المقدونية ، سنة 253 هـ 867 م (91) .
    وفي تلك الظروف العاصفة وصلت الفتاة مليكا بغداد وتسمت باسم نرجس امعاناً في اخفاء هويتها .. فهل كانت أميرة من أميرات الأسرة العمورية التي انتهى حكمها بعد الانقلاب العسكري ؟ أن المؤشرات التاريخية والجو العام لتلك الحقبة العاصفة يؤكد وجود قدر ما ساق تلك الفتاة لتكون زوجة لانسان كامل وأمّاً لأمل الملايين .. ملايين المعذبين والمقهورين ..
    كان شتاء سنة 255 هـ قارس البرد ، والرياح الشمالية تكاد تهتف بغزارة الثلوج التي غمرت الجبال والمرتفعات ، والاوضاع في سامراء تنذر بالخطر ..
    ولم تكن معاناة الامام الحسن لتقتصر على مضايقات المراقبة المكثفة الى حد الحصار وانما تتعداها الى مؤشرات كثيرة تفيد عن عزم الطغمة الحاكمة على اغتياله خاصة بعد تأكد الانباء عن وجود استعدادات لثورة خطيرة في جنوب العراق وقلاقل في الكوفة التي بدأت تتململ من حكم بريحة العباسي الذي اختير بعناية لقمع أي تحرك علوي وشيعي ، فبريحة حاكم عريق في الاجرام منذ تعيينه حاكماً على المدينة المنورة في عهد المتوكل وهو أول من حرض المتوكل سنة 233 هـ على اعتقال الامام علي الهادي (92) .
    انطوى الشتاء والاوضاع في سامراء تزداد تدهوراً بسبب


102
الاضطرابات والقلاقل وتسلط الطغمة الفاسدة على مقدرات البلاد وافلاس خزانة الدولة التي اصبحت نهباً مستباحاً لأم الخليفة وأعوانها السائرين في سياستها وظهرت بوادر الاستياء في صفوف القوات المسلحة بسبب عجز البلاط عن تسديد مرتبات الجنود والضباط الصغار فيما كان رئيس الوزراء ابن اسرائيل وأبو نوح وابن مخلد يكرعون الخمرة المعتقة ويعبثون بمقدرات الدولة الاسلامية (93) ..
    استحالت همسات الجنود إلى صيحات تطالب بدفع مرتبات الجيش التي تأخرت طوال فصل الشتاء .. وقد استطاع القائد العسكري صالح بن وصيف من تعبئة آلاف الجنود ضد الطغمة الحاكمة ..
    اليوم هو الخميس الثالث من جمادي الآخرة وقد انطوى شهر نيسان ، موكب رئيس الوزراء يصل قصر الخلافة ثم موكب أبو نوح النصراني وبعده ابن مخلد .. واعقب ذلك حضور الخليفة نصف نائم بالرغم من انتصاف النهار أما رئيس الوزراء ومعه صاحبيه فقد كانت عيونهم تشتعل جمراً بسبب حفلة ساهرة وعربدة حتى مطلع الفجر (94) ..
    لم يكن قد مضى وقت حتى وصل صالح بن وصيف مصطحباً قوة عسكرية كبيرة رابطت عند أبواب قصر الخلافة تحسباً للطوارىء ..


103
    أدى القائد التركي التحية للخليفة وقال دون مقدمات :
    ـ يا أمير المؤمنين أن الأتراك ينتظرون مرتباتهم .. والخزانة خاوية وابن اسرائيل ينهب الأموال هو وأصحابه .
    صرخ رئيس الوزراء :
    ـ يا عاصي يا ابن العاصي ! ومن أين نأتي بالأموال ؟!
    تدخل أبو نوح وهو يحاول تحريض المعتز فقال :
    ـ أنك تتآمر على الخليفة وتحرض الأتراك ضده .
    وفارت الدماء في عروق القائد التركي الذي اجتاحته نوبة عنيفة من الهستريا وهاجمت قواته القصر واقتحم الجنود الاتراك البلاط وفر المعتز إلى إحدى حجرات القصر فيما القي القبض على رئيس الوزراء وابن مخلد وأبو نوح فسيقوا إلى قصر صالح بن وصيف .. وهناك تم استجوابهم واتهموا بالخيانة واختلاس أموال الدولة ..
    كما تعرضوا للتعذيب للتوقيع على صكوك بالآف الدنانير ولكنهم امتنعوا عن ذلك لاعتقادهم بان « قبيحة » لن تقف مكتوفة الأيدي .. خاصة بعدما سمعوا بأنها وجهت انذاراً شديد اللهجة الى صالح بن وصيف الذي اقدم على تعيين ابن يزداد المروزي رئيساً للوزراء (95) .
    وبدأت جبهة الاتراك بالتعاظم مرة أخرى بعد تفاهم صالح بن وصيف وباكيباك بل ان المغاربة وقفوا الى جانب الاتراك واصبح


104
صالح بن وصيف الحاكم الفعلي للبلاد ..
    وفي تلك الفترة اعتقل الامام الحسن الذي عرفه الناس بالعسكري والخالص ، والصامت والتقي 96 ، وأودع سجناً خاصاً بعد تنامي المد الثوري بقيادة العلويين وما لبث إن اطلق سراحه تمهيداً لاغتياله ..
    وتفاقمت الأوضاع بسبب عجز الدولة عن دفع مرتبات الجيش ولم يجد الجنود آذناً صاغية من أحد ..
    كانت « قبيحة » تفكر في أن الوضع سوف ينقلب على صالح بن وصيف فالاتراك على كل حال لا يرتاحون إليه بسبب ما استحوذ عليه من الأموال الطائلة ولذا ارسلت على وجه السرعة مبعوثاً الى « موسى بن بغا » في ضواحي الري طلبت منه العودة بأسرع وقت ممكن .
    وبالرغم من الاخطار المحدقة لم ينس المعتز أن يوعز الى سعيد الحاجب الذي قام بتصفية المستعين في الطريق الى سامراء أن يقوم هذه المرة باصطحاب الامام الحسن الى الكوفة واغتياله في الطريق (97) .
    وطلب الامام الحسن من بعض أصدقائه الأوفياء عدم مغادرة منازلهم خلال تلك الفترة العاصفة (98) حيث الاجواء مشحونة بالمؤامرات ..
    لم يحصل الاتراك الغاضبون على شيء من وراء اعتقال


105
رئيس الوزراء وصاحبيه فاندفعوا الى القصر وطلبوا لقاء المعتز الذي رفض استقبالهم ، وعندئذ قرروا المرابطة عند البوابة والقيام بعمل ما .
    وتمكن صالح بن وصيف وباكيباك من دخول القصر وطلبا من المعتز دفع مبلغ خمسين الف دينار وحل الأزمة ، استقبل الخليفة القائدين بعد أن تعلل بان حالته الصحية لا تساعده ولذا استقبلهما في غرفة النوم .
    كان الوضع ينذر بالانفجار ولم يعد في مقدور أحد السيطرة على غضب الجيش والقوات المسلحة .
    كان يوم الجمعة 24 رجب 255 هـ شديد الحر وكانت شمس تموز تصب لهيبها (99) فتشتعل الأرض جمراً أما ساحات القصور المبلطة بالرخام فانها تستحيل الى جحيم لا يطاق .
    ساد القلق بعض أوساط الشيعة حول مؤامرة اغتيال الامام وتنفيذها في الطريق المؤدية الى الكوفة .
    وكتب بعضهم الى الامام حول ذلك فصدر توقيعه مطمئناً في رسالة موجزة : « الذي سمعتموه تكفونه » (100).
    وفي يوم الأحد 26 رجب استنجد المعتز بوالدته وطلب منها مبلغ خمسين ألف دينار لتهدئة الوضع المتفجر ... رفضت قبيحة طلب ابنها متعللة بأنها لا تملك هذا المبلغ وطلبت مهلة ريثما تصل إيرادات الدولة من الاقاليم .. ولكنها في الحقيقة كانت تعوّل


106
على عودة موسى بن بغا الذي أكد لمبعوثها أنه أوقف عملياته الحربية وسيعود الى سامراء على وجه السرعة (101) وفي يوم الاربعاء 29 رجب عبرت القوات المرابطة في كرخ فيروز الجسر ، وفرضت حصارها على قصر الخلافة وأخرج المعتز من غرفة نومه ممزق الثياب وترك حافياً في إحدى ساحات القصر تحت شمس تتشضى لهباً .. وطوال النهار كان الخليفة المهان يرفع رجله ليضع الأخرى فاصبح منظره المضحك تسلية للجنود الاتراك الذين ما انفكوا يخرقون ثيابه بالدبابيس (102) .
    وفي العصر اقتيد الى حجرة ليتلقى صفعات غليظة الى أن انهار باكياً يطلب خلعه ويتنازل عن الخلافة .
    استدعى ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء وتم اعداد وثيقة التنازل مقابل الحفاظ على حياته وحياة والدته وأخته ، وأشار صالح بن وصيف بيده موافقاً وقد أسكرته نشوة السلطة .
    وهكذا فرضت حراسة مشددة على قصر قبيحة ، اما المعتز فقد اقتيد ذليلاً الى قبو وهناك تعرض الى التعذيب ومنع عنه الطعام والماء ثم جصصوا باب السرداب وترك ليواجه مصيره .
    وفي نفس الليلة احضر محمد بن الخليفة الواثق وبويع بالخلافة ، فيما كان الاتراك يشربون انخاب النصر بعد أن أحكموا قبضتهم على دفة الحكم .


107
14
    ما إن وصلت الانباء بغداد حتى انفجر الوضع ووقعت حوادث شغب وذلك يوم الخميس 30 رجب ، واستمرت القلاقل حتى بعد الاعلان عن وفاة المعتز في الثاني من شعبان أي بعد خمسة أيام فقط من توقيعه وثيقة التنازل ، واندفع الاتراك الى نهب جميع ممتلكاته كما اقتحموا قصر والدته قبيحة للقبض عليها ولكنهم لم يجدوا سوى نفقاً رهيباً يمتد من مخدع النوم الى مكان خارج القصر (103) .
    واختفت قبيحة عن الانظار ، فانتشر رجال الشرطة للبحث عنها كما وضعت جوائز مغرية لمن يدل عليها أو يقدم معلومات تفيد في القبض عليها ، وأنذر الذين يساعدونها في الاختباء بأشد العقوبات ، وبالرغم من أن الشبهات قد بدأت تحوم حول منزل تقطنه احدى زوجات القائد العسكري موسى بن بغا (104) فوضع المنزل تحت المراقبة ولكن وصيفاً لم يتجرأ على التحارش خشية من انتقام « موسى بن بغا » الذي قرر العودة الى سامراء .
    وتفاقم الوضع مرة أخرى بسبب عجز الدولة عن تسديد


108
مرتبات الجنود المتأخرة ووقع صالح بن وصيف في مأزق حرج ولذا قرر اعدام ابن اسرائيل وعيسى بن إبراهيم أبي نوح بن مخلد ، لكن الأخير نجا بجلده بعد أن قدم اعترافات مذهلة حول وجود خطة لاغتيال صالح بن وصيف تقف من ورائها قبيحة ، ابن اسرائيل وعيسى بن ابراهيم ..
    وتعرض الرجلان الى تعذيب قاس وحاول وصيف دفعهما الى الكشف عن كنوزهما ولكنه اخفق ولم يستطع سوى ارغام ابن مخلد على تقديم جوهرة ثمينة قدرت باكثر من ثلاثين ألف دينار ..
    وفيما كان صالح بن وصيف يبحث عن طريق للخروج من أزمته تقدم اليه رجل يدعي أن لديه معلومات حول بعض كنوز قبيحة وعلى وجه السرعة أمر صالح بن وصيف « أحمد بن خاقان » اصطحاب الرجل والعثور على الكنوز المخبئة ..
    دخل أحمد بن خاقان بمعية الرجل قصراً من قصور الخلافة تعود ملكيته الى قبيحة وهناك راحا يبحثان في الغرف لم يكن هناك أثر لكنز وراح ابن خاقان يتهدد الرجل اذا لم يعثر على الكنز .. راح الرجل ينقر بالفأس على بعض الجدران ويصغي الى طبيعة الصوت الذي يصدر عنها حتى اذا سمع صوتاً خاصاً استدل منه على وجود شيء فهدمه واذا وراء الجدار الكاذب باب يؤدي الى نفق تحت القصر هو في الحقيقة قصر آخر واذا الرفوف تزخر بالاموال المكدسة مليون دينار ! اضافة الى مجوهرات يعرف لها ثمن ثم


109
قدرت فاذا هي تساوي مليوني دينار وعندما رأى صالح الكنوز سب قبيحة قائلاً :
    ـ قبحّ الله قبيحة عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها مثل هذه الأموال في خزانة واحدة من خزائنها 105 ؟!
    استطاع صالح السيطرة على الوضع المتفجر بتهدئة الاوضاع داخل الجيش ودفع مرتبات الجنود والضباط بالرغم من استحواذه على حصة الأسد من مجموع الأموال المصادرة ، ولذا قرر تنفيذ حكم الاعدام بكل من ابن اسرائيل وأبي نوح ، حيث جلدا حتى الموت ثم صلبا الى جانب « خشبة بابك » (106) .
    ويبدو أن الانباء قد وصلت « قبيحة » فقررت الظهور والاعلان عن مخبئها ووسّطت بينها وبين صالح « العطّارة » .
    وتم اللقاء .. كانت زوجة المتوكل التي اشتهرت بجمالها الساحر قد ارتدت أجمل الحلل فظهرة اكثر فتنة حتى صالح لم يملك نفسه أن ظل ينظر إليها مفتوناً .. وكانت المرأة الساحرة تحاول أن توقعه في شباكها كما أوقعت بالمتوكل من قبل ثم أصبحت زوجته الوحيدة .
    وأمر صالح باخلاء المكان ، ثم غابا في احدى حجرات قصره الكبير وفي اليوم التالي الذي يصادف الثلاثاء 11 رمضان وصلت بعض كنوزها أو خزائنها المخبئة في بغداد الى سامراء وعرضت خزائنها للبيع حيث استمر المزاد العلني عدة شهور .


110
    أما هي فقد وضعت تحت الاقامة الجبرية حتى حلول موسم الحج فطلب منها الانضمام الى إحدى قوافل سامراء وهكذا سيقت رغم أنفها الى خارج العاصمة فسمعت تصيح بهستيرية :
    ـ اللهم اخز صالح بن وصيف كما هتك ستري ، وقتل ولدي وبدد شملي ، وأخذ مالي ، وغربني عن بلدي ، وركب الفاحشة مني (107) .
    كل شيء يهتز في دنيا الاسلام لم يعد هناك من ثابت مقدس بعد أن عصفت الفتن في كل مكان (108) .
    وبدا الفارس برمحه الطويل الذي يتربع فوق القبة الخضراء ببغداد حائراً لا يدري أين يشير برمحه (109) ؟
    هل يشير الى تقدم قوات الصفار باتجاه العراق ؟ أم الى معارك الحسن بن زيد في « طبرستان » أو الى ثورة الزنوج في جنوب العراق ؟ أم الى بغداد التي انتفضت بوجه المرتزقة والصعاليك القادمين من خراسان الذين راحوا يعبثون في « مدينة السلام » ينتهكون الأعراض وينهبون البيوت ؟! أم الى القلاقل التي انفجرت في سامراء بعد أن تأزمت الأوضاع مرة أخرى ...
    واصبحت الحياة في كثير من مدن الاسلام تشبه حياة الجاحظ الذي اصيب بالشلل النصفي وهو الآن يلتقط أنفاسه الأخيرة قبل أن يودع الدنيا (110) .
    ووقعت خلال تلك الاسابيع حتى مطلع رجب بعض الحوادث منها قيام الخليفة ترحيل المطربين والمطربات ونفيهم الى بغداد ،