بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 351 ـ 360
(351)
هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟
     وإذا كنّا قد انتهينا إلى جواز نقل العضو من الحي إلى الحي ـ كما تقدّم ـ فهل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟
     والجواب : إذا قبلنا التزاحم الملاكي المتقدم القائل بأنّ قطع العضو من الميت وإن كان حراماً إلاّ أنّ أهميّة الانتفاع بعضو الميت للإنسان الحي وإن لم تكن واجبة إلاّ أنّها ترفع حرمة قطع العضو من الميت ، لأن الحرمة هي في صورة الاعتداء على الميت ، لا لفائدة ، فيكون العمل منافياً لوجوب احترام الميت ، أمّا مع هذه الفائدة الكبيرة فلا يكون قطعُ عضو الميّت مخالفاً لاحترامه ، خصوصاً إذا صرّح هذا الإنسان قبل موته بقطع أعضائه المفيدة للمرضى.
     ولكن قد يقال : إنّ حرمة الميت التي ثبت أنّها كحرمة الحي معناها هو عدم جعل الميت العوبةً بيد غيره ، وحينئذ إذا كان هناك اجازة من نفس الميت لقلع عضو من اعضائه بعد الموت للاستفادة منها فلا يعدّ قلع العضو بعد الموت خلافاً لاحترامه حيث أجاز لنا شق جسمه للاستفادة من اعضائه ، أمّا مع عدم الاجازة والاذن منه فقد يصدق عدم الاحترام على أخذ العضو منه حتى وإن كانت مصلحة للغير ، إذ عدم احترامه وهتكه شيء عرفي يفهمه أهل العرف في صورة عدم إجازته. نعم ، إذا كانت مصلحة لنفس الميت كمعرفة قاتله فيجوز تشريحه وقلع الحنجرة والعين ، لعدم عدّ هذا هتكاً له في صورة عود النفع لنفسه.
     ثمّ إنّ الطبيب : إذا كان يرى بنفسه أنّ هذا الإنسان قد مات فعلا وإلى جانبه إنسان يحتاج إلى بعض اعضاء هذا الميت لينقذه من الموت أيضاً ، فيتوجّه إليه خطابان الأول بحرمة قطع اعضاء الميت ، والثاني وجوب انقاذ الآخر فيقع التزاحم ، فيقدّم الأهم على المهم ، ومن الواضح أن الأهمّ هو انقاذ حياة المريض


(352)
    الثاني ولو كان بواسطة أخذ عضو من الميت لو قلنا بحرمته ، ومثل هذا شق بطن الاُمّ إذا ماتت لأجل انقاذ الجنين (1).
    شبهة : قد يقال أنّ أدلّة وجوب دفن القطعة المبانة من الحي تأتي بعد قطع العضو من الجسم الحي أو الميت ، وحينئذ لا تصل النوبة ترقيعها في جسم آخر ليستفيد منها.
     الجواب : أنّ أدلّة وجوب الدفن لا تأتي في الإبانة لأنّها إبانة بل تأتي في صورة القطع بموت العضو ، أمّا إذا كان العضو بعد قطعه لا يحسب ميتاً ، بل يمكن إلحاقه بجسم إنسان آخر فهو عضو حي ، فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، ولهذا لو فرضنا أن إنساناً قد توقّف قلبه لمدّة قليلة ثم رجعت إليه الحياة فلا يقال بوجوب دفنه ، فما نحن فيه كذلك أو أولى ، لأنّ العضو الذي قطع : إمّا لا يصدق عليه أنّه ميت ، أو صدق عليه الموت مدّة قليلة ثم رجع إلى الحياة باتصاله بجسم آخر فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، بل تنحصر أدلّة وجوب الدفن لما صدق عليه انّه ميت ولم ترجع إليه الحياة.

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :
     إنّ تعلم الطب والترقّي فيه إلى حيث حاجة المجتمعات المعاصرة قد يتوقّف على ارتكاب بعض المحرّمات في الشريعة الإسلامية المقدّسة ، فهل يجوز ارتكاب هذه المحرّمات لأجل الوصول إلى تعلم علم الطب ، أو نقول بعدم جواز التعلم وعدم ارتكاب المحرمات في الشريعة الإسلامية ؟
     (1) وقد افتى الإمام الخوئي ( رحمه الله ) بجواز أخذ عضو من الميت لزرعه للحي إذا اقتضت ضرورة الحياة ذلك ، وأفتى أيضاً بجواز أن يوصي الإنسان باستئصال بعض اجزاء جسده بعد موته لزرعها في جسم من يحتاج إليها وإن كان كافراً ، ولكن التعيين للفرد المسلم أفضل. راجع منية السائل : ص221 ـ 222.
(353)
    فمثلا : أنّ طلاب كلية الطب يحتاج نموّهم وتدرّجهم في معرفة علوم الطب الى تشريح بعض الجثث الذي هو محرم بعنوانه الأولي ، أو قد يحتاج التعلم إلى النظر الى النساء المحرمات ، أو عورة الإنسان الذي هو محرّم من قبل الشارع المقدّس ، فهل نقول بعدم وجوب أو عدم حسن تعلم علم الطب ونفتي بحرمة تعلم الطب المتوقّف على المحرمات ، أو نقول بجواز تعلم علم الطب وجواز ارتكاب هذه المخالفات الشرعية ؟
     وللجواب على هذا التساؤل ينبغي التنبيه على أنّ تعلم الطب إذا كان متوقّفاً على عمل محرم ، ويمكن أن يتوقّف على عمل محلّل ، فإنّ الحرام الذي حرمه الشارع لا يمكن أن يكون محللا ، وذلك لعدم وجود المبرّر لحلّيّة المحرم مع فرض أن تعلم الطب يمكن أن يكون عن طريق سلوك الطريق المحلل ، فمثلا إذا كان للوصول تعلم الطب طريقان :
     أحدهما : تشريح جسم حيوان كالارنب أو القرد أو ما شابه ذلك من الحيوانات المحللة تشريحها شرعاً.
     والآخر : تشريح جثة إنسان مسلم ، وهو عمل محرم في الشريعة الإسلامية ، ففي هذه الحالة لا يجوز تعلم الطب عن طريق التشريح المحرم ، وهذا واضح; لأنّ حرمة تشريح جسم الإنسان المسلم سواء كانت تعبديةً محضةً أو لأجل احترام المسلم حتى بعد موته لا يجوز مخالفتها إذا لم يكن هناك شيء يمكن أن يكون له مصلحة أهمّ من مفسدة عدم احترام الميت المسلم ، وقد افترضنا أنّ علم الطب يمكن تحصيله عن طريق محلل ( وهو تشريح جسم الحيوان كالأرنب ) فتبقى حرمة التشريح لجسم المسلم خاليةً عن مزاحم أهمّ.

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :
     وهنا ننقل البحث إلى هذه الصورة ، وهي : فيما إذا توقّف تعلم الطب على شيء


