بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 61 ـ 70
(61)
    قبل قبضه (1).
     وقد ذكرنا سابقاً : أنّ اعتبار الكيل أو الوزن قبل البيع الثاني ليس لإحراز مقدار البيع ليتم شرط معرفة مقدار المبيع في البيع الثاني ، إذ على هذا لم يكن فرقٌ بين التولية وغيرها ، بينما فرّقت الروايات بين التولية وغيرها ، فأجازت الأول دون الثاني ، ولهذا يتعيّن أن يكون الكيل أو الوزن لجهة القبض قبل البيع الثاني الذي اشترط في بيع المرابحة دون التولية.
     هذه هي أهم الأقوال في المسألة.
     أقول : أمّا القول الأول الذي يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً فهو قول باطل ، وذلك لأنّ أدلّته إن سلّمنا بصحتها (2) فهي مقيدة أو مفسَّرة في صورة كون المبيع طعاماً أو مكيلا أو موزوناً ; للأدلة الكثيرة التي تقيّد النهي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهذه الصورة.
     وأما القول الثاني الذي يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، فأيضاً باطل وذلك للروايات المصرِّحة بالجواز في صورة عدم كون المبيع طعاماً أو مكيلا أو موزوناً.
     نعم من قال من الإمامية بجواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً على كراهة استند إلى الجمع بين الروايات المجوّزة والمانعة ، حيث حمل الروايات المانعة على الكراهة لقرينة الروايات المجوزة.
     وهذا وجه غير وجيه بالنظر إلى الصناعة الاُصولية لو كانت الروايات المجوزة
     (1) المغني لابن قدامة : ج4 ، ص217.
     (2) ويكفي توهيناً للروايات المطلقة هو ما روي عن ابن عباس : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » حيث قال ابن عباس : « ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام.
     أقول : لو كانت هناك روايات مطلقة في المنع عن بيع السلع قبل قبضها لذكرها ابن عباس واسند المنع اليها ، ولم يقل : ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام.

(62)
    صحيحة ، وذلك لأن التعارض بالاطلاق والتقييد ، لأنّ الروايات المجوزة موضوعها مطلق لصورة كون البيع قبل القبض بنحو التولية أو غيرها ، فيرفع اليد عن اطلاقها بالروايات المانعة عن البيع مرابحة ، على أنَّ الروايات المجوزة ضعيفة كما تقدم.
     نعم : حَملُ ظاهر النهي على الكراهة إذا كان هناك نصّ على الجواز إنما يُصار إليه لو لم يكن إطلاق وتقييد في البين ، كما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو الإطلاق أو بنحو التقييد . ولذا نرى الفقهاء يتصرفون في موضوع الدليل دون الحكم في دليل آخر عند تعارضهما بالإطلاق والتقييد ، كما في تعارض « لا تعتق رقبة كافرة » و « اعتق رقبة » ، وكذا في تعارض « لا تكرم زيداً العالم » و « أكرم العلماء » حيث يرفعون اليد عن عموم الموضوع ، لا عن ظهور النهي في الحرمة.
     وحينئذ يكون دليل « لا يجوز بيع المكيل والموزون مرابحةً إلاّ بعد كيله أو وزنه » مقيّداً لدليل « لا بأس ببيع المكيل والموزون قبل قبضه » بغير صورة المرابحة. ولا نرى مانعاً من التعبير عن الدليل المفصِّل ( وهو عدم جواز بيع المكيل والموزون مرابحة إلاّ بعد قبضه ، وبين جواز بيعه تولية ) بأنّه مفسِّر للدليل المطلق عند العُرف.
     إذن لم يبقَ إلاّ القول الثالث والرابع ، وكل منهما له دليله من الروايات المروية عن الشارع المقدّس. ولكن في روايات القول الرابع ما يفيد : أن علّة المنع من بيع الطعام قبل قبضه هو الكيل ، وهي صحيحة الحلبي ، قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن قوم اشتروا بزّاً ... أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال ( عليه السلام ) : لا بأس به ، وقال : إن هذا ليس بمنزلة الطعام لأن الطعام يكال » (1).
     وبهذا نعرف أن الروايات التي ذكرت الطعام ومنعت من بيعه قبل قبضه إنّما كان لعلّة كيله ، فلا خصوصية للطعام ، فيتعيّن أن يكون القول الرابع هو الصحيح
     (1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب16 من أحكام العقود ، ح10.
(63)
    من بين الأقوال.
     ولنا أن نقول أيضاً : إنّ معنى الطعام ظاهراً هو الحنطة والشعير ، فقد جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصّةً ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة ». وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.
     وحينئذ نقول : بما أن الحنطة والشعير مكيلان أو موزونان فلا يكون هناك قول ثالث ، لأنَّ أصحاب القول الرابع يكونون قد أخذوا بكلتا طائفتي الروايات القائلة بأن بيع المكيل والموزون ـ ومنه الطعام ـ لا يجوز قبل قبضه ، بمعنى أنَّ
    روايات القول الثالث صحيحة ، وهي تدل على حكم خاص ، وروايات القول الرابع صحيحة وهي تدلّ على حكم أعم من القول الثالث ، ولا تعارض بينهما ، إذ لم يعلم أن الحكم واحد ، فنأخذ بكلتا طائفتي الروايات.

4 ـ هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟
     وللجواب عن هذا السؤال لابدّ أن نستعرض ما يمكن أن يقال بعلّيّته للنهي عن البيع قبل القبض ، ثم نرى مدى صحته فنقول :
     1 ـ قد يقال : إنّ العلة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمّل الخسارة ، وما دامت السلعة المشتراة لم يقبضها المشتري فخسارتها بالمنظور الشرعي على البائع ، لقاعدة : « تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه » ، وحينئذ لا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمّل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأنّ هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل : « من كان له الغنم فعليه الغرم ». ويشهد لهذه العلّة جواز بيعها على شخص ثالث أو على بائعها توليةً بدون القبض.
     أقول : ولكن رغم معقولية هذا القانون لم يدلّ عليه أيّ دليل شرعي ، بل


(64)
    نراه غير مراعىً في موارد هي :
     أ ـ فيما إذا كان المشترى ( غير مكيل أو موزون ) ثوباً أو داراً ، فإنّ المشتري يحقّ له أن يبيعه بربح قبل قبضه ، مع أن المشتري لا يخسر إذاتلف المبيع لأنه غير مقبوض.
     ب ـ وكذا قد تخلّف هذا القانون في موارد اُخر ، كالثمار بعد بدو الصلاح ، فإنَّ المشتري له الحقّ في بيعها وهي على الشجر ، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع.
     ج ـ وكذا في منافع الإجارة ، فإنّ المستأجر له الحقّ في أن يؤجر ما استأجره بربح من نفس جنس الاُجرة إذا عمل فيه عملا أو يُؤجرها بأكثر ممّـا استأجرها به إذا كان بغير جنس الاُجرة (1) ، ولكن إذا حدث تلف في المستأجَر فيرجع على المؤجِر بمقدار ما تلف.
     د ـ وكذا قد تخلّف هذا القانون في بيع المكيل والموزون ( الكلي والشخصي ) قبل قبضه على بائعه ـ كما سيأتي ـ وذلك لأنَّ ظاهر الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون بربح هو المنع من بيعها على شخص ثالث ، أمّا هنا فإن البيع على نفس البائع فلا تشمله الروايات.
     ثم إننا حتى لو قلنا : إنّ روايات المنع مطلقة لكلّ بيع إلاّ أنَّ روايات بيع السلم قبل قبضه على بائعه تقول بجواز ذلك ، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، يحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال ( عليه السلام ) : نعم يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (2).
     (1) وسائل الشيعة 13 : ب21 من الاجارة ، أحاديث الباب.
     (2) وسائل الشيعة : ج13 ، ب11 من السلف ، ح6 ، وراجع بقية الروايات. وللتوسع يراجع ما كتبناه في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة.

(65)
    نعم ، هناك تلازم بين الضمان والتلف ، فمن كان ضامناً يكون التلف عليه ، حسب القاعدة القائلة : « كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». ولكن هذا غير المنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه بربح.
     2 ـ هل يمكن أن تكون العلّة في نظر الشارع القدرة على التسليم ؟
     والجواب : بالعدم ، وذلك لأنّ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري ، كما أنّها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه ، كما لو غصبت بعد القبض.
     3 ـ هل يمكن أن تكون العلّة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها ، كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالباً هو انتظار تقلّبات الأسعار للحصول على ربح ، وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية ؟
     والجواب : أنّ كلامنا هو في صورة القصد الحقيقي إلى البيع ، وبذلك تخرج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلّم المثمن ، كما في أسواق البورصة التي لا يكون التسليم والتسلّم فيها إلاّ بمقدار 1% بالإضافة إلى انتقاض هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه ، كما جوّزت ذلك بعض الروايات ـ كما تقدم ـ وسيأتي وعليه جمع غفير من العلماء.

5 ـ هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟
     أقول : تقدّم الكلام منّا في بطلان كون هذا البيع مكروهاً فلا نُعيد.
     وأمّا التحريم فقد عبّر بعض الفقهاء بحرمة هذا البيع ، كالشيخ الأنصاري حيث قال : « الأقوى ـ من حيث الجمع بين الروايات ـ حرمة بيع المكيل والموزون


(66)
    قبل قبضه إلاّ تولية ... » (1).
     كما عبّر بعض آخر بالمنع من هذا البيع في مقابل تعبيره بالجواز في البيع التوليتي ، والظاهر من المنع هو الحرمة.
     قال في منهاج الصالحين : « من اشترى شيئاً ولم يقبضه : فإنْ كان ممّا لا يكال ولا يوزن جاز له بيعه قبل قبضه ، وكذا إذا كان ممّا يكال أو يوزن وكان البيع برأس المال ، أمّا لو كان بربح ففيه قولان أظهرهما المنع » (2).
     ويؤيد هذا القول التعبير الوارد في بعض الروايات المروية على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، حيث روى ابن عمر قال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم » (3).
     أقول : إنّ النهي عن المعاملة يكون على أنحاء :
     1 ـ قد يكون النهي تكليفياً ، كما إذا وجدت قرينة عليه ، كما في النهي عن البيع وقت النداء الذي نعلم أن ترك البيع فيه للتحفّظ على صلاة الجمعة ، وهذا النهي التكليفي لا يقتضي الفساد ، كما قرر ذلك في الاُصول.
     2 ـ قد يكون النهي تكليفياً ووضعياً ، كما إذا قامت قرينة على ذلك ، كما في لعن مشتري الخمر وبائعها ، وقوله ( عليه السلام ) : « ثمن الخمر سحت » وكما في المعاملات الربوية كما هو واضح من التشديد والوعيد عليها.
     3 ـ أمّا النهي عن المعاملة إذا لم يكن فيه قرينة على الحرمة التكليفية فيكون ظهوره الأوّلي هو الإرشاد إلى عدم الإمضاء والحكم بالبطلان ، كما في نهي النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن بيع الغرر ، وحينئذ فيكون ظهور « إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن
     (1) المكاسب : ج2 ، ص315.
     (2) منهاج الصالحين للإمام الخوئي : ج2 ، ص48 ، مسألة ( 188 ).
     (3) المغني لابن قدامة : ج4 ، ص218.

(67)
    فلا تبعه حتى تقبضه » هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني ، فإن لم يحصل القبض قبل البيع الثاني يكون البيع الثاني باطلا.
     أمّا إذا كان بيع المكيل أو الموزون قبل القبض تولية فلا يشترط فيه القبض قبل البيع ، ولا مانع من ذلك ، فإنَّ بيعاً قد يشترط فيه ما لا يشترط في بقية البيوع ،
    كما في بيع الصرف الذي قد اشترط فيه التقابض في المجلس قبل التفرق دون غيره من البيوع ، فهنا كذلك لأنَّ النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل القبض خال عن قرينة تدلّ على الحرمة التكليفية ، أو قرينة تدلّ على ربوية المعاملة المحرمة تحريماً تكليفياً ، فلا مناص من القول بأنَّ النهي عن البيع قبل القبض مرابحةً إرشادٌ إلى شرطية القبض قبل البيع في خصوص المكيل أو الموزون إذا بيع مرابحة.

تنبيهات :
     1 ـ إنّ الأدلّة المتقدمة ـ على القول الرابع ـ لا تفرّق بين الأشياء التي تباع بالكيل أو الوزن ، بين ما كان عند البائع قد حصل عليه بالزراعة أو قد وهب إليه أو اشتراه كلياً في الذمة أو في المعيّن ، أو مبيعاً شخصياً قد اشتراه بغير كيل أو وزن ، فإنّه في كل هذه الصور لابدّ من قبضه بالكيل أو الوزن إذا أراد بيعه للآخرين.
     أمّا إذا كان البائع قد اشتراه ووزنه أو كاله فيكفي هذا الكيل أو الوزن في بيعه للآخرين ، أما الآخرون فلا يجوز لهم بيعه إلاّ بعد قبضه وحيازته إلى رحالهم.
     2 ـ إنّ هذه الروايات هي بصدد بيان جواز البيع الثاني مرابحةً بعد قبض ما اشتري بالكيل أو الوزن ، وهذا البحث يختلف عن حقيقة القبض الذي تقدّم من أنّه قد يكون في بعض الاُمور التخلية التي يرتفع بها الضمان عن البائع.
     وبعبارة اُخرى : أنّ القبض الذي يرتفع به الضمان عن البائع في المكيل والموزون هو التخلية ، ولكن صحة البيع الثاني لابدّ فيها من القبض من قبل المشتري التي تحصل بالكيل أو الوزن.


(68)
    3 ـ قد أجازت هذه الروايات بيع المكيل والموزون قبل القبض إذا كان البيع تولية ، وهذا هو مفاد الروايات المتقدّمة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) التي هي عن آبائهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فتكون حجّة.
     وهنا نريد أن نقول بجواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه إذا كان البيع على
    نحو الشركة في المبيع ، فقد دلّت عليه موثّقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان قد اشتراها ولم يقبضها ؟ قال ( عليه السلام ) : لا ، حتى يقبضها ، إلاّ أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يولّيه بعضهم فلا بأس » (1).
     وقد ذهب إلى هذه النتيجة الإمام مالك ، فقد جوّز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض ، فقد جاء في المدوّنة : « قلت : أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل ينقد فلم اقبضها حتى أشركت فيها رجلا أو ولّيتها رجلا أيجوز ذلك ؟
     قال : لا بأس عند مالك.
     قلت : وإن كان طعاماً اشتريته كيلا ونقدتُ الثمن فولّيته رجلا أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته ؟
     قال : لا بأس بذلك ، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.
     قلت : لِمَ جوّزه مالك ، وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك : أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) نهى عن الطعام قبل أن يُستوفى ؟
     قال : قد جاء هذا ، وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.
     قال سحنون : وأخبرني ابن القاسم ، عن سليمان بن بلال ، عن ربيعة ، عن أبي عبد الرحمان ، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « من ابتاع طعاماً
     (1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب16 من أحكام العقود ، ح15.
(69)
    فلا يبعه حتى يستوفيه ، إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية ».
     قال مالك : اجتمع أهل العلم على أنّه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يُستوفى إذا انتقد الثمن ممّن يشركه أو يقيله أو يولّيه » (1).
     4 ـ إن أصل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ( إلاّ تولية أو شركة ) هو على خلاف القاعدة الأوليّة القائلة بتسلّط الناس على أموالهم ، بمعنى أنّه إذا ملك إنسان شيئاً يتمكّن أن يبيعه ـ سواء كان قد قبضه أم لا ـ فإذا أضفنا إلى هذا عدم وجود علّة للنهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، وإنّما هو تعبّد خاصّ ، فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة المانعة نفسها لنرى سعتها أو ضيقها فنتمسّك بها ، لأنّها هي الدليل على النهي وعلى خلاف القاعدة ، ولا علّة حتى تتبع.
     وحينئذ فما لم يكن داخلا تحت النهي فهو جائز سواء دلّ عليه دليل خاص أو لا ، إذ يكون داخلا تحت قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، فيتمكّن من التصرّف فيه ببيعه ما لم يكن داخلا تحت عنوان منهيّ عنه. وعلى هذا نتمكّن أن نذكر عدّة اُمور جائزةً قد يشتبه في دخولها تحت عنوان البيع قبل القبض ، منها :
     أ ـ إذا كان البيع غير مكيل أو غير موزون ( كالمعدود (2) والمذروع والمشاهد ) فيجوز بيعه قبل قبضه ( سلماً أو استصناعاً أو غيرهما ) طبقاً للقاعدة المتقدّمة ، مع ورود الرخصة في ذلك أيضاً. ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدّمتين : « فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه ». وكذا في رواية أبي حمزة عن
     (1) المدوّنة : ج4 ، ص80 ـ 81.
     (2) ذكر ابن قدامة في المغني فقال : « كل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه ... إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود » : ج4 ، ص221.
     أقول : بالاضافة إلى عدم الارتباط بين ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض وبين عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه فإنَّ لكلّ مسألة من المسألتين دليلها الخاص وموضوعها الخاص ، فإنَّ عدم جواز بيع المعدود قبل قبضه لم يرد فيه أيّ نص.

(70)
    الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « سألته عن رجل اشترى متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه ؟ قال ( عليه السلام ) : لا بأس » (1) وغيرها من الرويات.
     ب ـ إنّ الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل القبض مختصّ بالبيع ، كما تقدّمت الروايات عن الفريقين تصرّ بأنّ المنع مختصّ به ، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح على المكيل والموزون قبل القبض ، وله أن يؤجره قبل القبض إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين ، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض ، ومع الشك في صحتهما على المكيل والموزون قبل قبضه نتمسك بإطلاق أدلّة الإجارة وأدلة الصلح جائز بين المسلمين ، أو إطلاق ( تجارة عن تراض )
     ج ـ إذا كان الثمن مكيلا أو موزوناً والمبيع عروضاً فيتمكّن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقاً للقاعدة ، وعدم المانع ، لأنَّ الدليل اللفظي الدالّ على المنع مختص بالمثمن ، فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق ، أو اطمئنان بوحدة الملاك فيهما ، وبما أنّه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا اطمئنان بوحدة الملاك ـ لأنّ الحكم تعبّدي على خلاف القاعدة كما تقدّم ـ فنقتصر على مورد المنع ونتمسّك بدليل ( أحلّ الله البيع ) لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل قبضه.
     نعم ، من علّل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل القبض بضعف ملكية المشتري ; لاحتمال أن يتلف الطعام فتنحلّ المعاملة ، فإنّ هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.
     ولكنّ هذا الوجه ضعيف ، إذ لا يكون الملك ضعيفاً قبل القبض ، ولأنّ هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى توليةً ولغير المكيل والموزون. ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.
     (1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب16 من أحكام العقود ، ح8.

بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس