|
|||
(61)
وغير المعتبرة مما أدى إلى اشتباه المعتبرة منها بغير المعتبرة والمكررة منها
بغير المكررة.
4 ـ اختفاء قرائن اخرى كانت تساعد الفقيه على تشخيص ما يصح الاخذ بها من الاحاديث عما لا يصح الاخذ بها (1). ويذكر الفيض الكاشاني رحمه الله في مقدمات « الوافي » ستة من هذه القرائن ، كما يذكر الحر العاملي في خاتمة كتاب « هداية الامة » خمسة من هذه القرائن. وهناك قرائن اخرى مثل تسالم الاصحاب جيلا بعد جيل على قبول بعض الاخبار والعمل به. مما كان يؤدي إلى الثقة بصدور الخبر من المعصوم وإن كان بعض رجاله ضعافا غير موثوقين (2). ومهما يكن من أمر فقد اختفت جملة كبيرة من هذه القرائن في هذه الفترة ، وأصبح من الضروري التفكير في اسس موضوعية محددة لتشخيص الصحيح من الحديث من الضعيف. فنهض بهذا الامر السيد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس (3) برواية الشيخ البهائي في « مشرق الشمسين » أو العلامة الحلي برواية الشيخ حسن صاحب المعالم في « منتقى الجمان » ، أو هما معا. وصنفا الحديث إلى أربعة أصناف « الصحيح » و « الحسن » و « الموثق » و « الضعيف ». و « الصحيح » هو الخبر الذي يتصل بالمعصوم بسلسلة من الرواة الثقات الاماميين. 1 ـ علم الحديث ودراية الحديث للشيخ شانه چى : ص 142. 2 ـ راجع كتاب علم الحديث ودراية الحديث : ص 147. 3 ـ من فقهاء مدرسة الحلة توفى لسنة 673 ه له كتاب ( البشرى ) في الاصول وحل الاشكال في معرفة الرجال وقد هذبه ورتبه الشيخ حسن صاحب المعالم واسماه التحرير الطاووسي وطبع اخيرأ طبعه جيده. (62)
و « الحسن » هو الخبر الذي يتصل بالمعصوم بسلسلة من الرواة الاماميين الممدوحين جميعا من قبل علماء الجرح والتعديل دون التصريح بتوثيقهم جميعا.
و « الموثق » هو الخبر الذي يتصل بالمعصوم بسلسلة من الرواة الذين ورد توثيقهم جميعا في كتب الجرح والتعديل إلا أن بعض رجاله ، أو كلهم لم يكونوا من الامامية. و « الضعيف » هو الخبر الذي لم يكن فيه أحد الاوصاف الثلاثة أعلاه. وبموجب هذا التقسيم يصح الاخذ بالصحاح والحسان والموثقات وتترك الاحاديث الضعيفة. وهذا المقياس مقياس موضوعي ومحدد يعتمد اسسا دقيقة وموضوعة في تميز ما يصح العمل به من الاحاديث عن التي لا يصح العمل بها. وقد أدى هذا التنسيق فيما بعد إلى خلاف بين مدرستين في الفقه الامامي هما مدرسة الاصوليين ومدرسة المحدثين الذين رفضوا هذا التقسيم وأصروا على الاخذ بما ورد في الكتب الاربعة من دون أن يناقشوا في سندها. ومهما يكن من أمر فقد استقر تصنيف الحديث إلى هذه الاقسام الاربعة بعد هذا التاريخ ، وأصبح هذا التقسيم أساسا للاستنباط والبحث الفقهي بشكل عام. وفيما بعد كتب الشيخ حسن مؤلف المعالم نجل الشهيد الثاني رحمهما الله كتاب « منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان » في هذا الاتجاه. وهذا بعض إنجازات مدرسة الحلة. ومهما يكن من أمر فقد كانت مدرسة الحلة امتدادا لمدرسة بغداد ، وتطويرا لمناهجها وأساليبها ، وبالرغم من الفتح الفقهي الكبير الذي قدر لمدرسة بغداد على يد الشيخ الطوسي كانت المدرسة بداية لفتح جديد ومرحلة جديدة في الاستنباط ، وقد قدر لمدرسة الحلة فيما بعد أن تعمق مكاسب هذه المدرسة وتطورها. (63)
ولئن كان الشيخ الطوسي بلغ قمة الفكر الفقهي لمدرسة بغداد فقد بلغ العلامة
الحلي قمة الفكر الفقهي لمدرسة الحلة.
ولو لا جهود علماء هذا العصر لظلت مدرسة بغداد على المستوى التي خلفها الشيخ من ورائه ، ولما قطعت هذه المراحل الطويلة التي قطعتها فيما بعد على أيدي علماء كبار أمثال المحقق والعلامة والشهيد وغيرهم. (64)
نبذة عن التاريخ السياسي للتشيع في بلاد الشام :
لبلاد الشام علاقة عريقة وقديمة بالتشيع منذ عهد الامويين والعباسيين ، إلا أن الشيعة في هذين العهدين كانوا يعيشون مرحلة التقية والسرية من الناحية السياسية والدينية بسبب الاضطهاد الطائفي الذي كان يمارسه حكام بني امية والعباسيين وولاتهم في هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم الاسلامي. حتى إذا انقضى عصر عهد العباسيين وظهرت للشيعة دول في التاريخ بعد سقوط الدولة العباسية ـ مثل دولة البويهيين في العراق وفارس ، ودولة الحمدانيين في الموصل وحلب ، ودولة العلويين في مصر والحجاز والشام وافريقيا ـ بدأ الشيعة يتحركون في بلاد الشام وينشطون ثقافيا وسياسيا. ولقد عاش شيعة الشام أيام الفاطميين في القرن الرابع فترة حرية واستقرار ، نشطت فيها حركة التشيع في بلاد الشام. وعن هذه الفترة يقول ، السيوطي : غلا الرفض وفار بمصر والمشرق والمغرب (1). 1 ـ تاريخ الخلفاء : ص 406. (65)
في هذه الفترة انتعش التشيع وامتد وانتشر في بلاد الشام ، ثم تلا هذه الفترة حكم الايوبيين الذين استلموا الحكم من الفاطميين وحكوا مصر والشام وجددوا اضطهاد الشيعة في بلاد مصر والشام معا ، مما أدى إلى ضمور كبير للحالة الشيعية في مصر والشام ، ثم جاء من بعدهم المماليك عام 648 ليواصلوا نفس السياسة التي مارسها سلفهم الايوبيون في اضطهاد الشيعة والتضيق عليهم في بلاد الشام ، وكانت أيامهم من أشق الفترات على شيعة الشام.
وكان المماليك يتخذون من فتاوى ابن التيمية ذريعة للفتك بالشيعة وإباحة دمائهم ، وأدى ذلك إلى أن يحتمي طائفة منهم بالجبال والمناطق الجبلية ليحموا أنفسهم من فتك النظام وبطشه ، ويتظاهر طائفة منهم بالانتماء إلى المذاهب السنية ليحمي نفسه وذويه من بطش الحكام. ونتج عن ذلك ضمور للتشيع في بلاد الشام واختفاء معالمه الفكرية والثقافية. فقد فقدت الطائفة الاولى بالتدريج انتماءها الفكري والعملي للتشيع ، ولذلك أسموهم بالشيعة المتخاذلة أو المتستين. وأما الطائفة الثانية فقد شاع فيها الجهل نتيجة البعد والانقطاع عن مراكز العلم. في مثل هذه الظروف الصعبة في عصر المماليك حاول الشهيد الاول أن يوصل جبل عامل بمدرسة الحلة وينقل إليها العلم والفقاهه والفكر ، ويجعل من جبل عامل مدرسة للفقاهة والثقافة الامامية مستفيدا من موقعها الجغرافي الذي يمنحها حصانة طبيعية في مقابل تعدي المماليك. وكانت مدرسة ( جزين ) التي أنشأها الشهيد الاول في جبل عامل بذرة لشجرة طيبة نمت فيما بعد وأثمرت واتسعت واستتبعت مدارس فقهية اخرى في مناطق كثيرة من جبل عامل. ورغم أن الشهيد الاول نفسه الذي أنشأ هذه المدرسة ذهب ضحية فتنة طائفية أوجدها المماليك في الشام واستشهد على يد « بيد مر « أحد ولاة المماليك على الشام إلا ان العلم انتشر في جبل عامل ، وتعددت مراكز العلم (66)
والفقاهة وأصبحت هذه المنطقة مدرسة عامرة بالفقهاء والعلماء ، واستعاد التشيع
وجهه الفقهي والثقافي وأصالته في بلاد الشام.
ولما امتد بعد ذلك سلطان العثمانيين إلى بلاد الشام وواصل العثمانيون سياسة الاضطهاد والتضيق على شيعة الشام لم يكن هناك ما يهدد كيان الشيعة العقائدي والفقهي في الشام كما حدث ذلك في فتنة المماليك من قبل ، فقد استطاع فقهاء الشيعة خلال هذه افترة أن يعمقوا في بلاد الشام وفي جبل عامل بالخصوص الاسس الفكرية والفقهية للتشيع. وقد استحدث الشهيد الاول نظاما خاصا لجباية الخمس وتوزيع العلماء في المناطق ، وكان لهذا العمل الفكري والثقافي والتنظيمي الذي نهض به الشهيد ومن خلفه من فقهاء الشيعة دور كبير في حفظ التشيع في بلاد الشام. وفي بداية القرن العاشر ( 905 ه ) أنشأ السلطان إسماعيل الصفوي الدولة الصفوية في إيران ، وهي دولة شيعية معروفة في التاريخ. وفي سنة 914 سيطر السلطان إسماعيل الصفوي على العراق وقض على دولة « اقاقوينلو » وضم المراقد المقدسة في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى الدولة الصفوية. وتزامن ظهور وتوسع الدولة الصفوية في إيران والعراق وخراسان وهرات مع سقوط دولة المماليك على يد السلطان سليم العثماني وامتداد نفوذ العثمانيين إلى بلاد الشام سنة 923 ه. وتحولت الساحة الاسلامية إلى ساحة صراع عنيف بين الدولتين الصفوية والعثمانية ، وكانت الحرب بينهما سجالا. واتخذت الحرب بينهما صفة مذهبية مما كان يزيد في عنف المعارك بين هاتين الدولتين. ففي سنة 920 ه انتصر العثمانيون على الصفويين في موقعة ( چالدران ) المعروفة. وبذلك انتقل العراق من النفوذ الصفوي إلى النفوذ العثماني ولم يتكن الشاه إسماعيل الصفوي أن يسترد العراق حتى وفاته سنة 930 ه (67)
واستعاد الصفويون سيطرتهم على العراق سنة 937 ه.
ثم فتح العثمانيون العراق مرة أخرى عام 941 ه ، وهكذا كانت المعارك سجالا بين الصفويين والعثمانيين ، وكان من الطبيعي في هذا الصراع أن يتعاطف شيعة وفقهاء جبل عامل مع الصفويين. وكان الصفويون يستقدمون فقهاء جبل عامل إلى ايران ويولوهم مراكز القضاء والفتيا والتوجيه ، وكان هذا كله ينعكس على علاقة شيعة الشام وعلماء جبل عامل بآل عثمان الذين كانوا يحكون بلاد الشام يومئذ. وقد وجد الشيعة في الشام عموما وفي جبل عامل خصوصا حرية نسبية في اخريات العصر المملوكي ، وأفادوا من ضعف الدولة المملوكية في ممارسة نشاط ثقافي واسع في مدارس جبل عامل. فلما سقطت الدولة المملوكية على يد آل عثمان واستولى العثمانيون على الشام وقامت الدولة الصفوية في ايران جدد العثمانيون سياسة الاضطهاد ضد الشيعة بشكل عنيف وضيقوا عليهم. وكان من ابرز أحداث هذا الاضطهاد الطائفي مصرع الشهيد الثاني زين الدين بن علي عام 965 ه بعد ملاحقة طويلة له في دمشق وجبل عامل والحجاز في موسم الحج. وكان لهذا الارهاب الذي مارسه العثمانيون ضد فقهاء الشيعة في جبل عامل من جانب وحاجة الدولة الصفوية من جانب آخر إلى الفقهاء والعلماء لادارة شؤون القضاء والفتيا والتوجيه الديني في النظام الصفوي دور كبير في هجرة علماء جبل عامل من بلاد الشام إلى ايران. وقد استفادت الدولة الصفوية كثيرا من وجود فقهاء جبل عامل في تنظيم شؤونها كما استفادت في توفير القضاء الشرعي لها ، ووجد علماء جبل عامل في ايران مكانا آمنا لهم من الارهاب الذي كان يمارسه العثمانيون ضد الشيعة في الشام. (68)
وكان ـ هذا العامل المزدوج سببا في انتقال العلم من جبل عامل إلى اصفهان عاصمة
الدولة الصفوية.
جبل عامل (1) : جبل عامل منطقة عريقة في التشيع والولاء لاهل البيت عليهم السلام ، وتعود جذور التشيع في هذه المنطقة إلى أيام إبعاد الصحابي الجليل أبي ذر رحمه الله من المدينة إلى الشام بأمر من الخليفة عثمان بن عفان ، وتوجد حتى هذا اليوم مساجد ينسبها الناس إلى هذا الصحابي الجليل. يقول القاضي نور الله التستري الشهيد الثالث رحمه الله : جبل عامل ولاية من أعمال الشام معمور مشهور مشتمل على قرى وبلاد ، تنبوعن الحصر. وبالجملة تجلي أنوار الرحمة الالهية شامل لاهل جبل عامل ونور المحبة من نواصي أعيانهم ظاهر ، ولا يوجد قرية من قراه لم يخرج منها جماعة من الفقهاء والفضلاء الامامية ، وجميع أهله من الخواص والعوام والرضيع والشريف يجدون في تعليم وتعلم المسائل الاعتقادية والاحكام الفرعية على طبق مذهب الامامية وفي التقوى والمروءة والقناعة يقتدون بطريقة مولاهم المرضية (2). ولجبل عامل علاقة ثقافية وفكرية قديمة وعريقة بالعراق ، ففد كان الناس يوفدون أبناءهم لدراسة الفقه إلى بغداد على يد فقهاء العراق. ولما انتقل الفقه من بغداد إلى الحلة بعد سقوط الدولة العباسية اقبل طلبة جبل عامل إلى الحلة لتلقي العلم من فقهاء الحلة. 1 ـ جبل عامل ـ أو عاملة ـ يقع في الجنوب في جبل لبنان في سورية الكبرى ويشتمل على قرى ومدن كثيرة عامرة ، ويحده غربا البحر الابيض المتوسط وشرقا الحوله ووادي اليتم والبقاع وبعض جبل لبنان وجنوبا فلسطين. 2 ) أعيان الشيعة : ج 1 ص 240. (69)
ومن هؤلاء الشيخ نجم الدين طمان بن أحمد العاملي ، قرأ على السيد فخار الموسوي سنة 630 ه بالحلة ، وروى عن الشيخ ابن إدريس وغيره من فقهاء الحلة (1). والشيخ صالح بن مشرف جد الشهيد الثاني ، قرأ على العلامة الحلي. وجمال الدين يوسف بن حاتم العاملي ، قرأ على المحقق جعفر بن سعيد. وابن الحسام العاملي ، اجيز من قبل العلامة الحلي. والشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي الشهيد الاول ، قرأ على فخر المحققين ابن العلامة الحلي ، وغيرهم من علماء جبل عامل وفقهائه.
وازدهرت مدرسة جبل عامل وحفلت بالعلماء والفقهاء والمعاهد العلمية ، وإليها انتقل تراث مدرسة الحلة ، واجتمع فيها جمع غفير من علماء الشيعة حتى أن الحر العاملي رحمه الله يقول : إن علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الاقطار مع أن بلادهم أقل من عشر عشر بلاد الشيعة. وقد تأسست في هذه المنطقة مجموعة من المعاهد والمدارس العلمية ، استقطبت طلبة العلم ، وأخرجت جمعا كبيرا من الفقهاء والعلماء. ونحن نشير هنا إلى جملة من هذه المدارس التي اشتهرت في جبل عامل. مدرسة جزين من أبرز معاهد هذه المنطقة العامرة والحافلة بالفقهاء والعلماء. وقد تأسست وازدهرت هذه المدرسة على يد الشهيد الاول محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني رحمه الله ... إلا أن جزين كانت قبل الشهيد معروفة بمن فيها من العلماء ، ومنهم والد الشهيد جمال الدين مكي بن 1 ـ أمل الآمل : ج 1 ص 103. (70)
محمد العاملي الجزيني.
يقول عنه الحرفي « الامل » : كان من فضلاء المشايخ في زمانه ومن أجلاء مشايخ الاجازة (1). وقال السيد حسن الصدر في التكملة في ترجمته : قال الشهيد في بعض إجازاته : وقد كان والدي جمال الدين أبو محمد مكي رحمه الله من تلامذة المجاز له الشيخ العلامة الفاضل نجم الدين طومان والمترددين إليه في سفره إلى الحجاز الشريف ، ووفاته بطيبة في نحو سنة ثمان وعشرين وسبعمائة أو ما قاربها رحمة الله عليهم أجمعين (2). وذكره السيد الامين في الاعيان على النحو الذي ذكر (3). ونشطت مدرسة جزين نشاطا ملحوظا بعد عودة الشهيد الاول من الحلة ، وكان لهذه المدرسة دور كبير في التاريخ الثقافي والفقهي لجبل عامل (4). والشهيد الاول هو مؤسس هذه المدرسة وأبرز فقهائها ... هاجر من جزين إلى الحلة ، وحضر على جمع من علماء الحلة وفقهائها ، وكان أبرزهم وأخصهم به هو فخر المحققين ابن العلامة الحلي الذي اعجب بنبوغ هذا الشاب الذي خف لطلب العلم من لبنان إلى العراق ، وأكرمه وأولاه الكثير من رعايته واهتمامه ، وأعطاه من وقته وجهده الكثير ، ويظهر مدى اهتمام واحترام فخر المحققين لتلميذه الشاب من الاجازة التي كتبها له بخطه على ظهر كتاب « القواعد ». يقول رحمه الله : قرأ علي مولانا الامام العلامة الاعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم مولانا شمس الحق والدين محمد بن مكي بن محمد بن حامد أدام الله 1 ـ أمل الآمل : ج 1 ص 185. 2 ـ تكلة أمل الآمل : ص 400. 3 ـ أعيان الشيعة : ج 10 ص 134. 4 ـ راجع تاريخ جبل عامل : ص 134. (71)
أيامه من هذا الكتاب مشكلاته ، وأجزت له رواية جميع كتب والدي قدس سره وجميع ما
صنفه أصحابنا المتقدمون رضي الله عنهم عن والدي عنهم بالطرق المذكورة لها.
وأعجب من ذلك هو كلمته المأثورة في الشهيد : لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر مما استفاد مني. وما عدا فخر المحققين الذي كان أبرز شيوخ الشهيد رحمه الله ، حضر الشهيد في الحلة عند الشيخ ابن معية من كبار تلامذة العلامة الحلي والسيد عبد المطلب بن السيد مجد الدين بن الفوارس. والسيد ضياء الدين عبد الله بن السيد مجد الدين بن الفوارس وهما ابنا اخت العلامة الحلي رحمه الله. وفي الشام قرأ الشهيد الحكمة والفلسفة الالهية على الحكيم المتأله قطب الدين الرازي البويهي تلميذ العلامة الحلي وذلك سنة 776 ه ، قرأ عليه شرح المطالع والمحاكمتين ... وقد اعجب الشهيد بهذا الحكيم المتأله ولازمه واستفاد منه واستجازه واختص به في الشام. يقول رحمه الله في لقائه به : اتفق اجتماعي به في دمشق اخريات شعبان سنة 776 ه فإذا هو بحر لا ينزف ، وأجازني جميع ما يجوز عنه روايته (1). وقرأ الشهيد على عدد من مشايخ السنة كالشيخ إبراهيم بن عمر الملقب ببرهان الدين الجعبري بشيخ مشيخة مقام الخليل بفلسطين ، كما قرأ على الشيخ إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة كما صرح به الشهيد في إجازته لابن الخازن (2) يقول رحمه الله : وأما مصنفات العامة ومروياتهم فإني أروي عن نحو من أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد 1 ـ الكنى والالقاب : ج 3 ص 61. 2 ـ الامام الشهيد الاول : ص 460. (72)
ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام.
فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري وكذا صحيح مسلم ومسند ابن داود وجامع الترمذي ومسند أحمد وموطأ مالك ومسند الدار قطني ومسند ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله النيسابوري إلى غير ذلك مما لو ذكر لطال (1). وقد كان لهذا الانفتاح الثقافي والفقهي أثر واضح في شخصية الشهيد رحمه الله وتآليفه ودروسه التي كان يلقيها على تلاميذه ، وفي مدرسة جزين التي وضع اسسها الاولى بنفسه في جبل عامل. وأكمل الشهيد الشوط الاول من حياته العلمية في العراق والشام بجدية واهتمام ، ورجع إلى جزين قريته التي ولد فيها بعلم غزير وطموحات كبيرة وأسس مدرسة جزين ، وبدأ فيها بالتدريس. وكان من جملة تلاميذ هذه المدرسة ـ والذين تخرجوا منها ـ أبناؤه الثلاثة : (1) الشيخ جمال الدين أبو منصور حسن ابن الشهيد الاول. (2) الشيخ ضياء الدين أبو القاسم علي ابن الشهيد. (3) الشيخ رضي الدين أبو طالب محمد أكبر أبناء الشهيد. وقد أجازهم والدهم الشهيد ، وصورة الاجازة موجودة في البحار. وازدهرت هذه المدرسة على يد الشهيد رحمه الله وكان الشهيد يمارس التدريس فيها بنفسه ويعطيها من اهتمامه وجهده ووقته الكثير. كما عمل الشهيد رحمه الله في هذه الفترة بتنظيم علاقة الامة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم كما يقومون بجمع الحقوق المالية الشرعية لتوزيعها على مستحقيها بنظر الفقيه. والمعروف أن الشهيد الاول رحمه الله هو أول من أسس هذا التنظيم الذي 1 ـ بحار الانوار : ج 107 ص 190 و 191. (73)
يربط الفقيه المتصدي بالامة بواسطة شبكة من الوكلاء ، واستمر هذا التنظيم فيما
بعد ونمى وتطور على أيدي الفقهاء الذين تصدو الشؤون الناس إلى اليوم الحاضر.
وكان الشهيد يتردد خلال فترة عمله قي جزين على دمشق كثيرا ، وكان له بيت عامر في دمشق بالعلماء وطلبة العلم. وكان مجلسه حافلا في دمشق بمختلف الطبقات ومن مختلف المذاهب ، حتى أن أصحاب السير يعدون من كرامات الشهيد ، أن أحدا من رواد مجلسه من علماء المذاهب الاربعة لم يطلع على المختصر الذي ألفه الشهيد في الفقه باسم « اللمعة الدمشقية » خلال سبعة أيام قضاها في تأليف هذه الرسالة ، إجابة لدعوة الامير علي بن مؤيد حاكم خراسان الذي أرسل إليه وزيره الشيخ محمد الآوي إلى دمشق يستقدمه إلى خراسان ليكون مرجعا للمسلمين هناك ، فاعتذر الشهيد بعذر جميل وأرسل إليه هذا المختصر الخالد في الفقه والذي لا يزال موضع دراسة واهتمام الفقهاء وطلاب الفقه. إذن كان الشهيد يقوم في وقت واحد بجهد علمي في جزين ، ونشاط سياسي في دمشق ، وعمل اجتماعي واسع في تنظيم المرجعية في بلاد الشام وخراسان. ونمت وتطورت مدرسة جزين بعد شهادة الشهيد رحمه الله واستقطبت طلبة العلم من مناطق مختلفة ، وأصبح جبل عامل بفضل هذه المدرسة وجهود الشهيد مركزا للاشعاع الفكري في بلاد الشام خاصة والعالم الاسلامي عامة. ومما يذكر في حجم مدرسة جبل عامل الفقهية في هذه المرحلة أن « ست المشايخ » فاطمة بنت الشهيد لما توفيت في قرية جزين حضر تشييعها سبعون مجتهدا من جبل عامل. مدرسة جبع من المدارس الفقهية المعروفة في جبل عامل ، وفي هذه المدرسة (74)
درس الشيخ صالح بن مشرف العاملي الجبعي جد شيخنا الشهيد الثاني.
ويظهر من كتب التراجم أن الشيخ صالح كان قد تلمذ فترة من حياته على العلامة الحلي ثم رجع إلى جبع فكان من فضلاء عصره وفقهائه كما يقول الحر العاملي (1). كما نشأ في هذه المدرسة ودرس فيها الشيخ نور الدين علي بن أحمد بن محمد العاملي الجبعي والد الشهيد الثاني المعروف بابن الحاجة. وكان فاضلا جليلا كما يقول الحر العاملي (2). ونشأ فيها شيخنا الجليل الشهيد الثاني ( 911 ـ 966 ه ) وحضر فيها المقدمات على والده الشيخ نور الدين. ثم هاجر بعد وفاة والده جبع إلى ( ميس ) وحضر فيها على الشيخ الجليل علي بن عبد العال الميسي سنة 925 ه واستمر في الحضور على الشيخ الميسي إلى سنة 933 ه ثم هاجر إلى ( كرك نوح ) وحضر فيها على السيد حسن ابن السيد جعفر مؤلف كتاب « المحجة البيضاء » وقرأ عليه الفقه والاصول والحديث والكلام والادب. ثم عاد إلى جبع في سنة 934 ه وبقي فيها يتعاطى العلم إلى سنة 937 ه حيث هاجر منها إلى دمشق ليكمل دراسته فيها. وعاد إلى جبع مرة اخرى سنة 938 ه وأقام فيها. إلى سنة 941 ه يمارس التدريس والتوجيه والتأليف ، وفي هذه السنة غادر جبع إلى دمشق حيث حضر فيها على علماء أهل السنة ، فاجتمع بالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي وقرأ عليه جملة من الصحيحين ، وأجازه روايتهما معا. ثم غادر دمشق إلى مصر سنة 943 ه ، فاجتمع في مصر بجمع من أعلام مصر وفقهائها منهم الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي ، قرأ عليهم 1 ـ أمل الآمل : القسم الاول ص 102. 2 ـ أمل الآمل : القسم الاول ص 118. (75)
واستفاد منهم الملا محمد الاسترآبادي والملا محمد الكيلاني والشيخ شهاب الدين
بن أحمد النجار الحنبلي والشيخ أبو الحسن البكري والشيخ زين الدين الجرمي المالكي
والشيخ ـ ناصر الدين الملقاني المالكي والشيخ شمس الدين محمد بن أبي النحاس والشيخ
عبد الحميد السنهوري وغيرهم ممن يعدهم ابن العودي تلميذ الشهيد الثاني في ترجمته
للشهيد.
ثم عاد الشهيد إلى جبع في 934 ه وازدهرت بعودته مدرسة جبع بعد ضمور وخمول. يقول ابن العودي رحمه الله : وكان قدومه إلى البلاد كرحمة نازلة أو غيوث هاطلة ، أحيى بعلومه نفوسا أماتها الجهل ، وأزدحم عليه أولوا العلم والفضل ، كأن أبواب العلم مقفلة ففتحت وسوقه كانت كاسدة فربحت ، وأشرقت أنواره على ظلمة الجهالة ، فاستنارت وابتهجت قلوب أهل المعارف وأضاءت ، وظهر من فوائده ما لم يطرق الاسماع ، رتب الطلاب ترتيب الرجال وأوضح السبيل لمن طلب (1). وكذلك نشطت مدرسة جبع بعد عودة الشهيد ، واجتمع فيها حوله شباب الطلبة من مختلف بلاد الشام ، وبنى فيها مسجدا لا يزال قائما في جبع ، ورتب شؤون الطلبة وعين لهم المدرسين للتدريس. وحضر عند الشهيد خلال هذه الفترة جمع من الاعلام نذكر منهم : 1 ـ الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي. 2 ـ السيد علي بن الصائغ العاملي الجزيني الحسني. 3 ـ السيد نور الدين بن فخر الدين بن عبد الحميد الكركي. 4 ـ المولى محمود بن محمد علي الجيلاني اللاهيجي. 5 ـ الشيخ محي الدين أحمد بن تاج الدين الميسي العاملي. 1 ـ رسالة ابن العودي في ترجمة الشهيد الثاني. |
|||
|