(354)
    محرم ـ كالنظر إلى المرأة المحرمة ، أو النظر إلى العورة ، أو تشريح جسم الإنسان المسلم لمعرفة سبب موته ـ ولم يمكن توفير سبب محلّل لتعلّم الطب ، فهل يجوز هذا ، أو لا يجوز ؟
    الجواب :
     أولا : قد يجاب بجواب معروف وهو : أنّ علم الطب إذا كان واجباً وجوباً كفائياً ولم يوجد من به الكفاية من الأطباء لادارة اُمور مرضى المجتمع فيجوز تعلّم الطب حتى إذا توقّف على أمور محرّمة; وذلك ، لأنّ تعلّم الطب واجب أهم من حرمة النظر إلى المرأة ، أو حرمة التشريح للمؤمن والنظر إلى عورة الإنسان (1).
     ولكنّ هذا الجواب لا يلبي طلب المجتمع ، ولا يحل المشكلة; وذلك :
     1 ـ للشك في تشخيص الحاجة الوجوبية لتعلم الطب ، فإنّها حاجة اجتماعية ، وليست حاجة فردية ، فالإنسان في خصوص القضايا الفردية يمكنه أن يقطع بأن الشيء الفلاني هو ماء مثلا ، أمّا بالنسبة للحاجات الاجتماعية فيصعب عليه التمييز بوجوبها.
     (1) ولذا فقد افتى الإمام الخوئي ( رحمه الله ) بجواز فحص المرأة الأجنبية للرجل ، والرجل الأجنبي للمرأة حتى لمنطقة العورة ( القبل والدبر ) إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة عليه ولو في المستقبل ، وهذا الجواز كما يكون للطبيب يكون للطالب الذي يدرس علم الطب ، فقد ورد في منية السائل ص118 ـ 119 هذا السؤال والجواب :
     س : في كليات الطب يتحتّم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية ، والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة ( القبل والدبر ) وهذا الأمر لابدّ من المرور به بالنسبة إلى طالب الطب أثناء دراسته العامّة ولا مفرّ منه ، هل يجوز لطالب الطب اثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر ؟ وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟
     ج : العمل المذكور غير جائز في نفسه ، ولكن إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز ، وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب.

(355)
    2 ـ إنّ الوجوب الكفائي لتعلم الطب لو كان واضحاً عند الفرد فهناك شبهة اُخرى ، وهي : هل الوجوب الكفائي واجب لوجوب حفظ النفس فقط ، أو الوجوب الكفائي واجب لما يعمّ حفظ النفس ؟
     من الواضح أن علم الطب ليس مختصّاً بحفظ النفس ، فقد يقال بأنّ تعلّم الطب واجب بالنسبة لحفظ النفس فقط ، أمّا ما لا يشمل حفظ النفس من الطب فهو ليس بواجب ، ولا يجوز تعلمه إذا توقّف على مقدّمة محرمة.
     ثانياً : وقد يقال ـ كجواب على السؤال المتقدّم ـ بجواز تعلم الطب وإن توقف على مقدّمة محرمة ، وذلك لعلمنا بأنّ الشريعة الإسلامية لا ترضى بكون المجتمع الإسلامي متخلّفاً عن ركب العالم الحضاري ، فلأبدّ في كل فن وكمال من أن يتعلّم المجتمع الإسلامي ذلك.
     وهذا الجواب صحيح ، ولكنّ التساؤل الذي يجب الجواب عليه هو : ما هي حدود ذلك الفن والكمال ؟ وهل يشمل الوجوب كل الكمالات أو بعضها ؟ وبهذا يرجع الاشكال الأول من أن ترجيح الأهم على المهم في هذا المجال الاجتماعي مشكل من ناحية الموضوع والحكم.
     ثالثاً : قد يقال بالتمسّك بقاعدة الاشتغال ، فيقال مثلا : إنّ تعلم الطب واجب بالوجوب الكفائي على المجتمع ، بمعنى أنّ الوجوب متوجّه إلى المجتمع الإسلامي وفي عهدته ، وما دمنا نشك الآن في وجود من به الكفاية من الأطباء فمعنى ذلك نشك في فراغ ذمّة المجتمع من الوجوب الكفائي ، فنتمسّك بقاعدة الاشتغال القائلة : إن الاشتغال بالتكليف اليقيني ( على المجتمع ) يستوجب الفراغ اليقيني عنه ، فما لم نعلم بوجود قدر الكفاية يبقى الوجوب الكفائي بحاله.
     وبهذا أثبتنا الوجوب الكفائي في تعلم الطب على المجتمع ، وحينئذ إذا توقّف


(356)
    هذا الوجوب على عمل محرّم ـ كالتشريح أو النظر إلى العورة أو الأجنبية ـ فيقدم الأهم على المهم.
     ولكن تقف بوجه هذا الحلّ عدّة أمور :
     أ ـ إنّ معنى الوجوب الكفائي ليس هو توجّه الوجوب إلى المجتمع وفي عهدته ، بل معناه : يجب على كل فرد تعلم الطب على تقدير ترك الآخر ، وعلى هذا المعنى فسوف يكون الشك شكاً في التكليف ، حيث إن من به الكفاية إذا كان موجوداً فلا وجوب على الفرد ، وإلاّ فالوجوب موجود على الفرد ، فإذا شككنا في وجود من به الكفاية فنشك في توجّه التكليف إلى الفرد ، فيكون مورداً لجريان أصالة البراءة ، لا قاعدة الاشتغال.
     ب ـ وحتى لو فرضنا أن الواجب الكفائي قد يفسر بالوجوب المتوجّه المجتمع وفي عهدته فهل يكفي هذا لجريان قاعدة الاشتغال ؟
     الجواب : قد يقال : إنّ الفرد يجري قاعدة البراءة بالنسبة إلى ذمّته ، وليس هو مسؤولا عن المجتمع وذمته.
     ج ـ ثمّ إنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب الذي على المجتمع هو على مستوى أصالة الاشتغال فحينئذ نقدم الأهم على المهم ، فنقدم تعلم الطب على حرمة النظرالأجنبية وحرمة التشريح ، ولكن ما هو مقدار الأهميّة الذي يقدم على حرمة مقدّمات تعلم الطب ؟
     رابعاً : قد يتمسّك باستصحاب عدم كفاية الاطباء ، لأنّ الأطباء الموجودين في المجتمع سابقاً غير قادرين على سد الحاجة ، فالآن وقد كثر عدد الأطباء فهل حصلت الكفاية المرجوّة لسدّ حاجة المجتمع ؟
     الجواب : نستصحب عدم الكفاية ، وبهذا يثبت موضوع عدم وجود كفاية من الأطباء في المجتمع ، فيتحقّق الوجوب الكفائي في هذا الزمان ، فنقدّم الأهم


(357)
على المهم.
     ولكنّ الذي يقف في بوجه هذا الجواب : هو أن الحرمة بالنسبة للنظرالعورة أو الأجنبية هي حرمة حقيقية نشأت من الأمارة ، بينما الوجوب الكفائي لتعلم الطب قد استند إلى الاستصحاب ، ولا يقدم الاستصحاب على الحرمة الحقيقية. بالاضافة إلى أن الحالة السابقة في بعض المناطق الإسلامية قد تكون هي الكفاية ، فينتج الاستصحاب عدم الوجوب الكفائي.
     والخلاصة : إلى هنا لم تكن الحلول الفنية الفقهية كافيةً للقول بوجوب أو جواز تعلم الطب المتوقّف على محرم.

آراء جديدة في حلّ المشكلة :
     وهناك من الفقهاء (1) من تطرّق لحلّ هذه المشكلة بحلّين جديدين ، هما :

أ ـ التزاحم الاجتماعي بحاجة إلى حلٍّ اجتماعي :
     أي : أنّ الفرد كفرد حينما يلاحظ المسألة ( تعلم الطب المتوقّف على مقدّمة محرمة ) قد لا يكون عنده التزاحم واضحاً ، فهو لا يدرك بصورة واضحة انه لو ترك تعلم الطب يكون قد ترك الواجب الأهم ، فيكون مخلا بالواجب الكفائي ، أمّا الولي الفقيه فهو عندما ينظر إلى القضية من الناحية الاجتماعية يحصل له علم اجمالي بأنّه إذا حصل تهاون في تعلم الطب فيتعذّر الأهم ويختل ، وبهذا يحصل لدى الولي الفقيه تزاحم ( غير التزاحم الذي يحصل عند الفرد ) فيحكم هذا الولي بوجوب تعلم الطب إلى حد معين ، وبهذا يحصل وجوب كفائي محدود.
     وبهذا الحكم تحلّ المشكلة القائلة باحتمال وجود من به الكفاية ، أو عدم وجوب حفظ النظام بتعلم الطب ، أو المشكلة القائلة : ما هي حدود الواجب
     (1) هو آية الله السيد كاظم الحائري ( حفظه الله ).
(358)
    الكفائي ، إذ أنّ الولي قد عيّن حدود الوجوب الكفائي ؟
     وهذا الحلّ ليس له أي عيب ، سوى عدم وجود ولي أمر مبسوط اليد في بعض المناطق التي يعيش فيها المسلمون.

ب ـ لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :
     وخلاصة هذا الوجه هو : أنّ حرمة التشريح لجسم المسلم ، وحرمة النظر الى الأجنبية المؤمنة ، وحرمة النظر إلى العورة ( من غير شهوة وتلذذ ) ـ كما في صورة النظر إلى عورة المماثل ـ إنّما هي حرمات قائمة على أساس احترام المسلمين ، وعلى هذا فحتى لو لم يكن حفظ النفس واجباً ومن مقدّماته تعلم الطب ، إلاّ أن المحرمات في حد نفسها لا اطلاق لها; لفرض ما إذا كان الهدف من النظر إلى العورة أو التشريح أو النظر إلى الأجنبية هو انقاذ المجتمع الإسلامي من المشاكل (1) ، وعلى هذا يكون التحريم غير شامل لفرضنا ، مثل حرمة الغيبة فإنّها لا تشمل ما إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عالية من حصول الغيبة فإنّها لا تكون محرمة وإن لم يوجد تخصيص يستثني هذا المورد من الحرمة ، بل يوجد هنا ارتكاز يقول : إنّ المحرمات الاحترامية لا تأتي فيما إذا كانت مصلحة اسلامية مهمة تترتب على ارتكاب الحرام ، فيكون هذا الارتكاز العرفي في حكم المخصص المتصل.
     وبعبارة اُخرى : إنّ الأحكام الاحترامية ـ كحرمة التشريح والنظر إلى
     (1) وهذا هو التزاحم الملاكي الذي تقدّم في قلع عضو الإنسان ، كالكلية وتقديمها لآخر من أجل انقاذ حياته.
     ليس هو النظر إلى أقوى الملاكين كما قال الآخوند ، وليس هو النظر إلى أقوى « الخطابين » الحكمين كما قال الميرزا ، بل هو في صورة فرضنا أن الملاك لم يصل إلى الحكم ، فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر. مثل اعطاء كلية إلى من تعطلت كليتاه ، فهنا انقاذ المريض وإنّ لم يكن واجباً عليّ لكنه يزاحم حرمة ضرره.

