المكاسب ـ جلد الأول ::: 61 ـ 70
(61)
المسألة الثالثة
    [ جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ]
    الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه وإن كان نجسا ، لعمومات البيع والتجارة الصادقة عليها ، بناء على أنه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص ، لأصالة بقاء ماليته وعدم خروجه عنها بالنجاسة ، غاية الأمر أنه مال معيوب قابل لزوال عيبه.
    ولذا لو غصب عصيرا فأغلاه حتى حرم ونجس لم يكن في حكم التالف ، بل وجب عليه رده ، ووجب عليه غرامة الثلثين واجرة العمل فيه حتى يذهب الثلثان ـ كما صرح به في التذكرة (1) ـ معللا لغرامة الاجرة بأنه رده معيبا ويحتاج زوال العيب إلى خسارة ، والعيب من فعله ، فكانت الخسارة عليه.
    نعم ، ناقشه في جامع المقاصد (2) في الفرق بين هذا وبين مال وغصبه عصيرا فصار خمرا ، حيث حكم فيه بوجوب غرامة مثل العصير ، لأن المالية قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.
1 ـ التذكرة 2 : 387.
2 ـ جامع المقاصد 6 : 292 ـ 293.


(62)
    لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير إذا غلى وبينه إذا صار خمرا ، فإن العصير بعد الغليان مال عرفا وشرعا ، والنجاسة إنما تمنع من المالية إذا لم يقبل التطهير ، كالخمر فإنها لا يزول نجاستها (1) إلا بزوال موضوعها ، بخلاف العصير ، فإنه يزول نجاسته بنقصه ، نظير طهارة ماء البئر بالنزح.

    [ عدم شمول ( نجس العين ) للعصير ]
    وبالجملة ، فالنجاسة فيه وحرمة الشرب عرضية تعرضانه في حال متوسط بين حالتي طهارته ، فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير ، فلا يشمله قوله عليه السلام في رواية تحف العقول : أو شيء من وجوه النجس (2) ولا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه (3) ، لأن الظاهر منهما (4) العنوانات النجسة والمحرمة بقول مطلق ، لا ما تعرضانه في حال دون حال ، فيقال : يحرم في حال كذا ، أو ينجس (5) في حال كذا.
    وبما ذكرنا يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة (6) على فساد بيع نجس العين للعصير ، لأن المراد بالعين هي الحقيقة ، والعصير ليس كذلك.
    ويمكن أن ينسب جواز بيع العصير إلى كل من قيد الأعيان النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير ، ولم أجد مصرحا بالخلاف ،
1 ـ كذا في ش ، وفي سائر النسخ : فإنه لا يزول نجاسته.
2 ـ تقدمت في أول الكتاب.
3 ـ المتقدم في الصفحة : 13 و 43 عن عوالي اللآلي وسنن الدارقطني.
4 ـ في أكثر النسخ : منها.
5 ـ في ش : وينجس.
6 ـ التذكرة 1 : 464.


(63)
    [ استظهار المنع من بيع العصير في مفتاح الكرامة ]
عدا ما في مفتاح الكرامة : من أن الظاهر المنع (1) ، للعمومات المتقدمة وخصوص بعض الأخبار ، مثل قوله عليه السلام : وإن غلى فلا يحل بيعه (2) ورواية أبي بصير (3) : إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس (4) ومرسل ابن الهيثم : إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه (5) ، بناء على أن الخير المنفي يشمل البيع.
    [ المناقشة في أدلّة المنع ]
    وفي الجميع نظر :
    أما في العمومات ، فلما تقدم.
    وأما الأدلة الخاصة ، فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان ـ نظير بيع الدبس والخل من غير اعتبار إعلام المكلف ـ ، وفي الحقيقة هذا النهي كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه ، فلا يشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام المشتري ، نظير بيع الماء النجس.
    وبالجملة ، فلو لم يكن إلا استصحاب ما ليت هو جواز بيعه كفى.
    ولم أعثر على من تعرض للمسألة صريحا ، عدا جماعة من المعاصرين (6).نعم ، قال المحقق الثاني في حاشية الإرشاد ـ في ذيل قول
1 ـ مفتاح الكرامة 4 : 12.
2 ـ الوسائل 12 : 169 ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 6.
3 ـ كذا في ش ، وفي أكثر النسخ : أبي كهمس ، نعم راوي الحديث السابق هو أبو كهمس.
4 ـ الوسائل 12 : 169 ، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 2.
5 ـ الوسائل 17 : 226 ، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث 7.
6 ـ منهم السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4 : 12 ، وصاحب الجواهر في الجواهر 22 : 8 ، والمحقق النراقي في المستند 2 : 332.


(64)
المصنف : ولا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله (1) التطهير ، بعد الاستشكال بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة بعدم قبولها التطهير ، ودفع ذلك بقبولها له بعد الجفاف (2) ـ : ولو تنجس العصير ونحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله ؟ فيه إشكال .. ثم ذكر أن الأقوى العدم ، لعموم ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (3) ، انتهى (4).
    والظاهر ، أنه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث ، كما يظهر منذكر المشتري والدليل ، فلا يظهر منه حكم بيعه على من يطهره.
1 ـ كذا في ش ، وفي سائر النسخ : قبولها ، وفي الارشاد : مع قبول الطهارة.
2 ـ في غير ش زيادة : قال.
3 ـ المائدة : 2.
4 ـ حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 204.


(65)
المسألة الرابعة
    [ جواز المعاوضة على الدهن المتنجّس ]
    يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب الأصحاب.
    وجعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبني على المنع من الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل ، أو على المنع من بيع المتنجس وإن جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محللا ، وإلا كان الاستثناء منقطعا من حيث إن المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محللة مقصودة من النجاسات والمتنجسات ، وقد تقدم أن المنع عن بيع النجس ـ فضلا عن المتنجس ـ ليس إلا من حيث حرمة المنفعة المقصودة (1) ، فإذا فرض حلها فلا مانع من البيع.
    ويظهر من الشهيد الثاني ـ في المسالك ـ خلاف ذلك ، وأن جواز بيع الدهن للنص ، لا لجواز الانتفاع به ، وإلا لاطرد الجواز في غير الدهن أيضا (2).
1 ـ في غير ش : المنفعة المحللة المقصودة.
2 ـ المسالك 3 : 119.


(66)
    وأما حرمة الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل ، فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    وكيف كان ، فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور ، وعن جماعة (1) : الإجماع عليه في الجملة ، والأخبار به (2) مستفيضة :

    [ الأخبار المستفيضة الدالّة على الجواز ]
    منها : الصحيح ، عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قلت له : جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل ؟ قال عليه السلام : أما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، والزيت يستصبح به (3).
    وزاد في المحكي عن التهذيب : أنه يبيع ذلك الزيت ، ويبينه (4) لمن اشتراه ليستصبح به (5).
    ولعل الفرق بين الزيت وأخويه من جهة كونه مائعا غالبا ، بخلاف السمن والعسل ، وفي رواية إسماعيل ـ الآتية ـ إشعار بذلك.
    ومنها : الصحيح ، عن سعيد الأعرج (6) ، عن أبي عبد الله عليه السلام : في الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه ؟ قال : إن كان
1 ـ منهم : ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 524 ، والشيخ في الخلاف 3 : 187 ، كتاب البيوع ، المسألة 312 ، وابن إدريس في السرائر 2 : 222.
2 ـ به : ساقطة من أكثر النسخ.
3 ـ الوسائل 12 : 66 ، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول.
4 ـ كذا في ش ، وفي سائر النسخ : وينبه.
5 ـ التهذيب 9 : 85 ، الحديث 359 ، وفيه : تبيعه وتبينه.
6 ـ كذا في جميع النسخ ، لكن الرواية عن الحلبي ، نعم الرواية التي تليها في الوسائل عن سعيد الأعرج.


(67)
سمنا أو عسلا أو زيتا ، فإنه ربما يكون بعض هذا ، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله وكله ، وإن كان الصيف فادفعه حتى يسرج به (1).
    ومنها : ما عن أبي بصير ـ في الموثق ـ عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت (2) فتموت فيه ؟ قال : إن كان جامدا فاطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته (3).
    ومنها : رواية إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سأله سعيد الأعرج السمان ـ وأنا حاضر ـ عن السمن والزيت والعسل تقع فيه الفأرة فتموت [ كيف يصنع به ؟ ] (4) قال : أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج ، وأما الأكل فلا ، وأما السمن فإن كان ذائبا فكذلك ، وإن كان جامدا والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها ، ثم لا بأس به ، والعسل كذلك إن كان جامدا (5).
    إذا عرفت هذا ، فالإشكال يقع في مواضع :
1 ـ الوسائل 16 : 375 ، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة ، الحديث 4.
2 ـ في ص : أو في الزيت.
3 ـ الوسائل 12 : 66 ، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 3.
4 ـ العبارة ساقطة من خ ، م ، ف ، ن ، ع.
5 ـ الوسائل 12 : 66 ، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 5.


(68)
    [ هل أنّ صحّة البيع مشروطة باشتراط الاستصباح ؟ ]
    الأول :
    أن صحة بيع هذا الدهن هل هي (1) مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحا ، أو يكفي قصدهما لذلك ، أو لا يشترط أحدهما ؟
    ظاهر الحلي في السرائر : الأول ، فإنه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة جمع (2) قال : ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا (3).
    وظاهر المحكي عن الخلاف : الثاني ، حيث قال : جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقا (4) ، انتهى.
    ونحوه ـ مجردا عن دعوى الإجماع ـ عبارة المبسوط ، وزاد : أنه لا يجوز بيعه إلا لذلك (5) وظاهره كفاية القصد ، وهو ظاهر غيره ممن عبر بقوله : جاز بيعه للاستصباح كما في الشرائع والقواعد (6) وغيرهما (7).
1 ـ وردت عبارة هل هي في ش فقط.
2 ـ كذا في ش ، وفي سائر النسخ : أجمع.
3 ـ السرائر 2 : 222 و 3 : 122.
4 ـ الخلاف 3 : 187 ، كتاب البيوع ، المسألة 312.'
5 ـ المبسوط 2 : 167.
6 ـ الشرائع 2 : 9 ، القواعد 1 : 120.
7 ـ مثل عبارة التنقيح 2 : 7 ، ومجمع الفائدة 8 : 31 ، وبمعناهما عبارة الشهيد في اللمعة : 108.


(69)
    [ تصريح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح ]
    نعم ، ذكر المحقق الثاني ما حاصله : أن التعليل راجع إلى الجواز ، يعني يجوز لأجل تحقق فائدة الاستصباح بيعه (1).
    وكيف كان ، فقد صرح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح (2).
    [ اعتبار قصد الاستصباح إذا كان من المنافع النادرة ]
    ويمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحللة منحصرة فيه ، وكان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته ، كما في دهن اللوز والبنفسج وشبههما.
    ووجهه : أن مالية الشيء إنما هي باعتبار منافعه المحللة المقصودة منه ، لاباعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة في ماليته ، ولا باعتبار الفوائد الملحوظة المحرمة ، فإذا فرض أن لا فائدة في الشيء محللة ملحوظة في ماليته فلا يجوز بيعه ، لاعلى الإطلاق ـ لأن الإطلاق ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه ، والمفروض حرمتها ، فيكون أكلا للمال بالباطل ـ ولا على قصد الفائدة النادرة المحللة ، لأن قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشيء مالا. ثم إذا فرض ورود النص الخاص على جواز بيعه ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا بد من حمله على إرادة (3) صورة قصد الفائدة النادرة ، لأن أكل المال حينئذ ليس بالباطل بحكم الشارع ، بخلاف صورة عدم القصد ، لأن المال في هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق ، المنصرف إلى الفوائد المحرمة ، فافهم.
1 ـ جامع المقاصد 4 : 13.
2 ـ حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4 : 24 عن استاذه العلامة السيد بحر العلوم ، وانظر كفاية الأحكام : 85 ، والحدائق 18 : 90.
3 ـ كلمة إرادة مشطوب عليها في ن ، ومحذوفة من ش.


(70)
    وحينئذ فلو لم يعلم المتبائعان جواز الاستصباح بهذا الدهن وتعاملا من غير قصد إلى هذه الفائدة كانت المعاملة باطلة ، لأن المال مبذول مع الإطلاق في مقابل الشئب اعتبار الفوائد المحرمة.
    نعم (1) ، لو علمنا عدم التفات المتعاملين إلى المنافع أصلا ، أمكن صحتها ، لأنه مال واقعي شرعا قابل لبذل المال بإزائه ، ولم يقصد به ما لايصح (2) بذل المال بإزائه من المنافع المحرمة ، ومرجع هذا في الحقيقة إلى أنه لايشترط إلا عدم قصد المنافع المحرمة ، فافهم.
    [ عدم اعتبار قصد الاستصباح إذا كان من المنافع الغالبة أو المساوية ]
    وأما فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان مالية الدهن باعتباره ـ كالأدهان المعدة للإسراج ـ فلا يعتبر في صحة بيعه قصده أصلا ، لأن الشارع قد قرر ماليته العرفية بتجويز الاستصباح به وإن فرض حرمة سائر منافعه ، بناء على أضعف الوجهين ، من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على موردالنص.
    وكذا إذا كان الاستصباح منفعة مقصودة (3) مساوية (4) لمنفعة الأكل المحرم ـ كالألية والزيت وعصارة السمسم ـ فلا يعتبر قصد المنفعة المحللة فضلا عن اشتراطه ، إذ يكفي في ماليته وجود المنفعة المقصودة المحللة ، غاية الأمر كون حرمة منفعته الاخرى المقصودة نقصا فيه يوجب الخيار للجاهل.
1 ـ في ف ، خ ، م ، ع : ثم.
2 ـ في ش : ما لم يصح.
3 ـ في ف : موجودة.
4 ـ في أكثر النسخ : متساوية.
المكاسب ـ جلد الأول ::: فهرس