331
    وفي أواخر هذا الشهر نفذ حكم الاعدام بالوزير السابق الحسين بن القاسم في مدينة الرقة 297 وتنفست الطائفة الشيعية الصعداء .
    وأرسل ابن روح مؤلفات الشلمغاني الى مدينة قم لتقويمها وتطهيرها من الافكار المنحرفة التي دسها الشلمغاني بعد انحرافه (298) .


332
45
    الأحداث والوقائع تهز البلاد من اقصاها الى أقصاها واصبحت الأرض الاسلامية نهباً للطامعين وذوي الطموح .
    وفي غمرة هذه الفتن انفجر العنف الطائفي يؤجج ناره الحنابلة الذين رأوا أنفسهم أنهم يمثلون الشريعة الالهية ! فراحوا يقتحمون المنازل ويحطمون جرار النبيذ وينهالون بالضرب على الجواري المغنيات ، ثم تدخلوا في عمليات البيع والشراء في الاسواق وتعرضوا للمارة والعابرين خاصة لمن يمشي مع النسوة والصبيان فيتعرض للاستجواب حول العلاقة بينهم وبين النسوة التي معه فاذا أجاب وإلا يتعرض للضرب والاعتقال ! ويجد من يشهد عليهم أنهم اعتقلوا اثناء ارتكابهم الفاحشة !
    وعمت الفوضى بغداد مما دفع بالخليفة الى اعلان حالة الطوارىء ومنع اجتماع الحنابلة أو الجدل المذهبي ، ولكن الحنابلة رفضوا الاستجابة واستظهروا بالعميان الذين يأوون الى المساجد فإذا مر بهم شافعي حرّضوا العميان عليه فيضربونه بالعصي حتى الموت ..


333
    فصدر توقيع الخليفة الراضي شديد اللهجة هاجم فيه الحنابلة ونعى عليهم عقيدتهم في التشبيه وان الله على صورة البشر جاء فيه :
    « تارة انكم تزعمون ان صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين ، وهيئتكم الرذلة على هيئته ، وتذكرون الكف والاصابع والرجلين والنعلين المذهبين ، والشعر القطط ، والصعود الى السماء والنزول الى الدنيا .. تبارك الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً ..
    ثم طعنكم على خيار الائمة .. ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الكفر والضلال ، ثم استدعاؤكم المسلمين الى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن ، وانكاركم زيارة قبور الأئمة ، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع ، وانتم مع ذلك تختمون على زيارة قبر رجل من العوام (299) ليس بذي شرف ولا نسب ، ولا سبب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأمرون بزيارته ، وتدّعون له معجزات الانبياء وكرامات الأولياء .. فلعن الله شيطاناً زين لكم هذه المنكرات ، وما أغواه » .
    ثم تضمن التوقيع تهديداً جاداً بانزال اشد العقوبات بمن لا يلزم حدوده (300) .
    وقد ترك توقيع الراضي انطباعاً طيباً لدى عامة أهل بغداد خاصة الذين ينتسبون الى المذهب الشافعي أو شيعة آل


334
محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    وفي نفس السنة ظهرت دولة جديدة في مصر هي الدولة الاخشيدية فيما انبعثت من جديد دولة الأدارسة التي اندرست في سنة 311 هـ .
    وفي عام 324 اسفرت المؤامرات والدسائس عن مصرع محمد بن ياقوت قائد الجيش ، واسناد منصبه الى ابن رائق الذي اصبح الحاكم العسكري العام .
    وفوجىء المسلمون باقران اسمه مع اسم الخليفة في الخطب المنبرية واعتبر هذا الاجراء مؤشراً على ضعف الخلافة .
    ومع دخول ابن رائق بغداد انتهى دور الوزارة وسلبت صلاحيات الوزير بانتقالها الى الحاكم العسكري أو أمير الامراء ولذا أقصي الوزير ابن مقلة وعين مكانه وزير لا يحل ولا يربط !
    وشهد هذا العام تمزق البلاد الاسلامية بانفراد حكام الاقاليم واستقلالهم في الحكم ، ولم يبق للخليفة منطقة نفوذ سوى بغداد وهي في قبضة ابن رائق !
    فالبصرة في يد ابن رائق وخوزستان في يد « البريدي » ، وفارس في قبضة عماد الدولة بن بويه ، وكرمان تحت سيطرة محمد بن إلياس ، والري واصفهان ومناطق الشمال الايراني تحت قيادة ركن الدولة بن بابويه والموصل وديار بكر وربيعة تحت إدارة بني حمدان ، ومصر والشام في قبضة ابن طغج ، والشمال الافريقي


335
في سلطة القائم بأمر الله بن المهدي العلوي وهو الخليفة الثاني الذي لقب بأمير المؤمنين والاندلس تحت حكم الناصر واقليم خراسان وما وراء النهر تحت النفوذ الساماني وجرجان وطبرستان في يد سكانها من الديلم والبحرين واليمامة في قبضة القرامطة الذين اعلنوا تحالفهم مع الدولة المهدية .
    وكان السفير ابن روح في خضم الاحداث العاصفة يقاتل على جبهتين اتجاه الغلو الذي وصل مرحلة خطيرة على يد الشلمغاني الذي نجح الى حد ما في اعتبار الانسان ربّا وإلهاً (301) .
    وموجة الفكر الحنبلي الذي لم يتورع من تشبيه الله بالانسان (302) والتي تزعمها « البربهاري » والذي لم يكتف اتباعه بالترويج لأفكاره بل عمدوا تفجير فتنة طائفية رهيبة بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تنته إلاً بعد ارتفاع اسعار المواد الغذائية بشكل جنوني واجتياح الوباء بغداد الذي حصد الكثير من الارواح (303) .
    وفي عام 325 هـ وصلت الخلافة العباسية أسوأ مراحلها بعد أن أصبح الخليفة مجرد اسم .
    وكانت الدولة الاسلامية تعيش حالة من الحرب الأهلية بين جيوش الحكام المستبدين في الحكم فقد أعلن البريدي حاكم اقليم الأهواز وخوزستان استقلاله فارسل ابن رائق القائد التركي بجكم الذي كان قبل شهور مجرد خادم في حكومة مرداويح حاكم


336
الشمال الايراني .
    واستطاع بحكم الحاق الهزيمة بالبريدي وما لبث ابن رائق أن تصالح مع البريدي فأثارت هذه الخطوة بجكم الذي قرر الزحف باتجاه بغداد .
    ولم يكن بجكم ليتخذ مثل هذا القرار لو لم تصله رسالة من الوزير ابن مقلة الحانق بسبب سلبه صلاحياته ومصادرة أمواله وبقائه في الحكم وزيراً بلا وزارة ..
    فقد استطاع بعد دسائس من اقناع الراضي بارسال رسالة الى بجكم يعرض عليه منصب الحاكم العسكري العام وطرد ابن رائق .. ولكن الخليفة الخائف سرعان ما أطلع ابن رائق على مساعي الوزير الذي اعتقل وقطعت يده اليمنى والقي في سجن خاص .
    ولكن بجكم كان قد قرر الزحف واسقط لقبه الرائقي !
    وفي موسم الحج هذا العام تعطل الحج من العراق بسبب الرعب من غارات القرامطة .
    واطل عام 326 هـ ولاح هلال المحرم حزيناً كقارب وسط غيوم تشرين الثاني من عام 927 م وكان الجفاف ما يزال ضارباً اطنابه ولم تكن الغيوم التي تظهر في السماء لتبشر بموسم مطر يعيد الى الأرض الموات بهجة الحقول .
    وكانت شمس الحضارة الاسلامية تتجه بسرعة نحو المغيب ، فقد اصبحت الأرض الاسلامية مسرحاً لحروب دامية


337
واصبحت كرامة الانسان أرخص شيء في الحياة .
    وفي بغداد لم يعد هناك من يأبه الى تمثال الفارس برمحه الطويل الذي يشير باستمرار الى جهة من الجهات وكان البعض يظن انه يشير الى المناطق التي تشتعل فيها الحروب والقلاقل والفتن ..
    لقد عم الخراب الوطن الاسلامي المترامي الاطراف ، والتهبت حمى الاطماع والشهوات ولم يعد أحد لينصت الى صوت العقل الذي عصفت بأنواره زوابع الزمهرير القادم والرياح الصفراء .
    وفي شعبان تدهورت صحة الشيخ ابن روح الذي أطلع المقربين إليه على توقيع صدر من الامام المهدي يقضي باسناد منصب السفارة الى رجل مؤمن يدعى « أبو الحسن علي بن محمد السمري » الذي لم يكد يباشر نشاطه في قيادة الطائفة الشيعية حتى وصلت انباء الزحف الذي يقوده بجكم لاحتلال بغداد .
    وفي مثل هذه الاجواء يعيش سكان بغداد موجة من الهلع لأن هناك آلاف اللصوص والعيارين ممن ينتظرون اختلال الأمن للنهب والسلب والسطو على المنازل .
    وقد حاول ابن رائق المتنفذ في بغداد وقف الزحف بالضغط على الخليفة وكتابة رسالة يأمره فيها بالعودة الى واسط فلم يكترث لذلك وطوح بجكم بالرسالة بعيداً لتضيع بين سنابك الخيل وواصل بجكم تقدمه حتى وصل الضفاف الشرقية لنهر ديالى ،


338
وكانت القوات التي حشدها ابن رائق ترابط عند الشواطىء الغربية وأدرك ابن رائق أنه سيغامر بحرب خاسرة ولذا ما إن شاهد جنود بجكم يقتحمون النهر حتى أشار الى جنوده بالفرار والانسحاب الى « عكبرا » ريثما تسنح الفرصة للانقضاض على بغداد مرة أخرى .


339
46
    في مطلع عام 327 زحف الراضي وبجكم ومعهما رئيس سلطة القضاء باتجاه الموصل وديار ربيعة التي يحكمها يومئذ ناصر الدولة الحمداني الذي كان يخطط للمزيد من الاستقلال في الحكم .
    توقف الراضي في « تكريت » فيما واصل بجكم تقدمه نحو الموصل واشتبك مع قوات الحمدانيين التي هزمت ودخل بجكم الموصل ظافراً .
    وفي هذه الفترة كان ابن رائق يعزز من اتصالاته بالقرامطة المرافقين للخليفة والذين عادوا الى بغداد . وبعودتهم ظهر ابن رائق من مخبئه واستولى على بغداد لكنه لم يقم بأي اجراء انتقامي ولم يقترب من قصر الخليفة .
    وعندما وصلت الانباء الى الخليفة الذي أطلع بجكم بدوره انتابت الهواجس الحاكم العسكري العام ووقع في مأزق لا يدري ماذا يفعل ؟ وشاء القدر أن يطلب الحمدانيون الصلح والتعهد بارسال مبلغ 000/500 درهم ورحب بجكم بالعرض وتم الصلح


340
وقفل الخليفة وبجكم نحو بغداد ووصلت رسالة من ابن رائق يطلب الصلح وانهاء الأزمة طالباً تعيينه حاكما على بعض الاقاليم مقابل اخلائه بغداد وتم الصلح على الشروط .
    وفي 15 شعبان من هذا العام الملىء بالحوادث شهدت بغداد فتنة طائفية كان الحنابلة بتوجيه البربهاري أبطالها أيضاً فقد شنّوا حملات مسعورة على المسلمين الشيعة والمذاهب الأخرى بمناسبة احيائهم ذكرى تحول القبلة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام .
    وتدخلت الشرطة قبل أن يتفاقم الوضع وأصدر قائد الشرطة أمراً بالقاء القبض على البربهاري واعتبر مسؤولاً عما وقع من حوادث فاختفى عن الانظار 304 .
    وفي 328 هـ كانت الأرض الاسلامية تئن تحت وقع سنابك خيل مجنونة تتراكض هنا وهناك .
    فقد سقطت جرجان تحت حوافر خيل هجمت من نيسابور بينما زحف ركن الدولة بقواته باتجاه واسط جنوب بغداد فيما دخلت قواته اصفهان .
    وفي غمرة الأحداث المثيرة كانت جيوش بجكم تزحف باتجاه غابات الشمال الايراني حيث مناطق الديلم وذلك بتشجيع أبي عبد الله البريدي الذي قدم له ابنته زوجة واصبح صهره ، فيما كان يخطط في الخفاء على ابعاد بجكم عن بغداد للانقضاض


341
عليها .
    واكتشف بجكم الخطة فانكفأ نحو واسط وفر البريدي نحو البصرة .
    ولم يكتف ابن رائق في الشام بما استولى عليه من المدن فقرّر الزحف نحو مصر وانتزاعها من الاخشيد. ولكن قوّاته وقعت في كمين .. ثم تصالح الفريقان بعد معركة أخرى واتفقا على تقسيم مناطق النفوذ.
    وفي بغداد اغتيل في ظروف غامضة الزعيم والعالم الشيعي محمد بن علي الكليني(305) مؤلف كتاب الكافي الذي يضم بين دفتيه ستة عشر ألف حديث مسند الى أئمة أهل البيت عليهم السلام كما توفى رئيس سلطة القضاء القاضي عمر بن محمد بن يوسف .
    كما توفى في سجنه الوزير ابن مقلة الذي قطع لسانه بعد قطع يده كما توفى بالسكتة الوزير ابو العباس الخصيبي ولعل السبب يعود الى ادمانه الخمر وسكره الدائم وتوفى أيضاً وزير ركن الدولة البويهي أبو عبد الله القمي ، فاسند منصبه الى ابن العميد .
    وتمر الأيام كئيبة .. وفيما كان القادة العسكريين يتخطفون مقدرات الامة الاسلامية الثرية .. كان سكان بغداد يعانون من أسوأ الظروف المعاشية فقد ارتفعت الاسعار بشكل لم يسبق له مثيل ، وظهرت مؤشرات خطيرة تنذر بالقحط وقد حبست السماء غيثها منذ شهور طويلة .


342
    نحن الآن في مطلع سنة 329 هـ تشرين الثاني 940 م ، وكانت الغيوم الخريفية ما انفكت تتحشد في السماء ثم تتبدد فتبدد معها آمال الناس بموسم خصب جديد .. يعيد للأرض الخراب بهجتها وللأسواق ازدهارها ورخاءها .
    وفي منتصف ربيع الأول وفيما كان الخريف يلملم أيامه الأخيرة تلقى أهل بغداد بوجوم عابر نبأ وفاة الخليفة الراضي فلم يعد للخلفاء من اهمية في ظل الحكام العسكريين ..
    وظلت الدولة الاسلامية دون خليفة ريثما يفصل في هذه القضية بجكم في واسط والذي أرسل كاتبه الكوفي الى بغداد وفرضت حراسة مشددة على قصر الخلافة !!
    وشكل الكوفي مجلساً استشارياً للبت في ترشيح الخليفة القادم واستدعيت وربما لأول مرة شخصيات من العلويين .. وتردد اسم ابراهيم بن المقتدر ، وعندما وافق بجكم على هذا الترشيح تسنم الخليفة الجديد منصبه بشكل رسمي في العشرين من ربيع الأول واختار من بين الألقاب التي عرضت عليه لقب « المتقي » ولم يكن له من الخلافة سوى الاسم وبلغ من استضعاف بجكم له أن أمر بنقل بعض أثاث قصر الخلافة الى قصره .
    وفي شهر رجب اغتيل بجكم في رحلة صيد في المناطق بين الأهواز وواسط أثناء عودته اليها وقد اغتاله بعض شبان الأكراد بعد أن أغار على مضاربهم .


343
    وانتهز البريدي الفرصة وراح يفكر بالاستيلاء على بغداد التي تعاني من الجوع فيما كان الحنابلة المتعصبون يهاجمون مسجداً للشيعة في حي « براثا » بالكرخ ، كما هاجموا حي الصيارفة ، فاضطر الخليفة الى اعتقال عدد من الحنابلة وأن يشدد الحراسة على مسجد « براثا » ولم تهدأ الفتن الطائفية إلا بعد وفاة البربهاري زعيم الحنابلة في محل اختفائه لكنه خلف لاتباعه منهج العنف في التعامل مع المذاهب الاسلامية (306) !
    وفي منزل السفير الرابع علي بن محمد السمري حضر بعض زعامات ومشايخ الشيعة وكان بينهم رجال قدموا من مدينة قم فسأل السمري أحدهم عن الشيخ ابن بابويه القمي (307) بعد أن وردت انباء عن اصابته بوعكة صحية فقال الرجل :
    ـ تركته في فراش المرض وكان هذا آخر عهدي به .. ولكن البريد الذي وصل قبل يومين يقول انه قد استقل من مرضه .
    وبعد أيام فوجىء الذين حضروا مجلس السفير بقوله دون مقدمات :
    ـ آجركم الله في علي بن الحسين فقد قُبض في هذه الساعة .
    سارع أحدهم فأخرج دفتراً وقلماً وسجل التاريخ الساعة ، اليوم ، والشهر .
    ومرّ اكثر من اسبوعين عندما وصل البريد يفيد بوفاة الشيخ


344
ابن بابويه في نفس الوقت الذي أشار اليه السفير علي بن محمد السمري (308).
    وكان لهذه الواقعة اثراً طيباً في تعزيز ثقة الطائفة الشيعية بالسمري سفير الامام ودليلاً على أن المهدي ما يزال يعيش بين ظهرانيهم وقد آتاه الله من الحجج مثلما آتى جدّه الذي منحه اسمه وكنيته ومهمة حمل الأمانة في تطبيق شريعته في واقع الحياة .
    لم تعد بغداد مدينة للسلام بعد عنف الحوادث التي باتت تعصف بالأرض الاسلامية خاصة العراق الذي استحال الى مسرح للحروب المستمرة وكانت عيون الطامعين تتطلع الى الاستيلاء على عاصمة الدولة الاسلامية ..
    ان شمس الحضارة الاسلامية تؤذن بالأفول .. وبغداد غارقة في الفتن والمؤامرات والاطماع .. وفي حمأة الغرائز البشرية وحمّى الشهوات ..
    حتى الطبيعة كانت هي الأخرى انعكست عليها آثار هذا الانحطاط الحضاري عندما لم يعد هناك من يصغي الى صوت العقل والضمير الانساني .
    ففي ليلة غادر سماءها القمر ذهل سكان بغداد لمنظر الشهب التي بدأت تنقض منذ المساء وظلت تنهمر بلا انقطاع حتى مطلع الفجر (309) .


345
47
    في 9 شعبان عام 329 هـ تلقى الشيعة نبأ هاماً سيكون له الأثر الأكبر في مستقبلهم ..
    ففي أصيل ذلك اليوم استدعى السفير الرابع علي بن محمد السمري عدداً من الشخصيات الامامية واطلعهم على توقيع خطير صدر عن الامام المهدي جاء فيه :
    ـ « بسم الله الرحمن الرحيم
    يا علي بن محمد السمري !
    أعظم الله أجر اخوانك فيك .. فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ..
    فاجمع أمرك .. ولا توص الى أحد ، فيقوم مقامك بعد وفاتك ..
    فقد وقعت الغيبة التامة .. فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره ..
    وذلك بعد طول الأمد ،
    وقسوة القلوب
    وامتلاء الأرض جورا ..
    وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهده !


346
    ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني ، والصيحة فهو كذّاب مفتر ..
    ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم » (310) .
    وتلقى الحضور النبأ بوجوم ثم ما لبثوا أن استنسخوا التوقيع .
    ستة أيام فقط وينقطع الحبل الذي يربط سفينة الشيعة بالربان العظيم الذي يحاول هدايتها الى شاطىء السلام ..
    لقد ترك لهم قيادة السفينة وسط أمواج الحياة المتلاطمة بعد أن دخل دائرة الحلم الأخضر ..
    عليهم أن ينهضوا بالعبء وحدهم .. أن يرتفعوا الى مستوى المسؤولية في التمهيد الى لحظة الحضور والظهور ..
    فالمهدي لم يختف عن الانظار إلا لأنه عاش في زمن رهيب .. زمن يصلب الانبياء .. ورياح الزمهرير ما تزال تهب مجنونة وتقضي على الفراشات القادمة من أجل الربيع .
    وها هو الآن يقرر الاختفاء نهائياً بعد أن استحال الى أمل دافىء وغد مشرق ينتظره المعذبون في الأرض ..
    سوف يعود عندما تضج الأرض من الآثام .. وتمتلأ بالشرور ..
    ويتطلع الناس الى القادم الأخضر ..
    وتمرّ الأيام حزينة كقطيع من النعاج يساق الى الذبح وأطل يوم 15 شعبان ..
    كان منزل علي بن محمد السمري آخر سفراء المهدي


347
تغمره حالة من الوجوم ..
    الشيخ الراقد في فراشه تتلاحق انفاسه لكأنه يقطع صحراء خالية ..
    والسماء تنث مطراً خفيفاً بحجم الدموع التي ذرفها المصلون في صلاة الاستسقاء (311) !
    انتابت بعضهم هواجس خائفة .. عندما يغمض الشيخ عينيه فان لحظة الانفصال بالمهدي تكون قد أزفت .. ان الزمهرير القادم سيكون رهيباً .. والشمس سوف تتكاثف الغيوم فوقها أكثر فأكثر ..
    لكأن الجو كان مكهرباً أن الهواجس تسري الى الجميع وسمع أحدهم يقول للشيخ المحتضر :
    ـ الى من توصي بعدك ؟
    أجاب الشيخ بحزن :
    ـ للّه أمر هو بالغه !
    وكانت هذه الكلمات هي آخر الكلمات لأن عيناه كانتا تنظران عبر الباب المشرعة الى الافق البعيد .. و كانت قطرات المطر ما تزال تساقط على هون.. لكأن السماء تبكي..
    وفي موكب التشييع تبادل البعض نفس الحديث حول اقتراب قوّات « البريدي » من بغداد ...
    سوف تستحيل المدينة مرّة أخرى الى ميدان للنهب والسلب والفرضى.. لقد غادر السلام مدينة السلام ..


348
ولم تكد تمرّ سوى أيام حتى أضحت السماء مسرحاً لتراكم السحب الكابية وبدا الجو مشحوناً بآلاف الصواعق وكانت الغيوم تتشكل تلالاً وجبالاً ، وضاعت البحيرات الزرقاء من السماء الصافية..
    فجأة اشتعلى البروق .. ودوّت الرعود وانهمر المطر غاضباً لكأنه عزم على اغراق هذه المدينة ..
    وفي غمرة المشهد الثائر .. كان هناك رجل يبدو في الأربعين من عمره يشق طريقه في الدروب المقفرة إلا من المطر ...
    ولو أنصت اولئك المقهورون في تلك اللحظات الزاخرة بالرهبة لسمعوا كلمات تقول :
    ـ ولدت في زمن يصلب الانبياء .. ولهيبه يحرق الفراشات
    فغبت .. انني مثلكم انتظر لحظة الظهور .
    أجوس خلال الديار ..
    أرافق الزمان ..
    انني الوجه الأخضر من التاريخ
    ستندثر كل صفحات التاريخ الصفراء ..
    وستبقى صفحتي مشرقة ..
    خضراء بلون الربيع ..
    بلون الحياة ..
    بلون جنّات الفردوس ..
    أنا مستقبل الانسان ..


349
    أنا الشمس القادمة من قلب السحب الجليد ..
    والدفء بعد ليالي الزمهرير ..
    لا تحاصروني بالأساطير .. أنا حيّ بينكم .. أشهد جراحكم ..
    أبكي لعذاباتكم .. أتألم لضياعكم ..
    تعالوا اليّ ؟!
    لآتي اليكم ..

    ما يزال الرجل آخذاً سمته نحو الأفق المدلهم البعيد .. وقد ظهرت بغداد خلفه في مهب عاصفة رعدية ثائرة .. السماء تشتعل بالبروق .. وضربت صاعقة مدمرة القبة الخضراء ، فهوى الفارس الأخضر الذي يتربع عليها منذ سنة 145 هـ (312) .
    فيما اجتاحت مياه دجلة لتجتاز الشطآن الغارقة متجهة نحو الأزقة والشوارع التي استحالت الى أنهار غاضبة ..
    أما البيوت فقد بدت زوارق تائهة .. فيما كان المطر ينهمر بغزارة والرعود تجلجل في الفضاء اللانهائي ..
    وقد غابت الشمس وراء السحب .
النهاية ..

9 محرم الحرام 1421