(359)
    العورة فيما إذا كانا غير راجعين إلى الشهوة ـ حينما تكون في النظر الاجتماعي مزاحمة لمصلحة اجتماعية مهمّة فالعرف لا يرى محلا لهذا الاحترام ، فيكون دليل الحرمة منصرفاً عن هذه الموارد.
     ولنضرب لذلك امثلة حتى يتوضّح المقصود :
     1 ـ لو ادّعي على بنت باكر انّها زانية ، وكان هناك شهود على هذه الدعوى ، ولكن البنت تنكر الزنا ففي هذه الصورة يكون عرضها على الطبيبة مزيلا للمشكلة ، إلاّ أن الفحص والنظر إلى العورة حرام ، وتحمّل الحدّ ليس حراماً ، فلو لم ننظر إلى ما قلناه ( في فرع ب ) فقد يقال : يجب عليها تحمّل الحدّ ، ويحرم النظرعورتها.
     ولكنّ الفهم العرفيّ الاجتماعيّ لا يقبل ذلك ، حيث يفهم العرف أن حرمة النظر إلى عورتها من قبل الطبيب ليس إلاّ لاحترامها ، والعرف يرى أنّه لا محلّ لهذا الاحترام هنا حيث زوحم بأمر مهم جداً « رفع التهمة عنها » بواسطة النظرالعورة.
     ولهذا نقول : إنّ الحكم التحريمي الاحترامي يتخصّص بهذا الارتكاز العرفي ، فلا يكون شاملا لما نحن فيه ، إذ العرف العقلائي يسفّه الحكم بعدم تعلم الطب; لتوقفه على النظر المحرم أو التشريح المحرم ، والمفروض أنّ الحكم بحرمة النظر والتشريح ليست تعبدية محضة حتى يقال : لا مجال لنظر العرف فيها.
     2 ـ إذا علمت المرأة انها إذا تزوجت فسوف تبتلى بنظر النساء إلى عورتها عند الولادة ، وبما أن أصل الزواج ليس واجباً فهل نحكم الزواج ، أو نقول : إنّ دليل الزواج وجوازه خصَّص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة ؟ (1)
     الجواب : أنّنا لا نحكم بحرمة الزواج ، ولا نقول بأنّ دليل جواز الزواج
     (1) قد يقال هنا بأن الزواج في وقته جائز والنظر إلى العورة عند الولادة مضطرّ إليها في وقتها فتكون حكماً ثانوياً جائزاً لتغيّر الموضوع ، كالتيمم عند فقد الماء ، وكالقصر عند حدوث السفر.
(360)
    خصص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة. بل يدّعى من الأول أن دليل حرمة النظر إلى العورة لا نظر له إلى فرض ابتلائها بالولادة ، وذلك لأنّ هذه الحرمة الاحترامية قد ابتليت بمصلحة مهمة جداً ، فحتى لو لم تكن المصلحة واجبة لا يمكن عرفاً الالتزام بالمحرم الاحترامي وترك هذه المصلحة المهمة وهي ( التزويج والولادة المتوقفة على النظر من المماثل ) ، وهذا ممّا يجعل أصل الحكم مقيداً بالارتكاز العرفي.
     3 ـ وكذا إذا كانت المرأة في دور الحمل وقد نصحها الاطباء بمراجعة الطبيبة كل شهر مرة واحدة خوفاً من أن يتعرض الحمل أو الاُم إلى مضاعفات في دورة الحمل وكانت الطبيبة تجري الفحص الذي يستلزم النظر إلى العورة في بعض الأحيان فهل يقال بحرمة النظر والفحص لعدم وجوبه عليها ، أو يقال بجواز ذلك لما فيه المصلحة المهمة وان لم تكن واجبه ، ويكون دليل حرمة النظر إلى عورتها منصرفاً عن هذه الصور ؟
     وكذا إذا اسقطت المرأة جنينها وسقط ما هو تابع للجنين ولكن فضّل الأطباء إجراء عملية « الكورتاج » لتنظيف الرحم ، فهل نقول هنا بحرمة إجراء العملية لحرمة النظر إلى العورة ، أو نقول بجواز ذلك للمصالح التي تترتب من تفضيل الأطباء إجراء العملية وان لم تكن واجبة ؟
     وكذا إذا كانت المرأة لا تنجب الأطفال وكان من المحتمل قوياً الانجاب إذا راجعت المماثل من الأطباء ، وكان ذلك يستلزم إجراء الفحص أو التحليل أو الأشعة على موضع العورة والرحم فهل نقول بحرمة مراجعة الأطباء بسبب أن انجاب الأطفال ليس بواجب ، أو نقول بجواز تلك للمصلحة المهمة المترتبة من المراجعة وان لم يكن الانجاب واجباً ونخصّص دليل حرمة النظر الاحترامي بغير

بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس