201
    تساءل أحد رجال الوفد عن الشخص الذي يقدمون اليه التعازي فأشير الى جعفر !!
    كانت آثار السفر ما تزال تبدو على أفراد الوفد وهم يصافحون جعفراً الذي رقص قلبه طرباً .. انه يدرك حجم ما معهم من الأموال التي سيقبضها هذا اليوم !
    تلقى جعفر بانتشاء تعازي القميين وتهنئتهم له بالإمامة ، ولم يستطع اخفاء إبتسامة صفراء باهتة ارتسمت على شفتيه .
    قال رجل حنكته التجارب :
    ـ إن معنا كتباً وأموالاً ..
    قال جعفر مستعجلاً :
    ـ هاتوها !
    قال الرجل بهدوء وحذر :
    ـ ألا تقول ممن الكتب ؟ وكم المال ؟
    ـ ومن أين لي أن أعرف ذلك ؟!
    رد الرجل :
    ـ هذه عادتنا مع أخيك رحمه الله .
    صر جعفر على أسنانه بغيظ .
    ـ تريدون منا أن نعلم الغيب .. أنتم تكذبون على أخي .
    إنتفض جعفر من مكانه وهو ينفض أثوابه .. وإنطلق صوب قصر الخلافة وقد استعرت في اعماقه حمى الغدر .. هذه أفضل


202
فرصة للقبض على الصبي الذي يقف في طريق تحقيق أحلامه المريضة .
    ما إن غادر جعفر المنزل حتى خرج من إحدى الحجرات فتى يرتدي زي الخدم وجاء إلى رجال الوفد قائلاً :
    ـ معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار .. عشرة منها مطلية بالذهب ..
    تبادل رجال الوفد نظرات ذات معنى وقال الرجل المحنك :
    ـ الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام (183) .
    وسلموا اليه الرسائل والهميان وغادروا المنزل بعد أن مكثوا قليلاً ..
    هبت رياح كانون باردة كقطيع من الذئاب ، وقد توارت الشمس وراء السحب وفي لحظة المغيب كان رجال الشرطة كذئاب غبراء تقتحم منزل الامام وتلقي القبض على السيدة نرجس التي نسيت كل آلامها واستعدت للمواجهة .
    طولبت السيدة بالصبي فانكرت أن يكون لها ولد .. وقامت بحركة ذكية عندما تظاهرت بأنها تعاني من الوحام ..
    أوقف قائد المفرزة رجاله عن التفتيش وأمر باقتياد السيدة الى بلاط الخليفة .
    وأمر الخليفة بتسليم المرأة الطاهرة الى القاضي ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء وقاضي سامراء لتكون تحت الرقابة


203
المشددة .. فقد تكون حاملاً وقد يحاول ابنها الاتصال بها فيلقى القبض عليه ..
    وشاء القدر أن يصل وفد آخر يضم رجالاً من أهل قم ومن مناطق الشمال الايراني المعروفة آنذاك بالجبل .. وبالرغم من مرورهم ببغداد إلا أنهم لم يسمعوا بخبر وفاة الحسن فقدموا سامراء ، ولم يكن قد مر على وفاة الامام الحسن سوى أيام ..
    وعندما سألوا عن سيدنا الحسن قيل لهم إنه فقد !
    فسألوا عن وارثه ؟
    قالوا :
    ـ أخوه جعفر بن علي !
    قال أحدهم :
    ـ فأين نلقاه ؟
    ـ خرج متنزها ، وركب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنّون !! أصيب الرجال بصدمة ، وتبادلوا نظرات حائرة ثم خلصوا نجيا قالوا هامسين :
    ـ هذه ليست من صفة الامام .
    قال أحدهم :
    ـ لنعد من حيث أتينا ونعيد هذه الأموال الى أصحابها .
    قال أبو العباس وهو رجل يمني نزحت اسرته الى قم :
    ـ لننتظر هذا الرجل ونختبر أمره !


204
    وانتظر رجال الوفد عودة جعفر من نزهته في دجلة .. حتى إذا عاد الى منزله دخلوا عليه قالوا :
    ـ يا سيدنا نحن من أهل قم .. ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها ، وكنا نحمل الى سيدنا أبي محمد الحسن الأموال .
    قال جعفر وقد سال لعابه :
    ـ وأين هي ؟
    ـ معنا .
    ـ احملوها الي إذن .
    ـ لا .
    ـ لا .. لماذا ؟!
    ـ ان لهذه الأموال خبراً طريفاً .
    وما هو ؟!
    ـ ان هذه الأموال تُجمع ، ويكون فيها من كافة الشيعة الدينار والديناران ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه ، وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد يقول : جملة المال كذا وكذا دينار من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا .. حتى يأتي على أسماء الناس كلهم ويقول ما على الخواتيم من نقش .
    زعق جعفر وادرك صعوبة هذا الامتحان :
    ـ كذبتم ... تقولون على أخي ما لا يفعله .. هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله تبادل الرجال نظرات فيها شك في أن يكون جعفر


205
اماماً .
    قال جعفر بفظاظة :
    ـ احملوا هذا المال اليّ .
    قال رجل يبدو عليه الوقار :
    ـ إنا قوم مستأجرون .. وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلاّ بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن فان كنت الامام فبرهن لنا ، وإلا رددناها الى أصحابها يرون فيها رأيهم .
    وبرقت عينا جعفر بالشر انه يعرف كيف ينتزع المال منهم ، فانطلق الى بلاط الخليفة مرة أخرى .. وسرعان ما القي القبض على رجال الوفد الذين سيقوا الى قصر الخلافة فامتثلوا أمام الخليفة الذي قال وهو ينظر اليهم بطرف خفي :
    ـ احملوا هذا المال الى جعفر !
    قال الرجل الوقور :
    ـ انا قوم مستأجرون .. وكلاء لأرباب هذه الأموال وهي أمانة لجماعة وأمرونا أن لا نسلمها إلاّ بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي .
    قال الخليفة مستفسراً :
    ـ فما كانت العلامة التي كانت لكم مع أبي محمد ؟
    قال الرجل الوقور :
    كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي .. فإذا فعل


206
جعفر ذلك سلمناها اليه .. وسكت لحظات ثم قال مشيراً إلى جعفر .
    ـ إن كان هذا الرجل صاحب الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه أخوه والا رددناها الى اصحابها :
    زعق جعفر :
    ـ يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون .. يكذبون على أخي .. وهذا علم بالغيب !
    قال الخليفة وقد أدرك إلاّ جدوى من وراء مساندة جعفر :
    ـ القوم رسل وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين .
    وبهت جعفر وانخطف لونه .. وقال الرجل الوقور مبتهجاً بموقف الخليفة :
    ـ نتمنى على أمير المؤمنين أن يرسل معنا من يودعنا الى خارج المدينة .
    قال الخليفة :
    ـ سأرسل معكم رجالاً من الشرطة فلا تخشوا شيئاً ..
    وغادر الجميع قصر الخليفة .. كانت الحيرة تملأ قلوب الرجال .. ترى من هو الامام الحق بعد الحسن ؟
    كل شي يوحي بأن لا وجود لإمام للشيعة بعد الحسن وإذا كان هناك من امام فهو جعفر الذي سيعرف بالكذاب لأنه ادعى ما ليس له بأهل !
    عاد الرجال الى خان المسافرين وتفقدوا دوابهم في


207
« المربط » قد صح عزمهم على مغادرة سامراء عائدين.. كانوا يتوجسون شرّاً من جعفر لأنهم حدسوا أن هناك من يقف وراء جعفر مروجاً لامامته لأسباب غامضة .. أو طمعاً في المال وأمضوا ليلتهم في الخان يتسامرون ، وكانت الحيرة واضحة وهم يتحلقون حول موقد مسجور .
    وكان واضحاً من حيرة أبي العباس ان المستقبل قد بات مظلماً .. فقد بدا ساهماً غارقاً في الوجوم .. هل يمكن أن تنتهي الامامة هكذا ؟! وهل يمكن أن تخلو الأرض من حجة لله .. من انسان كامل ؟! .. ان الامام يمثل نقطة السلام في دنيا تموج بالزلازل وتعصف بها الحوادث ..
    وخفتت الأصوات وكان الجمر يخبو شيئاً فشيئاً .. وكان صوت عواء بعيد يتناهى الى الأسماع .
    في الصباح الباكر وفيما كانت غيوم كانون تتراكم فوق بعضها البعض غادر الرجال الخان ليجدوا مجموعة من حرس الخليفة سوف يرافقونهم الى خارج سامراء حسب رغبتهم ..
    بالرغم من سهرهم الطويل وتبادلهم الأحاديث المتشعبة إلاّ أن أجواء الحيرة ما تزال تسودهم .. فهم يعتقدون ان الامامة ستستمر حتى يوم القيامة .. لأن الأرض لا تخلو من حجة الله .. من إنسان يقودهم نحو الكمال .. وهاهم يفدون على إمامهم فلا يجدوه .. ولا يجدوا إماماً يقوم مقامه ..


208
    قال أبو العباس وكان رجلاً حصيفاً :
    ـ ان له ولد ما في ذلك من شك .. وربما أخفاه لسبب من الأسباب ..
    قال آخر :
    ـ والله أنها لحيرة ما بعدها حيرة ! انني أقول أن سيدنا الحسن رحمه الله كان إماماً مفترض الطاعة ثابت الامامة ، وقد توفى والأرض لا تخلو من حجة .. فنحن ننتظر حتى يسفر الحق !!
    وعندما وصلوا الجادة المؤدية الى بغداد .. عاد الحراس فيما واصل الرجال طريقهم صوب « دار السلام » لم تكد منازل سامراء تغيب في الأفق حتى فوجىء الرجال بمن يدعوهم بأسمائهم .. وعندما التفتوا جهة الصوت شاهدوا فتى مضيء الوجه يناديهم :
    ـ يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم .
    هتفوا بدهشة :
    ـ أنت مولانا ؟!
    أجاب الفتى الذي يرتدي زي الخدم :
    ـ معاذ الله .. أنا عبد مولاكم .. فسيروا إليه .
    وقادهم الفتى من طريق على شاطىء دجلة بعد أن تركوا دوابهم مع أحدهم وعندما ولجوا حجرة في المنزل وقعت عيونهم على فتى عشاري القد جالساً على سرير يرتدي ثياباً خضراً .. وخشعت قلوبهم لمرآه فحيوه بأدب ورد عليهم التحية بأحسن


209
منها وقال مبدداً سحب الحيرة التي اكتنفت نفوسهم :
    ـ جملة المال كذا وكذا دينار حمل فلان كذا وفلان كذا .. وراح يستعرض تفاصيل ما جاءوا به .. بل تعدى وصفه للدواب التي حملتهم ..
    ألقى أبو العباس نفسه على الأرض ساجداً لله الذي أنعم عليه برؤية إمام عصره ..
    ولم يبق من مجال للشك فقرروا العودة الى محط رحلهم واحضار الأمانات ..
    وفي لحظات الوداع أمرهم الامام بعدم المجيء الى سامراء مرة أخرى وأنه سوف ينصب لهم وكيلاً في بغداد يحملون اليه الأموال وتخرج عنه التوقيعات ..
    كما دفع الامام الى أبي العباس شيئاً من الحنوط والكفن وخاطبه معزياً :
    ـ أعظم الله أجرك في نفسك ..
    فرد الرجل الوقور بسكينة المؤمن :
    ـ انا لله وإنا إليه راجعون .
    ولم تكد القافلة تصل هضاب اقليم همدان حتى توفى الرجل الى رحمة الله (184) .
    وكان حصاد موسم الجفاف خلال العامين المنصرمين قحطاً وغلاء فاحشاً في الاسعار اكتوت بناره بغداد فاشتعلت مخيلة


210
الفقراء وراحت تنسج حول مواقد كانون بواكير حكايات « السندباد » التاجر الذي يعود غانماً من رحلاته في البحار البعيدة فيهب الفقراء ذهباً ولؤلؤاً وأملاً بغدٍ أفضل ... وستولد حكايات الليالي الطويلة المثقلة بالرموز (185) بعدما غابت الشمس واستترت وراء غيوم الضياع .