بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 321 ـ 330
(321)
     محض لأداء حق المجنيّ عليه ، وليس فيه أي عقوبة ، لأنّ المفروض أنَّ الجناية خطئيّة محضة ، ومن هنا نفهم أنَّ هذا الحقّ هو حقّ مالي محض للوارث لا عقوبة فيه على القاتل ، وحينئذ يتمكّن أي إنسان أن يتبرّع به بدلا عن العاقلة ، وذلك للارتكاز العقلائي القائل : إنّ التكاليف المالية المحضة يجوز قيام الغير بها عوضاً عن المكلف بها ، بخلاف التكاليف المالية التي فيها نوع عقوبة كالفدية والكفارة ، فإنّها لا تصح من المتبرع لأنّها تُعتبر نوع عقوبة على المباشر ، فلابدّ من صدورها منه لتتحقّق العقوبة.
     إذا عرفنا هذا فنقول : إنّ دليل اطلاق وجوب الدية على العاقلة لا يشمل شركة التأمين أو نقابة الأطباء; للمباينة بين العاقلة وبينهما.
     ولكن نقول : تتمكّن الشركة أو النقابة أن تقوم بدور العاقلة بعدّة طرق :
     1 ـ أن تدفع عوضاً عن العاقلة وتقوم مقامها تبرّعاً ما دام هذا التكليف المتوجّه إلى العاقلة هو تكليف مالي محض ، وهو حقّ للورثة ، وهذه التكاليف المالية يصح فيها قيام الغير بها تبرعاً.
     2 ـ وإذا صح هذا العمل من النقابة أو الشركة فيمكن أن يكون هناك عقد بين الجاني خطأً وبين أحدهما مفاده : « تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأ في هذه السنة ـ مثلا ـ مقابل دفع الطبيب مبلغاً شهرياًالشركة أو النقابة » وهذا عقد يشمله ( أوفوا بالعقود ) فيجب الالتزام به.
     3 ـ وكذا يمكن أن يكون هناك شرط في ضمن عقد لازم مفاده : تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأً في هذه السنة ، وذلك للقاعدة القائلة بوجوب التزام المسلمين بشروطهم.
     4 ـ ومن نافلة القول بإمكان أن تدفع الشركة أو النقابة الدية إلى القاتل خطأ أو إلى العاقلة تبرّعاً ، فتدفعها هي من قبل نفسها ، ولكنّ كلامنا ليس في هذا لجواز


(322)
     هذا الأمر حتى إذا حصل القتل الشبيه بالعمد ، بل حتى القتل العمدي ، وهذا معناه أن القاتل هو الذي دفع الدية بعد قبول التبرع.
     إشكال : ولكن قد يقال : إنَّ الطريق الأوّل والرابع لا يلزم نقابة الأطباء ولا شركة التأمين على القيام بهذا العمل ، بل يبقى هذا العمل من قبلهما تبرعياً ، وعلى هذا لا يمكن أن يتخلّص الطبيب من مشكلة دية الخطأ إن حصل. وأمّا الطريق الثاني والثالث فيأتي عليهما اشكال جهالة العقد والشرط ( حيث لا يُعلم كم عدد الموارد التي يقع بها الطبيب في القتل الخطئي ، وقد لا يقع اصلا ) والجهالة تضرّ بصحة العقد لأنّه يكون غررياً ، وقد أبطل المشهور العقد الغرري.
     ولا يمكن الجواب على هذا الاشكال إلاّ بأنّ نقول : إن الغرر في اللغة ليس هو الجهالة بل بمعنى الخطر « وهو المتيقن من معناه ، وإن كان مادّته بمعنى الغفلة والخديعة أيضاً » ، وحينئذ لا تكون الجهالة المذكورة في العقد أو الشرط مبطلة للعقد. ولنأمن الأمثلة المتعدّدة في الفقه الإسلامي ( التي تدل على صحة بيع ما فيه جهالة ) الشيء الكثير ، مثل بيع العبد الآبق مع الضميمة ، وصحة بيع اللبن الذي في الاُسكرجّة مع ما في الضرع ، وصحة بيع الثمرة بعد ظهورها وانعقادها سنةً أو سنتين مثلا.

* * *

(323)
العلاج الطبي


(324)

(325)
البحث عن التداوي
     إنّ الإنسان بفطرته يسعى لازالة آلامه واسقامه ، وقد حثّ الإسلام على التداوي ، حيث ذكرت كتب الطب النبوي الأحاديث الشريفة المتواترة ـ التي منها الصحيح والحسن والموثّق والضعيف ـ التي تحثّ على التداوي بصورة عامة أو خاصة ، حتى استخدام الحجامة والحبة السوداء والكمأة والحنّاء ومداواة المبطون والمطعون والرمد والحمّى ، فمن تلك الروايات :
     1 ـ عن محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر ( عليه السلام ) هل يعالج بالكّي ؟فقال : نعم ، إن الله جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً كثيراً و ... و ... » (1).
     2 ـ عن يونس بن يعقوب قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن الرجل يشرب الدواء وربما قتل ، وربّما سلم منه ، وما يسلم منه أكثر ؟ قال : فقال ( عليه السلام ) انزل الله الدواء وانزل الشفاء وما خلق الله داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ الله تعالى » (2).
     (1) وسائل الشيعة : ج17 ، ب134 من الأطعمة المباحة ، ح8.
     (2) المصدر السابق : ح9.

(326)
     3 ـ وعن جابر قال : « قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتتداوى ؟ قال : نعم ، فتداووا فإنَّ الله لم ينزل داءً إلاّ وقد انزل له دواء ، وعليكم بألبان البقر فإنّها ترعى من كل الشجر » (1).
     وقد اخرج ابو داود والترمذي والحاكم وصححاه ، والنسائي وابن ماجة وابن السني وابو نعيم واحمد كما حكى عنهم اسامة بن شريك قال : « كنت عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله انتداوى ؟ فقال : نعم : يا عباد الله ، تداووا فإن الله عزّوجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ، غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم ».
     ومن الواضح أنّ التداوي الذي تفزع اليه النفوس البشرية لا ينافي التوكّل على الله سبحانه لأنّه سبحانه قد جعل مباشرة الاسباب مقتضيات لمسبباتها ، فإنّ معنى التوكّل هو اعتماد القلب على الله سبحانه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، وقد جعل الله سبحانه قانونه الحكيم في الوصول إلى ما ينفع ، ودفع ما يضر إلى سلوك الأسباب لذلك ، فالتداوي لرفع الداء هو مثل دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها ، وكرد العدو بالجهاد.
     4 ـ وقد ورد في مسند احمد والسنن ، واخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول الله أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل تردّ من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله ».
     ولهذا نقول إنّ المتوكّل يجب عليه أن يعمل ما ينبغي ويتوكّل على الله في نجاحه ، فالفلاّح يحرث ويبذر ثم يتوكّل على الله في نزول المطر والنماء ، وقد ورد في القرآن الكريم ( خذوا حذركم ) ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لصاحب الناقة : « اعقلها وتوكّل ».
     (1) المصدر السابق : ح10.
(327)
أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي
     وينقسم التداوي من ناحية الحكم الشرعي إلى الأقسام الخمسة :
     أ ـ الجواز.
     ب ـ الوجوب.
     ج ـ الندب.
     د ـ المكروه.
     هـ ـ المحرم.

أ ـ جواز التداوي :
     أمّا جواز التداوي فهو مستفاد من الروايات الكثيرة القائلة : « إنّ الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء » ، ومن الاجماع المنقول في عدم وجوبه كما في مرض الموت أو كان التداوي موهوماً مضنوناً أو كان المرض مزمناً ، أو لا دواء له حسب قول الطبيب ، أو كان له دواء وكان فيه مخاطر كبيرة وفائدته مظنونة أو موهومة ، مثل أمراض السرطان أو الأورام الخبيثة التي يخاف انتشارها في الجسم ، وكذلك في الأمراض التي لا تضر إلاّ صاحبها ضرراً يتحمّله مثل حساسية الأنف.

ب ـ الوجوب :
     ووجوب التداوي له موارد متعدّدة ، منها :
     1 ـ إذا كان بدن الإنسان لا يتحمّل الألم الذي هو فيه ، فقد ورد في كتاب « مكارم الأخلاق » قال : « قال ( عليه السلام ) : تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم


(328)
يحتمل الداء فالدواء » (1).
     2 ـ الأمراض التي تنتقل إلى الآخرين بالعدوى ، مثل مرض السل والجذام ، والخناق والكُزاز ، والهيضة ( الكوليرا ) والأمراض الجنسيّة ، وأنواع الحميات مثل : الحمى الشوكية والملاريا ... الخ. فإنّ هذه الأمراض إن لم يتداوى المصاب بها فإنّها تجر المرض إلى الآخرين ، ويحصل التضرر بسبب عدم المعالجة والقضاء عليها ، وقد نهى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن الضرر والضرار في الإسلام ، فكل ما يأتي منه الضرر من أفعال المكلّفين فهو منهي عنه في الإسلام ، والنهي يساوق الحرمة ، وإذا صار عدم التداوي حراماً فلازمه وجوب التداوي إذا كان للمرض علاجاً ، وأمّا إذا لم يكن للمرض علاج ودواء فيمكن استخدام وسائل الوقاية والتطعيم لمنع انتشارها ، كما أن عمليات الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب على الأقل يؤدّي الى حصر الوباء في مكان معين.
     ثم إنّ عدم التداوي في الأمراض التي لها علاج طبّي يؤدّي إلى الهلاك غالباً ، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعدم القاء النفس في التهلكة حين قال : ( ولا تُلقُوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، وهذا النهي يشمل القاء النفس بالتهلكة مباشرة أو تسبيباً بترك المعالجة أو انتشار المرض المعدي.
     ثم إنّ وجوب التداوي ينقسم إلى قسمين :
     أولا : وجوب فردي يتوجّه فيه التكليف إلى الفرد المصاب ، وهذا قد تقدّم.
     ثانياً : وجوب إلى المجتمع المهدد بالخطر ( المرض ) ، وهذا الوجوب المتوجّه الى المجتمع يحدّده ولي الأمر ، كما في حالات ظهور امارات الوباء ، فإنّ الولي ـ متمثّلا بوزارة الصحة ـ يصدر أمراً إلى المجتمع بوجوب مباشرة دواء معين أو زرقة
     (1) وسائل الشيعة : ج2 ، ب4 من الاحتضار ، ح5.
(329)
     من علاج وقائي. وقد تكون الوقاية حجراً صحياً على بلدة كاملة لمنع خروج أفرادها ، أو دخول أحد إليهم ، وهذا كلّه يدخل في نطاق العلاج الواجب.

ج ـ الندب :
     وهو مستفاد من الروايات الكثيرة المتقدّمة التي تحثّ على التداوي ، ولما في التداوي من فضل العافية وعدم التعرّض للبلاء ومقدّماته.

د ـ المكروه :
     وكراهة التداوي إنّما تكون في صورة إمكان إزالة المرض وذهابه بدون مراجعة الطبيب واستعمال الدواء ، كالأمراض الناشئة من عوارض البرد ، فإنّها تزول بالاستراحة والحمية ، وكذا كل مرض يزول بالامساك عن الغذاء إلاّ فيما يحتاج إليه ، فقد وردت الروايات ايضاً بذلك ، ففي رواية عثمان الأحول عن الإمام أبي الحسن ( الرضا ( عليه السلام ) أو الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ) قال : « ليس من دواء إلاّ ويهيّج داءً ، وليس شيء انفع في البدن من إمساك البدن إلاّ ممّا يحتاج إليه » (1).
     وما ورد في كتاب الخصال ( للصدوق ) بسند عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) انه قال : « من ظهرت صحته على سقمه فيعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى الله منه بريء » (2).
     بضميمة وضوح عدم حرمة المعالجة لمن ظهرت صحته على سقمه.
     وكذا يكره التداوي في الأمراض التي ليس لها دواء أو مرض الموت.
     (1) و (2) وسائل الشيعة : ج2 ، ب4 من الاحتضار ، ح5.
(330)
هـ ـ المحرّم :
     وقد يكون التداوي محرّماً على المريض فيما إذا كان الدواء الذي يريد استعماله محرماً وله بديل آخر يمكنه الحصول عليه ، وقد يكون الدواء نجساً وله بديل يمكنه الحصول عليه ايضاً. وقد يكون تداوي الإنسان الذي فيه المرض بقتل الجنين الذي في بطن اُمّه مع عدم الخطر الجدي على الاُمّ كما في حالات « الارحام » التي قد تبتلى بها بعض النساء ، فإن إزالة هذه الأرحام الشديدة قد يكون بواسطة اجهاض المراة لطفلها ، وهو محرم ، فالتداوي به محرم ايضاً.
     هذه بعض المصاديق للتداوي بالمحرم.
     ولا بأس بالتعرض هنا إلى بحث أقسام من التداوي قد يقال بحرمتها ، منها :

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟
     نقول : ممّا لا اشكال فيه أن النجس ـ كالدم والخمر والميتة وما شاكلها ـ يحرم استعماله بالأكل والشرب ، وكذا إذا كان الشيء محرماً شربه واكله وان لم يكن نجساً كلحوم السباع المذكّاة والخمر بناءً على القول بطهارته ، فإنّ عدم وجود ضرورة إلى الأكل والشرب وعدم وجود انطباق عنوان آخر عليها يجعلها في حيّز المنع من الاستعمال في الأكل والشرب ، وهذا واضح من الأدلّة الصريحة عند كل المسلمين.
     ولكنّ الكلام فيما إذا انطبق على هذه المحرمات الأكل والشرب عنوان الدواء ، كما إذا استُحضر الدواء من أحد هذه الاُمور أو ركّب من بعضها ، أو انطبق عنوان الانقاذ من الموت عليها فهل يجوز استعمالها في الأكل والشرب ؟
     وللجواب على هذا السؤال نقول :
     1 ـ أمّا في حالة توقّف حياة الإنسان على استعمال الميتة أو الدم أو البول فقد أفتى الفقهاء بجواز استعمالها وذلك للتزاحم الموجود بين وجوب حفظ النفس

بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس