211
28
    ما بال جعفر يبدو كمن أصابه مس من الجنون انه يتجه الى قصر رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيى للاجتماع به على انفراد ، ويستقبله الرجل اكراماً لأخيه الراحل فاذا به يسمع من جعفر ما يجعله يسقط من عينه قال جعفر بحماقة :
    ـ اجعل لي مرتبة أخي ، وأنا أوصل اليك كل سنة عشرين ألف دينار !
    ونظر عبيد الله بن يحيى الى جعفر ... شتان ما بين الحسن وجعفر كأنه نقيض أخيه .. الحسن في عقله الكبير في كياسته .. في حلمه وتواضعه وطيبته وجعفر بخفته وتفاهته !!
    وهاهو يأتي يطلب من الدولة أن تجعله إماما للشيعة وكأن الدولة هي التي نصبت أخاه وأباه من قبل ..
    قال رئيس الوزراء وقد احتقره تماماً :
    ـ يا أحمق .. السلطان أطال الله بقاءه جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك ائمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك .. فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك الى سلطان يرتبك


212
مراتبهم ، ولا غير سلطان .. وان لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا (186) ..
    وقام رئيس الوزراء بحركة توحي بانتهاء اللقاء فنهض جعفر يجر أذيال الخيبة .. واصدر عبيد الله بن يحيى تعليمات مشددة بعدم استقباله مرة أخرى لكن جعفر بذهنه المريض انتبه الى شيء !
    فما دام الخليفة يخشى الامام ويطارد الذين يقولون بإمامة أخيه وأبيه فلماذا لا يسعى الخليفة الى تنصيب جعفر اماما على الشيعة وبهذا يكون أبطل الامامة وفرض هيمنته على الشيعة ؟!
    من أجل هذا انطلق صوب الخليفة وعرض عليه اقتراحه ولوّح له بنفس المبلغ الذي عرضه على رئيس وزرائه قال الخليفة وهو يضع النقاط على الحروف فلا داعي للتستر أمام جعفر :
    ـ اعلم ان منزلة أخيك لم تكن بنا .. انما كانت بالله عز وجل .. ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه .. وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة لما كان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وكثرة العبادة ..
    فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك الينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغن عنك في ذلك شيئا (187) ..
    ان ما قاله الخليفة يعدّ اكبر اعتراف بعدالة قضية الامام الراحل .. ولم يكن الخليفة ليكون بهذه الصراحة لولا أن مخاطبه


213
كان جعفر بكل سخافاته وحماقاته !؟
    شيء واحد حصل عليه جعفر هو تأييد الخليفة له باعتباره الوريث الشرعي لتركة الامام الحسن .. ان لدى السلطان قناعة ظاهرة في أن الامام الحسن قد توفى ولم يخلف وراءه ولداً وهذا أقصى ما يطمح اليه (188) .
    لقد انتهت الامامة إذن ولم يعد هناك من إمام بعد اليوم !
    أدت الحوادث العاصفة باسرة الامام الى أن تلزم أم الإمام الحسن وزوجة الامام الهادي فراش المرض ، فقد توفى ابنها الحبيب واعتقلت زوجته واضطر حفيدها الى الاختفاء ، وها هو جعفر لا ينفك يتآمر لتمزيق أسرة أخيه الراحل ..
    نقلت الجدة الطيبة الى منزل السيدة حكيمة شقيقة زوجها الراحل لتمريضها ولكن وقع الحوادث وقلقها على مصير حفيدها قد جعلها هدفاً سهلاً لسهام القدر ..
    وفي لحظات الاحتضار أوصت أن تدفن الى جانب زوجها وابنها الإمامين الراحلين (189) ..
    ومرّة يقف جعفر موقف النذالة إذ يرفض دفن هذه المرأة الصالحة صارخاً :
    ـ هي داري لا تدفن فيها !
    وفي مثل هذه اللحظات المصيرية ، يتوجب على الصبي الطاهر أن يظهر مباغتاً جعفر بسؤال استنكاري شديد اللهجة :


214
    ـ يا جعفر ! دارك هي ؟!
    ان الصبي لن يدعوه بعد اليوم بالعم .. لقد انسلخ جعفر من قبيلته ودينه وحتى انسانيته ..
    وبرقت عينا جعفر بالشرور والغدر وأراد الامساك بالصبي الذي توارى بين الناس ، فيما ظل جعفراً حائراً ..
    وانطلق الصبي الإمام الى مكان ما فلن يعرف مكانه أحد !
    سواف يواكب حركة التاريخ والزمن ، اما علاقته بشعبه فسوف تكون عن طريق تاجر الزيت ذلك الرجل الصالح الذي نذر حياته لعقيدته ومبادئه .. وسيعرف الناس أن عثمان بن سعيد العمري هو السفير الأول بين المهدي وامته .. انه من السمو بحيث نال ثقة الامام علي الهادي وابنه الحسن العسكري وها هو اليوم يصبح أول سفير للامام المهدي الذي قرر الاختفاء عن الانظار منذ وفاة والده .. وكيف لا يحظى بهذه المنزلة وهو الذي تولى توزيع عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم على الفقراء والجائعين يوم ولد المهدي .. وهو الذي أمره الامام الحسن بأن يعق عن الحجة بعشرات الأضاحي (190) .
    وهو الذي تولى تغسيل الامام الراحل وتجهيز نعشه بأمر من الامام المهدي الذي لم يكن بوسعه أداء هذه المهمة (191) .
    ما يزال بلاط الدولة تراوده الظنون في وجود المهدي الموعود الذي سيظهر ويقوض أركان حكمهم الى الأبد ..


215
    فأمّه ما تزال رهن الاعتقال رغم مرور شهور عديدة على اعتقالها ووضعها تحت المراقبة لأنهم يتصورون ان ابنها سيتصل بها وعند ذاك سوف يُلقى القبض عليه ..
    ولكن الامام كان حذراً في اتصالاته .. . وفي تلك الفترة صدر توقيع عنه يفيد بتحريم ذكره باسمه في المحافل :
    ـ « ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس » (192) .
    وكان أول إجراء اتخذه الامام أن أمر سفيره بنقل نشاطه الى بغداد .. فبغداد مركز تجاري كبير ، ومن الصعب على الجواسيس مراقبة ما يجري فيها من اتصالات تتخذ من التجارة غطاءً لها .. ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد يرى عثمان بن سعيد يتردد على سامراء كما كان الحال في زمن الامام الحسن بل ان الامام نفسه سوف يرتدي زي التجار (193) .
    وخلال الفترة من عام 260 الى عام 263 هـ تلاحقت الأحداث بشكل خطير فقد بدأ الامبراطور باسيل الأول سلسلة من الغارات استهدفت المدن الحدودية الاسلامية ، كما شن الأعراب غاراتهم على مدينة حمص وحدثت قلاقل في مدينة الموصل سببها عدوان الجنود على الأهالي وانتهاكهم الأعراض ..
    وفيما كانت المعارك مع الزنوج مستمرة ، اندفع الخوارج في هجومات جديدة بقيادة مساور الشاري وفي الشمال الافريقي حدثت انتفاضة شعبية ضد حكم احمد بن طولون في منطقة برقة


216
قمعت بوحشية وفي تلك الفترة العاصفة ايضاً رأى يعقوب بن ليث الصفار مؤسس الدولة الصفارية انتهاز الفرصة فاندفع باتجاه الاهواز وفارس واستولى على مساحات شاسعة ثم راح يرنو باتجاه بغداد مما بعث الرعب في قلب الخليفة الذي عبأ قواته بقيادة أخيه الموفق لوقف الصفار عند حدوده ..
    وسرعان ما وقعت المعركة الفاصلة في « دير العاقول » على بعد 12 ميلاً من بغداد فسحقت قوات الصفار الذي ارتد بفلوله الى الأهواز .. ولكنه ظل يشكل خطراً على الخلافة العباسية ثم وقع حادث غامض إذ وقع رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيى عن دابته عندما صدمه الخادم « رشيق » وتوفى بعد ساعات (194) .
    كما توفى الحسن بن محمد بن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء فتولى رئاستها أخوه علي بن محمد (195) .
    وقد أسهمت هذه الاحداث في التخفيف من محنة السيدة نرجس التي أفرج عنها بعد اعتقال استمر اكثر من عامين وسوف تعيش حياة التشرد مدة من الزمن قبل أن يستجيب الله دعوتها فانتقلت الى الرفيق الأعلى تشكو الى بارئها ظلم الظالمين .
    وكان الهمس حول وجود حقيقي للامام المهدي ما يزال مستمراً وادرك الكثيرون أن الحقيقة توجد لدى عثمان بن سعيد ذلك الرجل الصالح الذي تمكن من احاطة عدد كبير ممن يوثق بأمانتهم ووعيهم بوجود الامام المهدي .. ولكن الظروف الحساسة


217
التي يمر بها الامام جعلته يتكتم فكان لا يتحدث بهذا الشأن إلا في المناسبات التي تستدعي ذلك ، كما حدث في تلك الليلة الشتائية عندما جاءه في جنح الظلام رجل يبحث عن الحقيقة فقال له وهو يحاوره :
    ـ اسألك بحق الله وبحق الامامين اللذين وثقاك هل رأيت ابن أبي محمد الذي هو صاحب الزمان ؟!
    غمرت الدموع عيني الرجل الصالح وقال :
    ـ أخبرك على أن لا تخبر أحداً ما دمت حيا ؟
    وهز الرجل رأسه موافقاً فقال السفير :
    ـ أجل قد رأيته (196) .. يوم ولادته .. ورأيته وقد أيفع وأصبح فتى رشيداً موفقاً (197) .
    وانصرف الرجل فأوى الى فراشه تلك الليلة وهو يحلم بالغد الأخضر .


218
29
    كان العالم الاسلامي في الأعوام من 264 وحتى سنة 267 هـ 877 م يموج بالأحداث الكبرى ، فقد أغار الاسطول الاسلامي في البحر المتوسط على مدينة البندقية ، فيما كانت الاشتباكات في جنوب العراق ما تزال مستمرة ، وفي مصر أعلن احمد بن طولون تمرده على العاصمة وزحف بجيش جرار صوب دمشق فيستولي على اقليم الشام بأسره .
    وفي خراسان اجتاح الطاعون ليحصد آلاف الأرواح وقد أغار الزنوج على مدينة واسط العراقية وارتكبوا فيها مذابح وحشية .
    بينما شهدت أرض الاندلس ثورة « المولدين » فتم قمعها ..
    وفي العاصمة سامراء فر رئيس الوزراء « الحسن بن مخلد » الى بغداد بعد أن تناهى إليه عزم القائد التركي موسى بن بغا العودة الى العاصمة فصودرت جميع أملاكه !
    وشهدت « اصفهان » ثورة وتم القضاء عليها في مهدها ، وثورة اخرى في « نيسابور » الخاضعة لنفوذ الصفار الذي توفى قبيل اندلاعها ..


219
    وثورة في مدينة حمص السورية .. وأغار الأعراب على مدينة مكة المكرمة ونهبوا كسوة الكعبة المشرفة وتعرضت ديار ربيعة في الموصل الى غارات وحشية شنتها قوات من الروم .
    وفيما كان العالم الاسلامي مشدوهاً بما يجري والأرض تهتز تحت وقع سنابك خيل مجنونة ؛ كان الامام المهدي مستمراً في غيابه إن ثورته الكبرى لا تنتمي الى هذا الزمن الرديء .. إنها ثورة الحلم الأخضر والغد المشرق القادم من قلب الظلمات .
    كان السفير الأول للامام في بغداد يخطو باتجاه النهاية الحتمية التي تكمن في طريق الانسان .. كل انسان ، ونحن الآن على مشارف سنة 267 هـ 880 م وقد اجتمع رجال في منزل العمري سفير الامام يعودونه في وعكة صحية المّت به .
    كانت نسائم تموز في ذلك الأصيل البغدادي تهب حاملة معها أنداء دجلة .
    أشار الرجل الى ابنه أن يحضر صندوقاً صغيراً وعندما أصبح بين يديه فتحه واستخرج رسالة الامام المهدي وسلمها الى ابنه وهمس بصوت فيه حشرجة احتضار :
    ـ اقرأها يا بني لتكون حجة على الشاهد ودليلاً للغائب ؟
    وراح محمد يقرأ بخشوع كلمات قادمة من وراء الاستار (198) :
    ـ بسم الله الرحمن الرحيم .. عافانا الله واياكم من الضلالة والفتن ، ووهب لنا ولكم روح اليقين ، وأجارنا واياكم من سوء


220
المنقلب .. إنه أنهي اليّ ارتياب جماعة في الدين ، وما دخلهم من الشك في ولاة أمرهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا ، وساءنا فيكم لا فينا .. لأن الله معنا فلا فاقة بنا الى غيره ، والحق معنا فلن يوحشنا من بعد عنا ..
    يا هؤلاء مالكم في الريب تتردون ، وفي الحيرة تنتكسون ؟ أوما سمعتم الله عز وجل يقول : « يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم » ؟!
    أو ما علمتم بما جاءت به الآثار عمّا يكون ويحدث في أئمتكم على الماضين والباقين منهم ؟!
    أوما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون اليها ؟ وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم الى أن ظهر الماضي (199) .. كلما غاب علم بدا علم ، وإذا أفل نجم بدا نجم ؟
    فلما قبضه الله إليه ظننتم أن الله أبطل دينه ، وقطع السبب بينه ، وبين خلقه ؟!
    كلاّ ما كان ذلك ، ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم كارهون .. »
    وخشعت القلوب لكلمات صبي آتاه الله الحكم صبيا وعلمه فصل الخطاب !
    تساءل رجل في الأربعين من عمره وهو يشد على يد السفير :