بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 271 ـ 280
(271)
الاستتئام والاستنساخ


(272)

(273)
    إنّ الثورة العلمية المعاصرة قد أتحفت البشر بما ليس في الحسبان في عالم النبات والحيوان ، وستفضي في المستقبل القريب أو البعيد بما تحمله من تقنية عالية إلى ثورة في المعرفة تقلب الموازين ، خصوصاً في عالم التكاثر البشري ، فالعلم والعقل لابدّ لهما من انطلاق ، ولا يجوز أن يحجر على العقل في التفكير وعلى العلم في المواصلة والارتقاء وتَقَصّي الاحتمالات للتوصّل إلى الممكن.
     ولكن لابدّ من أن يحكم العلم نظام ويهيمن عليه دستور ليكون في صالح البشرية لا في ضررها وفنائها ، ولهذا احتجنا إلى الفقه أو القانون ; لأجل أن يصرّح بكلمته اتجاه هذه الثورة المعاصرة التي لابدّ لها من الاستمرار لصالح المجتمع ، فإن الدين قادر على مواجهة ومسايرة الحياة وانضباطها بالشكل الصالح للمجتمع.
     ومن الطبيعي أن يعتمد الفقه أو القانون على أهل التخصّص بالعلوم الطبيعية في تشخيص الموضوع الموجود أو الذي يفترض أن يحدث ، لأنّ الحكم على شيء فرع تصوره.
     وهذا الذي ذكرنا هو الطريق الأصلح للعلم الذي لابدّ أن لا يترك لوحده يمتطي طغيانه في عالم البشرية الكبير ، ولهذا سنعتمد على أهل التخصّص في تصوير الموضوع الذي حدث أو الذي يترقّب أن يحدث ، ثم نعرضه أمام الفقه ليقول كلمته من القرآن والسنة أو قواعد الشريعة المستلهمة منهما.


(274)
توطئة :
     إنّ عملية التكاثر في الكائنات الحيّة ( بدءاً بالأوليات ونهايةً بالإنسان ) على قسمين :
     أ ـ التكاثر بالانقسام الثنائي : وهو يحصل في الأوليات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبيا والبكتريا ، وفي بعض النباتات كالصفصاف والتين والتوت ، حيث نتمكّن أن نأخذ جزءاً منها لنزرعه فنحصل على نبات كامل كالأصل. وبعبارة اُخرى : يسمّى هذا التكاثر بالتكاثر اللاتزاوجي.
     ب ـ التكاثر الجنسي : ويحدث هذا في النبات والحيوان والإنسان ، ولابدّ فيه من نكاح يتمّ بين الذكر والاُنثى.
     وعلى ما تقدّم نفهم أنّ التكاثر اللاجنسي ( اللاتزاوجي ) كان موجوداً في الأوليات ذات الخلية الواحدة وبعض النباتات ، ولكن هناك فكرة بدأت بدافع التمييز البشري في المانيا في العقد الثالث من هذا القرن ( العشرين يوم قرر الحزب النازي بقيادة هتلر خلق عِرق بشريٍّ متميّز ) ، ولكنّ التقنية المتوافرة آنذاك قد خذلته.
     ثم جاءت نقطة التحوّل عام ( 1960م ) يوم استطاع العلماء استنساخ النباتات.
     ثمّ في عام ( 1993م ) حيث تمكّن ( چيري هال وروبرت ستلمان ) العالمان الأمريكيان من إنجاز علميٍّ كبير كشفا عنه خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر ، وهذا الحدث قد تناول جنين الإنسان رأساً ، وقد حصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر ، ثمّ أعقبته زوبعة من الاعتراضات.
     وهذا الانجاز العلمي يطلق عليه اسم ( الاستتئام ) لأنّه يحاول إيجاد التوائم البشرية بطريقة علمية سيأتي شرحها.


(275)
    ثمّ في عام ( 1995م ) تمكّن علماء يابانيون من دمج خلية جنينية ( بيضة ) مع خلية جسدية عن طريق تيار كهربائيٍّ ليحصلوا لأول مرّة في تأريخ الإنسان على نسل لم يتمَّ بالمعاشرة الجنسية ( أي طريق تلقيح البويضة بالحيوانات المنوية ).
    والخلاصة :
    في العشرة الأخيرة من القرن العشرين شهد العالم حدثين مهمّين :
     الأول : ما حدث سنة ( 1993م ) على يد العالمين الأمريكيّين ، وهو ( الاستتئام ).
     والثاني : ما حصل سنة ( 1997م ) من استنساخ النعجة ( دولي ) على يد البروفسور ( آيان ويلموت ) الاُسكتلندي مع خبراء من معهد روزلين في مدينة أدنبرة البريطانية ، وهذا يعتبر تعميقاً لما عمله العلماء اليابانيون من دمج خلية جنينية مع خلية جسدية عن طريق التيار الكهربائي.
     والآن سنشرح كلا الحدثين المهمّين مع رأي الفقه الإسلامي فيهما.

أولا : الاستتئام (1)
     وقبل البدء في بيان طريقة الاستتئام يحسن بنا أن نبيّن الولادة التي تتمّ عن طريق الخلايا الجنسية.
     فنقول : الخلايا الجنسية : هي المنويات التي تفرزها الخصية ، والبيضات التي يفرزها المبيض.
     وهذه الخلايا الجنسية تختلف عن بقية خلايا الجسم.
     (1) إنّ توضيح موضوع الاستتئام اعتمدنا فيه على بحث الاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت في بحث له تحت عنوان استنساخ البشر. ولكن هناك معلومات اُخرى اُضيفت من علماء آخرين نشرت الصحف والمجلات العالمية تصريحات لهم.
(276)
    وتوضيح ذلك : إنّ خلايا الجسم ( غيرالجنسية ) كخلايا الأمعاءوالجلد والعظم وغيرها تشتمل على نواة في داخل الخلية هي سرّ النشاط الحياتي فيها ، ويحيط بالنواة غشاء نووي ، وتحتوي النواة بداخلها على شبكة مكوّنة من ستّة وأربعين شريطاً تسمى بالأجسام الصبغيّة ( الكروموزومات ) ، أمّا باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين جدارالخلية فمليء بسائل يعرف بالسائل الخلوي أو ( السيتوبلازم ).
     والأجسام الصبغية ( الكروموزمات ) الستة والأربعون هي حوامل الصفات الوراثية تسمّى ( الجينات ) ، وهي التي تقرّر الصفات الوراثية للفرد.
     وتتكاثر الخلية بالانقسام الذي بموجبه ينشقّ كلّ شريط من هذه الأجسام طولياً إلى نصفين يتمّم كلّ منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به ، وهكذا تتكوّن شبكتان صبغيتان تغلِّف كلّ منهما نفسها بغلاف نوويٍّ لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي ، ويحيط بكلٍّ منهما غشاء خلوي وتصبح الخلية خليتين ، وهكذا أجيالا بعد أجيال من الخلايا المتماثلة. فالخلية الجلدية ـ مثلا ـ تنجب أجيالا من الخلايا الجلدية ، وخلية الكبد تعطي أجيالا من خلايا الكبد ، وهكذا.
     أمّا الخلية الجنسية فلها خاصيتها التي ليست لغيرها ; وذلك بأنّها في انقسامها الأخير الذي تتهيّأ به للقدرة على الإخصاب لا ينشطر الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمّل كلّ منهما نفسه ، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة ويذهب نصفها ليكون نواة خلية ، والنصف الآخر ليكون نواة خلية اُخرى ، وحينئذ تكون نواة الخلية الجديدة مشتملةً على ثلاثة وعشرين من الأجسام الصبغية ، لا على ثلاثة وعشرين زوجاً ، ولهذا يسمّى هذا الانقسام بالانقسام الاختزالي ، فكأنّ النواة فيما يختصّ بالحصيلة الإرثية نصف نواة (1).
     (1) إنّ الآيات القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة ، فقد قال تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) الزمر : 6 ، وهذا خطاب لكلّ البشر ، حيث قال الله تعالى لهم : لقد خلقت هذا النوع من البشر وكثّرت أفراده من نفس واحدة ( الزوج ، أو آدم أبو البشر وزوجها الذي هو الاُنثى ) مثلا ، فقد قال الراغب : الزوج يقال لكلّ واحد من الفريقين من الذكر والاُنثى من الحيوانات المتزاوجة. وقد قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ) الروم : 21 ، أي خلق لأجلكم من جنسكم قرائن ; لأنّ كلّ واحد من الرجل والمرأة مجهّز بجهاز تناسليٍّ يتمّ فعله بمقارنة الآخر ، فكلّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ، ويحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر ، حتى إذا اتّصل به سكن إليه. راجع تفسير الميزان للسيد الطباطبائي : ج16 ، ص166.
(277)
    والقصد من ذلك : أنّه إذا أخصب منويّ ناضج بيضةً ناضجةً باختراق جدارها السميك تُمِّمت نواتاهما إلى نواة واحدة ذات ثلاثة وعشرين زوجاً لا فرداً ، أي صارت النواة مشتملة على ( 46 ) من الأجسام الصبغية كما هي سائر خلايا جسم الإنسان ، فكأنّ المنيّ مع البويضة نصفان التحما إلى خلية واحدة هي البيضة الملقّحة ، وهي أول مراحل الجنين.
     خصوصية البيضة الملقّحة : وهناك خصوصية للبيضة الملقّحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم. وسرّ هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي ( السيتوبلازم ) الذي يحيط بالنواة ، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة فإنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال ، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنين وثلاثين خليّة (1) حتى تتفرّع خلايا الأجيال التالية إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى ذات وظائف متباينة ، وتتخلّق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء وغيرها ، أي ينحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة رغم أنّها لا زالت تشبه خلايا الاُمّ التي ينشق الشريط الكروموزومي إلى نصفين يكمل كلّ منهما نفسه ، ولكنّ طوائف من الجينات
     (1) ذكر بعض الأطباء المتخصّصين في علم الوراثة بأنّ البيضة الملقّحة تشرع في الانقسام إلى خلايا متماثلة حتى تبلغ ( 128 ) خلية ، ثمّ تتفرّع الخلايا إلى اتّجاهات وتخصّصات شتّى.
(278)
     ( الكروموزومات ) تنطفئ ( بقدرة قادر ) فتبقى موجودةً ، لكنّها غير فعّالة في تمايز يتيح لكلّ مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعدّدة.
     هذا كلّه هو الطريق المألوف للولادة الذي يتمّ عن طريق التلاقح الجنسي.

أمّا الاستتئام :
     فهو إنجاز علمي كشف عنه العالمان ( چيري هال وروبرت ستلمان ) خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في اُكتوبر عام ( 1993م ) تناول جنين الإنسان رأساً ، وحصل هذا الإنجاز العلميّ على جائزة أهمّ بحث في المؤتمر.
     وخلاصة هذا الإنجاز العلميّ هو : أنّ البيضة الناضجة التي تحتوي على ( 23 ) كروموزوم إذا اخترق جدارَها السميك منويّ ناضج يحتوي على ( 23 ) كروموزوم فسوف تلتحم النواتان في نواة تحمل الكروموزومات الستّة والأربعين ( 23 زوجاً ) وهي صفة خلايا الإنسان.
     ثمّ يحدث انقسام النواة إلى جيل بكر من خليتين ، وإلى جيل حفيد من أربع خلايا ، وأجيال تالية من ثماني ، ثمّ أجيال من ستة عشرة ، ثم أجيال من اثنين وثلاثين ، ثمّ يحدث الشروع في التخصّص لتكوين أنسجة وأعضاء.
     وبما أنّ الانقسام الأول للخليّة الاُمّ إلى خليتين يحتوي على تمزّق الجدار الخلويّ السميك فيكون عندنا خلية اُمّ أصلية واحدة يتمّ انقسامها لتكوين جنين واحد ، ولكن كشف العلماء أنّ الانقسام الأول إذا لم يمزّق الجدار السميك فإنّ كلاًّ من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبر نفسها اُمّاً أصليةً من جديد ، وتشرع في الانقسام لتكوين جنين لوحدها ، وهذا ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة ( أي التي تنتمي إلى خلية اُمٍّ واحدة ).


(279)
    وبما أنّ العلماء استطاعوا أن يركّبوا من بعض الحشائش البحرية مادةً صناعيةً تؤدّي وظيفة هذا الجدار الخلويّ السميك فيما إذا تمزّق بعد الانقسام الأول ، فإذا كُسيت به كلّ خلية من خلايا الجيل الأول ( الاثنتين ) أو الثاني ( الأربع ) أو حتّى الثالث ( الثماني ) فإنّها تعتبر نفسها خليّةً اُمّاً من جديد ، وتشرع في النموّ إلى جنين ، وحينئذ تكون تلك التوائم متطابقةً في مادّتها الوراثية ، فهي كالنُسخ المتشابهة تماماً.
     وبهذه الطريقة استطاع العالمان ( هال وستلمان ) أن يفصلا خلايا الأجيال الاُولى ويكسواها بالجدار الخلويّ الاصطناعي ، فإذا هما يحصلان من سبعة



(280)


عشر جنيناً باكراً على ثمانية وأربعين جنيناً كلّ منهما نسخة من خليتها الاُمّ ( بواقع ثلاثة لكلّ جنين أصيل في المتوسّط ) ولكنّ العالمان لم يحاولا زرع تلك الأجنّة في أرحام النساء ، ولكن حسبهما أنهما أثبتا نجاح التجربة ( الاستتئام ) وسلامة المنهاج (1).
     وحينئذ نقول : قد يتمكّن العلم من زرع هذه التوائم ـ المتشابهة المنتسبة أصلا إلى بيضة واحدة ملقّحة ـ في أرحام النساء ، وقد تنجح هذه العملية بإيجاد ( 8 ) أو ( 16 ) أو ( 32 ) فرداً توأماً ، وعلى رأي آخر ( 128 ) فرداً توأماً ، فإنّ هذا عبارة عن استنساخ الأجنّة البشرية كما عبّر عنه ، وصحبته ضجة في الصحف وغيرها نعرض عنها الآن.

وجهة نظر العالِمَيْن في الاستتئام :
     قالا : إنّهما قصدا به تحديداً فائدتين :
     الاُولى : أن يكون إسهاماً في علاج حالات العقم التي تحتاج إلى تقنية أطفال
     (1) إنّ بعض العلماء الأمريكيين استنسخوا توأماً من القردة بواسطة خلية ( جنينية ) واحدة ، والقرد أقرب الحيوانات الثديية للإنسان.

بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس