟ فقال : لا والله ، ما شممت مثلها كشيء من العطر ، فودَّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمَّا قُتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر ، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.
واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشيء وإن قلَّ إلاَّ أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويّات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمَّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قُتل المتوكِّل ، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجَّه بمال فرَّقه فيهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ، ومضادّة مذهبه طعناً عليه ، ونصرة لفعله (1). وقال الطبري في أحداث سنة مائتين وست وثلاثين : وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يحرث ويبذر ويُسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق ، فهرب الناس ، وامتنعوا من المصير إليه ، وحُرث ذلك الموضع وزُرع ما حواليه (2). وقال ابن كثير : ثمَّ دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين ، فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) وما حوله من المنازل والدور ، ونودي في الناس : من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق ، فلم يبق هناك بشر ، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل (3) ، وذكر هشام بن الكلبي أن الماء لمَّا 1 ـ مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الأصفهاني : 394 ـ 397. 2 ـ تاريخ الطبري : 7/365. 3 ـ البداية والنهاية ، ابن كثير : 10/347. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|