191
برغم الغيوم ..


192


193
26
    لم تشرق شمس اليوم الثامن من ربيع الأول وظلت غائبة وراء السحب الكابية التي تراكمت على امتداد الليل الشتائي الطويل .
    اليوم هو الأول من كانون الثاني من العام الميلادي الجديد « 874 » حدثت في الرواق حركة غير عادية عندما أعلن عقيد الخادم عن رحيل زعيم البيت العلوي الامام الحسن و استحال المنزل الواقع في « درب الحصا » الى خيمة تعصف بها الريح من كل مكان ..
    برقت عينا جعفر بالغدر و قد ضجّت في أعماقه المظلمة أصوات تشبه عواء ذئاب مجنونة ...
    ها هو يستيقظ على صيحات المأتم فهبّ كمن لسعته عقرب و راح يتصرف كالسيّد المطاع و ربّ المنزل .. وحاول جاهداً أن يضفي على نفسه مسحة من الوقار كإمام جديد للشيعة !
    ان جميع الظروف قد باتت مواتية ، فأخوه قد رحل عن الدنيا دون وصية ظاهرة ، و أذن فقد أصبح كل شيء له .. أنه الوريث الذي لن ينازعه أحد .. و لكن ماذا لو ظهر ابن أخيه ؟!


194
خامره أحساس بالقلق و سرعان ما تبدّد .. ان صبياً تبحث الجواسيس عنه لن يجرؤ على ذلك ..
    اتخذ جعفر مكانه في باب المنزل لاستقبال الوافدين من المعزّين .. سوف يصل زعماء كبار من البلاط و شخصيات بارزة في صفوف الشيعة وها هو يشعر بالانتشاء لأول تهنئة يتلقاها من الشيعة مصحوبة بكلمات عزاء رقيقة.. ها هو يهنأ لأول مرّة بالإمامة.. لقد أصبح إماما لطبقات واسعة من الناس !
    وصل « أبو الأديان » (177) درب الحصا وسمع من بعيد أصوات المناحة واذ ألفى جعفراً واقفاً في الباب يتلقى التعازي و التهاني همس في نفسه بأسى :
    ـ ان يكن هذا هو الإمام فقد بطلت الامامة إذن..
    كيف يصبح اماماً و هو يكرع كؤوس النبيذ و يقامر في قصر الجوسق و يلعب بالطنبور ؟!
    واضطر أبو الاديان الى مصافحته وتقديم التعازي و التهاني.. و عندما ولج المنزل رأى حشداً من المعزّين ، وقد برز فيهم عثمان بن سعيد وكيل الامام الراحل .. وكان واجماً غارقاً في حزن مرير ..
    و توهّجت في ذاكرة أبي الأديان البصري كلمات الامام الراحل في حقه في حضور وفد قادم من اليمن : « امض يا عثمان فانك الوكيل والثقة المأمون على مال الله » (178) فقال أحد أعضاء الوفد مخاطباً الامام :« يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتك ولقد


195
زدتنا علماً بموقعه من خدمتك ، و انه وكيلك و ثقتك على مال الله ؟
    فقال الامام عندها : نعم .. و اشهدوا على ان عثمان بن سعيد العمري وكليي ، و ان ابنه وكيل ابني .. مهديكم » (179).
    كان عثمان بن سعيد قد انتهى توّاً من مراسم تجهيز جثمان الراحل العظيم للصلاة عليه، و انتبه أبو الأديان الى صوت عقيد الخادم يخاطب جعفراً :
    ـ يا سيّدي قد كُفّن أخوك .. فقم للصلاة ..
    مرّت اللحظات حساسة .. كان جعفر يخطو باتجاه نعش أخيه.. سوف يكتسب جعفر باقامة الصلاة على الامامه امتيازاً كبيراً.. فهناك قناعة لدى عموم الشيعة في أن الامام لا يصلّي عليه إلاّ إمام!
    وقف جعفر قبال النعش استعداداً للصلاة .. و انتظمت خلفه صفوف المصلّين .. كان أبو الأديان واقفاً جنب عثمان بن سعيد في الصف الأول.. و كان جعفر على وشك التكبير .. عندما ظهر صبي بوجهه سمرة متموج الشعر.. تقدّم الصبي بخطى واثقة نحو جعفر و جذب رداءه قائلاً بصوت فيه حزم :
    ـ تأخّر يا عمّ ، فأنا أحق بالصلاة على أبي :
    اصفر وجه جعفر واربدّ وهو يتأخر واقفاً خلف الصبي الذي بدأ مراسم الصلاة على والده الراحل..


196
    ودمعت العيون للصوت الحزين يصلي على الراحل كان ذهن أبي الأديان متوتراً للمفاجأة ..
    انه يشهد أولى علامات الامام الحق .. لقد أخبره الراحل : ان الذي سيصلي عليّ هو الامام .. بقيت علامتان ..
    الأولى أن يطالبه الصبي بالرسائل الجوابية التي يحملها من المدائن ..
    تمت مراسم الصلاة والتفت الصبي الى أبي الأديان قائلاً :
    ـ يا بصري هات جوابات الكتب التي معك !
    لم يكن هناك مجال للشك ، وسلم أبو الأديان مجموعة من الرسائل الى الصبي الذي اتجه نحو ستائر إحدى الحجرات ليتوارى وراءها .. تقدم رجل نحو جعفر الذي ما يزال حانقاً .. أراد أن يحرجه أكثر فقال له متسائلاً :
    ـ يا سيدي من الصبي ؟!
    أجاب جعفر بحنق :
    ـ والله ما رأيته قط ولا أعرفه !!
    وارتسمت على وجه الرجل 180 ابتسامة ساخرة من هذا الذي يدعي ما ليس له .. وها هو يتراجع أمام صبي يبدو عليه أنه في التاسعة من عمره .. إنها قوة الحق التي لن يصمد أمامها جعفر وامثال جعفر حتى لو كان من ذرية الامام !


197
    كانت المفاجأة لا تزال تسيطر على بعضهم خاصة الذين رأوا الصبي لأول مرة ..
    وحدثت ضجة خارج المنزل .. لقد وصل أخو الخليفة وممثله في مراسم التشييع والصلاة الرسمية ..
    استقبل جعفر مبعوث الخليفة وأخاه أبا عيسى بن المتوكل الذي نقل تعازيه وتعازي الخليفة بالمناسبة ..
    وحمل النعش الذي ما كاد يغادر المنزل حتى استقبل بالبكاء والنحيب .. لقد رحل السلام .. رحل الانسان الطاهر .. كحمامة بيضاء شهيدة كان النعش المحمول يسير باتجاه المسجد الجامع مخترقاً الشارع الرئيسي المعروف بشارع أبي أحمد ..
    نسائم كانون الباردة تلفح الوجوه في يوم غائم كئيب .. وكانت مشاعر مزعجة من الاحساس بالغربة واليتم تغمر القلوب الحزينة لكأن الامام شمس تبعث الدفء والنور فإذا غاب غمرت الظلمات النفوس ..
    وتذكر الناس يوماً حزيناً قبل ستة أعوام يوم شيعوا والد هذا الانسان الطيب الذي وافاه الأجل وهو في ريعان الشباب ..
    وتساءل البعض في دهشة عن سر وفاته ؟! انه لم يشتك من علة قبل ذلك فما الذي حصل ؟! لقد اعتادت سامراء على هذه الظاهرة .. كثيرون لقوا حتفهم في ظروف غامضة !


198
    وضع النعش قريباً من جدران المسجد لاقامة الصلاة وتقدم مبعوث الخليفة وأخوه الى النعش وكشف عن وجه الراحل ليبدد هواجس قد تراود بعض الناس ويدفع شبهة الاغتيال عن الدولة فأعلن أمام شخصيات البيت الهاشمي من العباسيين والعلويين ، وقادة الجيش وكبار موظفي الدولة والبلاط قائلاً :
    ـ هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان .. والقضاة فلان وفلان ومن الاطباء فلان وفلان وراح يستعرض الشخصيات التي امضت الليالي الأخيرة في منزل الامام لأهداف غامضة .. ثم غطى باحترام وجه الراحل العظيم (181) .
    وأُقيمت الصلاة على الجثمان الطاهر ليحمل مرة أخرى ويعود الى المنزل الواقع في « درب الحصا » وهناك سيوارى الثرى الى جانب والده الراحل تنفيذاً لوصيته .
    وبدا ذلك اليوم الغائم اشبه بيوم القيامة (182) وقد حشر الناس ضحى فالأمواج البشرية تتدافع لتلمس النعش الطاهر تبركاً لكأنها تمد يداً تصافح رسول الله ..
    القلوب يغمرها الأسى وإحساس بالفجيعة يملأ صدور المؤمنين .. ويلج النعش منزل صاحبه وفاحت رائحة الثرى المعطور حيث سيرقد الامام الى جانب والده .. لقد وصلا معاً هذه


199
المدينة على قدر قبل ربع قرن فرحل الوالد قبل ستة أعوام والتحق به الإبن في هذا اليوم ..
    ان الذين يرون ما وراء الأفق البعيد سيرون مآذن تشق قلب التراب في هذا المنزل المبارك لتستحيل هذه البقعة الطاهرة الى مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً . والى واحة خضراء يتفيأ ظلالها الوارفة المتعبون في دورب الحياة والزمان .


200
27
    استمر المأتم وكانت رائحة طيبة تشبه رائحة الطين المعطور تفوح في فضاء المنزل .. الشمس ما تزال مستورة بالسحب بالرغم من أن قرصها المستدير قد بدا شفافاً يشبه القمر في لحظات الغروب وفي أصيل ذلك اليوم وصل وفد من مدينة قم يحمل معه رسائل من أهلها اضافة الى هميان يشتمل على الحقوق الشرعية التي يتوجب تسديدها الى الإمام أو من يوكله ..
    في حجرة السيدة نرجس جلست النسوة وكانت أم الحسن اكثرهن إحساساً بالفجيعة ، حتى ان المرء إذا رآها في تلك الحال سيحدس أنها لن تعيش بعد ابنها إلا أياماً معدودات أما السيدة نرجس فقد بدا وجهها سماء مثقلة بغيوم ممطرة .. عيناها تبحثان عن عزيز فقدته .. زوج كريم رحل وتركها وحيدة وولد طاهر تحمل أمانة كبرى وقرر خوض ملحمة الصراع المرير أمام أعداء لا يعرف لهم عدد .. حتى عمه جعفر غدر بهم .. انه لم يعد يرى شيئاً سوى نفسه وسوى اطماعه وحرصه وجشعه وتهافته على حطام الحياة الدنيا !