صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 91 ـ 105
(91)
    اما الحسن فقد كان ينظر بالبصيرة الواعية الى أبعد مما ينظرون ، ويعرف بالعقل اليقظان من مشاكلهم اكثر مما يعرفون ، ويغار ـ بدينه ـ على الصالح العام أعنف مما يحسبون.
     انه يدرك جيداً دقة الموقف ، بما يسيطر عليه من ميوعة الاخلاق ، في قسم عظيم ممن معه في جيشه ، وممن حوله في كوفته وكان ينتظر لهذا التفسخ الاخلاقي الذي باع الدنيا بالدين ، أثره السيئ في ظروف الحرب ، لو أنه استبق الى الحرب قبل أن يضطره الموقف اليها.
     ورأى أن في تحمّل قليل من مفاسد هؤلاء كثيراً من الصلاح لسياسته الحاضرة مع ظرفه الخاص.
     ورأى ان يعالج الموقف من وجهه الثاني ، فترفق بالناس ، ولم يتنكّر لاحد من رعيّته ولم يبد له أمراً ، وأخذ بسياسة التهدئة واسدال الستار ، لئلا يتسع الفتق وتعم الفتنة ، وارجأ التصفية الى وقتها المناسب لها ، ليضع الندى في موضعه والسيف على أهله.
     وهنا يسبق الى الذهن استفهام لا يجوز للباحث أن يتجاوزه من دون أن يقف على سرّه. انه كان الاولى برئيس الدولة اذ جوبه من ظروفه بمثل هذا الجوّ المتلبد بالغيوم ، أن يعمد الى الحزم في استئصال الشغب ، فيستعمل الشدة ويكشف المؤامرات وينكّل بالخونة ويكيل لهم الجزاء الذي يستحقون. فما الذي حدا بالحسن عليه السلام ، الى العزوف عن طريقة الشدة الى الرفق أحوج ما يكون موقفه الى الاول منهما تعجيلاً للاستقرار واستعداداً لمستقبله المهدّد بالحروب ؟.
     وللجواب على هذا الاستفهام ، وجوهه الثلاث التي ستقرؤها في خاتمة الفصل الثامن. ونقول هنا : ان الحسن لو أراد الاخذ بسياسة الشدة ـ وكانت من أوضح الاساليب التي تتخذ لمثل هذه الظروف ـ لتعجّل الفتنة عن عمد ، ولفتح ميدانه للثورات الداخلية التي لن تكون أقلَّ خطراً على


(92)
مقدراته من حروب الشام. وكان معاوية العدوّ الذي لا يفتأ يمدّ فكرة الثورة في الكوفة بكل ما اوتي من ثراء أو دهاء.
     لذلك كان ما اختاره الحسن هو الاحسن لموقفه الدقيق.
     ونقول في الجواب على مقترح بعض نصحائه من أصحابه في تعجيل الحرب حين طلب اليه « بأن يبدأ معاوية بالمسير حتى يقاتله في أرضه وبلاده وعمله (1) » : انه لو فعل ذلك لفتح للمعارضين من زعماء الاحزاب في الكوفة وللمتفيهقين من القراء و ( أهل الهيأة والقناعة ) فيها ، منفداً للخلاف عليه لا يعدم الحجة ، اذا اريد الاحتجاج به من ناحية « الابتداء بالعدوان » وهي الحجة التي لا يجد كثير من الناس أو من بسطاء الناس الجواب عليها ، والتي قد يؤول بها النقاش الى مجاهرة هذه الجماعات بنكث البيعة علناً ، والتخلي عن الحسن جهاراً ، ومعنى ذلك التعرض الى أفظع انشقاق داخلي ، له عواقبه ومخاوفه.
     ولهذا وذاك آثر الحسن التهدئة متمهلاً بالحرب بادئ ذي بدء.
     ثم ارتجل الامر بالجهاد.
     وما كان اذ أمر بالجهاد الا مستجيباً للظرف الطارئ الذي لم يكن يحتمل ـ في نظر الجميع ـ الا الامر بالجهاد ، وذلك حين بادر معاوية الى العدوان مبتدئاً ، وتحلبت أشداقه بالمطامع الاقليمية ولكن في صميم بلاد الاسلام ! ، فزحف الى « جسر منبج (2) » باتجاه العراق ، وذلك بعد وفاة امير المؤمنين عليه السلام ، بقليل من الزمن اختصره اليعقوبي (3) كثيراً
1 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 : ص 13 ).
2 ـ « منبج » بلد قديم كبير ، بينه وبين جسره على الفرات ثلاثة فراسخ ، وبينه وبين « حلب » عشرة فراسخ ، وفي المعجم : « بينهما يومان » ، قال : « ومنها الى ( ملطية ) اربعة ايام والى الفرات يوم واحد ، وخرج منها جماعة منهم البحتري وابو فراس الحمداني .. ».
3 ـ ( ج 2 : ص 191 ).


(93)
    فحدّده بثمانية عشر يوماً.
     ومن هناك حيث بلغ أعالي الفرات ، رفع صوته « بالعواء » الذي حاول أن يجعل منه زئيراً وجلجلة ، ليخيف الثغور الآمنة المطمئنة ، ولينبّه مرابض الاسود في كوفة الجند فيستدرجها الى النزال.
     ونظر معاوية الى مصرع علي ( عليه السلام ) ، كأحسن فرصة للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام. وكان ذلك هو القرار الاخير الذي تم عليه الاتفاق بينه وبين مشاوريه ، الذين كانوا يتحلّقون حوله ليل نهار ، وينظمون معه حركة المعارضة للخلافة الهاشمية ، بحنكة تشبه الدهاء ، أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عتبة ، ويزين بن الحر العبسي ، ومسلم بن عقبة ، والضحاك بن قيس الفهري.
     ونجح معاوية في اختيار الظرف المناسب.
     ونجح في خلق الشغب المزعج في كوفة الحسن ، بما أولاه من عناية بالغة بشراء الضمائر الرخيصة فيها ، وبما بثه من جواسيس يتأبطون في رواحهم الوان الاكاذيب ، ويتزوّدون في غدوّهم الاخبار والمعلومات ، عما يجدّ في الكوفة من تصاميم ، وعما يوجد لديها من امكانيات. وكان سلاح معاوية من هذا النوع ، أقوى من سلاحه بالرجال والحديد وأشدّ منهما مضاء وأبعد أثراً.
     « واستنفر عشائره وجيوشه ، فكتب الى عماله على النواحي التابعة له ، بنسخة واحدة ، يقول فيها : « فاقبلوا اليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجدكم وجهدكم وحسن عدتكم (1) .. ».
     ومضى الحسن ( عليه السلام ) ـ بدوره ـ على تصميمه في الاستعداد
1 ـ ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 13 ).

(94)
للجواب على هذا العدوان. فدعا الى الجهاد ، وتألب معه المخلصون من حملة القرآن وقادة الحروب وزهاد الاسلام ، أمثال حجر بن عدي الكندي وأبي ايوب الانصاري ، وعمرو بن قرضة الانصاري ، ويزيد بن قيس الارحبي ، وعديّ بن حاتم الطائي ، وحبيب بن مظاهر الاسدي ، وضرار بن الخطاب ، ومعقل بن سنان الاشجعي ، ووائل بن حجر الحضرمي [ سيد الاقيال ] ، وهانئ بن عروة المرادي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وبرير بن خضير الهمداني ، وحبة العرني ، وحذيفة بن أسيد ، وسهل بن سعد ، والاصبغ بن نباتة ، وصعصعة بن صوحان ، وابي حجة عمرو بن محصن ، وهانئ بن أوس ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وسعيد بن قيس ، وعابس بن شبيب ، وعبد اللّه بن يحيى الحضرمي ، وابراهيم بن مالك الاشتر النخعي ، ومسلم بن عوسجة ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وبشير الهمداني ، والمسيب بن نجية ، وعامر بن واثلة الكناني ، وجويرية بن مشهر ، وعبد اللّه بن مسمع الهمداني ، وقيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الارحبي ، وعمارة بن عبد اللّه السلولي ، وهانئ بن هانئ السبيعي ، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ، وكثير بن شهاب ، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي ، وعبد اللّه بن عزيز الكندي ، وأبي ثمامة الصائدي ، وعباس بن جعدة الجدلي ، وعبد الرحمن بن شريح الشيباني ، والقعقاع بن عمر ، وقيس بن ورقاء ، وجندب بن عبد اللّه الازدي ، والحرث بن سويد التيمي ، وزياد بن صعصعة التيمي ، وعبد اللّه بن وال ، ومعقل بن قيس الرياحي.
     وهؤلاء هم الجناح القويّ في جبهة الحسن عليه السلام. وهم السادة الذين وصفهم الحسن فيما عهد به الى « عبيد اللّه بن عباس » بأن الرجل منهم يزيد الكتيبة ، ووصفهم معاوية في حروب صفين بأن قلوبهم جميعاً كقلب رجل واحد ، وقال عنهم : « انهم لا يقتلون حتى يقتلوا أعدادهم ». وهم الذين عناهم يومئذ بقوله : « ما ذكرت عيوبهم تحت المغافر بصفين الا لُبس على عقلي ». وشهادة العدوّ وأصدق


(95)
الشهادات مجداً.
     وهزّ أعصاب الكوفة في فورة الدعوة الى الجهاد ، تفاؤل عنيف غلب الناس على منازعها ، فاذا بالناس يتسابقون الى صفوفهم بما فيهم العناصر المختلفة التي لا يعهد منها النشاط للدعاوات الخيرة والاعمال الصالحة والمساعي الخالصة للّه عز وجل.
     فجمع المعسكر الى جنب أولئك المخلصين من أنصار الحسن سواداً من الناس غير معروفين ، وجماعة من أبناء البيوت المرائين ، وجمهوراً من مدخولي النية الذين لا يتفقون معه في رأي ، وربَّما لا يكونون الا عين عدوه عليه وعلى أصحابه ، وآخرين من الضعفاء الرعاديد الذين اذا أُكرهوا على القتال اتقوه بالفرار ، وربما لم يكن لهم من الامل الا أمل الغنائم « وليس أحد منهم يوافق احداً في رأي ولا هوى ، مختلفون لا نيّة لهم في خير ولا شر (1) ». ـ وفيهم الى ذلك ، المشاجرات الحزبية التي ستكون في غدها القريب شجرة الشوك في طريق التجهيزات التي تستدعيها ظروف الحرب.
     وتخوَّف الحسن ـ منذ اليوم الاول ـ نتائج هذا التلوّن المؤسف الذي انتشر في صفوفه ، والذي لا يؤمن في عواقبه من الخذلان ، وهو ما تشير اليه بعض المصادر (2) صريحاً.
     فكان ينظر الى الجماهير المرتجزة بين يديه للحرب ، غير واثق بثباتهم معه ، ولا مؤمن باخلاصهم لاهدافه.
     وتراءت له من وراء هؤلاء ( في الكوفة ) ، الرؤوس ذوات الوجهين التي يئس من اصلاحها الهدى ، أمثال الاشعث بن قيس ، وعمرو بن حريث
1 ـ كلمة الحسن نفسه فيما وصف به أهل الكوفة كما يرويها ابن الاثير ( ج 3 : ص 62 ).
2 ـ يراجع شرح النهج ( ج 4 : ص 14 ).


(96)
    ومعاوية بن خديج ، وأبي بردة الاشعري ، والمنذر بن الزبير ، واسحق بن طلحة ، وحجر بن عمرو ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وشبث بن ربعي ، وعمارة بن الوليد ، وحبيب بن مسلمة ، وعمر بن سعد ، ويزيد بن عمير ، وحجار بن أبجر ، وعروة بن قيس ، ومحمد بن عمير ، وعبد اللّه بن مسلم بن سعيد ، وأسماء بن خارجة ، والقعقاع بن الشور الذهلي ، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي.
     وعلم أن له من هؤلاء ليوماً.
     وهؤلاء هم الكوفيون الناشزون ، الذين كانوا يشرعون الاخلاق لانفسهم وللناس الذين يماثلونهم ـ رغم ادّعائهم الاسلام !. وكان الاسلام الذي عمر الاخلاق في النفوس وزخر به النعيم على المسلمين ، قد هزمته المادة بين أوساط هذا المجتمع المأفون ، فتباعدت بينهم وبينه القربى ، وعجزوا عن مسايرته بتعاليمه وتربيته وتثقيفه ، فما بايعوا الحسن على السمع والطاعة حتى كانوا عملاء أعدائه على الشغب والعصيان ، يرقبون الحوادث ، ويتربصون الدوائر ، وينتهزون الفرص ، ويتآمرون على اخطر الموبقات غير حافلين بعواقبها ولا عارها ولا نارها.
     وكان الخطر المتوقع من انخراط هؤلاء في الجيش ، أكبر من الخطر المنتظر من أعدائه الذين يصارحونه العداء وجهاً لوجه.
     فلمَ لا يتخوّف عاهل الكوفة من الخذلان ، ولم لا يتمهل بالحرب ما وسعه التمهّل ، وللنتائج الغامضة حكمها الذي يفرض الاناة ويذكّر بالصبر ، ويلوّح بالخسران.
     ولكنه ـ وقد دُعي الآن الى المبارزة ـ خليق أن يرجع الى الميراث النفيس الذي يشيع في نفسه من ملكات أبيه العظيم ( وكان لا بد للشبل أن ينتهي الى طبيعة الاسد ).
     فليرجع الى وصية أبيه له ، وكان مما أوصاه به أبوه : « لا تدعونَّ


(97)
    الى مبارزة ، فان دُعيت لها فأجب ، فان الداعي لها باغ .. ».
     وليرجع الى واجبه الشرعي بما له من ولاية أمر المسلمين ، وليس للامام الذي قلده الناس بيعتهم ، أن يغضي على الجهر بالمنكر والبغي على الاسلام ما وجد الى ذلك سبيلاً.
     واللّه تعالى شأنه يقول : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر اللّه ».
     ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : « من دعا الى نفسه ، أو الى أحد ، وعلى الناس امام ، فعليه لعنة اللّه فاقتلوه ».
     اما السبيل الى ذلك ، ولا نعني به الا القوة على انكار المنكر ، فقد كان للكوفة من القوى العسكرية في مختلف الثغور الخاضعة لها ، ما يؤكد الظن بوجود الكفاية للحرب ، رغم الاوضاع الشاذة التي نزع اليها كثير من خونة الكوفيين المواطنين.
     وكان للدولة الاسلامية في أواسط القرن الاول ، أعظم جيش تحتفل بمثله تلك القطعة من الزمن ، لولا أن الالتزام بقاعدة « المرابطة » التي تفرضها حماية الثغور والتي كان من لوازمها توزيع القسم الاكثر من الجيوش الاسلامية على مختلف المواقع البعيدة عن المركز ، كان يحول دائماً دون استقدام العدد الكثير من تلك الوحدات للاستعانة به في الحروب القريبة من المركز ، ولا سيما مع صعوبة العمليات السوقية بنظامها السابق ووسائطها القديمة المعروفة.
     وكان الجيش المقدَّر على الكوفة وحدها. تسعين الفاً أو مائة الف ـ على اختلاف الروايتين (1) ـ. وكان الجيش المقدَّر على البصرة ثمانين الفاً (2). وهؤلاء هم أهل العطاء في المصرين ، أعني الجنود الذين يتقاضون
1 ـ يرجع الى اليعقوبي ( ج 2 : ص 94 ) ، والى الامامة والسياسة ( ص 151 ).
2 ـ حضارة الاسلام في دار السلام لجميل مدور.


(98)
    الرواتب من خزينة الدولة. وفي المصرين العسكرّيين ـ الكوفة والبصرة ـ مثل هؤلاء عدداً من اتباعهم ومواليهم ومن متطوّعة الجهاد غالباً.
     فهذه زهاء ثلاثمائة وخمسين الفاً ، هي مقاتلة العراق ، فيما يحسب على العراق من القدرة العسكرية ، عدا جيوش فارس واليمن والحجاز والمعسكرات الاخرى.
     وكان من تحمّس الشيعة للحرب ( يوم الحسن ) ، ومن الحاح الخوارج على حرب الحالّين الضالّين اهل الشام ـ على حدّ تعبيرهم ـ ، ومن انسياح الناس الى صفوفهم يوم نجحت دعاوة الدعاة الى الجهاد في الكوفة. ما يكفي وحده رصيداً للظن بوجود الكفاية بل اليقين بوجودها ، لو انهم صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، يوم التقت الفئتان وحميت الصدور واحمَرَّت الحدق.


(99)


(100)
    ونادى منادي الكوفة ـ الصلاة جامعة ـ ، واجتمع الناس فخرج الحسن عليه السلام ، وصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :
     « أما بعد ، فان اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لاهل الجهاد : اصبروا ان اللّه مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون. انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير اليه فتحرك. لذلك اخرجوا رحمكم اللّه الى معسكركم في النخيلة (1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون ».
     قال مؤرخو الحادثة : « وسكت الناس فلم يتكلم أحد منهم ولا أجابه بحرف ».
     ـ ورأى ذلك « عديّ بن حاتم » وكان سيد طيء والزعيم المرموق بسوابقه المجيدة في صحبته للنبيّ والوصيّ معاً ( صلى اللّه عليهما ) فانتفض انتفاضته المؤمنة الغضبى ، ودوّى بصوته الرزين الذي هز الجمع ، فاستدارت اليه الوجوه تستوعب مقالته وتعنى بشأنه ـ وفي الناس كثير ممن عرف لابن حاتم الطائي ، تاريخه وسؤدده وثباته على القول الحق ـ واندفع الزعيم محموم اللهجة قاسي التقريع ، يستنكر على الناس سكوتهم ، ويستهجن عليهم ظاهرة التخاذل البغيض.
     وقال :
     « أنا عديّ بن حاتم ، ما أقبح هذا المقام !. ألا تجيبون امامكم وابن
1 ـ تصغير نخلة ، موضع قرب الكوفة على سمت الشام ، اقول : ويوجد اليوم على سمت كربلاء بناية تعرف بخان النخيلة ، بينها وبين الكوفة اثنا عشر ميلاً.

(101)
بنت نبيكم ؟. أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جدّ الجد ، راوغوا كالثعالب ؟. أما تخافون مقت اللّه ولاعيبها وعارها ؟ ».
     ثم استقبل الحسن بوجهه فقال :
     « أصاب اللّه بك المراشد ، وجنّبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره. وقد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».
     قال : « وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».
     ثم خرج من المسجد ، ودابته بالباب ، فركبها ومضى الى النخيلة ، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان المثل الاول للمجاهد المطيع ، وهو اذ ذاك أول الناس عسكراً (1). وفي طيء الف مقاتل لا يعصون لعديّ أمراً (2).
     ونشط ـ بعده ـ خطباء آخرون ، فكلّموا الحسن بمثل كلام عديّ بن حاتم ، فقال لهم الحسن عليه السلام : « رحمكم اللّه مازلت أعرفكم بصدق النية ، والوفاء ، والمودة. فجزاكم اللّه خيراً ».
     واستخلف الحسن على الكوفة ـ ابن عمه ـ المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس للشخوص اليه في النخيلة.
     وخرج هو بمن معه ، وكان خروجه لاول يوم من اعلانه الجهاد أبلغ حجة على الناس في سبيل استنفارهم.
     وانتظمت كتائب النخيلة خيار الاصحاب من شيعته وشيعة أبيه وآخرين من غيرهم. ونشط المغيرة بن نوفل لاستحثاث الناس الى الجهاد وكان من المنتظر للعهد الجديد ـ الذي قوبل بالمهرجانات القوية في اسبوع البيعة ، أن لا يتأخر أحد بالكوفة عن النشاط المتحمس لاجابة دعوة الامام. ولكن شيئاً من ذلك لم يقع !. وحتى السرايا الجاهزة التي كان امير المؤمنين
1 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 14 ).
2 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 171 ).


(102)
    ( عليه السلام ) قد أعدها للكرة على جنود الشام قبيل وفاته ـ وكانت تعد اربعين الف مقاتل ـ قد انفرط عقدها وتمرد أكثرها ، وتثاقل معها اكثر حملة السلاح في الكوفة عن الانصياع للامر.
     وكان المذبذبون من رؤساء الكوفة ، أشدهم نشاطاً في اللحظة الدقيقة التي أزفت فيها ساعة الجدّ.
     قالت النصوص التاريخية فيما ترفعه الى الحارث الهمداني كشاهد عيان : « وركب معه ـ أي مع الحسن ـ من أراد الخروج وتخلّف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا أمير المؤمنين من قبله .. وعسكر في النخيلة عشرة أيام فلم يحضره الا أربعة آلاف. فرجع الى الكوفة ، ليستنفر الناس ، وخطب خطبته التي يقول فيها : قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي .. (1) ».
     أقول : ثم لا ندري على التحقيق عدد من انضوى اليه ـ بعد ذلك ـ ولكنا علمنا أنه « سار من الكوفة في عسكر عظيم » على حد تعبير ابن ابي الحديد في شرح النهج.
     وسنأتي في فصل « عدد الجيش » على غربلة أقوال المؤرخين لاختيار القول الفصل في عدد جنود الحسن عليه السلام.
     وغادر النخيلة وبلغ « دير عبد الرحمن » فاقام ثلاثاً ، والتحق به عند هذا الموضع مجاهدون آخرون لا نعلم عددهم.
     وكان دير عبد الرحمن هذا مفرق الطريق بين معسكري الامام في المدائن (2).
1 ـ الخرايج والجرايح ( ص 228 ـ طبع ايران ).
2 ـ وهي العاصمة الساسانية التي بلغت من العمر الف سنة. وكانت وريثة بابل في عظمتها ولم يبق من آثارها اليوم الا طاق كسرى ، ومرقد الصحابي العظيم ( سلمان الفارسي ) رضي اللّه تعالى عنه. وكانت سبع مدن متقاربة تتقابل على ضفاف دجلة. فتحها المسلمون سنة 15 هجري وكانت اذ ذاك عاصمة الشرق الفارسي كله ، ففي الجانب الغربي سلوقية ، ودرزجان وبهرسير ، وجند يسابور « كوكه » في ناحية ( مظلم ساباط ) المتصلة بنهر الملك. وفي الجانب الشرقي اسفانبر ، ورومية ، وطيشفون ( وهي ام الطاق ).
وكان لابد من مرور اكثر من مائة عام قبل ان تندثر المدائن نتيجة لانشاء بغداد سنة 150 هجري. وفي خلال تلك الفترة كانت تغذي الكوفة بصناعاتها وكنوزها ومحصولاتها ، وذلك بارسالها الموالي من الفرس اليها وقد صاروا مسلمين.
وكانت المدائن منذ العهد الذي وليها فيه سلمان الفارسي تتشيع لآل محمد (ص) وكانت لا تزال في القرن السابع الهجري قرية لا يسكنها الا شيعة متحمسون.
وذكرها المسعودي عند ذكره العراق فقال : « ومدنه : المدائن وما والاها ولاهلها أعدل الالوان وانقى الروائح وافضل الامزجة واطوع القرائح وفيهم جوامع الفضائل وفرائد المبرات .. ».


(103)
     ومَسكِن (1).
     وللامام الحسن خطته من هذين المعسكرين.
     ـ اما « المدائن » فكانت رأس الجسر صوب فارس والبلاد المتاخمة لها. وهي بموقعها الجغرافي ، النقطة الوحيدة التي تحمي الخطوط الثلاث التي تصل كلاً من الكوفة والبصرة وفارس ، بالاخرى. وتقف بقيمتها العسكرية درءاً في وجه الاحداث التي تنذر بها ظروف الحرب. وكانت
1 ـ بفتح اوله وكسر ثالثه ، اسم الطسوج الذي منه « أوانا » على نهر دجيل ـ القرية الكثيرة البساتين والشجر ـ التي عناها ابو الفرج السوادي ( من شعراء القرن السادس ) بقوله.
واجتلوها بكراً نشت « بأوانا » حجبت عن خطابها بالاواني
وفي « مسكن » هذه ، كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة 72 هجري وفيها قتل مصعب ، وقتل معه ابراهيم بن مالك « الاشتر » النخعي ، ودفنا حيث قتلا. ولا يزال القبران ظاهرين وعليهما قبة متواضعة تعرف عند أعراب سميكة « بقبر الشيخ ابراهيم » وبينه وبين بغداد نحو من ستين كيلو متراً. وبينه وبين دجلة عشرة كيلو مترات ، فمسكن هي المنطقة التي تترامى حوالي هذا القبر بما في ذلك نهر دجيل وهنالك كانت « اوانا » ايضاً.


(104)
    فارس معرض الانتفاضات الخطرة على الدولة. وكان عليها من قبل الامام « زياد بن عبيد » ولما يطبع ـ بعدُ ـ على صفحته المقلوبة التي غيّرت منه كل شيء.
     واما « مسكِن » فقد كانت النقطة الحساسة في تاريخ جهاد الحسن (ع) لانها الميدان الذي قدّر له ان يقابل العدوّ وجهاً لوجه. وهي اذ ذاك أقصى الحدود الشمالية للعراق الهاشمي ، أو المناطق الخاضعة لحكومة الكوفة من هذه الجهة. وكان في اراضي مسكن مواطن معمورة بالمزارع والسكان وقرى كثيرة مشهورة ـ منها « أوانا » و « عكبرا » ومنها « العلث » وهي آخر (1) قراها الشمالية ، وكان بازائها قرية « الجنوبية » وهي التي انحدر اليها معاوية بجيوشه منذ غادر « جسر منبج ». والتقى عندها الجمعان.
     والمفهوم ان موقع مسكن اليوم لا يعدو هذه السهول الواسعة الواقعة بين قرية « سميكة » وقرية « بلد » دون سامراء.
     ولمسكن طبيعتها الغنية بخيراتها الكثيرة ومشارعها القريبة وسهولها الواسعة ، فكانت ـ على هذا ـ الموقع المفضّل للنزال والحروب ، وكانت لاول مرة في تاريخها ميدان الحسن ومعاوية في زحفهما هذا ، ثم تبودلت فيها بعد ذلك وقائع كثيرة بين العراق والشام.
     ورأى الحسن عليه السلام أن يتخذ من المدائن ـ بما لموقعها من الاهمية العسكرية ـ مقراً لقيادته العليا. ليستقبل عندها نجدات جيوشه من الاقطار الثلاث القريبة منه ، ثم ليكون من وراء ميدانه الذي ينازل به معاوية وأهل الشام في « مَسكِن ». وليس بين المعسكرين الهاشميين في ـ المدائن ومسكن ـ أكثر من خسمة عشر فرسخاً.
1 ـ قال الماوردي في الاحكام السلطانية ـ على رواية الحموي ـ : « والعلث هو أول العراق من هذه الجهة ». أقول : ويقع العلث بين عكبرا وسامراء. وعكبرا قرية من نواحي دجيل قرب « أوانا ».

(105)
    وكانت الخطة المثلى التي لا بدل عنها للوضع الحربي الراهن. وهكذا انكشف الحسن في رسم خططه الحربية ، عن القائد الملهم الذي يحسن فنون الحرب كما كان يصطلح عليها عصره أفضل احسان. ودلّت خطواته المتدرجة في سبيل مقاومته لعدوه سواء في اختيار الوقت أو في اختيار المواقع أو في تسيير الجيوش ، على مواهب عسكرية ممتازة ، كانت كفاء ما رزق من مواهب في سياسته وفي اخلاصه وفي تضحيته.
     ونظر عن يمينه وعن شماله ، وتصفّح ـ ملياً ـ الوجوه التي كانت تدور حوله من زعماء شيعته ومن سراة أهل بيته ، ليختار منهم قائد « مقدمته » التي صمم على ارسالها الى مسكن ، فلم ير في بقية السيوف من كرام العشيرة وخلاصة الانصار ، أكثر اندفاعاً للنصرة ولا اشدَّ تظاهراً بالاخلاص للموقف من ابن عمه ( عبيد اللّه (1) بن عباس بن عبد المطلب ) و ( قيس بن سعد بن عبادة الانصاري ) و ( سعيد بن قيس الهمداني ) ـ رئيس
1 ـ الارشاد للشيخ المفيد ( ص 170 ) ، وابن ابي الحديد ( ج 4 ص 14 ) واليعقوبي ( ج 2 ص 191 ).
وذكر مؤرخ آخر انه ( عبد اللّه بن عباس اخوه ) ولا يصح ذلك ، لان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام خلافة الحسن ، وانما كان في مكة ، وكتب الى الحسن كتابه الذي يشير فيه بالحرب وتجد صورته في شرح النهج ( ج 4 ص 8 ـ 9 ) ولم يكن عبد اللّه بالذي يختفي ذكره في احداث هذا العهد لو أنه كان موجوداً فيالكوفه. قال الطبري في تاريخه ( ج 6 ص 81 ) : « وفيها ـ يعني في سنة 40 ـ خرج عبد اللّه بن العباس من البصرة ولحق بمكة في قول عامة اهل السير. وقد انكر بعضهم وزعم انه لم يزل في البصرة عاملاً عليها من قبل امير المؤمنين علي عليه السلام حتى قتل وبعد مقتل علي حتى صالح الحسن ثم خرج حينئذ الى مكة ». أقول : ولا في البصرة والا لما تأخر جيش البصرة عن الحسن أحوج ما كان اليه في المدائن. وأيد ابن الاثير ( ج 3 : ص 166 ) ان عبد اللّه بن عباس فارق علياً في حياته.
والمظنون ان اتحاد الاخوين اباً وتشابه اسميهما كتابة هو الذي اثار الخطأ في نسبة القيادة لعبد اللّه. ووهم آخر فذكر قيادة المقدمة لقيس بن سعد. وكان قيس على الطلائع من هذه المقدمة ، كما نص عليه ابن الاثير ، ولعل ذلك هو سبب هذا الوهم فلاحظ.
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس