صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 256 ـ 270
(256)
    المحتملين ، أن يدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحرب وذيولها على الحسن والحسين وعلى من اليهما من أهل بيتهما وشيعتهما. ولا تدبير ـ يومئذ ـ للعذر من هذه البائقة الكبرى أروع من أن يلقي معاوية مسؤوليتها على الحسن نفسه ، ويقول للناس ـ غير كاذب ـ « اني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى الا الحرب ، وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه ... ».
     ولمعاوية من هذه اللباقة الرائعة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد (ص) تصفيته الاموية الاخيرة ، وهو اذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالانصاف ، الذي يشهد له على انصافه كل من كان قد أشهده ـ قبل الحرب ـ على ندائه بالصلح. أما الحسن عليه السلام ، فلم يكن الرجل الذي تفوته الرشاقة السياسية ولا الاساليب الدقيقة التي يبرع فيها عدوه للنكاية به. وانما كان ـ على كل حال ـ أكبر من عدوه دهاء ، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة اللّه وكلمة المصلحة معاً. فرأى من ظروفه المتداعية ، ومن سوء نوايا عدوّه فيما أراد من الدعوة الى « الصلح » ، ما استدعاه الى الجواب بالايجاب.
     ثم لم يكفه أنه قضى بذلك على خطط معاوية وشلها عن التنفيذ ، حتى أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء على خصومه باسم الصلح. وسيجيء في الفصول القريبة التوضيح اللائق بالموضوع.


(257)


(258)
    وروى فريق من المؤرخين ، فيهم الطبري وابن الاثير : « أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه » ، وكتب اليه : « أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت ، فهو لك (1) ».
     ثم بتروا الحديث ، فلم يذكروا بعد ذلك ، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها ، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسن عليه السلام ، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام ، فرض أنها [ النص الكامل لمعاهدة الصلح ] ، ولكنها جاءت ـ في كثير من موادّها ـ منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً ، وتزيدها عدداً.
    ولنا لو أردنا الاكتفاء ، أن نكتفي ـ في سبيل التعرّف على محتويات المعاهدة ـ برواية ( الصحيفة البيضاء ) ، كما فعل رواتها السابقون ، فبتروها اكتفاءً باجمالها عن التفصيل ، ذلك لان تنفيذ الصلح على قاعدة « اشترط ما شئت فهو لك » معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها ، بشتى شروطه التي أرادها ، فيما يتصل بمصلحته ، أو يهدف الى فائدته ، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه ، ولا شيء يحتمل غير ذلك.
     واذا قدّر لنا ـ اليوم ـ أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها ، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن ، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن ،
1 ـ الطبري ( ج 6 ص 93 ) وابن الاثير ( ج 3 ص 162 ).

(259)
     ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه ، كنتيجة قطعية لحرية الحسن عليه السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء.
     ورأينا بدورنا ، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرّف ما كتبه الحسن هناك ، أن ننسق ـ هنا ـ الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن على معاوية في الصلح ، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالاصح الأهم ، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة ، فوضعنا الصورة في مواد ، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها ، لتكون ـ مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل ـ أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه.
     واليك هي
صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان
    المادة الاولى :
    تسليم الامر الى معاوية ، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله (1) ( صلى اللّه عليه وآله ) ، وبسيرة الخلفاء الصالحين (2).
    المادة الثانية :
    أن يكون الامر للحسن من بعده (3) ، فان حدث به حدث
1 ـ المدائني ـ فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ـ ( ج 4 ص 8 ).
2 ـ « فتح الباري » شرح صحيح البخاري ـ فيما رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية ـ ( ص 156 الطبعة الاولى ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ).
3 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي ( ص 194 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 41 ) ، والاصابة ( ج 2 ص 12 و13 ) ، وابن قتيبة ( ص 150 ) ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي ( ج 3 ص 443 الطبعة الثانية ) وغيرهم.


(260)
    فلأخيه الحسين (1) ، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد (2).
    المادة الثالثة :
    أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة (3) ، وأن لا يذكر علياً الا بخير (4).
    المادة الرابعة :
    استثناء ما في بيت المال الكوفة ، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم ، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس ، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد (5).
    المادة الخامسة :
    « على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه ، في شامهم
1 ـ عمدة الطالب لابن المهنا ( ص 52 ).
2 ـ المدائني ـ فيما يرويه عنه في شرح النهج ـ ( ج 4 ص 8 ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ) ، والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهم.
3 ـ أعيان الشيعة ( ج 4 ص 43 ).
4 ـ الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ( ص 26 ) ، وشرح النهج ( ج 4 ص 15 ) وقال غيرهما : « ان الحسن طلب الى معاوية أن لا يشتم علياً ، فلم يجبه الى الكف عن شتمه ، وأجابه على أن لا يشتم علياً وهو يسمع ». قال ابن الاثير : « ثم لم يف به أيضاً ».
5 ـ تجد هذه النصوص متفرقة في الامامة والسياسة ( ص 200 ) والطبري ( ج 6 ص 92 ) وعلل الشرائع لابن بابويه ( ص 81 ) وابن كثير ( ج 8 ص 14 ) وغيرهم.
و ( دار ابجرد ) ولاية بفارس على حدود الاهواز. وجرد أو جراد : هي البلد أو المدينة بالفارسية القديمة والروسية الحديثة ، فتكون داراب جرد بمعنى ( مدينة داراب ).


(261)
    وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر ، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وأن لا يتبع احداً بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة (1) ».
     « وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا ، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه ، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وان لا يتعقب عليهم شيئاً ، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء ، ويوصل الى كل ذي حق حقه ، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا .. (2) ».
     « وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لاخيه الحسين ، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه ، غائلةً ، سراً ولا جهراً ، ولا يخيف أحداً منهم ، في أفق من الآفاق (3) ».
     الختام :
    قال ابن قتيبة : « ثم كتب عبد اللّه بن عامر ـ يعني رسول معاوية الى الحسن (ع) ـ الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه ، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه ، وختمه بخاتمه ، وبذل عليه العهود المؤكدة ، والايمان المغلَّظة ، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ، ووجه به الى عبد اللّه
1 ـ المصادر : مقاتل الطالبيين ( ص 26 ) ، ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 15 ) ، البحار ( ج 10 ص 101 و115 ) ، الدينوري ( ص 200 ) ، ونقلنا كل فقرة من مصدرها حرفياً.
2 ـ يتفق على نقل كل فقرة أو فقرتين أو أكثر ، من هذه الفقرات التي تتضمن الامان لاصحاب علي عليه السلام وشيعته ، كل من الطبري ( ج 6 ص 97 ) ، وابن الاثير ( ج 3 ص 166 ) ، وأبي الفرج في المقاتل ( ص 26 ) ، وشرح النهج ( ج 4 ص 15 ) ، والبحار ( ج 10 ص 115 ) ، وعلل الشرائع ( ص 81 ) ، والنصائح الكافية ( ص 156 ).
3 ـ البحار ( ج 10 ص 115 ) ، والنصائح الكافية ( ص 156 ـ ط. ل ).


(262)
    ابن عامر ، فاوصله الى الحسن (1) ».
     وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق اللّه عليه من الوفاء بها ، بما لفظه بحرفه :
     « وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك ، عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء ، وبما أعطى اللّه من نفسه (2).
     وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 ـ على أصح الروايات ـ.
1 ـ الامامة والسياسة ( ص 200 ).
2 ـ البحار ( ج 10 ص 115 ).


(263)


(264)
    لتكن صيغة المعاهدة بما لولوت عليه من عناصر موضوعية لها أهميتها في الناحيتين الدينية والسياسية ، شاهداً جديداً على ما وفّق له واضع بنودها من سمو النظر في الناحيتين جميعاً.
     ومن الحق ان نعترف للحسن بن علي عليهما السلام ـ على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل اليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه ـ بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدّر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها ، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين. ولن يكون الحرمان يوماً من الايام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان ، دليلاً على ضعف أو منفذاً الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير وسموّ الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.
     وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل. وها هي ذي من لدن هذا الرجل العظيم تستجدّ ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر ، القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه في هذه المعاهدة من خطوط ، وبما تستقبل به خصومها من شروط.
     وانك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس ، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافاً ، ولم يتناوله تفاريق وأجزاءً ، وانما وضع الفكرة وحدة متماسكة الاجزاء متناسقة الاتجاهات. وتوفر فيها على تحرّي أقرب المحتملات الى التنفيذ عملياً ، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي ، وفي


(265)
سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه ، وتيسير شؤون أسرته وحفظهم ، واعتصم فيها بالامان لشيعته وشيعة أبيه وانعاش أيتامهم ، ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم أمناء على مبدئه وانصاراً مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه ، يوم يعود الحق الى نصابه. وسلّم فيها « الأمر » الى معاوية مشروطاً بالعمل على سنّة النبي (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين ، فقلص بذلك من نفوذ عدوه في « الأمر » بما عرضه ـ من وراء هذا الشرط ـ للمخالفات التي لا عدَّ لها ولا حدَّ لنقمتها ، وهو اذ ذاك اعرف الناس بمعاوية وبقابلياته الخلقية تجاه هذا الشرط.
     والمعاهدة ـ بعدُ ـ هي الصكّ الذي وَقّعه الفريقان ليسجلا على أنفسهما الالتزام بما أعطى كل منها صاحبه وبما أخذ عليه. وهي هنا ـ على الاكثر ـ قضية « ماديَّات » محدودة لجّ في تحصيلها أحد الفريقين لقاء « معنويات » لا حدَّ لها استأثر بها الفريق الثاني.
     فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن (ع) ، الا للاستيلاء على الملك ، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض ، وليحفظ شيعته من الابادة ، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية.
     ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزى هذه المعاهدة الا على هذا الوجه.
     ولكي نتبين صحة هذا التفسير لاهداف الفريقين يوم صلحهما ، علينا ان نتحلل هنا في سبيل الكشف عن حقيقة تاريخية لها أهميتها ، من التعبّد بأقوال المؤرخين وبتصرفاتهم ، وأن نرجع توّاً الى التصريحات الشخصية التي فاه بها كل من المتعاقدين أنفسهما ، فيما يمت الى عناصر اتفاقيتهما هذه ، أو فيما يلقي الضوء على تفسير ما يفتقر الى التفسير منها. ولعلنا سنصل من وراء هذا الاسلوب في طريقة الاستنتاج ، الى حل شيء كثير من الرموز التي استعصى حلها على كثير من الاصدقاء في التاريخ.


(266)
     1 ـ تصريحات الفريقين :
    ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح ، فيما يمتّ الى معاهدته مع الحسن عليه السلام قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير (1) : « رضينا بها ملكاً » ، وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة ـ قبل الصلح ـ فيما كان يراسل به الحسن : « ولك أن لا يستولى عليك بالاساءة ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر (2) ».
     ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية : « ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس ». وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو احد رؤساء شيعته في الكوفة : « ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل (3) » ، وما قاله في خطابه ـ بعد الصلح ـ : « أيها الناس ان اللّه هداكم بأوّلنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وقد سالمت معاوية ، وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين (4) ».
     وليس في شيء من هذه التصريحات ولا في الكثير مما جرى على نسقها ، سواء من معاوية أو من الحسن عليه السلام ، ما يستدعينا الى الالتواء في فهم العقد القائم بينهما ، الذي لم يقصد منه الا الاهداف التي أشرنا اليها آنفاً. فلمعاوية طموحه الى الملك ، وللحسن خطته في حماية الشيعة من القتل ، وصيانة المبادئ الدينية التي هي خير مما طلعت عليه الشمس ، والمسالمة الى حين.
     ولا بدع ـ بعد هذا ـ في تقرير هذه الحقيقة على واقعها ، وفي التنبيه الى جنف كثير من المؤرخين فيما حرّفوا من أهداف كل من المتعاقدين ، وفيما أساءوا فهمه من نصوصهما. ولقد ترى ، ان المعاهدة نفسها
1 ـ في تاريخه ( ج 6 ص 220 ).
2 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 13 ).
3 ـ الدينوري ( ص 203 ).
4 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 192 ).


(267)
وتصريحات المتعاقدين أنفسهما ، لم تنبس قط ، بذكر بيعة ولا امامة ولا خلافة. فأين اذاً ، ما يدعيه غير واحد من هؤلاء المؤرخين وعلى رأسهم ابن قتيبة الدينوري ، من أن الحسن بايع معاوية على الامامة !! ..
     وقبل الانتقال الى مناقشة هذا الموضوع ، أو مناقشة القائلين به نتقدم بتمهيد عابر عن نسبة الخلافة الاسلامية الى معاوية بن أبي سفيان ، وامتناع البيعة الشرعية لمثله ، فنقول :
     معاوية والخلافة :
    لقد مرّ فيما ذكرناه بين أطواء المناسبات الآنفة ، أن خلافة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الاسلام لا ينبغي ان تكون الا في أقرب المسلمين شبهاً به في سائر مزاياه الفضلى ، وانه ليس لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء في هذا الامر ( كما قاله عمر ) ، وأن الخلافة بعد رسول اللّه ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً ( الحديث كما صححه أهل السنة ) ، وأن لا امامة الا بالنص والتعيين ( كما عليه الشيعة والمعتزلة ) ، وأن الغلبة والقوة لا تجعل غير الجائز جائزاً ، فلا يصح أخذ الخلافة عنوة ولا فرضها على المسلمين قسراً ، وأن الذي يكون خليفة النبي (ص) لا يمكن أن ينقاد ـ لا ظاهراً ولا سراً ـ الى مناقضته في أحكامه ، فيلحق العهار بالنسب ويصلي الجمعة يوم الاربعاء وينقض عهد اللّه بعد ميثاقه.
     ونزيد هنا : أن قادة الرأي في الامة الاسلامية منذ عهد معاوية والى يوم الناس هذا ، لم يفهموا من استيلاء معاوية على الامر ، معنى الخلافة عن رسول اللّه (ص) بما في هذا اللفظ من معنى ، رغم الدعاوة الاموية النشيطة التي تجنّد لها الخلفاء الاسميون من بني أمية ومن اليهم ، زهاء الف شهر ، هي مدة حكمهم في الاسلام ، أنفقوا فيها الرشوات بسخاء ، ووضعوا فيها الاحاديث والاقاصيص وفق الخطط والاهواء ، ثم بقي معاوية ـ مع كل ذلك ـ ملكاً دنيوياً وخليفة اسمياً لا اقلَّ ولا أكثر.
     دخل عليه ـ بعد أن استقر له الامر ـ سعد بن أبي وقاص فقال له :


(268)
« السلام عليك أيها الملك » فضحك له معاوية وقال : « ما كان عليك يا أبا اسحق لو قلت : يا أمير المؤمنين » ، قال : « أتقولها جذلان ضاحكاً ، واللّه ما أحب اني وليتها بما وليتها به (1) ».
     وقال ابن عباس لابي موسى الاشعري في كلام طويل : « وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة (2) ».
     وقال أبو هريرة في سبيل انكاره خلافة معاوية فيما يرويه عن رسول اللّه (ص) : « الخلافة بالمدينة والملك بالشام (3) ».
     وسئل سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ فيما أخرجه ابن أبي شيبة ـ عن استحقاق بني أمية للخلافة ، فقال : « كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرِّ الملوك ، وأول الملوك معاوية (4) ».
     وأنكرت عائشة على معاوية ادعاءه الخلافة وبلغه ذلك ، فقال : « عجباً لعائشة تزعم اني في غير ما أنا اهله ، وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق ، مالها ولهذا يغفر اللّه لها (5) ».
     وحضر أبو بكرة ( أخو زياد لامه ) مجلس معاوية ، فقال له : « حدثنا يا ابا بكرة » ، فقال [ فيما أخرجه ابن سعيد ] : « اني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك قال عبد الرحمن بن أبي بكرة : « وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتى أخرجنا (6) ».
1 ـ ابن الاثير في الكامل ( ج 3 ص 163 ) والنصائح الكافية ( ص 158 ).
2 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 7 ).
3 ـ ابن كثير ( ج 6 ص 321 ).
4 ـ النصائح الكافية ( ص 153 ـ طبع ايران ).
5 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 5 ).
6 ـ النصائح الكافية ( ص 159 ـ ط. أ ).


(269)
    وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلاً : « أي الخلفاء رأيتموني ؟ » ، فقال صعصعة : « أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً. أما واللّه ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى ، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير ، ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم. وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم. فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟! (1) ».
     ودخل عليه صديقه المغيرة بن شعبة ، ثم انكفأ عنه وهو يقول لابنه : « اني جئت من أخبث الناس !! (2) ».
     ولعنه عامله سمرة يوم عزله عن ولاية البصرة ، فقال : « لعن اللّه معاوية واللّه لو اطعت الله كما أطعته لما عذبني ابداً (3) ».
     وقال الحسن البصري : « أربع خصال كُنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها امرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقتله حجراً ، ويل له من حجر وأصحاب حجر ، ( مرتين ) (4) ».
     وأبى المعتزلة بيعة معاوية بعد الصلح ، واعتزلوا الحسن ومعاوية جميعاً ، وبذلك سموا أنفسهم « المعتزلة » (5).
1 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 7 ).
2 ـ مروج الذهب ( ج 2 ص 342 ) ، وابن ابي الحديد ( ج 2 ص 357 ).
3 ـ ابن الاثير فيما يرويه عنه في النصائح ( ص 9 ).
4 ـ الطبري ( ج 6 ص 157 ـ الطبعة الاولى ).
5 ـ كتاب التنبيه والرد على أهل الاهواء والبدع : لمحمد بن أحمد الملطي المتوفى سنة 377 هجري ( ص28 ).


(270)
    ثم مشى موكب الزمان بتاريخ معاوية ، فاذا به المثال الذي يضربه فقهاء المذاهب الاربعة ، للسلطان الجائر (1) ..
     واذا به الباغي الذي يجب قتاله برأي أبي حنيفة النعمان بن ثابت (2).
     فأين الخلافة المزعومة ، ياترى ؟.
     وجاء المعتضد العباسي ، فنشر من جديد فعال معاوية وبوائقه الكبرى وما قيل فيه ، وما روي في شأنه. ودعا المسلمين الى لعنه ، في مرسوم ملكي اذيع على الناس سنة 284 للهجرة (3).
     وقال الغزالي بعد ذكره لخلافة الحسن بن علي (ع) : « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق (4) ».
     وكان أروع ما ذكره به القرن السادس ، قول نقيب البصرة فيه : « وما معاوية الا كالدرهم الزائف (5) ».
     وصرّح ابن كثير بنفي الخلافة عن معاوية استناداً الى الحديث ، قال : « قد تقدم أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي ، فأيام معاوية أول الملك (6) ».
     وقال الدميري المتوفى سنة 808 هجري بعد ذكره مدة خلافة الحسن (ع) : « وهي تكملة ما ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم من مدة
1 ـ وذلك في اتفاقهم على جواز تقلد القضاء من السلطان الجائر ، استناداً الى عمل الصحابة في تقلدهم القضاء من معاوية.
2 ـ قال أبو حنيفة : « أتدرون لم يبغضنا أهل الشام ؟ ». قالوا : « لا ». قال : « لانا نعتقد أن لو حضرنا عسكر علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه ، لكنا نعين علياً على معاوية ، ونقاتل معاوية لاجل علي ، فلذلك لا يحبوننا ». يراجع النصائح الكافية لابن عقيل ( ص 36 ) فيما يرويه عن أبي شكور في كتابه « التمهيد في بيان التوحيد ».
3 ـ نجد نص المرسوم على طوله في تاريخ الطبري ( ج 11 ص 355 ).
4 ـ دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ( ج 3 ص 231 ).
5 ـ ابو جعفر النقيب ( ص 41 ـ طبع بغداد ).
6 ـ البداية والنهاية ( ج 8 ص 19 ).
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس