أهل بلاده وعلمائهم فحضروا في أحسن هيئتهم وأجمل جمالهم وتسلح فرسانه وركبت خيوله في عدتهم ، ثم وقفوا على مراكزهم ومراتبهم صفوفا وكراديس ، وإنما أراد بزعمه أن ينظر إلى منظر رفيع حسن تسر به نفسه وتقر به عينه ، ثم خرج فصعد إلى مجلسه فأشرف على مملكته فخروا له سجدا ، فقال لبعض غلمانه : قد نظرت في أهل مملكتي إلى منظر حسن وبقي أن أنظر إلى صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلى وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته كغراب أبيض بين غربان سود ، واشتد منها ذعره وفزعه ( 1 ) وتغير في عينه حاله وظهرت الكآبة والحزن في وجهه وتولى السرور عنه .
ثم قال في نفسه : هذا حين نعي إلى شبابي وبين لي أن ملكي في ذهاب واوذنت بالنزول عن سرير ملكي ، ثم قال : هذه مقدمة الموت ورسول البلى ( 2 ) لم يحجبه عني حاجب ، ولم يمنعه عني حارس ، فنعى إلي نفسي وآذنني بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي وذهاب سروري ، وهدم قوتي ، لم يمنعه مني الحصون ولم تدفعه عني الجنود ، هذا سالب الشباب والقوة ، وما حق العز والثروة ، ومفرق الشمل وقاسم التراث بين الاولياء والأعداء ؛ مفسد المعاش ، ومنغّص الّلذات ومخرّب العمارات ومشتّت الجمع ، وواضح الرفيع ، ومذلّ المنيع ، قد أناخت بي أثقاله ( 3 ) ونصب لي حباله .
ثم نزل عن مجلسه حافياً ماشياً ، وقد صعد إليه محمولاً ، ثمّ جمع إليه جنوده ودعا إليه ثقاته فقال : أيها الملأ ماذا صنعت فيكم وما ( ذا ) أتيت إليكم منذ ملكتكم ووليت أموركم ؟ قالوا له : أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا وهذه أنفسنا مبذولة
____________
( 1 ) الذعر . الخوف والفزع .
( 2 ) في بعض النسخ « رسول البلاء » .
( 3 ) أناخ البلاء على فلان : أقام عليه ، وأناخ به الحاجة : أنزلها به . أناخ الجمل : أبركه .

( 622 )

في طاعتك ، فمرنا بأمرك ، قال : طرقني عدو مخيف ( 1 ) لم تمنعوني منه حتى نزل بي وكنتم عدتي وثقاتي ، قالوا : أيها الملك أين هذا العدو ؟ أيرى أم لا يرى ؟ قال : يرى بأثر ولا يرى عينه ، قالوا أيها الملك هذه عدتنا كما ترى وعندنا سكن وفينا ذووا الحجى والنهي ، فأرناه نكفك ما مثله يكفى ، قال : قد عظم الاغترار مني بكم ووضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم وجعلتكم لنفسي جنة ، وإنما بذلت لكم الاموال ورفعت شرفكم وجعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الاعداء وتحرسوني منهم ، ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان وتحصين المدائن والثقة من السلاح ونحيت عنكم الهموم ( 2 ) وفرغتكم للنجدة والاحتفاط ، ولم أكن أخشى أن أراع معكم ولا أتخوف المنون على بنياني وأنتم عكوف مطيفون به فطرقت وأنتم حولي واتيت وأنتم معي ، فلئن كان هذا ضعف منكم فما أخذت أمري بثقة وإن كانت غفلة منكم فما أنتم بأهل النصيحة ولا علي بأهل الشفقة ، قالوا : أيها الملك أما شى نطيق دفعه بالخيل والقوة فليس بواصل إليك إن شاء الله ونحن أحياء وأما ما لا يرى فقد غيب عنا علمه وعجزت قوتنا عنه .
قال : أليس اتخذتكم لتمنعوني من عدوي ، قالوا : بلى قال : فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني ؟ قالوا : من الذي يضرك ؟ قال : أفمن كل ضار لي أو من بعضهم ؟ قالوا : من كل ضار ، قال : فإن رسول البلى قد أتاني ينعى إلي نفسي وملكي ويزعم أنه يريد خراب ما عمرت وهدم ما بنيت وتفريق ما جمعت وفساد ما أصلحت وتبذير ما أحرزت وتبديل ما عملت وتوهين ما وثقت ، وزعم أن معه الشماتة من الاعداء وقد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم وذكر أنه سيهزم جيشي ويوحش انسي ويذهب عزي ويؤتم ولدي ويفرق جموعي ، يفجع بي إخواني وأهلي وقرابتي ويقطع أوصالي ويسكن مساكني
____________
( 1 ) طرق القوم : أتاهم ليلا .
( 2 ) نحاه عنه أي أبعده عنه وأزاله ـ والنجدة : الشجاعة والشدة والبأس .

( 623 )

أعدائي ، قالوا : أيها الملك إنما نمنعك من الناس والسباع والهوام دواب الارض فأما البلى فلا طاقة لنا به ولا قوة لنا عليه ولا امتناع لنا منه ، فقال : فهل من حيلة في دفع ذلك عني ؟ قالوا : لا ، قال : فشيء دون ذلك تطيقونه ، قالوا : وما هو ؟ قال : الاوجاع والاحزان والهموم ، قالوا : أيها الملك إنما قد قدر هذه الاشياء قوي لطيف وذلك يثور من الجسم والنفس وهو يصل إليك إذا لم يوصل ولا يحجب عنك وإن حجب ( 1 ) قال : فأمر دون ذلك ، قالوا : وما هو ؟ قال : ما قد سبق من القضاء . قالوا : أيها الملك ومن ذا غالب القضاء فلم يغلب ؟ ومن ذا كابره فلم يقهر ؟ قال : فماذا عندكم ؟ قالوا : ما نقدر على دفع القضاء ، وقد أصبت التوفيق والتسديد فماذا الذي تريد ، قال : اريد أصحابا يدوم عهدهم ويفوا لي وتبقى لي اخوتهم ولا يحجبهم عني الموت ولا يمنعهم البلى عن صحبتي ولا يستحيل ( 2 ) بهم الامتناع عن صحبتي ( 3 ) ولا يفردوني إن مت ، ولا يسلموني إن عشت ، ويدفعون عني ما عجزتم عنه ، من أمر الموت .
قالوا : أيها الملك ومن هؤلاء الذين وصفت ، قال : هم الذين أفسدتهم باستصلاحكم ، قالوا : أيها الملك أفلا تصطنع عندنا وعندهم معروفا فإن أخلاقك تامة ورأفتك عظيمة ؟ قال : إن في صحبتكم إياي السم القاتل ، والصمم والعمي في طاعتكم ، والبكم من موافقتكم ، قالوا : كيف ذاك أيها الملك ؟ قال : صارت صحبتكم إياي في الاستكثار وموافقتكم على الجمع ، وطاعتكم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد وزينتم لي الدنيا ولو نصحتموني ذكرتموني الموت ولو أشفقتم علي ذكرتموني البلى ، وجمعتم لي ما يبقي ، ولم تستكثروا لي ما يفنى ، فإن تلك المنفعة التي ادعيتموها ضرر ، وتلك المودة عداوة ، وقد رددتها عليكم لا حاجة لي فيها منكم .
____________
( 1 ) في بعض النسخ « وان حجب لم يحتجب » .
( 2 ) يشتمل خ‍ ل .
( 3 ) في بعض النسخ « ولا يستحيل بهم الاطماع عن نصيحتي » وفي بعضها « لا يستميل » .

( 624 )

قالوا : أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك وفي أنفسنا أجابتك وليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة ، فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا ، وهلاك لدنيانا وشماتة لعدونا ، وقد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك وأجمع عليه أمرك ، قال : قولوا آمنين واذكروا ما بدا لكم غير مرعوبين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية والانفة وأنا اليوم غالب لهما ، وكنت إلى اليوم مقهورا لهما وأنا اليوم قاهر لهما ، وكنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا ، وأنا اليوم عتيق وأنتم من مملكتي طلقاء ، قالوا : أيها الملك ما الذي كنت مملوكا إذ كنت علينا ملكا ، قال : كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني ونبذتها خلف ظهري ، قالوا : فقل ما أجمعت عليه أيها الملك ؟ قال : القنوع والتخلي لاخرتي وترك هذا الغرور ونبذ هذا الثقل عن ظهري والاستعداد للموت ، والتأهب للبلاء ، فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملأ زمتي والاقامة معي حتى يأتيني الموت ، فقالوا : أيها الملك ومن هذا الرسول الذي قد أتاك ولم نره ، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه ، قال : أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد ، وقد صاح في جميعه بالزوال ، فأجابوا وأذعنوا ، وأما مقدمة الموت فالبلى الذي هذا البياض طرقه .
قالوا : أيها الملك أفتدع مملكتك ؟ وتهمل رعيتك وكيف لا تخاف الاثم في تعطيل امتك ألست تعلم أن أعظم الاجر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للامة والجماعة ، فكيف لا تخاف من الاثم ، وفي هلاك العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة ، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة ، فإنك أيها الملك [ ما في يديك ] عدل على رعيتك ، مستصلح لها بتدبيرك ، فإن لك من الاجر بقدر ما استصلحت ، ألست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح امتك فقد أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الاجر في خاصة يديك .
ألست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا : من أتلف نفسا فقد استوجب


( 625 )

لنفسه الفساد ، ومن أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه ، وأي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها والاقامة في هذه الامة التي أنت نظامها حاشا لك أيها الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلى شرف الدنيا والاخرة ، قال : قد فهمت الذي ذكرتم وعقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم والاجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني ووزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم ألستم جميعا نزعا إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها ولا آمن أن اخلد إلى الحال ( 1 ) التي أرجو أن أدعها وأرفضها ، فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة ، فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الارض وكساني التراب بعد الديباج والمنسوج بالذهب ونفيس الجوهر ، وضمني إلى الضيق بعد السعة ، وألبسني الهوان بعد الكرامة ، فأصير فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة ، قد أخرجتموني من العمران وأسلمتموني إلى الخراب ، وخليتم بين لحمي وبين سباع الطير وحشرات الارض فأكلت مني النملة فما فوقها من الهوام وصار جسدي دودا وجيفة قذرة ، الذل لي حليف ، والعز مني غريب ، أشدكم حبا إلى أسرعكم إلي دفني ، والتخلية بيني وبين ما قدمت من عملي وأسلفت من ذنوبي ، فيورثني ذلك الحسرة ، ويعقبني الندامة ، وقد كنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندكم ولا قوة على ذلك لكم ولا سبيل ، أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع ، ونصبتم لي شراك الغرور ( 2 ) ،
فقالوا : أيها الملك المحمود لسنا الذي كنا كما أنك لست الذي كنت ، وقد أبدلنا الذي أبدلك ، وغيرنا الذي غيرك ، فلا ترد علينا توبتنا وبذل نصيحتنا ، قال : أنا مقيم فيكم ما فعلتم ذلك ومفارقكم إذا خالفتموه ، فأقام ذلك الملك في ملكه وأخذ جنوده بسيرته واجتهدوا في العبادة فخصبت بلادهم وغلبوا عدوهم وازداد ملكهم حتى هلك ذلك الملك ، وقد صار فيهم بهذه السيرة اثنين وثلاثين سنة فكان جميع ما عاش أربعا وستين سنة .
____________
( 1 ) في بعض النسخ « إلى الدنيا » .
( 2 ) الشرك : آلة الصيد .

( 626 )

قال يوذاسف : قد سررت بهذا الحديث جدا ، فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شكرا .
قال الحكيم : زعموا أنه كان ملك من الملوك الصالحين وكان له جنود يخشون الله عزوجل ويعبدونه ، وكان في ملك أبيه شدة من زمانهم والتفرق فيما بينهم و ينقص العدو من بلادهم ، وكان يحثهم على تقوى الله عزوجل وخشيته والاستعانة به ومراقبته والفزع إليه ، فلما ملك ذلك الملك قهر عدوه واستجمعت رعيته وصلحت بلاده وانتظم له الملك ، فلما رأى ما فضل الله عزوجل به أترفه ذلك وأبطره وأطغاه حتى ترك عبادة الله عزوجل وكفر نعمه ، وأسرع في قتل من عبد الله ودام ملكه و طالت مدته حتى ذهل الناس عما كانوا عليه من الحق قبل ملكه ونشوه وأطاعوه فيما أمرهم به وأسرعوا إلى الضلالة ، فلم يزل على ذلك فنشأ فيه الاولاد وصار لا يعبد الله عزوجل فيهم ولا يذكر بينهم اسمه ، ولا يحسبون أن لهم إلها غير الملك ، وكان ابن الملك قد عاهد الله عز وجل في حياة أبيه إن هو ملك يوما أن يعمل بطاعة الله عزوجل بأمر لم يكن من قبله من الملوك يعملون به ولا يستطيعونه ، فلما ملك أنساه الملك رأيه الاول ونيته التي كان عليها ، وسكر سكر صاحب الخمر ، فلم يكن يصحور ويفيق ( 1 ) . وكان من أهل لطف الملك رجل صالح أفضل أصحابه منزلة عنده ، فتوجع له مما رأى من ضلالته في دينه ونسيانه ما عاهد الله عليه ، وكان كلما أراد أن يعظه ذكر عتوه وجبروته ولم يكن بقي من تلك الامة غيره وغير رجل آخر في ناحية أرض الملك لا يعرف مكانه ولا يدعى باسمه .
فدخل ذات يوم على الملك بجمجمة قد لفها في ثيابه ، فلما جلس عن يمين الملك انتزعها عن ثيابه فوضعها بين يديه ثم وطئها برجله فلم يزل يفركها ( 2 ) بين يدي الملك وعلى بساطه حتى دنس مجلس الملك بما تحات من تلك الجمجمة ، فلما رأى الملك ما صنع غضب من ذلك غضبا شديدا ، وشخصت إليه أبصار جلسائه واستعدت الحرس بأسيافهم
____________
( 1 ) صحا السكران : ذهب سكره وأفاق .
( 2 ) فرك الثوب : دلكه ، الشيء عن الثوب أزاله وحكه حتى تفتت .

( 627 )

انتظارا لامره إياهم بقتله ، والملك في ذلك مالك لغضبه ، وقد كانت الملوك في ذلك الزمان على جبروتهم وكفرهم ذوي أناة وتؤدة ، استصلاحا للرعية على عمارة أرضهم ليكون ذلك أعون للجلب وأدى للخراج ، فلم يزل الملك ساكتا على ذلك حتى قام من عنده ، فلف تلك الجمجمة ثم فعل ذلك في اليوم الثاني والثالث ، فلما رأى أن الملك لا يسأله عن تلك الجمجمة ، ولا يستنطقه عن شيء من شأنها أدخل مع تلك الجمجمة ميزانا وقليلا من تراب فلما صنع بالجمجمة ما كان يصنع أخذ الميزان وجعل في إحدى كفتيه درهما وفي الاخرى بوزنه ترابا ثم جعل ذلك التراب في عين تلك الجمجمة ثم أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلك الجمجمة .
فلما رأى الملك ما صنع قل صبره وبلغ مجهوده ، فقال لذلك الرجل : قد علمت أنك إنما اجترأت على ما صنعت لمكانك مني وإدلالك علي ، وفضل منزلتك عندي ، ولعلك تريد بما صنعت أمرا ، فخر الرجل للملك ساجدا وقبل قدميه وقال : أيها الملك أقبل علي بعقلك كله فإن مثل الكلمة مثل السهم إذا رمي به في أرض لينة ثبت فيها وإذا رمي به في الصفا لم يثبت ، ومثل الكلمة كمثل المطر إذا أصاب أرضا طيبة مزروعة نبت فيها ، وإذا أصاب السباخ لم ينبت ، وإن أهواء الناس متفرقة ، والعقل والهوى يصطرعان في القلب ، فإن غلب هوى العقل عمل الرجل بالطيش و السفه ، وإن كان الهوى هو المغلوب لم يوجد في أمر الرجل سقطة ، فإني لم أزل منذ كنت غلاما احب العلم وأرغب فيه وأوثره على الامور كلها ، فلم أدع علما إلا بلغت منه أفضل مبلغ ، فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوك ، فغاظني موقعها وفراقها جسدها غضبا للملوك ، فضممتها إلي وحملتها إلى منزلي فألبستها الديباج ونضحتها بماء الورد والطيب ووضعتها على الفرش وقلت : إن كانت من جماجم الملوك فسيؤثر فيها إكرامي إياها وترجع إلي جمالها وبهائها ، وإن كانت من جماجم المساكين فإن الكرامة لا تزيدها شيئا ففعلت ذلك بها أياما فلم أستنكر من هيئتها شيئا ، فلما رأيت ذلك دعوت عبدا هو أهون عبدي عندي فأهانها


( 628 )

فإذا هي على حالة واحدة عند الاهانة والاكرام ، فلما رأيت ذلك أتيت الحكماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها ، ثم علمت أن الملك منتهى العلم ومأوى الحلم فأتيتك خائفا على نفسي ولم يكن لي أن أسألك عن شيء حتى تبدأني به واحب أن تخبرني أيها الملك أجمجمة ملك هي أم جمجمة مسكين فإنها لما أعياني أمرها تفكرت في أمرها وفي عينها التي كانت لا يملأوها شيء حتى لو قدرت على ما دون السماء من شيء تطلعت إلى أن تتناول ما فوق السماء ، فذهبت أنظر ما الذي يسدها ويملأها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها وملأها ، ونظرت إلى فيها ( 1 ) الذي لم يكن يملأه شيء فملاءته قبضة من تراب ، فإن أخبرتني أيها الملك أنها جمجمة مسكين احتججت عليك بأني قد وجدتها وسط قبور الملوك ، ثم أجمع جماجم ملوك وجماجم مساكين فإن كان لجماجمكم عليها فضل ، فهو كما قلت ، وإن أخبرتني بأنها من جماجم الملوك أنبأتك أن ذلك الملك الذي كانت هذه جمجمته قد كان من بهاء الملك وجماله و عزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاك أيها الملك أن تصير إلى حال هذه الجمجمة فتوطأ بالاقدام وتخلط بالتراب ويأكلك الدود وتصبح بعد الكثرة قليلا وبعد العزة ذليلا ، وتسعك حفرة طولها أدنى من أربعة أذرع ، ويورث ملكك وينقطع ذكرك و يفسد صنايعك ويهان من أكرمت ويكرم من أهنت وتستبشر أعداءك ويضل أعوانك و يحول التراب دونك ، فإن دعوناك لم تسمع ، وإن أكرمناك لم تقبل ، وإن أهناك لم تغضب ، فيصير بنوك يتامى ونساؤك أيامى ( 2 ) وأهلك يوشك أن يستبدلن أزواجا غيرك .
فلما سمع الملك ذلك فزع قلبه وانسكبت عيناه يبكى ويعول ويدعو بالويل ، فلما رأي الرجل ذلك علم أن قوله قد استمكن من الملك ، وقوله قد أنجع فيه زاده ذلك جرأة عليه وتكريرا لما قال ، فقال له الملك : جزاك الله عني خيرا وجزا من حولي من العظماء شرا ، لعمري لقد علمت ، ما أردت بمقالتك هذه وقد أبصرت
____________
( 1 ) يعنى فمها .
( 2 ) أي لا زوج لهن .

( 629 )

أمري فسمع الناس خبره فتوجهوا أهل الفضل نحوه وختم له بالخير وبقي عليه إلى أن فارق الدنيا .
قال ابن الملك : زدني من هذا المثل ، قال الحكيم : زعموا أن ملكا كان في أول الزمان وكان حريصا على أن يولد له وكان لا يدع شيئا مما يعالج به الناس أنفسهم إلا أتاه وصنعه ، فلما طال ذلك من أمره حملت امرأة له من نسائه فولدت له غلاما فلما نشأ وترعرع ( 1 ) خطا ذات يوم خطوة فقال : معادكم تجفون ، ثم خطا اخرى فقال : تهرمون ، ثم خطا الثالثة فقال : ثم تموتون ، ثم عاد كهيئته يفعل كما يفعل الصبي .
فدعا الملك العلماء والمنجمين فقال : أخبروني خبر ابني هذا فنظروا في شأنه وأمره فأعياهم أمره ، فلم يكن عندهم فيه علم ، فلما رأى الملك أنه ليس عندهم فيه علم دفعه إلى المرضعات فأخذن في إرضاعه إلا أن منجما منهم قال : إنه سيكون إماما ، وجعل عليه حراسا لا يفارقونه حتى إذا شب انسل يوما من عند مرضعيه و الحرس فأتى السوق فإذا هو بجنازة فقال : ما هذا ؟ قالوا : إنسانا مات قال ، ما أماته ؟ قالوا : كبر وفنيت أيامه ودنى أجله فمات ، قال : وكان صحيحا حيا يمشي ويأكل ويشرب ؟ قالوا : نعم ، ثم مضى فإذا هو برجل شيخ كبير فقام ينظر إليه متعجبا منه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل شيخ كبير قد فنى شبابه وكبر ، قال : وكان صغيرا ثم شاب ؟ قالوا : نعم ، ثم مضى فإذا هو برجل مريض مستلقى على ظهره ، فقام ينظر إليه ويتعجب منه ، فسألهم ما هذا ؟ قالوا : رجل مريض ، فقال : أو كان هذا صحيحا ثم مرض ؟ قالوا : نعم ، قال : والله لئن كنتم صادقين فإن الناس لمجنونون .
فافتقد الغلام عند ذلك فطلب فإذا هو بالسوق فأتوه فأخذوه وذهبوا به فأدخلوه البيت ، فلما دخل البيت استلقى على قفاه ينظر إلى خشب سقف البيت ويقول : كيف كان هذا ؟ قالوا : كانت شجرة ثم صارت خشبا ، ثم قطع ، ثم بني هذا البيت ، ثم
____________
( 1 ) ترعرع الصبي : نشأ وشب .
( 630 )

جعل هذا الخشب عليه ، فبينا هو في كلامه إذ أرسل الملك إلى الموكلين به : انظروا هل يتكلم أو يقول شيئا ؟ قالوا : نعم وقد وقع في كلام ما نظنه إلا وسواسا ، فلما رأى الملك ذلك وسمع جميع ما لفظ به الغلام ، دعا العلماء فسألهم فلم يجد فيه عندهم علما إلا الرجل الاول فأنكر قوله فقال بعضهم أيها الملك لو زوجته ذهب عنه الذي ترى ، وأقبل وعقل أبصر فبعث الملك في الارض يطلب ويلتمس له امرأة فوجدت له امرأة من أحسن الناس وأجملهم فزوجها منه ، فلما أخذوا في وليمة عرسه أخذ اللاعبون يلعبون والزمارون يزمرون ، فلما سمع الغلام جلبتهم ( 1 ) وأصواتهم قال : ما هذا ؟ قالوا : هؤلاء لعابون وزمارون جمعوا لعرسك ، فسكت الغلام ، فلما فرغوا من العرس وأمسوا ، دعا الملك امرأة ابنه فقال لها : إنه لم يكن لي ولد غير هذا الغلام : فإذا دخلت عليه فألطفي به واقربي منه وتحببي إليه ، فلما دخلت المرأة عليه أخذت تدنو منه وتتقرب إليه ، فقال الغلام على رسلك ( 2 ) فإن الليل طويل ، بارك الله فيك ، واصبري حتى نأكل ونشرب ، فدعا بالطعام فجعل يأكل ، فلما فرغ جعلت المرأة تشرب فلما أخذ الشراب منها نامت .
فقام الغلام فخرج من البيت ، وانسل من الحرس والبوابين حتى خرج وتردد في المدينة ، فلقيه غلام مثله من أهل المدينة فأتبعه وألقى ابن الملك عنه تلك الثياب التي كانت عليه ولبس ثياب الغلام ، وتنكر جهده وخرجا جميعا من المدينة فسارا ليلتهما حتى إذا قرب الصبح خشيا الطلب فكمنا ، فاتيت الجارية عند الصبح فوجدوها نائمة فسألوها أين زوجك ؟ قالت : كان عندي الساعة ، فطلب الغلام فلم يقدر عليه ، فلما أمسى الغلام وصاحبه سارا ثم جعلا يسيراذن الليل ويكمنان النهار حتى خرجا من سلطان أبيه ، ووقعا في ملك سلطان آخر .
وقد كان لذلك الملك الذي صارا إلى سلطانه ابنة قد جعل لها أن لا يزوجها
____________
( 1 ) جلب القوم : ضجوا واختلطت اصواتهم ، والجلاب والمجلب ـ بشد اللام ـ : المصوت .
( 2 ) أي على مهلك يعني امهل وتأن .

( 631 )

أحدا إلا من هويته ورضيته ، وبني لها غرفة عالية مشرفة على الطريق فهي فيها جالسة تنظر إلى كل من أقبل وأدبر ، فبينما هي كذلك إذ نظرت إلى الغلام يطوف في السوق وصاحبه معه في خلقانه ، فأرسلت إلى أبيها إن قد هويت رجلا فإن كنت مزوجي أحدا من الناس فزوجني منه واتيت ام الجارية فقيل لها : إن ابنتك قد هويت رجلا وهي تقول كذا وكذا ، فأقبلت إليها فرحة حتى تنظر إلى الغلام فأروها إياه فنزلت امها مسرعة حتى دخلت على الملك ، فقالت : إن ابنتك قد هويت رجلا فأقبل الملك ينظر إليه ، ثم قال : أرونيه فأروه من بعد فأمر أن يلبس ثيابا اخرى ونزل فسأله واستنطقه وقال : من أنت ومن أين أنت ؟ قال الغلام : وما سؤالك عني أنا رجل من مساكين الناس ، فقال : إنك لغريب ، وما يشبه لونك ألوان أهل هذه المدينة ، فقال الغلام : ما أنا بغريب ، فعالجه الملك أن يصدقه قصته فأبى ، فأمر الملك اناسا أن يحرسوه وينظروا أين يأخذ ، ولا يعلم بهم ، ثم رجع الملك إلى أهله فقال : رأيت رجلا كأنه ابن ملك وماله حاجة فيما تراودونه عليه ، فبعث إليه فقيل له : إن الملك يدعوك ، فقال الغلام : وما أنا والملك يدعوني وما لي إليه حاجة وما يدري من أنا ، فانطلق به على كره منه حتى دخل على الملك فأمر بكرسي فوضع له فجلس عليه ودعى الملك امرأته وابنته فأجلسهما من وراء الحجاب خلفه فقال له الملك : دعوتك لخير ، وان لى ابنه قد رغبت فيك اريد أن ازوجها منك فان كنت مسكينا فاغنيناك ورفعناك وشرفناك ، قال الغلام : مالى فيما تدعوني ايه حاجه ، فان شئت ضربت لك مثلا أيها الملك ؟ قال : فافعل .
قال الغلام : زعموا أن ملكا من الملوك كان له ابن وكان لابنه أصدقاء صنعوا له طعاما ودعوه إليه فخرج معهم فأكلوا وشربوا حتى سكروا فناموا فاستيقظ ابن الملك في وسط الليل فذكر أهله فخرج عامدا إلى منزله ، ولم يوقظ أحدا منهم فبينا هو في مسيره إذ بلغ منه الشراب فبصر بقبر على الطريق فظن أنه مدخل بينه فدخله فإذا هو بريح الموتى فحسب ذلك لما كان به السكر أنه رياح طيبة فإذا هو بعظام لا يحسبها إلا فرشه الممهدة ، فإذا هو بجسد قد مات حديثا وقد أروح فحسبه أهله فقام إلى جانبه


( 632 )

فاعتنقه وقبله وجعل يعبث به عامة ليلة فأفاق حين أفاق ونظر حين نظر فإذا هو على جسد ميت وريح منتنة ، قد دنس ثيابه وجلده ، ونظر إلى القبر وما فيه من الموتى ، فخرج وبه من السوء ما يختفي به من الناس أن ينظروا إليه متوجها إلى باب المدينة ، فوجده مفتوحا فدخله حتى أتى أهل فرأى أنه قد أنعم عليه حيث لم يلقه أحد ، فألقى عنه ثيابه تلك واغتسل ولبس لباسا اخرى وتطيب .
عمرك الله أيها الملك أتراه راجعا إلى ما كان فيه وهو يستطيع ؟ قال : لا ، قال : فإني أنا هو ، فالتفت الملك إلى امرأته وابنته ، وقال لهما : قد أخبرتكما أنه ليس له فيما تدعونه رغبة ، قالت امها : لقد قصرت في النعت لابنتي والوصف لها أيها الملك ولكني خارجة إليه ومكلمة له ، فقال الملك للغلام : إن امرأتي تريد أن تكلمك وتخرج إليك ولم تخرج إلى أحد قبلك ، فقال الغلام : لتخرج إن أحبت ، فخرجت وجلست فقالت للغلام : تعال إلى ما قد ساق الله إليك من الخير والرزق فأزوجك ابنتي فإنك لو قد رأيتها وما قسم الله عزوجل لها من الجمال والهيئة لاغتبطت ، فنظر الغلام إلى الملك فقال : أفلا أضرب لك مثلا ؟ قال : بلى .
قال : إن سراقا تواعدوا أن يدخلوا خزانة الملك ليسرقوا ، فنقبوا حائط الخزانة فدخلوها فنظروا إلى متاع لم يروا مثله قط ، وإذا هم بقلة من ذهب مختومة بالذهب فقالوا : لا نجد شيئا أعلى من هذه القلة هي ذهب مختومة بالذهب والذي فيها أفضل من الذي رأينا فاحتملوها ومضوا بها حتى دخلوا غيضة لا يأمن بعضهم بعضا عليها ففتحوها فإذا في وسطها أفاع ، فوثبن في وجوههم فقتلتهم أجمعين .
عمرك الله أيها الملك أفترى أحدا علم بما أصابهم ومالقوه يدخل يده في تلك القلة وفيها من الافاعي ؟ قال : لا ، قال : فإني أنا هو ، فقالت الجارية لابيها : ائذن لي فأخرج إليه بنفسي واكلمة فإنه لو قد نظر إلي وإلى جمالي وحسني وهيئتي وما قسم الله عزوجل لي من الجمال لم يتمالك أن يجيب ، فقال الملك للغلام : إن ابنتي تريد أن تخرج إليك ولم تخرج إلى رجل قط ، قال : لتخرج إن أحبت ، فخرجت عليه وهي أحسن الناس وجها وقدا وطرفا وهيكلا ، فسلمت على الغلام وقالت للغلام : هل


( 633 )

رأيت مثلي قط أو أتم أو أجمل ، أو أكمل أو أحسن ؟ وقد هويتك وأحببتك ، فنظر الغلام إلى الملك ، فقال : أفلا أضرب لها مثلا ؟ قال : بلى .
قال الغلام : زعموا أيها الملك أن ملكا له ابنان فاسر أحدهما ملك آخر فحبسه في بيت وأمر أن لا يمر عليه أحد إلا رماه بحجر ، فمكث على ذلك حينا ، ثم إن أخاه قال لابيه ائذن لي فأنطلق إلى أخي فافديه وأحتال له ؟ قال الملك : فانطلق وخذ معك ما شئت من مال ومتاع ودواب ، فاحتمل معه الزاد والراحلة وانطلق معه المغنيات والنوائح فلما دنا من مدينة ذلك الملك أخبر الملك بقدومه فأمر الناس بالخروج إليه وأمر له بمنزل خارج من المدينة فنزل الغلام في ذلك المنزل فلما جلس فيه ونشر متاعه وأمر غلمانه أن يبيعوا الناس ويساهلوهم في بيعهم ويسامحوهم ففعلوا ذلك فلما رأى الناس قد شغلوا بالبيع انسل ودخل المدينة وقد علم أين سجن أخيه ثم أتى السجن فأخذ حصاة فرمى بها لينظر ما بقي من نفس أخيه ، فصاح حين أصابته الحصاة . وقال : قتلتني ففزع الحرس عند ذلك وخرجوا إليه وسألوه لم صحت وما شأنك وما بدا لك وما رأيناك تكلمت ونحن نعذبك منذ حين ويضربك ويرميك كل من يمر بك بحجر ، ورماك هذا الرجل بحصاة فصحت منها ؟ فقال : إن الناس كانوا من أمري على جهالة ورماني هذا علي علم فانصرف أخوه راجعا إلى منزله ومتاعه ، وقال للناس : إذا كان غدا فأتوني أنشر عليكم بزا ومتاعا لم تروا مثله قط فانصرفوا يومئذ حتى إذا كان من الغد غذوا عليه بأجمعهم فأمر بالبز فنشروا وأمر بالمغنيات والنايحات وكل صنف معه مما يلهي به الناس فأخذوا في شأنهم فاشتغل الناس فأتى أخاه فقطع عنه أغلاله ، وقال : أنا اداويك فاختلسه وأخرجه من المدينة فجعل على جراحاته دواء كان معه حتى إذا وجد راحة أقامه على الطريق ، ثم قال له : انطلق فإنك ستجد سفينة قد سيرت لك في البحر ، فانطلق سائرا فوقع في جب فيه تنين وعلى الجب شجرة نابته فنظر إلى الشجرة فإذا على رأسها اثنتا عشرة غولا وفي أسفلها اثنا عشر سيفا ، وتلك السيوف مسلولة معلقة فلم يزل يتحمل ويحتال حتى أخذ بغصن من الشجرة فتعلق به وتخلص وسار حتى أتى البحر فوجد سفينة قد اعدت له إلى جانب


( 634 )

الساحل فركب فيها حتى أتوا به أهله .
عمرك الله أيها الملك أتراه عائدا إلى ما قد عاين ولقي ، قال : لا ، قال : فاني أنا هو ، فيئسوا منه ، فجاء الغلام الذي صحبه من المدينة فساره وقال : اذكرني لها وانكحنيها فقال الغلام للملك إن هذا يقول إني أحب الملك أن ينكحنيها ، فقال : لا أفعل قال : أفلا أضرب لك مثلا ؟ قال : بلى .
قال : إن رجلا كان في قوم فركبوا سفينة فساروا في البحر ليالي وأياما ثم انكسرت سفينتهم بقرب جزيرة في البحر فيها الغيلان فغرقوا كلهم سواه وألقاه البحر إلى الجزيرة ، وكانت الغيلان يشرفن من الجزيرة إلى البحر فأتى غولا فهويها ونكحها حتى إذا كان مع الصبح قتلته وقسمت أعضاءه بين صواحباتها واتفق مثل ذلك لرجل آخر فأخذته ابنة ملك الغيلان فانطلقت به فبات معها ينكحها وقد علم الرجل ما لقي من كان قبله فليس ينام حذرا إذا كان مع الصبح نامت الغول فانسل الرجل حتى أتى الساحل فإذا هو بسفينة فنادى أهلها واستغاث بهم فحملوه حتى أتوا به أهله فأصبحت الغيلان فأتوا الغولة التي باتت معه فقالوا لها : أين الرجل الذي بات معك ؟ قالت : إنه قد فر مني ، فكذبوها وقالوا : أكللته واستأثرت به علينا فلنقتلنك إن لم تأتنا به فمرت في الماء حتى أتته في منزله ورحله فدخلت عليه وجلست عنده وقالت له : ما لقيت في سفرك هذا ، قال : لقيت بلاء خلصني الله منه وقص عليها ذلك قالت : وقد تخلصت : قال : نعم فقالت : أنا الغولة وجئت لاخذك فقال لها : أنشدك الله أن تهلكيني فإني أدلك على مكان رجل ، قالت : إني أرحمك فانطلقا حتى إذ دخلا على الملك ، قالت : اسمع منا أصلح الله الملك إني تزوجت بهذا الرجل وهو من أحب الناس إلي ، ثم إنه كرهني وكره صحبتي فانظر في أمر نافلما رآها الملك أعجبه جمالها فخلا بالرجل فساره وقال له : إني قد أحببت أن تتركها فأتزوجها قال : نعم أصلح الله الملك ما تصلح إلا لك فتزوج بها الملك وبات معها حتى إذا كانت مع السحر ذبحته وقطعت أعضاءه وحملته إلى صواحباتها أفترى أيها الملك أحدا يعلم بهذا ثم ينطلق إليه ؟ قال : الخاطب للغلام : فإني لا افارقك ولا حاجة


( 635 )

لي فيما أردت .
فخرجا من عند الملك يعبدان الله جل جلاله ويسيحان في الارض ، فهدى الله عز وجل بهما اناسا كثيرا وبلغ شأن الغلام وارتفع ذكره في الافاق فذكر والده ، وقال : لو بعثت إليه فاستنقذته مما هو فيه ، فبعث إليه رسولا فأتاه فقال له : إن ابنك يقرئك السلام وقص عليه خبره وأمره فأتاه والده وأهله فاستنقذهم مما كانوا فيه .
ثم إن بلوهر رجع إلى منزله واختلف إلى يوذاسف أياما حتى عرف أنه قد فتح له الباب ودله على سبيل الصواب ، ثم تحول من تلك البلاد إلى غيرها وبقي يوذاسف حزينا مغتما فمكث بذلك حتى بلغ وقت خروجه إلى النساك لينادي بالحق ويدعو إليه أرسل الله عزوجل ملكا من الملائكة فلما رأى منه خلوة ظهر له وقام بين يديه ، ثم قال له : لك الخير والسلامة أنت إنسان بين البهائم الظالمين الفاسقين من الجهال أتيتك بالتحية من الحق وإله الخلق بعثني إليك لابشرك وأذكر لك ما غاب عنك من امور دنياك وآخرتك ، فاقبل بشارتي ومشورتي ولا تغفل عن قولي ، اخلع عنك الدنيا وانبذ عنك شهواتها وازهد في الملك الزائل ، والسلطان الفاني الذي لا يدوم وعاقبته الندم والحسرة ، واطلب الملك الذي لا يزول الفرح الذي لا ينقضي والراحة التي لا يتغير وكن صديقا مقسطا ، فإنك تكون إمام الناس تدعوهم إلى الجنة .
فلما سمع يوذاسف كلامه خر بين يدي الله عز وجل ساجدا ، وقال : إني لامر الله تعالى مطيع وإلى وصيته منته فمرني بامرك فإني لك حامد ولمن بعثك إلي شاكر فإنه رحمني ورؤف بي ولم يرفضني بين الاعداء فإني كنت بالذي أتيتني به مهتما ، قال الملك : إني أرجع إليك بعد أيام ، ثم أخرجك فتهيأ لذلك ولا تغفل عنه ، فوطن يوذاسف نفسه على الخروج وجعل همته كله فيه ولم يطلع على ذلك أحدا حتى إذا جاء وقت خروجه أتاه الملك في جوف الليل والناس نيام ، فقال


( 636 )

له : قم فاخرج ولا تؤخر ذلك ، فقام ولم يفش سره إلى أحد من الناس غير وزيره فبينا هو يريد الركوب إذا أتاه رجل شاب جميل كان قد ملكهم بلاده فسجد له .
وقال : أين تذهب : يا ابن الملك وقد أصابنا العسر أيها المصلح الحكيم الكامل : وتتركنا له وتترك ملكك وبلادك ، أقم عندنا فإنا كنا منذ ولدت في رخاء وكرامة و لم تنزل بنا عاهة ولا مكروه ، فسكته يوذاسف وقال له : امكث أنت في بلادك ودرا ( 1 ) أهل مملكتك فأما أنا فذاهب حيث بعثت وعامل ما أمرت به فإن أنت أعنتني كان لك في عملي نصيبا .
ثم إنه ركب فسار ما قضى الله له أن يسير ، ثم إنه نزل عن فرسه ووزيره يقود فرسه ويبكي أشد البكاء ، ويقول ليوذاسف : بأي وجه أستقبل أبويك ؟ وبما أجيبهما عنك وبأي عذاب أو موت يقتلاني ، وأنت كيف تطيق العسر والا ذى الذي لم تتعوده وكيف لا تستوحش وأنت لم تكن وحدك يوما قط ؟ وجسدك كيف تحمل الجوع والظمأ والتقلب على الارض والتراب ، فسكته وعزاه ووهب له فرسه والمنطقة فجعل يقبل قدميه ويقول : لا تدعني وراءك يا سيدي اذهب بي معك حيث خرجت فانه لا كرامة لي بعدك وإنك إن تركتني ولم تذهب بي معك أخرج في الصحراء ولم أدخل مسكنا فيه إنسان أبدا ، فسكته أيضا وعزاه وقال : لا تجعل في نفسك إلا خيرا فإني باعث إلى الملك وموصيه فيك أن يكرمك ويحسن إليك .
ثم نزع عنه لباس الملك ودفعه إلى وزيره وقال له : البس ثيابي وأعطاء الياقوتة التي كان يجعلها في رأسه ، وقال له : انطلق بها معك وفرسي وإذا أتيته فاسجد له وأعطه هذه الياقوتة وأقرئه السلام ثم الاشراف وقل لهم : إني لما نظرت فيما بين الباقي والزائل رغبت في الباقي وزهدت في الزائل ولما استبان لي أصلي وحسبي وفصلت بينهما وبين الاعداء والقرباء رفضت الاعداء والقرباء وانقطعت
____________
( 1 ) من المداراة .
( 637 )

إلى أصلي وحسبي ، فأما والدي فإنه إذا أبصر الياقوتة طابت نفسه ، فإذا أبصر كسوني عليك ذكرني وذكر حبي لك ومودتي إياك ، فمنعه ذلك أن يأتي إليك مكروها .
ثم رجع وزيره وتقدم يوذاسف أمامه يمشي حتى بلغ فضاء واسعا فرفع رأسه فرأى شجرة عظيمة على عين من ماء أحسن ما يكون من الشجر وأكثرها فرعا وغصنا وأحلاها ثمرا ، وقد اجتمع إليها من الطير ما لا يعد كثرة ، فسر بذلك المنظر وفرح به ، وتقدم إليه حتى دنا منه ، وجعل يعبره في نفسه ويفسره فشبه الشحر بالبشرى التي دعا إليها وعين الماء بالحكمة والعلم ، والطير بالناس الذين يجتمعون إليه و يقبلون منه الدين ، فبينا هو قائم إذا أتاه أربعة من الملائكة عليهم السلام يمشون بين يديه فأتبع آثارهم حتى رفعوه في جو السماء واوتي من العلم والحكمة ما عرف به الاولى والوسطى والاخرى ، والذي هو كائن ، ثم أنزلوه إلى الارض وقرنوا معه قرينا من الملائكة الاربعة فمكث في تلك البلاد حينا ثم إنه أتى أرض سولابط فلما بلغ والده قدومه خرج يسير هو والاشراف فأكرموه وقربوه ، واجتمع إليه أهل بلده مع ذوي قرابته وحشمه وقعدوا بين يديه وسلموا عليه وكلمهم الكلام الكثير وفرش لهم الاساس وقال لهم : اسمعوا إلي بأسماعكم وفرغوا إلي قلوبكم لاستماع حكمة الله عز وجل التي هي نور الانفس وثقوا بالعلم الذي هو الدليل على سبيل الرشاد ، وأيقظوا عقولكم وافهموا الفصل الذي بين الحق والباطل ، والضلال والهدى .
واعلموا أن هذا هو دين الحق الذي أنزله الله عزوجل على الانبياء والرسل عليهم السلام ، والقرون الاولى ، فخصنا الله عزوجل به في هذا القرن برحمته بنا ورأفته رحمته وتحننه علينا وفيه خلاص من نار جهنم إلا أنه لا ينال الانسان ملكوت السماوات ولا يدخلها أحد إلا بالايمان وعمل الخير ، فاجتهدوا فيه لتدركوا به الراحة الدائمة والحياة التي لا تنقطع أبدا ومن آمن منكم بالدين فلا يكونن إيمانه طمعا في الحياة ورجاء لملك الارض وطلب مواهب الدنيا ، وليكن إيمانكم بالدين طمعا في ملكوت السماوات ورجاء للخلاص وطلب النجاة من الضلالة وبلوغ الراحة


( 638 )

والفرج في الآخرة ، فإن ملك الارض وسلطانها زائل ، ولذاتها منقطعة ، فمن اغتر بها هلك وافتضح ، لو قد وقف على ديان الدين الذي لا يدين إلا بالحق ، فإن الموت مقرون مع أجسادكم وهو يتراصد أرواحكم أن يكبكبها مع الاجساد .
واعلموا أنه كما أن الطير لا يقدر على الحياة والنجاة من الاعداء من اليوم إلى غد إلا بقوة من البصر والجناحين والرجلين ، فكذلك الانسان لا يقدر على الحياة والنجاة إلا بالعمل والايمان والعمل الصالح وأفعال الخير الكاملة ، فتفكر أيها الملك أنت والاشراف فيما تسمعون وافهموا واعتبروا ، واعبروا البحر ما دامت السفينة ، و اقطعوا المفازة ما دام الدليل والظهر والزاد ، واسلكوا سبيلكم ما دام المصباح ، و أكثروا من كنوز البر مع النساك ، وشاركوهم في الخير والعمل الصالح ، وأصلحوا التبع وكونوا لهم أعوانا ، ومروهم بأعمالكم لينزلوا معكم ملكوت النور ، واقبلوا النور ، واحتفظوا بفرائضكم ، وإياكم أن تتوثقوا إلى أماني الدنيا وشرب الخمور وشهوة النساء من كل ذميمة وقبيحة مهكلة للروح والجسد واتقوا الحمية والغضب والعداوة والنميمة ، وما لم ترضوه أن يؤتى إليكم فلا تأتوه إلى أحد ، وكونوا طاهري القلوب ، صادقي النيات لتكونوا على المنهاج إذا أتاكم الاجل .
ثم انتقل من أرض سولابط وسار في بلاد ومدائن كثيرة حتى أتى أرضا تسمى قشمير فسار فيها وأحيا ميتها ومكث حتى أتاه الاجل الذي خلع الجسد ، وارتفع إلى النور ، ودعا قبل موته تلميذا له اسمه ايابد الذي كان يخدمه و يقوم عليه ، وكان رجلا كاملا في الامور كلها ، وأوصى إليه ، وقال : إنه قد دنا ارتفاعي عن الدنيا ، واحتفظوا بفرائضكم ، ولا تزيغوا عن الحق ، وخذوا بالتنسك ثم أمر ايابذ أن يبني له مكانا فبسطه هو رجليه وهيأ رأسه إلى المغرب ووجهه إلى المشرق ثم قضي نحبه .
قال مصنف هذا الكتاب : ليس هذا الحديث وما شاكله من أخبار المعمرين وغيرهم مما أعتمده في أمر الغيبة وقوعها ، لان الغيبة إنما


( 639 )

صحت لي بما صح عن النبي صلى الله عليه وآله والائمة عليهم السلام من ذلك بالاخبار التي بمثلها صح الاسلام وشرائعه وأحكامه ، ولكني أرى الغيبة لكثير من أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم ولكثير من الحجج بعدهم عليهم السلام و لكثير من الملوك الصالحين من قبل الله تبارك وتعالى ، ولا أجد لها منكرا من مخالفينا وجميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صح بالاخبار الكثيرة الواردة الصحيحة عن النبي والائمة صلوات الله عليهم في أمر القائم الثاني عشر من الائمة عليهم السلام وغيبته حتى يطول الامد وتقسو القلوب ويقع اليأس من ظهوره ، ثم يطلعه الله وتشرق الارض بنوره ويرتفع الظلم والجور بعدله ، فليس في التكذيب بذلك مع الاقرار بنظائره إلا القصد إلى إطفاء نور الله وإبطال دينه ويأبي الله إلا إن يتم نوره ويعلي كلمته ويحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المخالفون المكذبون بما وعد الله الصالحين على لسان خير النبيين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين .
ولا يرادي هذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر وهو أن جميع أهل الوفاق والخلاف يميلون إلى مثله من الاحاديث فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على الوقوف على سائر ما فيه ، فهم بالوقوف عليه من بين منكر وناظر وشاك ومقر ، فالمقر يزداد به بصيرة ، والمنكر تتأكد عليه من الله الحجة ، والواقف الشاك يدعوه وقوفه بين الاقرار والانكار إلى البحث والتنقيب ( 1 ) إلى أمر الغائب وغيبته ، فترجى له الهداية لان الصحيح من الامور لا يزيده البحث والتنقيب ( 1 ) إلا تأكيدا كالذهب الذي كلما دخل النار ازداد صفاء وجودة .
وقد غيب الله تبارك وتعالى اسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى في أوائل سور من القرآن .
____________
( 1 ) في بعض النسخ المصححة « التنقير » والتنقير التفتيش كما في النهاية .
( 640 )

فقال عزوجل : الم ، والمر ، والر ، والمص ، وكهيعص ، وحمعسق ، وطسم ، وطس ، ويس وما أشبه ذلك لعلتين أحدهما أن الكفار والمشركين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وهو النبي صلى الله عليه وآله بدليل قوله عزوجل « أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا » ( 1 ) وكانوا لا يستطيعون للقرآن سمعا فأنزل الله عزوجل أوائل سور منه اسم الاعظم بحروف مقطوعة هي من حروف كلامهم ولغتهم ولم تجر عادتهم بذكرها مقطوعة فلما سموها تعجبوا منها ، وقالوا : نسمع ما بعدها تعجبا فاستمعوا إلى ما بعدها فتأكدت الحجة على المنكرين وازداد أهل الاقرار به بصيرة وتوقف الباقون شكاكا لا همة لهم إلا البحث عما شكوا فيه ، وفي البحث الوصول إلى الحق .
والعلة الاخرى في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليخص بمعرفتها أهل العصمة والطهارة ، فيقيمون بها الدلائل ويظهرون بها المعجزات ، ولم عم الله تعالى بمعرفها جميع الناس لكان في ذلك ضد الحكمة وفساد التدبير ، وكان لا يؤمن من غير المعصوم أن يدعو بها على نبي مرسل أو مؤمن ممتحن ، ثم لا يجوز أن يقع الاجابة بها مع وعده واتصافه بأنه لا يخلف الميعاد ، على أنه يجوز أن يعطى المعرفة ببعضها من يجعله عبرة لخلقه متى تعدى فيها حده كبلعم بن باعورا حين أراد أن يدعو على كليم الله موسى بن عمران عليه السلام فأنسى ما كان اوتي من الاسم ، فانسلخ منها ، وذلك قول الله عزوجل في كتابه « واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين » ( 2 ) ، وإنما فعل عزوجل ذلك ليعلم الناس أنه ما اختص بالفضل إلا من علم أنه مستحق للفضل ، وأنه لم عم لجاز منهم وقوع ما وقع من بلعم .
____________
( 1 ) الطلاق : 11 ـ 1 .
( 2 ) الاعراف : 175 .