321
السجن وإعادته الى منصبه وبدأ الحكم الجديد في يوم السبت 15 محرم 317 هـ نهب قصر المقتدر واستخرجت أموال مدفونة تعود ملكيتها لشغب بلغت 000/600 دينار .
    وتم تعيين « نازك » حاجباً في قصر الخليفة الجديد فأصدر أوامره الى حرس الشرف باخلاء القصر وكانوا فرقة من المشاة .
    وفي صباح يوم الاثنين 17 محرم امتلأت شواطىء دجلة بالناس كما اكتظت الشوارع الرئيسية بهم ، وحضر حرس الشرف لترتيب موكب الدولة الجديد وكانوا منزعجين من ابعادهم من القصر ويطالبون بحق البيعة .
    ولكن مؤنس لم يحضر ذلك اليوم أما نازك فقد كان سكراناً ثملاً لكثرة ما شرب من الخمر الليلة الفائتة ..
    وعلت زعقات جنود المشاة حتى تناهت الى مجلس الخليفة الذي شعر بالذعر وطلب من « نازك » معالجة الموقف ..
    كان نازك مخموراً جداً وعندما وقعت عيناه على الجنود المسلحين وتصور أنهم ينوون قتله لا تقديم الشكوى ، فهرب منهم ولذا طمعوا في قتله فلحقوا به وحصروه عند باب كان قد سده أثناء الحركة الانقلابية .
    وبقتل « نازك » انفجر الوضع وانطلقت صيحات الجنود بعودة المقتدر الى الخلافة .
    وفي اثناء الاشتباكات قتل أبو الهيجاء واعتقل القاهر ،


322
وانطلق الجنود الى قصر مؤنس وطالبوا باطلاق الخليفة المقتدر الذي لم يصدق ذلك في البداية وظن انها حركة لاغتياله وكان مؤنس من المعارضين لخلافة القاهر ولذا صفح عنه المقتدر ، ونقل القاهر الى قصر السيدة شغب التي تناست موقفه الغادر وصفحت عنه .
    ولم تكد بغداد تلتقط انفاسها بعد حتى انفجرت أزمة طائفية بين الحنابلة والشيعة حول تفسير قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محمودا ) .
    إذ قال ابو بكر الحنبلي واصحابه : ان الله سبحانه يقعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش .
    أما الشيعة : انما هي الشفاعة .. لأن الله لا يحد مكان وليس بجسم حتى يجلس على العرش ويجلس النبي معه ..
    وما زاد الأمر خطورة اشتراك الجنود في هذه الفتنة واسفر الجدل الفكري الى اشتعال الاشتباكات وسقوط الكثير من القتلى والجرحى .

    وفي سنة 318 كان المشاة وحرس الشرف قد شعروا بالغرور بسبب نجاح حركتهم في إعادة المقتدر الى الحكم ، ولذا اثبتوا اسماء أولادهم حتى الرضع في سجلات الجيش واسماء معارفهم واصدقائهم مما ارهق خزانة الدولة بالنفقات .


323
    وصادف أن شغب الفرسان وطالبوا بصرف مرتباتهم فقيل لهم ان الخزانة فارغة وأن الأموال ذهبت الى جيوب المشاة وانفجر الوضع بين الفرسان والمشاة وسقط بعض القتلى في صفوف الفرسان ، فاستغل المقتدر الوضع وطلب من قائد الشرطة طرد المشاة من القصر بل ومن بغداد أيضاً والقبض على المتخلفين .
    وحدثت أزمة وزارية جديدة واقصي ابن مقلة وعين وزير جديد .
    وفي سنة 319 هـ تدهورة العلاقات بين الخليفة ومؤنس الذي ما يزال يشغل منصب الحاكم العسكري .
    وتزامن الوضع مع انحسار هيبة الدولة اثر انتصارات « مرداويج » في الاقاليم الايرانية خاصة في الشمال .
    ولم يمنع الخطر الذي يتهدد العاصمة من تفاقم المؤامرات التي عمقت هوة الخلاف بين المقتدر ومؤنس حتى وصلت الى مرحلة القطيعة .. وانفجر الوضع باعلان مؤنس العصيان ، واحتلال الموصل واصبح رمزاً للمعارضة المسلحة وعم الحماس في الزحف صوب بغداد والقضاء الى الخليفة .
    ولم يكن المقتدر في وضع يحسد عليه ولم يكن له جيش يعتمد عليه في المقاومة ، وكانت فكرته اخلاء بغداد والانسحاب الى مدينة واسط وتعبئة جيش قوي من مجموع الاقاليم التي تخضع لنفوذه ولكن قائد الجيش ابن ياقوت اقنعه بالمواجهة ، لأن


324
المتمردين لن يجرأوا على محاربة الخليفة !
    واصر قادة جيشه على أن يتقدم الخليفة بنفسه لبدء الهجوم فاضطر الى الموافقة وقبل أن يصل الخليفة الى معسكر مؤنس فر جنوده وتركوه وحيداً فتناوشه جنود مؤنس فصاح :
    ـ ويحكم أنا الخليفة !
    فأجابوه :
    ـ قد عرفناك يا سافل ! أنت خليفة ابليس وسرعان ما هوى سيف على رقبته ليسقط رأسه الكبير ، وتسلب ثيابه حتى بقي مكشوف العورة ؛ فمر به رجل وحفر له حفرة ودفنه فيها !
    وتعرض قصر الخليفة للنهب حتى أصدر مؤنس أوامره بوقف النهب .
    وأصبحت هيبة الدولة في خبركان فقد أدى قتل المقتدر الى تأجج اطماع كافة الاقاليم البعيدة الى الاستقلال في الحكم .
    وهكذا راح المقتدر ضحية سياسته الهوجاء في الحكم وبعد بعثر ما يبلغ من ثمانين مليون دينار في عبثه !!
    ومرة أخرى انتخب القاهر للخلافة بالرغم من الحاح مؤنس على انتخاب ابن المقتدر ووصفه بالصبي العاقل وأن فيه دين وكرم ووفاء بما يقول ، ولكن النوبختي أبو يعقوب اسحاق بن اسماعيل رفض ذلك بشدة واصر على انتخاب خليفة قوي وكان بذلك يحفر قبره بيده فقد قتله القاهر بعد أسابيع .


325
    وبدأ القاهر حكمه باعادة ابن مقلة الى الوزارة ، ومصادرة أموال أخيه غير الشقيق كما حاول اجبار شغب أم المقتدر على حل أوقافها فرفضت ذلك فأمر بتعذيبها وفرض الاقامة الجبرية على احمد بن المقتدر فيما فرّ الآخرون الى واسط ومنها الى ايران .


326
44
    كانت خلافة القاهر عهداً للأرهاب والرعب والاغتيالات السياسية .. وقد كان شرّيراً لا يمكن التكهن بمواقفه .. أمر بحفر خمسين زنزانة تحت الأرض في قصره !
    وبدأ يقضم الرؤوس الواحد بعد الآخر فكان مؤنس هو الأول وتوفيت « شغب » متأثرة بالتعذيب الوحشي الذي تعرضت له ووصلت القاهر أخبار حول محاولة انقلابية كان الوزير ابن المقلة أحد الضالعين بها ، فاختفى عن الانظار قبل القبض عليه فصودرت أملاكه ثم اضرمت النار في قصره كما تعرضت للنهب املاك أقاربه .
    وشعر جميع من أيد القاهر بالندم فلقد كان سكيراً شريراً أهوج (291) .
    وفي غمرة هذه الظروف تألق نجم بني بويه واتسم حكمهم بالعدل والتسامح فعظم نفوذهم ، خاصة بعد سقوط شيراز في قبضة عماد الدولة بن بويه .
    وخلال تلك الفترة كانت بغداد مسرحاً رهيباً للدسائس والمؤامرات ، ونشط الوزير الهارب ابن مقلة في بث دعاية مضادة


327
للقاهر ، وكثرت اتصالاته بالقادة العسكريين ليلاً تارة في زي أعمى وتارة في زي مكدٍ وتارة في زي امرأة (292) ويحرضهم ضد الخليفة الأهوج .
    وصادف وصول بغداد اسرى من القرامطة فزجهم الخليفة في الزنزانات الخمسين ، ولكنه في الحقيقة كان يحاول استخدامهم ضد مناوئيه وخصومه .
    وعندما أثارت خطوته شكوك الجيش أمر قائد الشرطة بنقلهم الى أحد القصور ورعايتهم فزادت شكوك خصومه وبدأت قطعات من الجيش بالتحالف سرّاً للاطاحة بالقاهر والقضاء على حكمه .
    ووصلت تقارير خطيرة الى الوزير الخصيبي تفيد بأن التحرك سيكون غداً فجر السادس من جمادى الأولى ، وأرسل الوزير في منتصف الليل من يحيط الخليفة علماً ولكن الخليفة كان قد أفرط في السكر طوال الليل ولم يستطيع الحاجب اعلامه .

    كانت نسائم نيسان (293) المنعشة تهب مفعمة بأريج دجلة الندي عندما زحف الجنود الغاضبون الى قصر القاهر واقتحموه من جميع الأبواب ..
    وفرّ الخليفة الى سطح الحمام ، وسرعان ما انهار فسلم نفسه واقتيد مخفوراً الى الزنزانات فافرج عن السجين الذي كان


328
فيها ورمي القاهر .
    كما أفرج عن أحمد بن المقتدر وكان قد حبس مع والدته ! وسلّم الجميع عليه بالخلافة وكان ذلك يوم الاربعاء 6 جمادي الأولى 322 هـ
    وتقرر اسناد الوزارة الى ابن مقلة مرة أخرى ، وأراد هارون بن غريب انتهاز الفرصة والعودة الى بغداد وعندما منع هدد باستخدام القوة وزحف بقواته من مدينة « دينور » الى « خانقين » العراقية ، ثم واصل تقدمه حتى النهروان وبدأ يمارس أعماله التعسفية في إدارة المناطق التي يحتلها .
    واصطدمت الجيوش التي يقودها محمد بن ياقوت بقوات هارون ودارت الدائرة على قوات بغداد التي هزمت هزيمة ساحقة ، ولكن القدر كان بالمرصاد لهارون الذي طمع في مطاردة فلول الهاربين فسقط من فوق فرسه ، وتمكن أحد الجنود المطاردين من توجيه ضربات قاتلة له وعندما رفع رأسه عالياً تغير ميزان القوى بهزيمة الزاحفين .
    وكان « الشلمغاني » ما يزال يواصل نشاطه التخريبي ووجد له اتباعاً من بينهم وزير سابق في خلافة المقتدر هو الحسين بن القاسم وشخصيات أخرى من ذوي النفوذ خاصة بني بسطام .
    وانبرى ابن روح لمواجهة هذا الخطر وأحاط بني بسطام


329
بانحراف الشلمغاني ولكن دون جدوى (294) .
    وكان الشلمغاني خبيثاً فقد أول لعنات ابن روح وقال إنها تعني الابعاد فقط لأنه اذاع أسراراً أُمر بكتمانها ، وأعلن في أوساط الشيعة أنه مستعد للمباهلة ..
    فرد ابن روح بأن الذي يموت قبل صاحبه فهو على باطل ، وفي شوال 322 هـ اُلقي القبض على الشلمغاني وتم توقيفه تمهيداً لمحاكمته .. وشكل الوزير مجلساً ضم زعماء الشيعة لم يحضره ابن روح وتم تداول النظر في قضية الشلمغاني .
    وعندما رأى الشلمغاني اجماعاً عاماً ضده وتأييداً لابن روح الذي عمم على جميع الشيعة لعن الامام له صرخ متحدياً :
    ـ اجمعوا بيني وبينه حتى آخذ بيده ويأخذ بيدي فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه ، وإلاّ فجميع ما قاله في حق !
    وفي أثناء تفتيش منزله عثر على كتب له تتضمن افكاراً خطيرة منها إن اللاهوت قد حل فيه كما عثر على مسائل من اتباعه تخاطبه بالألوهية ، وعرفت من بين الرسائل رسالة من الحسين بن قاسم الوزير السابق الذي يقيم حالياً في الرقة (295) .
    والقي القبض على أصحاب الرسائل وفيهم « ابن أبي عون » و « ابن عبدوس » وعقدت عدة جلسات ضمت الفقهاء والقضاة وتمت ادانته باعتباره ملحداً يدعي الألوهية خارجاً عن تعاليم الاسلام .
    وعقدت جلسات المحاكمة في بلاط الخليفة الراضي


330
واحضر المتهمين الآخرين .
    واعترف الشلمغاني بالرسائل وأنها كانت موجهة اليه ، ولكنه أنكر مذهبه وادعى الاسلام .. وانه لم يأمر أحداً أن يخاطبه بالربوبية . وطلب الخليفة من ابن أبي عون وابن عبدوس أن يصفعا الشلمغاني ورفض ابن عبدوس في البداية ولكنه اضطر الى أن يتقدم الى الشلمغاني ويصفعه ، أما ابن ابي عون فقد مد يداً مرتجفة الى لحيته ورأسه وبدل أن يصفعه قبله قائلاً بعبودية وتذلل :
    ـ الهي وسيدي ورازقي !
    صرخ الراضي بالشلمغاني :
    ـ قد زعمت أنك لا تدعي الالوهية فما هذا ؟!
    قال الشلمغاني مكابراً :
    ـ لم أكن قد أمرته بذلك .. الله يعلم انني ما قلت له انني إله قط !
    وتدخل ابن عبدوس قائلاً :
    ـ انه لم يدّع الألوهية ، وانما ادّعى أنه الباب الى الامام المنتظر مكان ابن روح .. وكنت أظن انه يقول ذلك تقية (296) !
    وبعد مداولات طويلة ادين الشلمغاني نهائياً وحكم عليه بالموت صلباً مع ابن أبي عون ونفذ الحكم في ذي القعدة وأحرقت جثتيهما وذر رمادهما في دجلة .