صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 271 ـ 285
(271)
الخلافة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً ثم تكون جبروتاً وفساداً في الارض ، وكان كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (1) ».
     وجاء محمد بن عقيل ـ اخيراً ـ فكتب كتابه الجليل « النصائح الكافية لمن يتولى معاوية » وهو بحق : القول الفصل في موضوع معاوية ، وقد طبع الكتاب مرتين ، فليراجع.
    وفي اباء التشريع الاسلامي مثل هذه الخلافة ـ أولاً ـ.
     وفي المخالفات الصلع التي ثبتت على معاوية للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ ثانياً ـ.
     وفي انكار قادة الرأي المسلمين عليه ـ في مختلف العصور الاسلامية ـ ادعاءه الخلافة ـ ثالثاً ـ ما يكفينا مؤنة البحث في موضوع ( معاوية والخلافة ).
     وكذلك كان الحسن نفسه بعد تسليم الامر لمعاوية ، صريحاً في نفي الخلافة عنه ، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين. فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة : « وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها اهلاً ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه ». وسيأتي ذكر خطابه هذا في [ الفصل 18 ] .
     وقال في خطاب آخر له ـ بعد الصلح ـ وكان معاوية حاضراً : « وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً ، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به ، وكان قد انقطع عنه ، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته ، فكان كما قال اللّه جل وعزّ : وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين (2) ».
1 ـ حياة الحيوان ( ج 1 ص 58 ).
2 ـ ذكرها البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج 2 ص 63 ) وذكرها غيره.


(272)
     2 ـ حديث البيعة :
    وجاء فيما يرويه الكليني رحمه اللّه ( ص 61 ) : « ان الحسن اشترط على معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين ».
     وجاء فيما يرويه ابن بابويه رحمه اللّه في العلل ( ص 81 ) ، وروا غيره أيضاً : « أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يقيم عنده شهادةً ».
     ولا أكثر مما تضمنته هاتان الروايتان تحفظاً عن الاعتراف بصحة خلافة معاوية فضلاً عن البيعة له. ولم يكن ثمة الا تسليم الملك الذي عبرت عنه المعاهدة « بتسليم الامر » وعبر عنه آخرون بتسليم الحكم.
     اما قول الدينوري في « الامامة والسياسة » أن الحسن بايع معاوية على الامامة ، فهو القول الذي يصطدم قبل كل شيء بقابليات معاوية التي عرفنا قريباً النسبة بينها وبين الخلافة وصلاحية البيعة على المسلمين ، ويصطدم ثانياً بتصريحات الحسن في انكار خلافة معاوية. سواء في خطابيه الآنفين ، أو في تحفظاته الواضحة في هاتين الروايتين.
     وهكذا دلّ الدينوري فيما مرَّ عليه من قضايا الحسن ومعاوية ، على تحيز واضح لا يليق بمؤرخ يعيش في القرن الثالث حيث لا معاوية ولا رشواته ولا دعاواته ، ولكنها الدوافع العاطفية التي لم يسلم من تأثيرها كثير من مؤرخينا المسلمين ... فقال مرة اخرى : « ولم ير الحسن والحسين طول حياة معاوية منه سوءاً في أنفسهما ولا مكروهاً ! ». اقول : وأي سوء يصاب به انسان أعظم من قتله سماً ؟. وأي مكروه ينزل بانسان أفظع من اغتصاب عرشه ظلماً ؟. فأين مقاييس الدينوري بعد هذا يا ترى؟
     ونحن اذ أردنا هنا ، ان نتعسف للمتسرعين الى ذكر البيعة عذراً أو شبه عذر ، حملناهم على التأثر بالدعاوات الكثيرة التي كانت لا تزال آخذة بالاسماع ، ولم يكن في التاريخ قضية أبرز من انتقال الحكم في الاسلام من سبط النبي نفسه ، الى طليق من الطلقاء المعروفين بتاريخهم القريب ، ولذلك


(273)
فقد بلغ الكلف بالمنكرين على الصلح حداً استساغوا به الاسترسال في ذيوله وحواشيه ، فحوَّروا ما كان ، وزوَّروا ما لم يكن. ومن هنا نسج الخيال حديث البيعة ، وكان في اللغط بهذا الحديث ـ المصطنع ـ غرض قويّ للقوة القائمة على الحكم بعد حادثة الصلح ، لأنه الدعامة التي تسند دعاوتهم باستحقاق الخلافة المزعومة ، الامر الذي تصايح المسلمون بانكاره لهم وانكارهم له ، منذ قال سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك وأول الملوك معاوية ».
     ثم جاءت السطحية الساذجة التي تقمصها اخواننا المؤرخون فيما جمعوه أو فيما فرّقوه من تاريخ الاسلام ، فمرّوا على هذه الاقصوصة المصطنعة كحقيقة واقعة ، وكان القليل منهم من وقف عن الفضول في الكلام ، وكان منهم من جاوز الحقيقة فخلط وخبط ، حتى نسب الى الحسن نفسه الاعتراف بالبيعة صريحاً !. وكان منهم من أوقعه الخلط والخبط في فرية وضيعة لا تجمل بمروءة الرجل المسلم فيما يكتبه عن سبط من أسباط نبيه العظيم (ص) ، فضلاً عن نبوها المكشوف بأمانة التاريخ ، فادّعى انه باع الخلافة بالمال !! ..
     ولسنا الآن بصدد الردّ على تقولات الافاكين.
     ولكننا اذ نبرئ حديث الصلح بواقعه الاول الذي رضيه الفريقان من قضية البيعة المزعومة ، لا نعتمد في التبرئة الا على الفهم الذي يجب ان يفهمه المسلم من معنى البيعة ومن معنى الامامة على حقيقتهما ـ هذا أولاً وأما ثانياً فلما مرّ عليك قريباً من روايات الحادثة ، ومن تصريحات ذوي الشأن في الموضوع.
     وما من حقيقة تتعاون على تقريرها مثل هذه الادلة فتبقي مجالاً للشك.
     وقديماً اعتاد الناس أن يرجعوا في كشف الوقائع الماضية الى اقوال المؤرخين القدامى ، ممن عاصر تلك الوقائع أو جاء بعدها بقليل أو كثير من الزمن. وكان من الجمود على هذه الطريقة ما أدى في الاجيال المتأخرة


(274)
الى مختلف الآراء وشتى التحزّبات ، بين المجتمع الواحد وفي الافق الواحد والدين الواحد ، ذلك لان مراجع هذا التاريخ أنفسهم ، كانوا يعيشون تحت تأثير آراء وتحزبات لا معدى لهم عنها في مثل عصورهم. ومن الصعب جداً أن يطيق كاتب ما يومئذ التحلل ـ فيما يكتب ـ من المؤثرات العاطفية التي تشترك في تكوينه أدبياً وفي تدوير أعماله ومصالحه اجتماعياً. ومن هنا كان هذا القلق الملموس ـ المأسوف عليه ـ في كثير من موضوعات التاريخ الاسلامي.
     ومن الحق أن نعتقد هنا ، بأن قصة « البيعة » التي طعنت بها قضية الحسن في صلحه مع معاوية ، انما كانت وليدة تلك المؤثرات التي كتب المؤرخون تحت تأثيرها تواريخهم ، فرأوا من الدعاوات المغرضة لتسجيل هذه القصة كحقيقة واقعة ما يحفزهم الى حسن الاحتذاء ، تطوعاً للمنفعة العاجلة أو جهلاً بالواقع ، ورأوا من التصريح « بتسليم الامر » في صلب المعاهدة ما يسوّغ لهم ـ أو قل ـ ما ييسر لهم التوسع الى ادعاء الاعتراف بالخلافة ، ثم الى ادعاء الانقياد بالبيعة !!. وخفي عليهم ان الخلافة ـ بما هي منصب الهي ـ لا يمكن ان تنقاد الى مساومة أو تسليم ، ولا يمكن ان تمسها الظروف الزمنية في « صلح » أو « تحكيم ».
     ولكي نزداد بصيرة في تفهم معنى « تسليم الامر » الوارد في المادة الاولى من معاهدة الصلح ، علينا أن نرجع الى طريقتنا في استنتاج الحدّ بين هزل المؤرخين فندرس على المتعاقدين أنفسهما تفسير هذا المجمل من حيث التقييد والاطلاق.
     3 ـ تسليم الامر :
    علمنا ـ مما تقدم ـ أن معاوية قال لابنه يزيد ، وهو يشير الى أهل البيت عليهم السلام : « ان الحق حقهم ».
     وعلمنا انه كتب الى الحسن في التمهيد للصلح « ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر ».


(275)
    وعلمنا أنه قال بعد الصلح : « رضينا بها ملكاً ».
     وعلمنا أنه خطب على منبر الكوفة يوم وصوله اليها. فقال : « اني لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا .. وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ».
     وعلمنا أن الحسن بن علي أنكر عليه الخلافة وجاهاً ، فسكت ولم يرد عليه.
     فلنعلم اذاً ، بأن معاوية حين رضيها ملكاً نفاها عن نفسه خلافة ، وحين قال : « لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا .. » دل على أنه ليس خليفة دين ، ولكنه ملك دنيا لا همَّ له في صلاة ولا زكاة ، وانما كل همه في التأمر على الناس. وهو حين يقول للحسن : « لا تقضى دونك الامور » ويقول لابنه : « ان الحق حقهم » ، يعترف للحسن بالمقام الاعلى وبالسلطة التي لا تعصى في أمر. وما ذلك الا مقام الخلافة فحسب. وكان لابد لمعاوية أن يسكت ـ والحال هذه ـ حين يصارحه الحسن بانكار خلافته ، ويكذبه على ادعائها بغير استحقاق.
     فأين من هذا ، تسليم الخلافة الذي فسّروا به تسليم الامر ؟.
     وشيء آخر ، قد يكون في مغزاه أدق دلالة على اعتراف معاوية ببراءته من استحقاق الخلافة ، وذلك هو ضحكته المخذولة لسعد بن أبي وقاص يوم دخل عليه وقال له : « السلام عليك ايها الملك » ، ولم يقل يا امير المؤمنين ، فقد كانت هذه الضحكة بلغتها المبطنة ، صريحة بالاعتراف بالخطأ اذ يريد أن يأخذ الخلافة لقباً من غنائم الحرب ، لا واسطةً بين المسلمين ونبيهم (ص) ، وبهذا استحق من سعد ، وهو الرجل الذي لا تغلبه مداورات معاوية ، أن يقول له : « واللّه ما أحب أني وليتها بما وليتها به » ، يعني أنه كان يترفع عنها لقباً ينبت على الدماء المحرمة ، والفتن السود ، والعهود الخائسة.
     وترى ـ على هذا ـ أن سعداً لم يفهم من تسليم الامر الا تسليم الملك وهو ما يجب أن يفهمه كل من فهم لغة القرآن في الخلافة ، أو لغة الفريقين


(276)
المتعاقدين في المعاهدة. ولما مرّ البحاثة الاسلامي الجليل السيد أمير علي الهندي رحمه اللّه ، على ذكر هذا الصلح عبّر عنه « بالتنازل عن الحكم (1) ».
     وكان فيما قاله الحسن عليه السلام في سبيل التعبير عن صلحه مع معاوية جواباً لبعضهم : « لا تقل ذلك يا أبا عامر ، لم أذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك (2) ».
     وقال لآخر : « أضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي به (3) ».
     وهكذا نجد الفريقين ـ الحسن ومعاوية ـ يتفقان على أن الحرب التي زحفا اليها بجيوشهما ، انما كانت حرباً على الملك. ومعنى ذلك أن الصلح الذي اتفقا عليه في معاهدتهما ، انما كان صلحا على الملك ، لانهما يصطلحان اليوم على ما تنازعا عليه أمس. وليس في وجهة النظر القائمة بين الاثنين في خلال هذه التصريحات ولا يوم صلحهما ، ذكر للخلافة تسلّماً ولا تسليماً.
     ثم نجدهما يتفقان في هذه التصريحات ، على ايثار أحدهما دون الآخر بالمركز الذي لا تقضى دونه الامور .. وهو المركز الذي سوّغ للحسن أن يقول عن معاوية كما لو قلده عملاً من اعماله وهو اذ ذاك حاضر مجلسه : « انه أعرف بشأنه وأشكر لما ولّيناه هذا الامر (4) » يعني امر الملك.
     أقول : وكم هو الفرق بين هذا المركز وبين ما توهمه المتحذلقون من حديث البيعة أو من تفسير تسليم الامر بتسليم الخلافة ؟.
     وكانت فيما نظن غلطة سبق اليها كاتب عن قصد ، ثم أخذها عنه
1 ـ مختصر تاريخ العرب والتمدن الاسلامي ( ص 61 ).
2 ـ ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) ، واعيان الشيعة ( ج 4 ص 52 ) ، والمستدرك للحاكم.
3 ـ الاصابة ( ج 2 ص 12 ).
4 ـ المحاسن والمساوئ للبيهقي ( ج 1 ص 64 ).


(277)
كتّاب عن غير قصد ، واندست على مثل هذا الاسلوب اخطاء كثيرة في التاريخ ، شوّهت من حقائقه وبدلت من روعته وضاعفت من جهد الباحثين فيه ، ثم اذا أنت عُنيت بموضوعك فدققت مراجعه ، رأيته لا يرجع الا الى أصل واحد ، ثم اذا محصت الاصل رأيته لا يرجع الى أصل !.
    هذا ، واما الخلافة الاسمية ، فلا خلاف فيها على معاوية ولا على أحد من هؤلاء المتنفذين الذين ادعوها لانفسهم ، أو غزوها بسلاحهم ، أو ورثوها من الغزاة والمدّعين.
     واذا صح في عرف المجتمع الذي بايع معاوية ، أو بايع أحد هؤلاء ، ان ينتزع من الادعاء أو قوة السلاح « خلافة » فلا مشاحة في الاصطلاح.
     وليكن معاوية ـ على هذا ـ خليفة النفوذ والسلطان ، وليبق الحسن بن علي خليفة النبي وشريك القرآن.
     وليكن ما ورد في بعض النصوص ـ على تقدير صحة السند والامن من التحريف ـ تطبيقاً عملياً لاستعمال الكلمة في مصطلحها الجديد !.
    4 ـ مصير الامر بعد معاوية
    ولم يعهد في كتب معاوية الى الحسن فيما كان يراسله به في سبيل التمهيد للصلح ، كتاب يغفل تعيين المصير الذي كان يجب أن يرجع اليه الامر من بعد معاوية. وهو اذ يطلب من الحسن في هذه الرسائل تسلم الامر محدوداً بحياته ، يقول في بعضها : « ولك الامر من بعدي (1) » ويقول في بعضها الآخر : « وأنت اولى الناس بها (2) ».
     وهكذا جاء النص في المعاهدة.
     وهكذا فهم الناس الصلح ، انتزاعاً للسلطة محدوداً بعمر معاوية
1 ـ و 2 ـ ابن ابي الحديد في شرح النهج ( ج 4 ص 13 ).

(278)
الذي كان يكبر الحسن زهاء ثلاثة عقود ، فكان من المتوقع القريب أن يسبقه الى الموت ، وأن يعود الحق الى نصابه ، والحسن بعدُ في أوائل كهولته أو اواخر شبابه ، لولا أن للخطط الجهنمية حساباً لا يخضع للمقاييس !!.
     وظلت المادة الصريحة باستحقاق الحسن الامر بعد معاوية ، أبرز مواد المعاهدة في المجتمعات الاسلامية ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس ، مدى عقد كامل من السنين. ثم طغت عليها الدعاوات العدوة ، وأخذها حملة الاخبار الى مصانعهم الجديدة ، فبدلوا من معالمها وغيروا من حقائقها ، وصاغها بعضهم بقوله : « ليس لمعاوية أن يعهد الى أحد ». وتلطف آخر بها من عنده فقال : « ويكون الامر بعده شورى بين المسلمين ». ـ أما الصادقون فرووها على حقيقتها. وفات المؤرخين المحترفين ، أن صرف الحقيقة عن واقعها في هذا النص ، لن يجديهم في صرف الواقع عن حقيقته في مرحلة التطبيق ، فلم يكن من المحتمل عادة ، أن يتجاوز المسلمون ـ في شوراهم أو في غير شوراهم ـ ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لو قدر له أن يكون حياً يوم يموت معاوية ، وقدّر للمسلمين أن يختاروا الخليفة أحراراً ، أو يتشاوروا أمرهم مختارين. فالروايتان ـ الصحيحة والمحرفة ـ بل الصور الثلاث المزعومة للرواية الواحدة ، تتحد عملياً ما دام الحسن حياً.
     اذاً ، فلماذا التهرب من أمانة التاريخ الا أن يكون تعاوناً رخيصاً مع السلطة القائمة على التمهيد لبيعة يزيد ؟!!.
     وخيل للمؤرخ البارع الذي الغى التعيين الصريح ، ونقل الامر الى الشورى ، أنه أحسن اتخاذ الاسلوب للوضع والتحريف ، وخفي عليه ، أنه لم يزد فيما هدف اليه على صاحبه الذي الغاهما معاً ، وذلك لان الشورى التي عناها لا تكون في انتخاب الخليفة ، وانما تكون في الشؤون التي يديرها الخليفة أو رئيس المسلمين من أمورهم ، وهكذا كان تشريعها الاول يوم


(279)
قال سبحانه « وشاورهم في الامر » ، وعلى ذلك مدحهم بقوله تعالى « وامرهم شورى بينهم ».
     والآية في نفي الرئاسات التي جعلها الناس ، أصرح منها في فرضها على الناس.
     وليس فيما توهمه هذا المؤرخ أو توهمه آخرون ، من الاستناد الى الكتاب في قضية الانتخاب الا الوهم ـ ولذلك فان عائشة لما أرادت الدعوة الى الشورى لم تنسبها الى اللّه عزّ وجل وانما نسبتها الى عمر بن الخطاب ولو وجدت في نسبتها الى اللّه سبيلاً لما تأخرت عنه لانه كان ـ اذ ذاك ـ أدعم لحجتها ، فقالت يوم دخولها البصرة : « ومن الرأي ان تنظروا الى قتلة عثمان فيُقتلوا به ، ثم يُردّ هذا الامر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب (1) ».
     واخيراً ، فان القرائن القطعية الكثيرة ، لا تقبل لهذا النص ـ موضوع البحث ـ الا الرواية الصريحة التي ذكرناها في المادة الثانية من صورة المعاهدة.
     أما اولاً ـ فلما دلت عليه كتب معاوية الى الحسن (ع) ـ كما أشير اليه قريباً ـ.
     واما ثانياً ـ فلأنها الانسب بشروط يضعها الحسن نفسه ـ كما نبهنا اليه في حديث ( الصحيفة البيضاء ).
     واما ثالثاً ـ فلأن رواتها أكثر ، وروايتها أشهر.
     واما رابعاً ـ فلما أشرنا اليه من ذيوع المادة الثانية بنصها الصريح مدة حياة الحسن عليه السلام ، حتى لقد كانت الشاهد في كثير من الخطب والاحاديث.
     فنرى سليمان بن صرد يشير اليها فيما يعرضه للحسن
1 ـ دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ( ج 4 ص 535 ).

(280)
    بعد الصلح. ونرى جارية بن قدامة يذكر لمعاوية حق الحسن بالأمر بعده كقرار معروف. ونرى الاحنف بن قيس يرسله ارسال المسلّمات ، في خطبته التي يرد بها على البيعة ، ليزيد ، وهو اذ ذاك يخاطب معاوية نفسه في حفل حاشد.
     قال : « وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليه مقصاً. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت ، ليكون له الامر من بعدك ، فان تفِ ، فأنت أهل الوفاء ، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً ، ان تدنُ له شبراً من غدر ، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق ، ما أحبوك منذ أبغضوك .. (1) ».
     الى كثير من الشواهد الاخرى التي يزهدنا في استيعابها رغبتنا في الاختصار.
     5 ـ بقية المواد
    ولقد ترى ـ الى هنا ـ بأن دراستنا للنقاط البارزة في مواد المعاهدة لم تتجاوز المادتين ـ الاولى والثانية ـ.
     اما المادة الثالثة ، فقد سبق في ( الفصل : 14 ) مناقشة معاوية في موضوعها كما يجب ـ فليراجع ـ ، وسبق في الكلام على حديث الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية الى الحسن عليه السلام ، ليكتب عليها ما يشاء من شروط ، ( في الفصل : 16 ) أن حديث هذه الصحيفة هو القرينة على ترجيح ما يكون من روايات المعاهدة أقرب الى صالح الحسن منه الى صالح خصومه ، وعلى هذا فالمادة الثالثة لا تعني الا الاطلاق في منع معاوية من شتم
1 ـ تجد تمام هذه الخطبة وذكر مصادرها في ( الفصل 20 ) عند ذكرنا طريقة التمهيد لبيعة يزيد.

(281)
    أمير المؤمنين علي عليه السلام ، سواء حضر الحسن أو غاب. ولا يؤخذ بما ألحقه بها بعض المؤرخين من اشتراط الامتناع عن السب بحال حضور الحسن واستماعه (1) ، ولا هو مما يتمشى مع روح الصلح اذا كان الفريقان في صدد صلح حقيقي وتفاهم دائم.
     وأما المادة الرابعة ، فلم تكن في حقيقتها الا استثناء متصلاً من الماديات التي اشترطت المعاهدة تسليمها لمعاوية. ومعنى ذلك أن المعاهدة سلمت لمعاوية ما أراد من الملك عدا المبالغ المنوّه عنها في هذه المادة ، فاستأثر الحسن بها لنفسه ولاخيه ولشيعته ، وكانت من حقوقه التي جعل له اللّه تعالى التصرف فيها. واختار من الخراج الحلال ـ فيما استثنى ـ أبعده عن الشبهات من الوجهة الشرعية ، وهو خراج دار ابجرد (2).
     اقول :
     وأين هذا التفسير مما تطاول به بعضهم من التحامل الجريء والافتئات البذيء ، على مقام الامام الحسن بن علي عليهما السلام ، حين أساء فهم هذه المادة فخلق من هذه الاموال ثمناً للخلافة ومن الحسن بائعاً ومن معاوية مشترياً. وان الاولى بهذا الفهم البليد ـ الذي هان عليه أن يتصور الثمن والمثمن كليهما من البائع ، ثم يدعي مع ذلك وقوع البيع ـ ان لا يتعرض فيما يكتب للموضوعات التي تكشف لقارئه بلادته ، فيسيء الى نفسه قبل أن يسيء الى موضوعه.
1 ـ قاله ابن الاثير ( ج 3 ص 162 ) ، وقال بعده : « ثم لم يف به أيضاً !! ».
2 ـ قال في الكامل ( ج 3 ص 162 ) : « وأما خراج دار ابجرد فان أهل البصرة منعوه ، وقالوا هو فيئنا لا نعطيه احداً ». قال : « وكان منعهم بأمر معاوية ايضاً !! ».


(282)
    وقد مرّ في معنى الخلافة ( لذاتها ) ، وفي قابليات معاوية للخلافة ما يكفينا القول باستحالة هذا الهذر ، ولا نعيد.
     واما المادة الخامسة ، فللفصول القريبة الآتية ما تحمله عنها :


(283)


(284)
    وكان طبيعياً أن يتفق الفريقان بعد توقيعهما الصلح ، على مكان يلتقيان فيه على سلام ، ليكون اجتماعهما في مكان واحد تطبيقاً عملياً للصلح الذي يشهده التاريخ ، وليعترف كل منهما على مسمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده. واختارا الكوفة ، فأقفلا اليها ، وأقفل معهما سيول من الناس غصت بهم العاصمة الكبرى ، وهم ـ على الاكثر ـ أجناد الفريقين ، تركوا معسكريهما وخفوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة. وللمرة الاولى تزخر عاصمة العراق بعشرات الالوف من أجناد الشام الحمر ـ مسلمين ومسيحيين ـ. ولهذين المعسكرين ـ الكوفة والشام ـ سوابقهما التي لا تعهد الهوادة في سلسلة العداوات التاريخية والوقائع الدامية ، منذ حوادث سلمان الباهلي وحبيب بن مسلمة الفهري ( على عهد عثمان بن عفان ) والى يوم الصلح هذا. فما ظنك يومئذ بحال الجندي الكوفي الثابت على الوفاء ، الذي قدّر له ان يلقي سلاحه تحت موجة طاغية من مكاء الجنود الشاميين وتصديتهم التي عجت بها أروقة المسجد الجامع ، الذي كان أسس على تقوى من اللّه.
     وكانت الفجيعة القاتلة للفئة المخلصة من أنصار أهل البيت عليهم السلام ، وللذين جهلوا من هؤلاء الانصار أهداف الحسن في الصلح ، أو جهلوا حقيقة الوضع بدوافعه التي اقتادت الحسن الى الصلح. أما الاكثرية الخائنة فقد مزقت الستار في يومها المنشود ، وظهرت على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار ، وشوهد بين جماهير الشاميين زُمَرٌ من الكوفيين يساهمونهم الفرح المغبون في مهرجاناتهم الباردة ، وانتصارهم


(285)
المغلوب !!.
     ونودي في الناس الى المسجد الجامع ، ليستمعوا هناك الى الخطيبين الموقعين على معاهدة الصلح.
     وكان لابد لمعاوية أن يستبق الى المنبر ، فسبق اليه وجلس عليه (1) ، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها الا فقراتها البارزة فحسب.
     منها ( على رواية اليعقوبي ) :
     « أما بعد ذلكم ، فانه لم تختلف أمة بعد نبيها ، الا غلب باطلها حقها !! » ـ قال : « وانتبه معاوية لما وقع فيه. فقال : الا ما كان من هذه الامة ، فان حقها غلب باطلها (2) !! ».
     ومنها ( على رواية المدائني ) :
     « يا أهل الكوفة ، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ؟ ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم ، وقد آتاني اللّه ذلك وانتم كارهون !. ألا ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين !!. ولا يصلح الناس الا ثلاث : اخراج العطاء عند محله ، واقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فان لم تغزوهم غزوكم ».
     وروى أبو الفرج الاصفهاني عن حبيب بن أبي ثابت مسنداً ، أنه ذكر في هذه الخطبة علياً فنال منه ، ثم نال من الحسن (3) !!.
1 ـ قال جابر بن سمرة : « ما رأيت رسول اللّه يخطب الا وهو قائم ، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه » رواه الجزائري في آيات الاحكام ( ص 75 ) ، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس.
2 ـ تاريخ اليعقوبي ( ج 2 ص 192 ).
3 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 16 ).
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس