صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 76 ـ 90
(76)
    وللانعاش في ترفيع مخصصات الجيش سلطانه المحبَّب على النفوس ، وله أثره في تأليف العدد الاكبر من الناس للخدمة في الجهاد.
     وكانت ظاهرةً تحتمل الاستعداد للحرب ، ولكنها ـ مع ذلك ـ غير صريحة بالتصميم عليه ، ما دامت ظاهرة انعاش في عهدٍ جديد. وهي على هذا الاسلوب ، من التصرفات التي تجمع الكلمة ولا تثير خلافاً ، في حين أنها استعداد حكيم للمستقبل الذي قد يضطرّه الى حرب قريبة.
    3 ـ أنه امر بقتل رجلين كانا يتجسّسان لعدوّه عليه. وهدّد بتنفيذ هذا الحكم روح الشغب التي كان يستجيب لها عناصر كثيرة في المِصرين ( الكوفة والبصرة ).
     قال المفيد رحمه اللّه : « فلما بلغ معاوية وفاه أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن ، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة ، ورجلاً من بني القين الى البصرة ، ليكتبا اليه بالاخبار ، ويفسدا على الحسن الامور. فعرف بذلك الحسن ، فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة ، فأخرج ، وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم ، فأخرج وضربت عنقه (1) ».
     وروى أبو الفرج الاصفهاني نحواً مما ذكره المفيد ، ثم قال : « وكتب الحسن الى معاوية : أما بعد فانت دسست اليَّ الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا أشك في ذلك ، فتوقعه ان شاء اللّه ، وبلغني انك شمتَّ بما لم يشمت به ذوو الحجى ( يشير الى ما تظاهر به معاوية من الفرح بوفاة أمير المؤمنين عليه السلام ) ، وانما مثَلك في ذلك كما قال الاول :
فانّا ومن قد مات منا لكالذي فقل للذي يبغي الخلاف الذي مضى يروح ويمسي في المبيت ليغتدي تجهَّز لاخرى مثلها فكأن قَدِ
    4 ـ تمهّله عن الحرب رغم الحاح الاكثرين ممن حوله على البدار اليها ،
1 ـ الارشاد ( ص 168 ) والبحار وكشف الغمة.

(77)
    منذ تسنّمه الحكم في الكوفة.
     وسنأتي في « الفصل 5 » الذي ستقرؤه قريباً ، على تحليل الموقف السياسي يوم ذاك ، وسنرى هناك ، أن هذا التمهّل المقصود كان هو التدبير الوحيد في ظرفه.
     5 ـ استدراجه معاوية من طريق التبادل بالرسائل ، الى نسيان موقفه المتأرجح الذي لم تقو على دعمه الدعاوى الفارغة الكثيرة ، فاذا باضمامة من الغلطات هي أجوبة معاوية للحسن وهي التي كشفت للناس معاوية المجهول ، ومهدت للحسن معذرته تجاه الرأي العام في حربه لمعاوية ، واذا بمعاوية الفريق المغلوب في منطق العقلاء ، وان يكن الغالب بعد ذلك في منطق القوة.
     ومثلٌ واحدٌ من هذه التدابير اللبقة التي أملى فيها الحسن خطته السياسية في العهد القصير ، بين وفاة أبيه عليه السلام وبين تصميمه على الحرب ، كاف عن كثير.


(78)

(79)


(80)
    ودل التتبع في مختلف الفترات التاريخية ، على أن لانتصار الدين في المجتمع شأناً كبيراً في تدرج الاخلاق. ذلك لان الشعوب تنطبع على غرار قادتها ، وتكيّف بأهداف قوانينها. ولو لم يكن للدين الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتنزيه النفس عن الطمع بالمادة ، لكفى.
     أما هذا النفر من بقايا الجاهلية ، فقد كانوا ـ كغيرهم من دعاة الطبقية ـ مطبوعين على المحافظة والتمسك بعادات الآباء والجدود والنظم البالية والاوضاع الظالمة. وكانوا من الدين الجديد خصومه الالداء في ابان دعوته ، ثم نظروا اليه كوسيلة الى الدنيا ، ابان اعتناقهم له.
     وضاعت تحت ظل هذه النوازع أهداف الدين ، وخسر المجتمع تدرّجه الى الصلاح المنشود ، فاذا بالناس عند مطامع الدنيا « والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم ، فاذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون ».
     ولآل محمد ( صلى اللّه عليه وآله ) رسالتهم التي لا يتراجعون عنها ، لانقاذ الناس لا لنفع أنفسهم ، ولاقامة حامية الدين لا اقامة عروشهم ، وصيانة المعنويات لا صيانة ذاتياتهم.
     فاذا كان معاوية لا يزال يعاند هذه الاهداف ويحارب المنادين بها ، ثم يظل منفرداً عن المسلمين ببغيه وعدوانه ، مأخوذاً بشهوة الحكم مأسوراً بحب الاستئثار في مشاعره ومذاهبه ، فَليَسرِ الحسنُ اليه بالمسلمين ، وليحاكمه الى اللّه ، وكفى باللّه حكماً.
     قال أبو الفرج الاصفهاني : « وكان أول شيء أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة. وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم


(81)
    الجمل. وفعله الحسن حال الاستخلاف ، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك » قال : « وكتب الحسن عليه السلام الى معاوية مع حرب بن عبد اللّه الازدي : من الحسن بن علي امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك فاني أحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو. أما بعد ، فان اللّه جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّةً للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فبلغ رسالات اللّه ، وقام بأمر اللّه ، حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان ، وبعد أن اظهر اللّه به الحق ، ومحق به الشرك.
     وخصّ به قريشاً خاصة ، فقال له : وانه لذكر لك ولقومك. فلما توفي ، تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته واسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة في ذلك لهم ، على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم وسلمّت اليهم.
     ثم حاججنا نحن قريشاً ، بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تتصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج ، فلما صرنا ـ أهل بيت محمد وأولياءهُ ـ الى محاجتهم وطلب النصف منهم ، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه ، وهو الولي النصير.
     ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام ، أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.
     فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا اثر في الاسلام محمود. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ولكتابه.


(82)
والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقينَّ عن قليل ربك ، ثم ليجزينَّك بما قدمت يداك. وما اللّه بظلام للعبيد.
     « ان علياً لما مضى لسبيله رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منَّ اللّه عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً ، ولانى المسلمون الامر من بعده. فأسأل اللّه ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني على الكتابة اليك ، الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل في امرك ، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
     « فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند اللّه وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب ، واتق اللّه ، ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك ، ليطفئ اللّه النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.
     « وان أنت أبيت الا التمادي في غيّك سرتُ اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين (1) ».
     ولقد ترى ما ينكشف عنه كتاب الحسن عليه السلام في خواتيمه ، من التهديد الصريح بالحرب. وكان لا مناص للحسن من اتباع هذه الطريقة فيما يفضي به الى معاوية ، حين يطلب اليه « أن يدع التمادي في الباطل ، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس من بيعته » وهي الطريقة السياسية الحكيمة التي يقصد بها اضعاف الخصم عن المقاومة باضعاف عزمه. ثم هو لا يقول له ذلك الا بعد أن يقيم عليه الحجة بما سبق من حجاجهم لقريش.
     فدعاه مرشداً ، وتوعّده مهدداً ، ثم أنذره الحرب صريحاً.
1 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 12 ).

(83)
    واتبع خطة ابيه معه. وما كان الحسن في ما أحيط به من ظروف ، وفي ما مُني به من أعداء ، الا ممثّل أبيه حقاً ، حتى لكأن قطعة من الزمن كانت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، تأخرت عن حياته فاذا هي عهد ابنه الحسن في الكوفة. وكما كانت الحرب ضرورة لا مفرَّ منها ، في عهد الاب الراحل عليه السلام ، كانت كذلك ضرورة لا يغني عنها شيء في عهد الابن القائم على الامر.
     وكان مما يزين الخلافة الجديدة ، أن تزهو في فتوّتها بما تملكه من قوة وسلطان ، ولن يتم ذلك الا بأن تضرب على أيدي العابثين ، لتبعث الهيبة في النفوس ، وتشق طريقها الى الاستقرار لتقبض على نواصي الامور. فلا عجب اذا جاء كتاب الحسن هذا صريحاً في تهديده ، شديداً في وعظه ، قوياً في لغته الآمرة الناهية « واتق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين ، فواللّه ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك .. ».
     أما الشعار الاموي في الشام ، فقد ظل مغاضباً للخلافة الهاشمية في الكوفة ، متنمراً على بيعة الحسن تنّمره على بيعة أبيه من قبل. ولم تجد معه الرسائل المناصحة المصارحة ، ولا كبحت من جموحه أساليبها الحكيمةَ وحججها الواضحة.
     ونحن اذا تصفحنا ما وصل الينا من رسائل الحسن عليه السلام الى معاوية ، لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله ، أو تتجاوز حد الحجة التي تنهض بحقه فيما فرضه اللّه من مودة أهل البيت عليهم السلام ، وفيما سجله « الكتاب » من الحكم بطهارتهم من الرجس ، أو لوّح اليه من ولايتهم على الناس ، وبما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله في نصوص الامامة وتعيين الامام ، وبالدعوة ـ اخيراً ـ الى الطاعة وحقن الدماء واطفاء النائرة واصلاح ذات البين.


(84)
    اما رسائل معاوية الى الحسن ، فقد رأيناها تأخذ ـ على الغالب ـ بأعراض الموضوع دون جوهرياته ، وتفزع في الكثير من مضامينها الى نبش الدفائن وتأريث النعرات الخطرة بين الاخوان المسلمين.
     ومن الحق ان نعترف لمعاوية بسبقه استفزاز « الشعور الطائفي » لاول مرة في تاريخ الاسلام. بما كان يقصد اليه من طريق نبش هذه الدفائن ، وتأريث هذه النعرات. فكان بذلك أول داعٍ الى فصم الوحدة التي بنِي عليها دين التوحيد ، والتي هي ـ بحق ـ جوهر اصلاحه وسرّ نجاحه بين الاديان.
     وكأنّ معاوية حين عجز عن اصطياد المغفلين من الناس ، عن طريق نفسه أو عن طريق أبيه « أبي سفيان بن حرب » ـ ولهذين الطريقين سوابقهما المعروفة لدى المسلمين بأرقامها وتواريخها ـ رفع عقيرته في رسائله الى الحسن ، باسم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ولوّح فيها بخلاف أهل البيت ( عليهم السلام ) على بيعة أبى بكر ..
     وكانت [ رسائل معاوية ] بجملتها لا ينقصها في الموضوع الذي ابردت لاجله الا الحجة لاثبات الحق الشرعي ـ عبر العرش المقدس ـ. وحتى الشبهة المتخاذلة التي كان يصطنعها لمقارعة علي عليه السلام ، في حروبه الطويلة الامد ، باسم الثأر لعثمان ، قد طويت صفحتها بموت الامام الاول ، وها هو ذا تجاه الامام الثاني ، الذي كان قد جثم بنفسه على باب دار عثمان يوم مقتله ، يدافع الناس عنه ، حتى لقد « خضب بالدماء » كما يحدثنا به عامة المؤرخين ، ويقول الطقطقي في تاريخه (1) : « ان الحسن قاتل عن عثمان قتالاً شديداً ، حتى كان يستكتفه وهو يقاتل عنه ، ويبذل نفسه دونه .. ».
     كل ذلك وعثمان بالموقف الدقيق الذي كان لا يفتأ يؤلب عليه فيه الآخرون ، ويخذله الاقربون (2).
1 ـ الفخري ( ص 74 ).
2 ـ لعل من الخير لمن أراد شرح هذا الاجمال ، أن يرجع الى ما صوره الاستاذ عبد اللّه العلايلي حفظه اللّه ، من احوال المجتمع على عهد عثمان ، في


(85)

كتابه « أيام الحسن » ( من صفحة 112 الى 128 ) ولعل من الافضل أن نختزل هنا الخطوط الرئيسة من تلك الصورة المفصلة ، اتماماً للفائدة قال :
     « وهؤلاء الامويون لم يكتفوا بأن يفرضوا انفسهم ووجودهم الخالي من الحياة والجهد ، بل تجاوزوا هذا ، الى تعبئة المجتمع في طبقات .. واذا بالثروات الفاحشة تصير وتجتمع في أيدي الامويين وانصارهم ، واذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا على هواه ، واذا بأكثر الاقاليم تذهب اقطاعات بين فلان وفلان .. فيعلى بن امية يملك ما قيمته مائة الف دينار ، عدا عقاراته الكثيرة. وعبد الرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار. وزيد بن ثابت يملك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس .. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد ، ولا بدع ان تحدوا انصاره واتهموهم بالمروق ، ولا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفياً ثم امتد حمياً.
     « ولقد باتت الحالة العامة تجيء في كلمتين : حكومة تتآمر بالشعب وشعب يتآمر بالحكومة. ولكن للشعب الكلمة الاخيرة والعليا دائماً .. ومن الانصاف والخير ان نذكر ان الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته ، فقد اتصل بأولياء الامور والسلطة ، وطالب بواسطة ممثليه مراراً وتكراراً ولكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل وكان فشلاً ذريعاً متواصلاً ، ومن النوع المثير.
     « وكان عمرو بن العاص في هذه الاثناء يحرض الناس على عثمان ويجبه سياسته علانية ويتجسس عليه ويفضح الاحاديث التي تجري داخل داره ، ولا يلقى احداً الا أدخل في روعه كراهيته .. ويقابله حينما خطب عثمان على ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله : « يا امير المؤمنين انك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب ». وهذه عائشة تجترئ وهو يخطب فتقول وقد نشرت قميص النبي : « هذا قميص النبي لم يبل وقد ابليت سنته ». وهذا طلحة والزبير يعينان الثائرين بالمال .. ولكن علياً مع كل ما هو عاتب وواجد .. بادر الى تقديم ولديه لاعتباراتهما التقديرية ومواليه لكي ينهنهوا عوادي الاحداث ..
     « وحين بلغه أن الناس حصروا داره ومنعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على بابه ولا تدعا احداً يصل اليه بمكروه. وكان أن خضب الحسن بالدماء وشج قنبر مولاه.
     « هذا ما عرف التاريخ عن علي وبنيه ازاء المصرع ، بينما عرف من ناحية ثانية ، أن عثمان وهو محاصر كتب الى معاوية وهو بالشام : « أن اهل المدينة قد كفروا واخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول ». فاذا بمعاوية حينما جاءه كتابه يتربص به ، فقد كره ـ على حد دعواه ـ مخالفة أصحاب الرسول ، وقد علم اجتماعهم على ذلك. ومن تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص على قتل عثمان ونجبهه عائشة علانية ويتخلى معاوية عن نجدته ويعين عليه طلحة والزبير كلاهما ، ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة وحذره من هذا المصير وكان مجنه دون رواكض الخطوب .. ».


(86)
    نعم كانت حجة معاوية الوحيدة في رسائله الى الحسن ، ادعاؤه « اني اطول منك ولاية واقدم منك بهذا الامر تجربة واكبر منك سنّاً! (1) » ولا شيء غير ذلك.
     ولو كان لدى معاوية من وراء هذه الجمل المتعاطفة ، حجة حرية بالقول أو عسية بالقبول ، لافضى بها ، ولترك النزوع الى نبش الدفائن وتأريث النعرات.
     وليت شعري ، أيَّ تجاربك تعني أبا يزيد ؟! ..
     أيوم ضجّت الشام منك الى عمر حتى قام لشكاويها وقعد ، واستقدمك ـ مع البريد ـ وكنت أخوف منه من غلامه « يرفأ ». ؟ أم يوم ضربك بالدرة على رأسك حين دخلت عليه معجباً بملابسك الخضر؟
     أم يوم كنت تقتطع الامور من دون عثمان ، ثم تقول : « هذا أمر عثمان » كذباً حتى لقد كنت أحد أسباب نكبته ؟
     أم يوم سعيت برجلك وجيشك تحارب امام زمانك بالسلاح باغياً ـ غير متحرج ولا متأثم ـ ؟
     وهل في هذا القديم « من تجاربك » ما يشعر بالحجة على استحقاقك الولاية أو الاستمرار على مثلها ؟. فأين اذاً استحقاق الخلافة يا ترى ؟ ..
     وهل في ولاية تتقادم على مثل هذا النسق المجلوب عليه ، والقائم على الكذب والبهتان واراقة الدماء ، ما يدل على أهلية المقام الديني الرفيع ؟.
1 ـ شرح النهج ( 4 ـ 13 ).

(87)
    جمل تتعاطف كما تتعاطف الحجج النواصع ، ثم هي لا ترجع في خلاصتها الا الى معنى واحد ، هو التماس الحجة ( بطول المدة ! ).
     ولا نعرف في منطق الحق مقياساً يثبت الخلافة بطول المدة أو بكبر السن !!
     وقد يكون الرجل أبصر الرجال في شراء ضمائر الناس ، أو في تأريث الفتن في الناس ، ولكن ذلك لا يعني استحقاق هذا الرجل لنيابة النبوة في الاسلام.
     وقد يكون الرجل أقوم الرجال في ضبط أعصابه وفي كبت عواطفه ، حتى ليعده الناس من كبار الحلماء ، ولكن ذلك ليس دليل الامامة الدينية في الناس ، لان الحلم العظيم كما يكون في الامام ، يكون في المتزعمين المنافقين.
     وقد يكون الرجل في حنكته أقدر الناس على تربيب العقائد وتوجيه الرأي العام الى الاخذ برأيه الخاص ـ سواء كان رأيه من رأي اللّه أو من رأي العاطفة ـ ولكن ذلك لا يعدو بهذا الرجل ان يكون المبتدع في الدين ، لا الخليفة على المسلمين. لان الخليفة لا رأي له الا رأي القرآن ، ولا سند له الا من الحديث ، ولا مرجع له الا الى اللّه عزّ وجل.
     اذاً ، فليس الرجل الصالح لملكوت الخلافة الاسلامية ، والنيابة عن النبوة في الدين ، الا مخلوق من نوادر الخلق ، يختاره اللّه من عباده ويصطفيه من جميع خلقه ، لمزايا ينفرد بها عن العباد ، وفضائل يتميز بها عن الخلق. واللّه سبحانه الذي برأ العباد أعرف بذلك العبد الصالح الذي انفرد بهذه المزايا ، وانماز بهاتيك الفضائل. وهو الذي يوحي باسمه الى نبيه فيختاره من دون غيره. وليس لاحد ـ بعد ذلك ـ أن يختار.
     اما معاوية فلم يكن له من سوابقه وسوابق أبيه ، ولا من كيفية اسلامه واسلام أبيه ، ولا من مواقفه مع عمر وعثمان ومع علي عليه السلام ما يزعه عن التطاول الى ادعاء أعظم المراتب في الاسلام ، حتى جاء يقول


(88)
    للحسن ابن رسول اللّه (ص) وقد بايعه المسلمون في آفاق الارض بما فيهم صحابة الرسول وأهل بيته وخاصته وجميع المعنييّن باسلاميتهم : « اني اكبر منك سناً واقدم منك وأطول منك .. !! ».
     وهل تجد في دنيا الحجاج ، أبلغ من هذا المنطق في اعلان العجز عن الحجة ؟.
     وكاتبة ثانيةً ، ولكنه حاول في هذه المرة ، التهديد بالاغتيال والاغراء بالاقوال ، وكأنه عرف الحسن على غير حقيقته ، فاَسفّ الى مثل هذا الاسلوب المبتذل الذي لا يخاطب به مثله ، قال :
     « اما بعد ، فان اللّه يفعل في عباده ما يشاء. لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاحذر ان تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس ، وايأس من أن تجد فينا غميزة !! ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام (1) ».
     وكان جوابه الاخير الذي جبه رسولي الحسن اليه ، وهما جندب بن عبد اللّه الازدي والحرث بن سويد التيمي أنه قال لهما : « ارجعا فليس بيني وبينكم الا السيف ! (2) ».
     وهكذا ابتدأ معاوية العدوان ، وخرج عامداً على طاعة الخليفة المفروضة طاعته عليه ، الخليفة الذي لم يخالف على بيعته أحد من المسلمين غيره وغير جماعته من جند الشام الذين صقل قرائحهم على الخلاف ، ورباهم على رأيه ، وحبسهم عن الاختلاط بغيرهم ، فكانوا حقاً ، كما وصفهم صعصعة بن صوحان العبدي حين سأله معاوية عنهم فقال : « أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبار وحلفة الاشرار (3) ».
1 و 2 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 13 و10 ).
3 ـ المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 119 ).


(89)
    ودارت الكوفة دورتها ، وهي تستمع الى تهديد معاوية وتتلقف الاخبار عن زحفه الى العراق. وارتجزت للحرب على لسان شيعتها البهاليل.
     وهكذا جدَّ الجدّ ولا مندوحة لولي الامر على الاستجابة للظرف المفاجئ والنزول على حكم الامر الواقع.
     وكان حرب البغاة واجبه الذي يستمده من عقيدته ويستمليه من أعماق مبدئه ، ولا استقرار للخلافة دون القضاء على هذا الانقسام الذي يفرضه معاوية على صفوف المسلمين ، بثوراته المسلحة في وجه الخلافة الاسلامية قرابة ثلاث سنوات متتاليات ، أحوج ما يكون المسلمون فيها الى الاستقرار والاستعداد.
     وكانت حروب الشام منذ تجنّد لها معاوية ، أشأم الحروب على الاسلام ، واكثرها دماً مهراقاً ، وحقاً مضاعاً ، واجتراء على الحقايق ، وانتصاراً للنزق الطائش ، والاهواء الدنيوية الرخيصة.
     وان الاسلام بمبادئه الانسانية السامية لم يشرع الحرب الا في سبيل اللّه وابتغاءاً الخير الناس وذياداً عن حياضه ، اما نهب الثغور واخافة الآمنين ، ومحاربة الشعوب المؤمنة باللّه وبرسوله ( لانه يريد أن يتأمّر عليهم ) فذلك ما لا تعرفه المبادئ الاسلامية ، ولا تعترف بمثله الا الجاهلية الهوجاء. وذلك هو مصدر الصدمات التي مزّقت الكلمة وفرّقت الدين ، وفرضت العداوات بين فئات المسلمين.
     واستجاب لمعاوية في هذه الحروب « سفهاء طغام » على حد تعبير شبث بن ربعي التميمي حين واجهه في أحدث سنة 36 ، فاستغل تفسخ أخلاقهم ، وأتّجر بفساد أذواقهم ، وقذف بهم في لهوات الموت ، وكلهم راضٍ مطيع.
     وكانت الشنشنة الموروثة في هاشم ، أنهم لا يبدأون أحداً قط بقتال. وتجد فيما عهد به الحسن الى قائده « عبيد اللّه بن عباس » تأييداً صريحاً


(90)
لهذا الخلق الهاشمي الافضل. وكان للحسن على الخصوص ، مواريث شخصية كثيرة من وصايا ودساتير ، آثره بها سيد العرب أبوه امير المؤمنين عليه السلام. وكان ابوه كما يحدثنا التاريخ شديد العناية بابنه الحسن « وكان يكرمه اكراماً زائداً ويعظمه ويبجله (1) ». وكانت هذه الوصايا ، المثل التي لا يقربها الباطل ولا تزيغ عن الصواب على اختلاف موضوعاتها في الدين والدنيا وفي التربية والاخلاق. وكان فيما أوصى به علي الحسن قوله : « لا تدعونَّ الى مبارزة ، فان دُعيت اليها فأجب ، فان الداعي اليها باغ. والباغي مصروع ».
     لذلك كنّا نرى الحسن في ابان بيعته ، وفي قوة اندفاع أصحابه للهتاف بالحرب ، لا يجيب اليها صريحاً ، ولا يعمل لها جادّاً ، لانه كان ينظر الى الحرب نظرته الى ضرورة بغيضة ، يلجأ اليها حين لا حيلة له في اجتنابها ، وكان ينتظر تنظيم حرب يضمن لها القوة ، أو قوة تضمن له الحرب ، وقد حالت الظروف المتأزمة ـ يومئذ ـ والذاهبة صعداً في ازماتها بينه وبين ما يريد.
     وقد أتينا في الفصل السابق على استكشاف الاوكار التي كان ينتمي اليها المتحزّبون المتحمسون في الكوفة ، من أموية ، ومحكّمة ، وشكاكين ، وحمراء. وأشرنا هناك الى ما كانت تعج به هذه المجتمعات من روح الهدم والتخريب ، والوقوف في وجه السياسة القائمة بشتى الاساليب.
     وكان كل ذلك ـ وبعضه كاف ـ سبب التمهل في الحرب ، الامر الذي عورض به الحسن عليه السلام من قبل فئات من أصحابه المناصحين له. وكان للنشاط المؤقت المحدود ، الذي غمر الكوفة في أيام البيعة ، أثره في اغراء هذه الفئات من الاصحاب ، ليظنوا كل شيء ميسراً لخليفتهم الجديد. ولكنها كانت النظرة القصيرة التي لا تمتد الى ما وراء الستار. ولا تزن في حسابها ما تهدفه هاتيك « الاوكار ».
1 ـ ابن كثير ( ج 8 ص 36 ـ 37 ).
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس