111
كما أمر باعدام بعضهن (111) وطرد الكلاب وتعطيل الملاهي وترأس محكمة الاستئناف شخصياً ، ولم يكن المجتمع المسلم آنذاك يستقبل هذه الاجراءات بحماس خاصة بعد أن سمع الخليفة يقول أنه فعل ذلك غيرة على العباسيين لأنه لا يوجد بينهم من يسير سيرة عمر بن عبد العزيز (112) .
    والى جانب هذه الإجراءات قام المهتدي بخطوات احترازية لتثبيت حكمه منها ابعاد بعض الشخصيات العباسية خاصة ، طلحة بن المتوكل الذي عرف بـ « الموفق » منذ حصار بغداد والاطاحة بالخليفة « المستعين » .
    كما قام الخليفة باعتقال الامام الحسن العسكري الذي زج في زنزانة مع تأكيدات بمعاملته معاملة قاسية .. سلم الامام الى القائد التركي صالح بن وصيف الذي عهد بدوره الى شخصية دموية هي علي بن أوتامش المعروف بعدائه للعلويين وكان من المتوقع أن يقوم ابن أوتامش باغتيال الامام في غضون أيام ولكن عندما وجدوا أن ابن الرضا يعامل باحترام انتقدوا صالح بن وصيف الذي دافع بقوله :
    ـ وماذا تريدوني أفعل ؟ لقد سلمته الى رجل ليست في قلبه رحمة .. ولكن ابن أوتامش الآن لا يرفع رأسه اجلالاً له (113) !
    وفي ذي القعدة ساد التوتر سامراء بعد أن تأكدت الاخبار بأن موسى بن بغا قد أخلى جبهات القتال في ايران عائداً الى سامراء .


112
    حاول صالح بن وصيف وبالضغط على المهتدي ايقاف تقدم القادمين .
    كان عام 255 هـ يلملم أيامه الخريفية الأخيرة عندما عبرت قوات موسى بن بغا مرتفعات همدان ، فيما كان الثوار الزنوج وبعض القبائل البدوية تزحف باتجاه مدينة البصرة .. كما ظهر في تلك الآونة ثائر علوي في مصر (114) .
    وتزامن ذلك مع توقيف رئيس سلطة القضاء ابن أبي الشوارب بتهمة الفساد (115) .
    قوات موسى تتقدم باتجاه سامراء وترفض تأكيدات الخليفة بضرورة المرابطة في ايران ومواجهة ثورة الحسن بن زيد والوقوف بوجه يعقوب بن الليث الصفار الذي تفاقم خطره ، مما استدعى الخليفة الى أن يندد به أمام الملأ العام (116) .
    وفي يوم عاشوراء من سنة 256 هـ كانت فيالق موسى تتقدم من قصور الخلافة وهي على اهبة الاستعداد الكامل لخوض حرب مدمرة إضطر صالح بن وصيف الى الاختفاء عن الانظار في مكان ما ، فيما كان الخليفة قد ترأس شخصياً محكمة الاستئناف للفصل في شكوى رفعت ضد أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان واجبر الخليفة على مغادرة المحكمة الى قصر الجوسق الذي سقط في قبضة موسى واتخذه مقراً .
    في قصر الجوسق طولب الخليفة بالكشف عن مكان اختباء


113
صالح بن وصيف فأنكر الخليفة علمه بذلك ..
    تراطن القادة الاتراك فيما بينهم بالتركية وبرقت العيون وماهي سوى لحظات حتى اصبح الجوسق مسرحاً للنهب والفوضى واقتيد المهتدي مخفوراً صوب الكرخ حيث توجد معسكرات الجيش التركي ولكنهم في الطريق عدلوا به الى قصر القائد التركي « ياجور » . وسامراء تهتز لوقع الاحداث العاصفة ..


114
15
    العالم يموج بالفتن ، وسامراء غارقة في غمرة الأحداث العاصفة ما يزال صالح بن وصيف في مخبأه في مكان ما في سامراء فيما كانت دوريات من رجال الشرطة والجيش تجد في البحث عنه ، وبيانات تهدد بالويل والثبور كل من يساعده أو يمتلك معلومات تدل على مخبأه ثم لا يقدمها ..
    وفي 27 من محرم الحرام عثر على رسالة في قصر الجوسق أثارت اهتمام القادة الاتراك .. لقد كانت بخط صالح بن وصيف وفيها تبرير لاختبائه وأن مصير الأموال المصادرة لدى « ابن مخلد » وهو في قبضتكم .. قرئت الرسالة في حضور الخليفة الذي عقب عليها بدعوة الجميع الى المصالحة .
    تراطن الاتراك بلغتهم ثم قال موسى للخليفة بلهجة فيها تهديد واتهام :
    ـ انك تعلم بمكانه !!
    رد المهتدي مستنكراً :
    ـ ومن أين لي أن أعلم ذلك .. ثم من يكون صالح حتى أدافع


115
عنه ..
    عاد الأتراك الى تراطنهم وقد برقت العيون بالتآمر الذين يعرفون التركية ادركوا أن المهتدي سوف يخلع ويقتل وأن الخليفة القادم سيكون ابن المتوكل الذي توقفت محاكمته بسبب الاحداث الأخيرة .
    وتفاقمت الأوضاع وكانت السماء ملبدة بالغيوم ، وقد القي القبض على كل من له صلة بصالح بن وصيف للتحقيق معه والحصول على معلومات تفيد بالقبض عليه ..
    وفيما كانت الامور تتأزم كانت قوات من الخوارج تقتحم مدينة بلد الصغيرة جنوب سامراء وتعبث بها ، فاجتمع القادة الاتراك لدرء الخطر واعلنت حالة النفير ولكن مجلس القادة غير رأيه في اللحظات الأخيرة وتقرر عدم مغادرة سامراء إلا بعد حسم مسألة « صالح بن وصيف » وتم استخدام مجموعة من « العيارين » للقبض عليه .
    كانت رياح شباط تولول في أزقة سامراء التي باتت ترتجف من البرد والخوف .
    كل شيء يتزلزل ولم يعد هناك من ثبات .. كل شي يهتز تحت سنابل خيل الاتراك وشاء القدر أن يكشف النقاب عن مخبأ صالح بن وصيف ، وأن يلقى القبض عليه فيقتل دون محاكمة .
    وانطوى بذلك فصل مثير ، أعيد الخليفة الى قصره ، واستعد


116
موسى بن بغا الى منازلة الخوارج فزحف بقواته مصطحباً معه بايكباك الذي وقف الى جانبه اثناء الاحداث العاصفة في سامراء وخلال تلك الفترة افرج عن الامام الحسن العسكري فعاد الى منزله الذي يخضع الى رقابة مشددة .
    وفيما كانت دروب سامراء تهتز تحت سنابك خيل الدوريات ، كان هناك منزل في « درب الحصا » تغمره السكينة والسلام .
    ولج الامام الحسن السرداب بعد أن نزل عشرين درجة من سلم صخري ..
    المكان يزخر بالصمت لا يسمع فيه المرء سوى أصداء الانسان المقهور وهو يقف في المحراب في زمن يصلب فيه الانبياء .
    ليس هناك من سلاح يدافع فيه المرء عن نفسه سوى سلاح الانبياء .. وولج الانسان المقهور ملكوت الله يبثه لواعجه وهواجسه :
    ـ « احتجبت بحجاب الله النور الذي احتجب به عن العيون ..
    واحتطت على نفسي وأهلي وولدي ، ومالي وما اشتملت عليه عنايتي .. بسم الله الرحمن الرحيم ..
    واحرزت نفسي ، وذلك كله ، وما أخاف وأحذر بالله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم .. لا تأخذه سنة ولا نوم .. له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بأذنه .. يعلم ما بين أيديهم


117
وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء .. وسع كرسيه السموات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم .
    ومن اظلم ممن ذكر بآيات ربّه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه .
    إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن تدعهم الى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا ..
    أفرأيت من اتخذ الهه هواه ، وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ؟
    أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، واولئك هم الغفلون .
    واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، واذا ذكرت ربك في القرآن وحده ، ولوا على ادبارهم نفوراً .
    وصلى الله على محمد وآله الطاهرين » (117) .
    وفي مطلع رجب سنة 256 هـ حزيران 870 م ، وصل التوتر في سامراء ذروته ، وسمع الخليفة يتهدد الشيعة بالفناء كما تعرضت مدينة قم الى حملة اضطهاد واسعة مما دفع بعض زعاماتها للاستنجاد بالامام (118) .
    غير أن أحداً لم يستطع الاتصال بالامام الحسن بسبب


118
الرقابة الشديدة والحصار الذي عرض أسرة الامام الى ضائقة معاشية خطيرة .. ولكن عثمان بن سعيد العمري استطاع الاتصال متظاهراً ببيع السمن بعد أن احترف تجارة الزيوت تغطية لتحركاته 119 .
    وفي عصر يوم من أيام حزيران ، وفيما كانت أنباء التمرّد العسكري في الكرخ تقلق بال الجميع تسلم كافور الخادم بعض زقاق الزيت فيما وقف عثمان بن سعيد قرب الباب متظاهراً بانتظار أفراغ زقاق السمن .
    في قلب السمن وجدت صرار من النقود المسكوكة دراهم ودنانير كما وجدت رسالة قادمة من مدينة قم التي تعيش ظروفاً مأساوية منذ المذابح التي نفذها القائد الدموي « مفلح » (120) .
    استجاب الامام لرسالة الاستغاثة بأن وجه انظار أهالي قم الى القدرة المطلقة فسطر اليهم دعاءً مؤثراً جاء وثيقة إدانة لسياسات الحكم العباسي الغاشم كما كشفت عن تحليل عميق لوقائع ما يجري آنذاك (121) .
    في هدأة الليل انسابت الكلمات المنقوعة بالايمان الخالص والأمل الكبير فاذا هو دعاء يلتهب بحرارة الوجدان الانساني الذي يهتز لآلام المقهورين والمستضعفين .
    ـ الحمد لله شكراً لنعمائه ، واستدعاءً لمزيده ، واستجلاباً لرزقه ، واستخلاصاً له ..


119
    حمد من يعلم أن مابه من نعمائه فمن عند ربه .
    وما مسه من عقوبته فبسوء جناية يده ..
    اللهم ! انك ندبت إلى فضلك ..
    وأمرت بدعائك .. وضمنت الاجابة لعبادك ..
    وأي راحل رحل اليك ، فلم يجدك قريباً ؟؟
    « اللهم ! وقد قصدت إليك برغبتي ..
    وقرعت باب فضلك يد مسألتي ..
    وناجاك بخشوع الاستكانة قلبي .
    ووجدتك خير شفيع لي إليك ..
    وقد علمت ما يحدث من طلبتي قبل أن يخطر بفكري ..
    أو يقع في خلدي ..
    فصل اللهم دعائي إياك باجابتي .
    واشفع مسألتي بنجح طلبتي .. »
    « .. اللهم !
    وقد شملنا زيغ الفتن .
    واستولت علينا غشاوة الحيرة .
    وقارعنا الذل والصغار .
    وحكم علينا غير المؤمنين في دينك .
    وابتز أمورنا من عطل حكمك .
    وسعى في اتلاف عبادك .


120
    وإفساد بلادك .
    اللهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة .
    وإمارتنا غلبة بعد المشورة .
    وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة (122) .
    فاشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة .
    وحكم في أبناء المؤمنين أهل الذمة (123) ..
    وولي القيام بأمورهم فاسق كل قبيلة .
    فلا ذائد يذودهم عن هكلة .
    ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة .
    ولا ذو شفعة يشبع الكبد الحرى من مسغبة .
    فهم أولو ضرع بدار مضيعة .
    وأسراء مسكنة .
    وخلفاء كآبة ، وذلة » .
    أي ألم ينطوي عليه قلبك الكبير ياسيدي ؟!
    وأي هموم تموج بين جوانح صدرك ..
    يا أبا محمد ويا إبن محمد ..
    أي غضب مقدس يتفجر في أعماقك .
    كبركان يفور بحجم الثورة القادمة .
    ويتطلع الامام الى الغد الأخضر القادم .
    الغد الذي اطلّت تباشير انبلاجه :