صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 211 ـ 225
(211)


(212)
     ولعلنا لم نأت الى الان ، بشيء ينقع الغليل ، أو يقنع كدليل فيما يرجع الى فهم السرّ الذي تجافى به الحسن عليه السلام ، عن الشهادة قتلا ونزل منه الى قبول الصلح عمليا. وهنا نقطة التركز في قضية الحسن منذ حيكت من حولها الاقاويل الكثر ، والنقدات النكر. وليس في ما تتناوله بحوثنا في غضون هذه الدراسة الواسعة الخطوات ، موضوع أجدر بالعناية وبالكشف وبالتحقيق من هذا الموضوع ، بماله من الاهمية الذاتية القائمة بنفسه ، وبما هو « سر الموقف » الذي لم يوفق لازاحة الستار عنه أحد في التاريخ ـ مدى ثلاثة عشر قرنا ونيفا ـ !.
     ولكي نكون اكثر توفرا على الاخذ باسباب الغرض الذي نهدف اليه من هذا البحث ، نبدأ اولا بنقل تصريحات اشهر المؤرخين في الموضوع ، ثم نعود ـ بعد ذلك ـ الى غربلتنا الدقيقة للظرف القائم ساعة تسليم الحسن ، و الى نتائجنا من البحث.
1
    اليعقوبي في تاريخه :
     « وكان معاوية يدس الى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجه الى عسكر قيس ـ بعد هزيمة عبيدالله ابن عباس ومن معه ـ من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية و أجابه ، و وجه معاوية الى الحسن المغيرة بن شعبة وعبدالله بن كريز وعبدالرحمن ابن أم الحكم وأتوه وهو بالمدائن ، نازل في مضاربه ، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس : انّ الله


(213)
قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة وأجاب الى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في صدقهم ، فوثبوا بالحسن ، فانتهبوا مضاربه وما فيها ، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط ، وقد كمن الجراح ابن سنان الاسدي ، فجرحه بمغول (1) في فخذه ، وقبض على لحية الجراح ثم لواها ، فدق عنقه ، وحمل الحسن الى المدائن ، وقد نزف نزفا شديدا ، واشتدت به العلة ، فافترق عنه الناس. وقدم معاوية العراق فغلب على الامر ، والحسن عليل شديد العلة ، فلما رأى الحسن ان لا قوة له به ، وأن اصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له ، صالح معاوية .... ».
2
     الطبرى :
     « بايع الناس الحسن بن علي عليه السلام بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدمته ( كذا ) في اثنى عشر الفا وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن ، فبينا الحسن في المدائن اذ نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا ، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه السلام ، حتى نازعوه بساطا كان تحته وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن ، وكان عم المختار بن ابي عبيد عاملا على المدائن ، وكان اسمه سعد بن مسعود ، فقال له المختار وهو غلام شاب : هل لك في الغنى والشرف ؟ ، قال : وما ذاك ؟ ، قال : توثق الحسن وتستأمن به الى معاوية ، فقال له سعد : عليك لعنة الله ! ، أثبُ على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوثقه ، بئس الرجل انت !!. فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه ، بعث الى معاوية يطلب الصلح وبعث معاوية اليه عبدالله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس ، فقدما على الحسن بالمدائن ، فأعطياه ما أراد وصالحاه ».
1 ـ : ( نصل طويل ).

(214)
3
ابن الاثير في الكامل :
     « فلما نزل الحسن المدائن ، نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قتل فانفروا ، فنفروا بسرادق الحسن ونهبوا متاعه ».
     ( وساق حديث الطبري المذكور قبله ) ، ثم قال :
     « .. وقيل انما سلم الحسن الامر الى معاوية ، لانه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة ( كذا ) ، خطب الناس ، فحمد الله واثنى عليه وقال : انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم ، وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في مسيركم الى صفين ، ودينكم امام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. الا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره. أما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر. الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى الله عزوجل بظبا السيوف. وان اردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضا .. فناداه الناس من كل جانب : البقية البقية ، وأمض الصلح ».
4
ابن ابى الحديد في شرح النهج :
     « عن المدائني ، قال : ثم وجه عبدالله بن عباس ( كذا ) ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثنى عشر الفا الى الشام ، وخرج هو يريد المدائن فطعن بساباط وانتهب متاعه ، ودخل المدائن وبلغ ذلك معاوية فاشاعه ، وجعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبدالله يتسللون الى معاوية ،


(215)
الوجوه وأهل البيوتات ، فكتب عبدالله بن عباس بذلك الى الحسن عليه السلام ، فخطب الناس و وبخهم و قال : خالفتم أبي حتى حكَّم وهو كاره ، ثم دعاكم الى قتال أهل الشام بعد التحكيم ، فأبيتم حتى صار الى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه ، فحسبي منكم لا تعروني من ديني ونفسي. وأرسل عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب الى معاوية يسأله المسالمة ، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وان لا يبايع لأحد بعده ».
     المفيد في الارشاد :
     « وكتب جماعة من رؤساء القبائل الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ استحثوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره ، أو الفتك به ، وبلغ الحسن ذلك ، وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيدالله بن العباس عند مسيره من الكوفة ، ليلقى معاوية ويرده عن العراق ، وجعله أميرا على الجماعة. وقال : ان أصبت فالامير قيس بن سعد. فوصل كتاب قيس بن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بازاء مسكن ،وأن معاوية ارسل الى عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم ، يعجل له منها النصف ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الى الكوفة. فانسل عبيدالله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا اميرهم فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في أمورهم. فازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له ، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروا من السب والتكفير له واستحلال دمه و نهب امواله ، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصته من


(216)
شيعة أبيه وشيعته ، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح ، وانفذ اليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه ، فاشترط له على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة ، وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة. فلم يثق به الحسن وعلم باحتياله بذلك ، واغتياله ، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه ، وتسليمه الى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمه له ، وميله الى عدوه ، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الآجلة .. ».
     أقول :
     ثم لا تجد في أكثر الموسوعات التاريخية الاخرى ، عرضا يحفل بشيء من التفصيل عن قضية الحسن عليه السلام ، يشبه هذه العروض ، على ما بينها من تضارب في استعراض الحقائق التاريخية ، و على ما فيها من نقص في العرض و اختزال في التعبير.
     فيرى أحدهم ـ كما رأيت ـ ان الذي طلب الصلح هو الحسن ، ويرى الاخر أنه معاوية ، ويرى بعضهم ان سبب طلبه الصلح أو قبوله اياه هو فتن الشام في المعسكرين [ مسكن والمدائن ] ، ثم يختلفون في نوع الفتنة. بينما يرى البعض الاخر ان سبب قبول الصلح من جانب الحسن هو تفرق الناس عنه بعد اصابته ومرضه. ويرى ثالث منهم أن السبب هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته « بالبُقيَة البُقيَة » وقولهم له صريحا « وأمض الصلح ». ويرى الرابع ، ان فرار قائده وخيانة اصحابه واستحلال بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتال ، هو السبب لقبوله الصلح.
     ثم لا يزالون مختلفين في تسمية قائد المقدمة ، فيسميه أحدهم عبدالله ابن عباس ، ويسميه الثاني قيس بن سعد بن عبادة ، ويسميه الثالث عبيدالله


(217)
ابن العباس ...
     وما انكى النكبة التي تتعرض لها القضية التاريخية ، حين يخبط بها مؤرخوها هذا الخبط ، و يخلطون حقائقها بموضوعاتها هذا الخلط.
     ومرت المصادر الاخرى على هذه القضية ، مرورها على القضايا الهامشية في التاريخ ، دون أن تستفزها الاحداث الكبرى ، التي حفلت بها هذه الحقبة القصيرة من الزمن ، التي هي عهد الحسن في الخلافة الاسلامية العامة ، وعهد الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية ، وعهد انقلاب الخلافة الى الملك ، وعهد انبثاق الحزازات الطائفية في الاسلام.
     ولم يعن مؤرخو قضية الحسن من الصنفين ـ المفصلين والموجزين ـ بأكثر من الاشارة الى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن تشفع لدى الحسن بقبول الصلح أو تضطرَّه اليه ، فمن مذعن ساكت لا يبدي رأيا ، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير ، ومن ناقد جاهل خفي عليه « سر الموقف » فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير.
     ولم يكن فيما توفر عليه كل من الاصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الحسن عليه السلام ، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح [ أو قل ] ما يجيب بأسلوبه على السؤال المتأدب ، في عزوف الحسن عن « الشهادة » التي كانت ـ ولا شك ـ افضل النهايتين ، وأجدرهما بالامام الخالد.
     وكان الكلام على كشف هذا السرّ لو قدروا عليه هو نفسه الدليل الكاشف عن السبب الجوهري فيما صار اليه الامام من اختيار الصلح ، دون أن يحتاجوا الى جهد اخر في تعداد المحن أو استعراض المآزق الصعاب لان شيئا من ذلك لا يدلّ في عرف الناقمين ولا المستفهمين ، على انحصار المخرج بالصلح ، ولا يغلق في وجوههم ، احتمال ظرف الحسن للشهادة ،


(218)
    كما احتملها ظرف اخيه الحسين ، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها ، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه ، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح ، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم.
     اذاً ، فلماذا لم يفعل الحسن اولاً ، ما فعله الحسين اخيراً ؟.
     ألِجبُنٍ ـ واستغفر اللّه ـ وما كان الحسين بأشجع من الحسن جناناً ، ولا امضى منه سيفاً ، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة ، خُلُقاً ، وديناً ، وتضحيةً في الدين ، وشجاعة في الميادين ، وابنا أشجع العرب ، فأين مكان الجبن منه يا ترى ؟.
     أم لطمع بالحياة ، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ ، أن يؤثر الحياة ، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم ، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم ، والطليعة من ملوكها المتوجين ، وما حياة متنازل عن عرشه ، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد ، وترعرعت على التضحيات ؟.
     أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام ، فسالمه وسلم له ، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية ، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية ، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه ، وفي وجوب قتاله ، وفي عدم الشك في أمره ، وفي كفره اخيراً.
     فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة : « ودع البغي واحقن دماء المسلمين ، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به (1) ! .. ».
     ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح : « واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري (2) ».
1 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 12 ).
2 ـ احتجاج الطبرسي (151).


(219)
    ويقول في خطابه التاريخي في المدائن « انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم .. ».
     ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً : « علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة ، حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه « كفار » بالتأويل.
     اذاً ، فما سالم معاوية رضا به ، ولا ترك القتال جبناً عن القتال ، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة ، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح ، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين ، اذ كان للحسين محرجان ميسّران من ظرفه ـ الشهادة والصلح ـ ولن يتأخر افضل الناس عن أفضل الوسيلتين ، اما الحسن فقد اغلق في وجهه طريق الشهادة ، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه.
     وأقول ذلك وانا واثق بما أقول.
     وقد يبدو مستغرباً قولي [ أغلق في وجهه طريق الشهادة ] ، وهل شهادة المؤمن الذي نزل للّه عن حقه في حياته ، الا أن يقتحم الميدان مستقتلاً في سبيل اللّه ، تاركاً ما في الدنيا للدنيا ، وبائعاً للّه نفسه تنتاشه السيوف ، وتنهل من دمه الاسنة والرماح ، فاذا هو الشهيد الخالد. وكيف يغلق مثل هذا على مجاهدٍ له من ميدانه متسع للجهاد ؟. وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدوّ في « مسكن » ، فلماذا لم يخفَّ اليه ؟. ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدوّ فيه ، أو اقتحمه اقتحامة الموت ، يوم ضاقت به الدنيا ، فسدّت في وجهه كل باب الا باباً واحداً ؟. وانه لو فعل ذلك فبرز الى ميدانه مستميتاً ، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لاهدافه ، فانما كانوا ينتظرون منه كلمته الاخيرة لخوض غمرات الموت.
     نعم ، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم السلام ، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو ، فزادوا


(220)
الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس.
     ثم كان من طبيعة هذا اللغو ـ أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث ـ أن يرتجل الاحكام ، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف ، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.
     وسنرى بعد البحث ، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون ، كان أقرب الى الصواب ، وانفذ الى صميم السياسة.
     وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه ، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه.
    واذ قد انتهينا الآن عامدين ، الى مواجهة المشكلة في صميمها ، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات ، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها ، باستحضار حقائق ثلاث ، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد ، وعذر بعد نقمة ، وتعديل بعد تجريح.
     الاولى في بيان معنى الشهادة.
     والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في « المدائن ».
     والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن عليه السلام.
     وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب ، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا ، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً.
     1 ـ الشهادة في اللّه :


(221)
    وهي بمعناها الذي يصنع الحياة ، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر.
     وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه ، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
     فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد ، كان المسلم شهيداً.
     ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً.
     اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي ، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح ، فلا شهادة ولا مجادة ، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد ، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية ، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم ، مما يدخل في معنى الشهادة.
     وقتلة اخرى ، أضيع دماً ، وأبعد عن « الشهادة » معنى واسماً ، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره ، فيلقونه ارضاً. والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه ، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام ، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب : « لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا ».
     وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً ، وأبعد عن الشهادة اسماً ، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم ، كانت في ثورتها لحقها ، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها ، أولى عند الناس بالعذر .. « ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود » ـ على حد تعبير القفال الشافعي ـ.
     فعثمان ـ مثلاً ـ الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية ، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب ، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره. فلم يستطع التاريخ ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ ،


(222)
أن يسجلوا له « الشهادة » كما تقتضيها كلمة « شهيد ».
     أما ذلك العبد الاسود الفقير ، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة ، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [ جون مولى أبي ذر الغفاري ] ، فقد أرغم التاريخ على تقديسه ، لانه قتل في سبيل اللّه فكان « الشهيد » بكل ما في الكلمة من معنى.
     اذاً ، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها ، أن لا تكون الا في العظيم ، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت ، ان يكون شهيداً على كل حال.
     ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني ، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث.
     2 ـ صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن :
    علمنا مما سبق ـ وبعض الاعادة ضرورة للبحث ـ أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى « مسكن » ، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في « المدائن » كانت من أضعف الجيوش معنوية ، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام.
     وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن ـ ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى ـ ببوادر ثلاث ، كانت نذر الكارثة على الموقف.
     1 ـ أنباء الخيانة الواسعة النطاق في « مسكن ».
     2 ـ الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا ، لان قيس بن سعد ـ وهو القائد الثاني على جيش مسكن ـ قد قتل !.
     3 ـ فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام ، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن اجاب الى الصلح!.


(223)
    وفي هذا الجيش ـ كما قدمنا في الفصل (8) ـ ، أصحاب الفتن ، وأصحاب الطمع بالغنائم ، والخوارج ، وغيرهم ، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
     وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر ، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين ، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا ، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً ، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية ، فقال في آخر خطابه : « الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا ؟ ». فناداه الناس من كل جانب : « البقية البقية وأمض الصلح (1) ».
     أقول : وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح ، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!!. وليت شعري. فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس ؟.
     وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً ، بل « الفوضى » التي لن يستقيم معها ميدان حرب ، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم.
     وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام ؟!
     وعلى أيٍّ ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته.
1 ـ ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم ـ وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل.

(224)
    ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن عليه السلام من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك ، أنه كان لسان حال « الخوارج » ، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين. وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة ، أو يبعثونها من مرقدها ، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام ، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتى بلغ العظم!.
     وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء الحسن ومصلاه ، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر « أصحاب الطمع بالغنائم ».
     ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة « أصحاب الفتن » الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس !.
     وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين ، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم ، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات ، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم ، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم ، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية ـ كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني ـ فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم !!!
     وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس ، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره ، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل.
     تُرى ، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء ، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟.


(225)
    ولكي نزداد تحريّاً للاسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة ، ننتقل بالقارئ الى الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات.
     3 ـ خطة معاوية من أهداف الحسن (ع)
    ومات بموت عثمان لقب « الوالي » عن معاوية ، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك ، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي. وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه الحسن ( عليهما السلام ) لم يوّلياه ، فليس هو بالوالي ، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد ، فليس هو بالخليفة.
     اذاً ، فما معاوية بعد عثمان ؟.
     لا ندري.
     نعم ، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام ، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا ، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه ، وهذا اللقب هو « الباغي ».
     تُرى ، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة ؟.
     والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد ، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب ، أو محكوماً في « الشرع » بلقب الباغي ، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة ، رضي الشرع أو أبى. فهو الملك ـ بعد ذلك ـ على لسان سعد بن أبي وقاص ، وهو « الخليفة » و
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس