(51)
الإساءة للبيت العلوي الطاهر. وبهذا يحاول الوضاعون بعد أن أعيتهم الحيل في النيل من الشرف العلوي ، إلى ارتكاب هذه المجازفات الروائية ، التي وقع الكثير من المغفلين في التصديق بكل ما تدسه مشاريع الوضع ، واختلاق روايات من هذا القبيل ، تستهدف خصومهم وتوهم البسطاء بذلك.
     على أن اجتماع هذه النسوة من الليل حتى طلوع الفجر يتنافى والحالة الاجتماعية التي تعيشها المدينة ، فالالتزامات التي تعيشها المرأة المدنية فضلا عن تعففها عما يشين سمعتها لدى الآخرين ، تختلف كثيرا عن غيرها من الأنحاء الإسلامية. فالمدينة تجد من نفسها مصدر إشعاع إسلامي للسيرة النبوية ، التي يمثلها أهلها القاطنون وقتذاك ، وهم لايزالون يعتزون بانتمائهم الإسلامي والتزامهم الديني ، كما أنها لا تزال تحتفظ بقداستها النبوية ، فضلا عما عرفته المدينة من أن القاطنين فيها بين مهاجر أو أنصاري ، والخبر لا يعد إساءة لخصوص البيت العلوي بقدر ما هو إساءة لأهل الهجرة من المهاجرين ، وأهل النصرة من الأنصار ، مما يعني أن الخبر قد سطرته أيد يهودية ، تتربص بالدين الإسلامي الذي يعيش تحت مطرقة نظام أموي مهزوز ؛ ليظهر بذلك انحلال المجتمع الإسلامي وهو قريب عهد بالنبوة ، فكيف بمجتمع ابتعد عن العهد النبوي وتطاولت عليه الدهور ، مما يعني أن لهذا المجتمع الإسلامي الذي يدعي الالتزام حياته العبثية الخاصة ، وتوجهات ترفه كذلك ، خلاف ما يدعيه المسلمون ليتقدموا بذلك على المجتمعات الأخر ، وبذلك استهدف الخبر قداسة الالتزام الإسلامي وطهارة مجتمعه.
     واختيار عمر بن أبي ربيعة ليكون بطل هذه القصة له مغزاه ؛ إذ أن عمر


(52)
ابن أبي ربيعة معروف بمجونه وخلعه ، حتى نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد قولهم : ما عصي الله بشعر ما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة (1) .
     ويصف ابن جريج خطورة مجونه وعبثه حتى قال : ما دخل العواتق في حجالهن شيء أضر من شعر ابن أبي ربيعة (2) .
     ويصف هشام بن عروة عواقب أشعار ابن أبي ربيعة وفحشها بقوله : لاترووا فتيانكم شعر عمر بن أبي ربيعة لئلا يتورطوا في الزنا تورطا (3) . فكيف يستقيم هذا مع ما عرف من عفة البيت العلوي وطهارته وترفعه عن أدناس الجاهلية ؟! فتخصيص عمر بن أبي ربيعة إذن في هذه القصة يستهدف قداسة البيت العلوي وكرامته وليس غير ذلك.
تهافت الوضاع :
     على أنا لو أردنا الإعراض عن مناقشة سند ودلالة هذه القصة ، فإننا نقطع بكونها موضوعة من قبل القصاصين ، الذين يستملحون كل شاذ ، ويروون كل غريب.
     فالتهافت في نقل القصة إذا استقصينا مواردها ، وجدنا أنها في مصدر واحد يتهافت الكاتب في نقولاته ، مما يدل على أن القصة موضوعة ، فضلا عن كونها مكذوبة في نسبتها للسيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، وإليك تعدد القصة في كتاب « الأغاني » :
     أولا : نقل أبو الفرج الإصفهاني حديث اجتماع عمر بن أبي ربيعة
(1) العقد الفريد 6 : 199 .
(2) تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان 1 : 281 .
(3) المصدر السابق.

(53)
بالنسوة ، وكانت سكينة بنت الحسين هي التي واعدته ، فقصدهن واجتمع بهن ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق.
     ثانيا : نقل أبو الفرج الإصفهاني القصة في مورد آخر قبيل القصة الأولى بـ(58) صفحة بعنوان سكينة ، وليس سكينة بنت الحسين.
     فأي سكينة قصدها الراوي في قصته!
     وكيف جزم أبو الفرج أن المقصود من سكينة في القصة الأولى ، هي سكينة بنت الحسين ؟!
     وقد أورد الخبر هكذا :
     اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه ، وتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة : أنا لكن به... إلى آخر الخبر (1) .
     ثم أكد أبو الفرج القصة باسم « سكينة » دون نسبتها إلى الحسين عليه السلام في موضع ثالث من كتابه (2) .
     وهذا التعدد في تكرار الرواية يزيدنا اطمئنانا أن « سكينة » دون أن ينسبها الراوي ، هي بطلة القصة التي رواها مصعب الزبيري ، ونسبها أبو هفان الشاعر إلى سكينة بنت الحسين ، وقد ذكرنا أبو هفان وترجمة الذهبي له برواية الحديث المنكر (3) .
     ثالثا : ذكر أبو الفرج الإصفهاني في مورد آخر الأبيات هكذا :
يا أم طلحة أن البيـن قد أفدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا

(1) الأغاني 1 : 113.
(2) الأغاني 2 : 369 .
(3) راجع صفحة : 50 من كتابنا هذا.

(54)
أمسى العراقي لا يدري إذا برزت من ذا تطوف بالأركان أو سجدا
     ثم ذكر القصة هكذا :
     ولم يزل عمر ينسب بعائشة (1) أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها (2) .
     رابعا : على أن الأبيات التي ذكرتها القصة هي إحدى قصائد عمر بن أبي ربيعة متغزلا بزينب الجمحية ، إحدى شخصيات ملاحمه الغزلية ، وقد تكرر ذكرها مرارا في قصائده منها :
طـال من آل زينب الإعـراض للتـعدي وما بـها الإبغـاض (3)
     وله كذلك :
أيهـا الكـاشح المعبر بالصـر لا مطـاع في آل زينب فارجع م تزحـزح فمـا لهـا الهجران أو تكلـم حتـى يمل اللسـان (4)
     من هنا فإن التهافت في رواية القصة والاضطراب في أبياتها يوقفنا على أمر مهم وهو :
     وضع الرواية ونسبتها إلى السيدة سكينة بنت الحسين عليهما السلام لدواع لا تخفي على القارئ اللبيب.
     خامسا : والجدير ذكره أن أبا الفرج الإصفهاني حين ذكره لقصة اجتماع عمر بن أبي ربيعة بسكينة ، ذكر أبيات القصة في موضع آخر هكذا :
(1) عائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، وأبو الفرج الإصفهاني هنا في صدد أخبار عمر بن أبي ربيعة مع عائشة بنت طلحة. (2) الأغاني 205 : 1 .
(3) المصدر السابق : 108.
(4) المصدر السابق : 109.

(55)
قالت سكـيـنـة والدموع ذوارف لـيـت المغـيـري الذي لم أجزه كانـت تـرد لـنـا المنى أيامـنا خبـرت ما قالـت فبـت كـأنما أسكيـن ما ماء الفـرات وطيبـه بألـذ منـك وان نـأيت وقـلمـا مـنـهـا على الخدين والجلباب فـيـمـا أطال تصيدي وطلابي إذ لا نلـام على هوى وتصابي ترمـي الحشا بنوافـذ النشـاب مني علـى ظمأ وفقـد شـراب ترعـى النساء أمانة الغياب (1)
     إلا أنه ذكر نص الأبيات بعينها في موضع آخر هكذا :
قالت سعيـدة والدمـوع ذوارف منها علـى الخديـن والجلبـاب
     إلى أن قال :
أسعيدَ ما ماءُ الفراتِ وطيبُه مني على ظمأ وحب شرابِ (2)
     وذكره للأبيات هنا في صدد ذكر سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ، والقصيدة منسوبة لهذه القصة (3) ، فكيف ركب الخبر من قصة سكينة وأبيات سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف ؟!
     وماذا يعني هذا الاضطراب والتهافت ؟
     والطريف أن أبا الفرج نفسه يعترف بعد ذكره خبر التشبيب بسعدى ، أن المغنين غيروا لفظ سعدى إلى سكينة ، وسوف نأتي على بيانه بعيد هذا (4) .
     وإذا أردنا أن نحسن الظن بأبي الفرج الاصفهاني ، فترجع المشكلة إلى
(1) الأغاني 1 : 172.
(2) الأغاني 17 : 162 .
(3) يأتي في صفحة 74 و 75 ذكر أبيات تشبيبه بسعدى ، فراجع.
(4) راجع صفحة 92 من هذا الكتاب.

(56)
يد التحريف والتصحيف ، التي تدور في فلك الأنظمة والحكام ، الذين حاولوا فرض حالات العبث والتزييف في التراث الإسلامي ، فضلا عن التراث الأدبي ، الذي حاولوا تسخيره لتوجهاتهم ، دون أن تسلم مجالات الترويح الأدبي البريء ، الذي يستثمره القارئ دون أن تدخله القراءات الحاكمة ضمن دوائرها السياسية المقيتة.
النموذج الثاني :
     أبو الفرج الاصفهاني ، أخبرني الحسن بن علي قال : حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال : أخبرني عيسى بن إسماعيل ، عن محمد بن سلام ، عن جرير المديني ، عن المدائني.
     وأخبرني به محمد بن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن محمد بن سلام.
     وأخبرني به أحمد بن عبدالعزيز الجوهري ، عن عمر بن شبة موقوفا عليه ، قالوا :
     اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب ، فمكثوا أياما ، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ، ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة وقد روت الأشعار والأحاديث ، فقالت : أيكم الفرزدق ؟ فقال لها : ها أنذا ، فقالت : أنت القائل :
همـا دلتانـي مـن ثمانيـن قامـة فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا فقلت ارفعوا الأمـراس لا يشعروا بنا كما انحط باز أقثم الريش كاسره أحـي فيرجى أم قتيل نحـاذره وأقبلت فـي اعجـاز ليل أبادره


(57)
أبـادر بـوابيـن قـد وكـلا بنـا وأحمر من ساج تبص مسامره
     فقال : نعم ، فقالت : فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك ؟ هلا سترتها وسترت نفسك ؟ خذ هذه الألف ، والحق بأهلك (1) .
     وفي رواية أخرى لأبي الفرج عن أبي الزناد : أن الفرزدق لما قال ها أنذا ، قالت : أنت الذي تقول :
أبيت أمني النفس أن سوف نلتقـي فـإن ألقها أو يجمع الدهـر بيننا وهـل هو مقدور لنفسي لقاؤها ففيها شفاء النفس منها وداؤها
     فقال : نعم ، قالت : قولك أحسن من منظرك ، وأنت القائل :
ودعتنـي بـإشـارة وتـحيـة لم أستطـع رد الجواب عليـهم لـو كنت أملكهم إذا لم يبرحـوا وتركتنـي بين الديـار قتيـلا عنـد الوداع وما شفين غليـلا حتـى أودع قلبـي المخبـولا
     هال : نعم ، قالت : أحسنت أحسن الله إليك ، وأنت القائل :
همـا دلتاني مـن ثمانين قامـة فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا فقلت ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا أحـاذر بوابـين قد وكـلا بها فأصبحت في القوم العقود وأصبحت كما انقض باز أقثم الريش كاسره أحـي فيـرجـى أم قتيـل نحـاذره ووليـت فـي أعجاز ليـل أبـادره وأحمر من ساج تبص مسامره مغلـقة دونـي علـيـها دسـاكره
     قال : نعم ، قالت : سوأة لك فشيت السر ، فضرب بيده على جبهته وقال : نعم ، فسوأة لي.
     ثم دخلت الجارية على مولاتها وخرجت وقالت : أيكم جرير ؟ فقال :
(1) الأغاني 16 : 169 و170.
(58)
ها أنذا ، قالت : أنت القائل :
رزقنا به الصيد الغزير ولم تكن فهيهات هيهات العقـيق ومن به كمن نبله محرومة وحبائله (1) وهيهات حي بالعقيق نواصله
     قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وأنت القائل :
كأن عيون المجلتـين تعرضت إذا ذكرت للقلب كاد لذكرها وشمسا تجلى يوم دحين سحابها يطير إليها واعتراه عذابها
     قال : نعم ، قالت : أحسنت ، وأنت القائل :
سرت الهموم فبتن غير نيام طرقتك صائدة القلوب وليس ذا لو كان عهدك كالذي حدثتـني تجري السواك على أغر كأنه وأخو الهموم يروم كل مرام وقت الزيـارة فارجعي بسـلام لوصلت ذاك فكان غير لمام برد تحدر من متـون غمـام
     قال : نعم ، قالت : سوأة لك جعلتها صائدة القلوب حتى إذا أناخت ببابك جعلت دونها حجابها ، ألا قلت :
طرقت صائدة القلوب فمرحبا نفسي فداؤك فادخـلي بسلام
     قال : نعم ، فسوأة لي ، قالت : فخذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.
     ودخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم كثير عزة ؟ فقال : هاأنذا ، فقالت : أنت القائل :
وأعـجـبـني يا عز منك خلائق دنوك حتى يطمع الصب في الصبا فوالله ما يـدري كـريـم مطلته حـسـان إذ عـد الـخـلائق أربع وقطعك أسباب الصـبا حيث تقطع أيـشـتر إن قـاضـاك أم يتضرع

(1) الأبيات وما بعدها أوردها عن الأغاني السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 5 : 345 .
(59)
     قال : نعم ، قالت : أعطاك الله مناك ، وأنت القائل :
هنـيـئا مريئا غيـر داء مخامر فما أنـا بالداعي لعزة في الورى وكنت كذي رجلين رجل صحيحة لـعـزة من أعراضنا ما استحلت ولا شـامـت إن فعل عزة زلتِ و رجل رمى فيها الـزمان فشلتِ
     قال : نعم ، قالت : أحسن الله إليك ، وفي رواية قالت : كثير أنت القائل :
يـقر بعيني مـا يـقر بعينها وأحسن شيء ما به العين قرت
     قال : نعم ، قالت : أفسدت الحب بهذا التعريض ، خذ ألف دينار وانصرف.
     ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم نصيب ؟ فقال : هاأنذا ، قالت : أنت القائل :
ولـولا أن يقـال صبا نصيب ألا ياليــتـني قامـرت عنها فصارت في يدي وقمرت مالي على الاعـراض منها والتواني لقلت بنفسـي النشأ الصـغار وكان يحل للـناس القـمـار وذاك الربـح لو عـلم التجار فإن وعدت فموعـدها ضمار
     قال : نعم ، قالت : والله إن إحداهن لتقوم من نومتها فما تحسن أن تتوضأ فلا حاجة لنا في شعرك.
     وفي رواية تذكرة الخواص (1) أنها قالت لنصيل : أنت القائل :
من عاشقين تواعدا وتراسلا بـاتا بأنـعم ليـلة وألذهـا حتى إذا نجـم الثـريا حلقا حتى إذا وضح الصباح تفرقا
     قال : نعم ، قالت : وهل في الحب تدانٍ ، خذ هذه ألف دينار وانصرف.
     ثم دخلت الجارية وخرجت وقالت : أيكم جميل ؟ قال : هاأنذا ،
(1) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 279.
(60)
قالت : أنت القائل :
لـقـد ذرفت عيني وطال سفوحها ألا ليـتنا كنـا جميـعا وأنت نمت أظـل نـهاري مسـتهاما ويـلتقي وأصـبـح من نفسي سقيما صحيحها يجاور في المـوتى ضريحي ضريحها مع الليل روحي في المـنام وروحـها
     إلى آخر الأبيات والقصة (1) .
     رجال الخبر :
     محمد بن القاسم بن مهرويه : مهمل لم تتعرض له كتب الرجال ، غير معروف.
     عيسى بن إسماعيل : كذلك مهمل أهملته كتب الرجال ، لا يعرف.
     محمد بن سلام : قال ابن حجر : لا يكتب حديثه (2) . جرير المديني : لا يعرف ، مهمل ، تركته كتب الرجال.
     محمد بن أبي الأزهر : غير معروف.
     فالخبر ساقط لمجهولية بعض رواته ، وضعف غيرهم.
     وأنت ترى ما للخبر من تكلف زائد وتهويلات مصطنعة ، تصاغ للحط من كرامة السيدة سكينة عليهما السلام ، فاجتماع الشعراء على بابها يعطي صبغة عبثية تمارسها هذه السيدة الكريمة في حياتها الخاصة ، وكأنها لا ترتبط بنواميس دينية ، أو مقدسات اجتماعية تأبى هذه الحياة العبثية ، أو كأنها غير مرتبطة بأسرة أو زوج يأنف من هذه الحياة التي تمارسها زوجته ابنتهم ، وآية أسرة هي تلك التي كانت لها سيادة قريش ، وسلطنة الشرف والكرامة ،
(1) والقصة والأشعار أوردها أبو الفرج في الأغاني 6 : 169 ـ 172 بنحو آخر.
(2) لسان الميزان 3 : 542 .