|
|||
(46)
ولاول مرة في تاريخ الفقه الجعفري يلمح الانسان ملامح الصناعة في كتابات الشيخ الطوسي الفقهية ، وطبيعي أن الصناعة الفقهية في هذه الفترة كانت تطوي مراحلها البدائية ، ولكنه مع ذلك كانت بداية لعهد جديد ، وخاتمة لعهد مضئ.
ولاول مرة في هذا الدور قام السيد المرتضى بمحاولة دراسة المسائل الاصولية مفصولة عن الفقه بصورة موضوعية ، وتنقيح المسائل الاصولية في كتب ودراسات مستقلة ، إلا أنها كانت مع ذلك بدائية ولم تتجاوز في غالب الاحوال مباحث الالفاظ ، من الاوامر والنواهي ودلالات هيئات الالفاظ وموادها وبعض المباحث العامة من الاصول. وظاهرة ثانية من ملامح هذا العصر هو تفريع المسائل الفقهية واستحداث فروع جديدة لم تتعرض لها نصوص الروايات ، وكان البحث الفقهي ـ فيما سبق هذا الدور لا يتجاوز حدود بيان الحكم الشرعي باستعراض الروايات الواردة في الباب. ولم نعهد من أحد من الفقهاء المتقدمين على هذا العصر محاولة معالجة فروع جديدة لم تتعرض لها الروايات. والسر واضح ، فلم يقدر لفقه أهل البيت أن يدخل قبل هذا العصر دور المعالجة والصناعة وتفريع فرع على فرع آخر أو قاعدة شرعية يحتاج إلى شيء أكثر من استعراض نصوص الاحكام والقواعد ، ولا يتم ذلك عادة من غير المعالجة والصناعة. وهذا ما لم يتوفر للبحث الفقهي قبل هذا العهد : وربما يصح أن نقول : إن الشيخ الطوسي كان أول من قام بهذه التجربة في كتابه المبسوط ، فقد ذكر في أول الكتاب أن الذي دعاه إلى تصنيفه أن الامامية لم يكونوا يفرعون الفروع إلى زمانه ، وكانوا يقفون عند النصوص التي وصلت إليهم عن المتقدمين من المحدثين ، وكان ذلك من دوافع الطعن على فقه أهل البيت ، فقام بهذه المحاولة لسد هذا الفراغ في البحث الفقهي. (47)
والظاهرة الثالثة من ملامح هذا العصر هو ظهور الفقه المقارن أو الخلافي. فحينما تمركزت مدرسة أهل البيت في الفقه في بغداد برزت المسائل الخلافية بصورة حادة ، وأدى ذلك إلى اختلاف الفقهاء وبروز المسائل الخلافية في الفقه وأصوله بشكل مثير للانتباه ، ومثير للخلاف ، وكان للعامل السياسي دور مؤثر في ذلك ، ومهما يكن من أمر ، ومهما كانت الدوافع السياسية التي كانت تثير هذة المسائل ، فقد أدى ذلك إلى خصوبة البحث الفقهي ، فالخلاف قد يؤدي إلى الخصوبة ، لا العقم ، ويدل على خصوبة الذهنية لا عمقها.
وكان من آثار ظهور الخلاف بين الفقه الامامي والمذاهب الفقهية الاخرى واتساع رقعة الخلاف بينها أن تفرغ فقهاء الشيعة لبحث المسائل الخلافية بصورة موضرعية وبشكل مسهب. وظهر هذا النوع من البحث الفقهي لاول مرة في هذا العصر على يد المفيد والمرتضى والطوسي. وتوسع الشيخ الطوسي بشكل خاص لدراسة هذا الجانب من البحث الفقهي في كتابه الكبير « الخلاف » تناول فيه المسائل الفقهية الخلافية بين الشيعة والسنة في مختلف أبواب الفقه ، وتعرض في كل مسألة لما يسند الجانبين من الادلة ، وناقش آراء هذه المذاهب في كثير من المسائل. والكتاب ـ رغم قدمه ـ قيم لا يستغني عنه فقيه. وكان من هذا القبيل استعراض المسائل التي تنفرد فيها الشيعة برأي والاستدلال له والانتصار لمذهب أهل البيت فيها. وفي هذا الفن من فنون الفقه كتب السيد المرتضى كتاب « الانتصار » ويقال له « متفردات الامامية » صنفه للوزير عميد الدين في بيان الفروع التي شنع على الشيعة بأنهم خالفوا فيها الاجماع. ومن هذا القبيل أيضا كتاب « الاعلام فيما اتفقت الامامية عليه من الاحكام مما اتفقت العامة على خلافهم فيه » للمفيد ، ألفه بطلب تلميذه المرتضى. (48)
وظاهرة رابعة من ملامح هذا العصر ظهور الاجماعات والاستدلال بها ، ولا نريد هنا أن نتحدث عن حجية الاجماع وما قيل أو يقال فيه ، فذلك كله خارج عن مهمتنا في هذا البحث.
وما يهمنا أن نشير إليه هو أن توسع البحث الفقهي وتكامله دفع الفقهاء إلى استخدام الاجماع فيما إذا لم يجدوا في المورد نصا أو لم يقتنعوا بسلامة النص من حيث السند أو الدلالة. وقالوا : إن في إجماع فقهاء المذاهب عامة أو فقهاء الطائفة في عصر واحد دليلا على وجود نص شرعي يجوز الاعتماد عليه ، غاب عنا فيما فقدناه من النصوص ، ولا يمكن أن يجمع فقهاء المذاهب على حكم من دون وجود نص على ذلك ولا يمكن أن يخطأ فقهاء الامة جميعا دون أن يحصل من يخالفهم ويصيب الواقع. وظهر الاحتجاج بالاجماع بصورة واضحة في هذا العصر عند الشيخ الطوسي بصورة خاصة. ومؤلفات الفقهاء المتقدمين على هذا العصر ، وإن كانت لا تخلو عن التمسك بالاجماع ، إلا أن هذه الظاهرة تبدو في كتب الشيخ بصوة خاصة ، وفي آثار هذه المدرسة بصورة عامة أكثر من أي وقت سابق. ويتضح مما تقدم أن البحث. الفقهي خطا خطوة كبيرة في هذه المرحلة من حياته ، وأشرف على أعتاب مرحلة جديدة بعد أن خلف وراءه مرحلة طويلة ، ودخل دور المراهقة حاملا تجارب ثلاثة قرون حافلة بالجهود المثمرة والتجارب الخصبة. وبلغت التجربة الجديدة قمتها في حياة الشيخ الطوسي حيث قام بمحاولات تجديدية جريئة في تطوير عملية الاستنباط على الصعيد الفقهي والاصولي. ولكي يلمس القارئ التراث الضخم الذي خلفه الشيخ والتجربة الجريئة (49)
التي خاضها في تطوير منهج البحث الفقهي ننقل إلى القارئ النص التالي من مقدمة
كتابه « المبسوط » ، قال في مقدمة الكتاب :
إني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفون بفقه أصحابنا الامامية ، وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة السائل ، ويقولون : إنهم أهل حشو ومناقضة ، وإن من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع ولا الاصول ، لان جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين. وهذا جهل منهم بمذاهبنا ، وقلة تأمل لاصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجري مجرى قول النبي صلى الله عليه وآله ، إما خصوصا أو عموما أو تصريحا أو تلويحا. وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في اصولنا ومخرج على مذاهبنا ، لا على وجه القياس بل على طريقة توجب علما يجب العمل عليها ، ويسوغ المسير إليها من البناء على الاصل وبراءة الذمة وغير ذلك. مع أن أكثر الفروع لها مدخل فيما نص عليه أصحابنا ، وانما كثر عددها عند الفقهاء بتركيبهم المسائل بعضها على بعض وتعليقها والتدقيق فيها ، حتى أن كثيرا من المسائل الواضحة دق لضرب من الصناعة وإن كانت المسألة معلومة واضحة. وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه ، فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل ، وتضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لانهم ألفوا الاخبار وما رووه من صريح الالفاظ ، حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منه ، وقصر فهمهم عنها. (50)
وكنت عملت على قديم الوقت كتاب « النهاية » وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم واصولها من المسائل ، وفرقوه في كتبهم ، ورتبته ترتيب الفقه ، وجمعت بين النظائر ، ورتبت فيه الكتب على ما رتبت للعلة التي بينتها هناك ، ولم أتعرض للتفريع على المسائل ، ولا لتعقيد الابواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها ، بل اوردت جميع ذلك أو أكثره بالالفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك ، وعملت بأخره مختصرا حمل العقود في العبادات سلكت فيه طريق الايجاز والاختصار وعقود الابواب فيما يتعلق بالعبادات ، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف إلى كتاب « النهاية » ويجتمع معه ، فيكون كاملا كافيا في جميع ما يحتاج إليه.
ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه ، لان الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الاصل معه فعدلت إلى عمل كتاب يشتمل على عدد يجمع كتب الفقه التي فصلها الفقهاء ، وهي نحو من ثلاثين كتابا أذكر كل كتاب منه على غاية ما يمكن تلخيصه من الالفاظ ، واقتصرت على مجرد الفقه ، دون الادعية والآداب ، وأعقد فيه الابواب ، واقسم فيه المسائل ، وأجمع بين النظائر واستوفيه غاية الاستيفاء ، وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون ، وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجيه اصولنا ، بعد أن اذكر اصول جميع المسائل (1). وهذا الحديث يشعرنا بضخامة العمل الذي قام به الشيخ في مجال البحث الفقهي والاصولي ، فقد كان المتقدمون من الفقهاء يقتصرون على الفروع المذكورة في نصوص الاحاديث ، ويعرضون عن تفريع فروع جديدة على هذه الفروع ، واستنتاج أحكام جديدة لم يتعرض لها النص بدلالة المطابقة. وكان فقهاء المذاهب الاخرى يجدون في هذا الاعراض والاقتصار مجالا 1 ـ كتاب المبسوط للشيخ الطوسي الطبعة الحروفية الثانية : ج 1 ص 2 و 3. (51)
للمؤاخذة. والانتقاص ، ويعتبرون ذلك من آثار الاعراض عن الاخذ بالقياس والرأي ،
فحاول الشيخ أن يدحض هذا الرأي ، ويعلن خصوبة البحث الفقهي عند الشيعة ، وعدم عجزه عن تناول فروع ومسائل جديده مستحدثة ، وأن مدارك الفقه الامامي لا تقصر عن استيعاب فرع من الفرع مهما كان. ولا يجد الفقيه فرعا لا يجد له في اصول الفقه الامامي وأحكامه علاجا.
ووجد ثانيا جمود الفقهاء المتقدمين على ألفاظ ومباني واصول خاصة حتى أن أحدهم يستوحش لو بدل لفظ مكان لفظ آخر ، فحاول أن يقضي على هذا الجمود ، ويعيد صياغة الفقه والاستنباط من جديد بما يراه من موازين واصول وقواعد تلائم مصادر التشريع. ووجد ثالثا أن الفروع الفقهية مبعثرة خلال الكتب الفقهية بصورة مشوشة لا يجمعها جامع ، ولا يضم بعضها إلى بعض بتبويب خاص ، فحاول أن يجمع بين النظائر ، وينظمها في أبواب خاصة ، ويضم المسائل بعضها إلى بعض وينسقها. ووجد رابعا أن نصوص الحديث تعرض للاحتجاج بها على الحكم عرضا من غير أن يعالج ، والحكم الشرعي يؤخذ من مدلول النص أخذأ مباشرا من دون أن يتوسط بين العرض والعطاء صناعة ومعالجة ، وكانت نتيجة ذلك كله أن الفقه ظل منتصرا على استعراض فروع فقهية محدودة تحددها مداليل النصوص المطابقية. وحاول الشيخ لتلافي هذا النقص ان يبني الفروع على الاصول ، وان يصيغ عملية الاستنباط في قالب الصناعة والفن ، وأن يؤسس الاصول ويستخرج القواعد التي يبني عليها الفقيه في الاستنباط ، حتى يوسع من أبعاد البحث الفقهي ، ويمسح عنها سمات العجز والقصور عن تناول المسائل الجديدةوالفروع المستحدثة. ويظهر للباحثين أن هذا العجز لم يكن لقصور في أداة الاستنباط عند (52)
الشيعة وإنما كان لبساطة المحاولات والتجارب التي قام بها السلف في الاستنباط ،
وبداية عملية الاجتهاد لديهم لطبيعة المرحلة التي كان يمر بها الفقه في تلك العصور.
(53)
برزت مدرسة الحلة الفقهية بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار ، فقد كانت مدرسة بغداد قبل الاحتلال حافلة بالفقهاء والباحثين وحلقات الدراسة الواسعة ، وكان النشاط الفكري فيما قبل الاحتلال على قدم وساق.
وحينما احتلت بغداد من قبل المغول أوفد أهل الحلة وفدا إلى قيادة الجيش المغولي يلتمسون الامان لبلدهم ، فاستجاب لهم هولاكو وآمنهم على بلدهم. وبذلك ظلت الحلة مأمونة من النكبة التي حلت بسائر البلاد في محنة الاحتلال المغولي ، وأخذت تستقطب الشاردين من بغداد من الطلاب والاساتذة والفقهاء. واجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء ، وانتقل معهم النشاط العلمي من بغداد إلى الحلة ، واحتفلت هذه البلدة ـ وهي يومئذ من الحواضر الاسلامية الكبرى ـ بما كانت تحتفل به بغداد من وجوه النشاط الفكري كعقد ندوات البحث والجدل ، وحلقات الدراسة والمكاتب والمدارس ، وغيرها. واستقرت المدرسة في الحلة. وظهر في هذا الدور في الحلة فقهاء كبار كان لهم الاثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والاصول الامامي ، وتجديد صياغة عملية الاجتهاد ، وتنظيم أبواب الفقه ك ( المحقق الحلي والعلامة الحلي وولده فخر المحققين وابن أبي الفوارس والشهيد الاول وابن طاووس وابن ورام ) وغيرهم (54)
من فطاحل الاعلام ورجال الفكر.
ولكي نلمس أثر هذا العصر وفقهائه في تطوير مناهج البحث الفقهي نستعرض بايجاز تراجم بعض رجال هذه المدرسة : 1 ـ المحقق الحلي : نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلي رائد مدرسة الحلة الفقهية ومن كبار فقهاء الشيعة. قال عنه تلميذه ابن داود : الامام العلامة واحد عصره. كان ألسن أهل زمانه ، وأقومهم بالحجة وأسرعهم استحضارا (1). كان مجلسه يزدحم بالعلماء والفضلاء ممن كانوا يقصدونه للاستفادة من حديثه والاستزادة من علمه (2). وحضر المحقق الطوسي يوما مجلس درسه من بغداد ، فأراد المحقق الحلي أن يتوقف عن التدريس ، احتراما لوروده فالتمس منه الطوسي أن يستمر في درسه. وكان بحث المحقق في القبلة ، فجرى الحديث عن مسألة استحباب التياسر في قبلة أهل العراق ، فاعترض الطوسي على المحقق بأن الاستحباب لا معنى له ، إذ التياسر إن كان من القبلة فحرام ، وإن كان إلى القبلة فواجب. فأجاب المحقق : من القبلة إلى القبلة. فسكت المحقق الطوسي. فلما رجع إلى بغداد كتب المحقق الحلي له رسالة لطيفة في تحقيق المسألة استحسنها المحقق الطوسي. وقد أورد الرسالة الشيخ أحمد بن فهد في « المهذب » بتمامها (3). 1 ـ الكنى والالقا ب : ج 3 ص 127 2 ـ مجالس المؤمنين : ج 1 ص 57 مترجم عن الفارسية. 3 ـ المهذب البارع : ج 1 ص 312 طبع مؤسسة النشر الاسلامي ـ قم. (55)
وقد قدر للمحقق الحلي أن يجدد كثيرا في مناهج البحث الفقهي والاصولي ، وأن يكون رائد هذه المدرسة ، ويكفي في فضله على المدرسة الفقهية أنه ربى تلميذا بمستوى العلامة الحلي ، وأنه خلف كتبا قيمة في الفقه لا يزال الفقهاء يتناولونها ويتعاطونها باعتزاز ك « شرايع الاسلام » في مجلدين ، وكتاب « النافع » ، وكتاب « المعتبر » في شرح المختصر ، وكتاب « نكت النهاية » ، وكتاب « المعارج » في أصول الفقه وغيرها.
توفي سنة 676 هجرية ، وكان سبب وفاته أنه سقط من أعلى درج في داره فخر ميتا لوقته ، فتفجع الناس لموته ، واجتمع لتشييعه خلق كثير ، ودفن في الحلة ، وقبره هناك يزار ويتبرك به ، وأخيرا عمر وجدد بناؤه على يد أهل الخير من أهالي الحلة. 2 ـ العلامة الحلي : جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن المطهر ، ولد في الحلة سنة 648 ه ونشأ فيها ، وتوفي سنة 726 ه. تتلمذ في الفقه على خاله المحقق الحلي وفي الفلسفة والرياضيات على المحقق الطوسي ، فنشأ كما أراد أستاذاه ، وظهر على أترابه وزملائه وعرف بالنبوغ وهو بعد لم يتجاوز سن المراهقة ، وانتقلت الزعامة في التدريس والفتيا إليه بعد وفاة استاذه المحقق الحلي. وقد قدر للعلامة الحلي بفضل ما اوتي من نبوغ ، وبفضل استاذه الكبير المحقق الحلي ، وجهوده الخاصة أن يساهم مساهمة فعالة في تطرير مناهج الفقه والاصول ، وأن يوسع دراسة الفقه. وتعتبر موسوعة العلامة الحلي الفقهية الجليلة « التذكرة » أول موسوعة فقهية من نوعها في تاريخ تطوير الفقه الشيعي من حيث السعة والمقارنة والشمول ، (56)
وتطور مناهج البحث ، وطبع أخيرا بأحسن اسلوب مع التصحيح والتعليق عليها.
وبلغت مدرسة الحلة في حياة العلامة بفضل جهوده القيمة ، كما قدر له لاول مرة أن يتفرغ لدراسة المسائل الخلافية بين فقهاء الشيعة بصورة مستقلة في كتابه الكبير « المختلف ». 3 ـ فخر المحققين : أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر من وجوه الطائفة وأعيانها ، تلمذ على أبيه العلامة الحلي ، ونشأ برعايته وعنايته ، وقرأ عليه مختلف العلوم النقلية والعقلية ، وبرز في ذلك كله. أكمل بعض تآليف والده العلامة ك « الالفين » وغيره ، وشرح البعض الآخر ك « القواعد ». قال فيه الشيخ الحر العاملي قدس سره : كان فاضلا محققا فقيها ثقة جليلا. قام بتربية تلامذة كبار في الفقه كان منهم الشهيد الاول رحمه الله. 4 ـ الشهيد الاول : أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد الدمشقي الجزيني ، ولد سنة 734 ، واستشهد سنة 786 بدمشق. ولد في جزين من بلدان جبل عامل ، وهاجر إلى الحلة لطلب العلم. تتلمذ على فخر المحققين بالحلة ولازمه ، وتتلمذ على آخرين من تلاميذ العلامة الحلي في الفقه والفلسفة. زار كثيرا من حواضر العالم الاسلامي في وقته ، كمكة المكرمة والمدينة المنورة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم ، واجتمع فيها بمشايخ العامة ، وأتاحت له هذه الاسفار نوعا من التلاقح الفكري بين مناهج (57)
البحث الفقهي والاصولي عند ، علماء المسلمين من مختلف المذاهب الفقهية.
وقرأ كثيرا من كتب السنة في الفقه والحديث ، وروى عنهم حتى قال في إجازته لابن الخازن : إني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم. وهذا النص يدل على أن الشهيد الاول جمع بين ثقافتي الشيعة والسنة في الفقه والحديث ، ولاقح بين المنهجين في حدود ما تسمح به طبيعة المنهجين. خلف كتبا كثيرة تمتاز بروعة البيان ودقة الملاحظة وعمق الفكرة وسعة الافق ، منها « الذكرى » و « الدروس الشرعية في فقه الامامية » و « غاية المراد في شرح نكت الارشاد » وكتاب « البيان » و « الباقيات الصالحات » و « اللمعة الدمشقية » و « الالفية » و « النفلية » و « الاربعون حديثا » وكتاب « المزار » و « خلاصة الاعتبار في الفقه والاعتمار » و « القواعد » وغير ذلك. كانت وفاته بدمشق ، حيث قتل فيها بالسيف ، ثم صلب ، ثم رجم ، ثم احرق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام في محنة أليمة نعرض عنها هنا. ملامح المدرسة : يمكننا أن نلخص أهم الملامح التي تميز هذه المدرسة عن مدرسة بغداد فيما يلي : 1 ـ تنظيم أبواب الفقه : قدر للشيخ الطوسي ـ كما وجدناه يتحدث بذلك في مفتتح كتابه الكبير « المبسوط » ـ أن مجمع شتات الاشباه والنظائر في الفقه ويبوب كل ذلك في أبواب خاصة بعدما أكثر الفروع ، واستحدث فروعا جديدة. إلا أننا نلاحظ في كتب الشيخ ـ مع توفر الشيخ على تنظيم الفقه وتبويبه ، وجمع النظائر والاشباه من فروعه ـ شيئا من التشويش في تبويت أبواب الفقه وكتبه. (58)
وهذا التشويش لا يختص بكتب الشيخ وحده ، وانما يظهر على كتب المتقدمين عامة.
وفي هذه المدرسة لاول مرة نلتقي ب « الشرايع » للمحقق الحلي رحمه الله في تنظيم رائع لابواب الفقه استمر عليه فقهاء الشيعة بعد ذلك إلى العصر الحاضر. فقد قسم المحقق الحلي كتابه « شرايع الاسلام » إلى أقسام أربعة : الاول : العبادات ، الثاني : العقود ، الثالث : الايقاعات ، الرابع : الاحكام. وأساس هذا التقسيم الرباعي للفقه عند المحقق هو أن الحكم الشرعي إما أن يتقوم بقصد القربة أم لا ، والاول العبادات. والثاني إما أن يحتاج إلى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل أو من جانب واحد أو لا يحتاج إلى اللفظ ، فالاول العقود ،والثاني الايقاعات ، والثالث الاحكام ، وبذلك تندرج أبواب الفقه في أقسام أربعة كما تقدم. وهذا تقسيم رائع يجمع مختلف أبواب الفقه ، وهي من حصيلة هذه المدرسة ، وتمت على يد المحقق الحلي بالذات. 2 ـ وظهرت في هذه الدورة الكتابة الفقهية الموسوعية ، فألف العلامة الحلي موسوعته القيمة « تذكرة الفقهاء » في الفقه المقارن وهو عمل فقهي جليل لم يؤلف مثله بعد في الفقه المقارن في السعة والاستيعاب. ومن يطلع على كتاب « التذكرة » يلمس فيه بوضوح ضخامة العمل الفقهي التي قدمها العلامة الحلي رحمه الله للفقه الاسلامي بصورة عامة وبمختلف مذاهبه. فقد حاول العلامة في كتابه هذا أن يجمع آراء مختلف المذاهب الاسلامية ، ويناقش ذلك كله بموضوعية يعز مثله في الدراسات المقارنة الاخرى. 3 ـ وكثر الاختلاف في هذا العصر بين فقهاء الامامية أنفسهم نتيجة لابتعادهم عن عصر الامام ، واختلافهم في سلامة الروايات من حيث السند (59)
والدلالة. وكان لا بد للفقيه نتيجة لتشعب الآراء والمذاهب في استنباط الاحكام ،
وتذوق المسائل أن يلم بمختلف وجوه الرأي في المسألة حتى يستطيع أن يحكم في المسألة برأيه.
وهذه الحاجة دعت العلماء في هذا العصر إلى ان يجمعوا المسائل المختلف فيها بين علماء الشيعة ، ويستعرضوا وجوه الاختلاف عندهم كي يتمكن الفقيه أن يحيط علما بوجوه الاختلاف في المسألة ، ويعرف المسألة المتفق عليها بين علماء الامامية ثانيا. وممن كتب في هذا الباب العلامة الحلي رحمه الله ، حيث جمع المسائل المختلف فيها بين علماء الطائفة في كتابه الكبير الضخم « المختلف » ولا يزال هذا الكتاب موضع دراسة ومراجعة الفقهاء. 4 ـ في هذه الفترة نلتقي ظاهرة جديدة في تصنيف الحديث هي من نتاج هذه المدرسة ، وقد تطورت بعد ذلك وتنامت وأصبحت ذات أثر ودور في عملية الاستنباط. ونحن فيما يلي نوضح هذه الظاهرة بقدر ما تتسع له صدر هذه المقدمة. يعتبر العلامة الحلي رحمه الله ، واسطة العقد بين عصرين في تأريخ الفقه الامامي ، ويطلق على الفقهاء السابقين على العلامة الحلي بالمتقدمين واللاحقين له بالمتأخرين. ولهذه التفرقة بين السابقين على العلامة الحلي واللاحقين له سبب واضح. فقد ذهبت في هجوم المغول على بغداد جملة واسعة من تراث الامامية ، كما أن الفتن الطائفية التي كان يثيرها العباسيون بين حين وآخر في العراق قضت على جملة اخرى واسعة من تراث الامامية ومنها اشعال مكتبة الشيخ أبي جعفر الطوسي في بغداد ، والذي أدى إلى هجرة الشيخ من بغداد إلى النجف لمواصلة عمله العلمي بعيدا عن ضوضاء الفتن الطائفية في بغداد. هذه الاحداث وغيرها في عصر الغيبة أدى بالتدريج إلى ضياع جملة كبيرة (60)
من القرائن التي كان يعتمدها القدماء من الفقهاء في تمييز الحديث الصحيح عن
الضعيف.
وقد كان الفقهاء قبل عصر العلامة الحلي يقسمون الحديث إلى قسمين الصحيح والضعيف. وكان الصحيح عندهم كل حديث يثقون بصدوره عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بالقرائن التي كانت بأيديهم في ذلك الحين والتي اختفت فيما بعد حتى لو كان الراوي غير ثقة في حد نفسه. يقول الشيخ أبو علي الكربلائي في مقدمات كتابه « منتهى المقال » : صحيح الحديث عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم أعم من أن يكون الراوي ثقة أو لا لامارات اخرى يقطعون أو يظنون بها صدوره عنه. ويقول السيد المرتضى ـ وهو من أجلاء الفقهاء المتقدمين ـ في جواب مسائل التبانيات : إن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوعة على صحتها إما بالتواتر من طريق الاشاعة والاذاعة أو بإمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وان وجدناها مودعة للكتب بسند مخصوص (1). ويرجع الشيخ البهائي العاملي في « مشرق الشمسين » العدول عن طريقة القدماء في اعتماد القرائن في قبول الحديث ، ورفضه الاحاديث التي لم تتوفر على صحتها هذه القرائن إلى أربعة أسباب وهي : 1 ـ طول الفترة الزمنية بين المتأخرين من الفقهاء وعصر الائمة والرواة الاوائل. 2 ـ ضياع جزء كبير من الاصول الاربعمائة وغيرها في الحديث. 3 ـ إدخال أحاديث الاصول في الكتب الاربعة من دون تمييز بين المعتبرة 1 ـ الفوائد المدنية للاسترآبادي : ص 49. |
|||
|