مكارم الأخلاق ::: 1 ـ 15

مكارم الأخلاق
تأليف
الشيخ الجليل رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي
من اعلام القرن السادس الهجري
بعثت لاتمم مكارم الاخلاق
( حديث نبوي شريف )
قدم له وعلّق عليه :
محمد الحسين الأعلمي


(4)
الطبعة السادسة
حقوق الطبع محفوظة للناشر
1392 هـ ـ 1972 م


(5)
    المؤلف :
    هو الحسن الملقب برضي الدين والمكنى بأبي نصر نجل الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (1) ، من أعلام القرن السادس الهجري.
    كان من أكابر علماء الامامية ، وأجلاء هذه الطائفة وثقاتهم ، روى عن والده أمين الدين الفضل الطبرسي ، وعنه مهذب الدين الحسين بن أبي الفرج ردة النيلي. من اسرة علمية تسلسل فيها العلم والفضل.
    فأبوه صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن الذي لا يزال حتى اليوم مرجعا لكل طالب تفسير ، وصاحب أعلام الورى بأعلام الهدى ، وجوامع الجامع وغير ذلك من المؤلفات القيمة.
    وولده علي بن الحسن كان من العلماء المؤلفين وهو صاحب كتاب مشكاة ( الانوار ) المطبوع في النجف الاشرف سنة 1370 ، ويمكن اعتبار كتابه تتميما لكتاب والده ( مكارم الاخلاق ).
    كل الذين تحدثوا عنه لم يذكروا لا مكان ولادته ولا تاريخها ، ولا مكان وفاته ولا تاريخها ، رغم من العلماء البارزين ، واكتفوا بالقول بأنه كان من أعلام القرن السادس الهجري ، وإنما ذكر المقدس السيد محسن الامين العاملي في أعيان الشيعة ج 23 ص 9 ـ 15 ، انه توفي في سبزوار سنة 548 ه ونقلت جنازته إلى المشهد الرضوي ،
1 ـ منسبوب إلى طبرستان وهي بلاد واسعة مجاورة لبلاد مازندران ، وجيلان ، وجرجان في إيران ، راجع معجم البلدان للحموي حرف الطاء المهملة.

(6)
ودفن هناك في موضع يعرف بقتلكاه ، وانه كان قبل انتقاله إلى سبزوار يسكن المشهد الرضوي ، وانه انتقل إلى سبزوار سنة 523 ، وعلى هذا يكون قد أقام في سبزوار خمسا وعشرين سنة.
    هذا كل ما أمكننا أن نعرفه عن حياته. على أن بعضهم يناقش تاريخ الوفاة المذكور ومحل دفنه المذكور في أعيان الشيعة ، وينسبون كل ذلك إلى والده صاحب التفسير حيث ان والده مدفون بخراسان ( المشهد الرضوي ) في شارع الموسوم بشارع الطبرسي وقبره مزار لحد اليوم. ومهما كان الامر فان ما وصلنا من أخباره العلمية كله ثناء عليه.
    فقد وصفه صاحب أمل الامل (1) بأنه كان محدثا فاضلا ، ووصفه في رياض العلماء (2) بالمحدث الجليل.
    ووصفه في مستدرك الوسائل : بالفقيه النبيل المحدث الجليل.
    وقال المجلسي ( ره ) في مقدمة البحار : بأنه قد أثنى عليه جماعة من الاخيار.
    إلى غير ذلك من الصفات التي ذكرها هؤلاء وغيرهم.
    الكتاب :
    هو مكارم الاخلاق ومعالم الاعلاق ، الحاوي لمحاسن الافعال والاداب ، من سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآدابه وأخلاقه ، وأوصافه ، وسائر حالاته ، وحالات الائمة المعصومين عليهم السلام وما روت في ذلك عنه وعن أهل بيته صلوات الله عليه وعليهم.
    قال المجلسي ( ره ) في مقدمة بحاره : وكتاب المكارم في الاشتهار كالشمس في رائعة النهار.
1 ـ للشيخ المحدث أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي المعروف بالحر العاملي صاحب ( وسائل الشيعة ) المتوفى سنة 1104 هـ.
2 ـ للفاضل المتتبع الميرزا عبد الله بن عيسى بن محمد صالح التبريزي الشهير بالافندي المعاصر للعلامة المجلسي.


(7)
    وقال غيره من العلماء : إن مكارم الاخلاق قد ألف في حياة والده ، وهو كتاب نفيس نافع مشهور ، حسن الترتيب ، كثير الجمع ، اشتهر وانتشر في عصر مؤلفه.
    طبع هذه الكتاب القيم مرات ومرات في كل من مصر إيران. فقد طبع لاول مرة في مصر في مطبعة عبد الواحد الطوبي وعمر حسين الخشاب في شعبان سنة 1303 ه وانتشر واشتهر وكثر الاقبال عليه ، ثم اعيد طبعه في مطبعة بولاق ، وفي مطبعة أحمد البابي الحلبي سنة 1306 ، ولكنه مع الاسف الشديد حرف في جميع الطبعات المصرية تحريفا فظيعا وتغييرا شنيعا. ولما كانت نسخ هذا الكتاب المخطوطة كثيرة في كل من العراق وإيران ، واطلع عليها جماعة من العلماء والفضلاء ، جمعوا عدة نسخ من مخطوطة الكتاب وقاموا بتصحيحه وتدقيقه وطبعه في إيران. وطبع بعد ذلك عدة طبعات في كل من إيران والعراق. ونظرا لاهمية الكتاب ، ونفاذ نسخه من الاسواق التجارية ، وكثرة الطلب ، قامت هذه المؤسسة الثقافية بإعادة طبعه ونشره بعد التصحيح الدقيق والتعليق اللازم خدمة للعلم ، والله من وراء القصد.
محمد الحسين الأعلمي


(8)
    مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الواحد الاحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، والصلاة والسلام على محمد عبده المجتبى ، ورسوله المصطفى ، أرسله إلى كافة الورى ، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى أهل بيته أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والسلام على من اتبع الهدى.
    وبعد فإن الله سبحانه وتعالى لما جعل التأسي بنبيه مفتاحا لرضوانه وطريقا إلى جنانه ، بقوله عزوجل : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر ) واتباعه واقتفاء أثره سببا لمحبته ، ووسيلة إلى رحمته بقوله عز من قائل : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) حداني هذا الفوز العظيم إلى جمع كتاب يشتمل على مكارم أخلاقه ومحاسن آدابه وما أمر به أمته ، فقال ( عليه السلام ) : إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق. لان العلم بالشيء مقدم على العمل به ، فوجدت في كلام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ما يحتوي على حقيقة سير الانبياء وهي الانقطاع بالكل عن الناس إلى الله في الرجاء والخوف وعن الدنيا إلى الاخرة.
    وخص من جملتهم نبينا محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكمال هذه السيرة وحثنا ورغبنا على الاقتداء به فقال ( عليه السلام ) بعد كلام له طويل لمدع كاذب يدعي بزعمه أنه يرجو الله : كذب والعظيم ما باله [ و ] لا يتبين رجاؤه في عمله وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله فإنه مدخول ، وكل خوف متحقق إلا خوف الله فإنه معلول ، يرجو الله في الكبير


(9)
ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع بعباده ؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا ؟ وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالفه ضمارا (1) ووعدا وكذلك من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها في قلبه ، آثرها على الله فانقطع إليها وصار عبدا لها ، ولقد كان في رسوله الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاف لك في الاسوة ودليل على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ووطأت لغيره أكنافها وفطم عن رضاعها وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله إذ يقول : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير والله ما سأله إلا خبزا يأكله ، لانه كان يأكل بقلة الارض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله وتشذب (2) لحمه ، وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل من سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها ، وإن شئت قلت في عيسى بن مريم فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الارض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مال يلفته ولا طمع يذله ، دابته رجلاه وخادمه يداه. فتأس بنبيك الاطيب الاطهر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لاثره ، قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدنيا كشحا (3) وأخمصهم من الدنيا بطنا ، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أن الله أبغض شيئا فأبغضه وحقر شيئا فحقره ، وصغر شيئا فصغره ، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله وتعظيمنا ما صغر الله لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله.
1 ـ الضمار الوعد المسوف.
2 ـ الصفاق ككتاب : هو الجلد الاسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر أو جلد البطن وهو المراد ههنا. والتشذب : التفرق.
3 ـ قضم الشيء : كسره بأطراف أسنانه وأكله ، والمراد الزهد في الدنيا والرضا منها بالدون. والهضم : خمص البطن وخلوها. والكشح ، ما بين السرة ووسط الظهر.


(10)
    ولقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأكل على الارض ، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ويكون الستر على باب بيته تكون فيه التصاوير فيقول : يا فلانة ـ لاحدى أزواجه ـ غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها ، فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتخذ منها رياشا (1) ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
    ولقد كان في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصته ، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته ، فلينظر ناظر بعقله أأكرم الله بذلك محمدا أم أهانه ؟ فإن قال : أهانه فقد كذب والله العظيم ، وأتى بالافك العظيم ، وإن قال : أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه.
    فإن تأسى متأس بنبيه واقتص أثره وولج مولجه وإلا فلا يأمن الهلكة فإن الله جعل محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علما للساعة ومبشرا بالجنة ومنذرا بالعقوبة ، خرج من الدنيا خميصا وورد الاخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه ، فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه وقائدا نطأ عقبه والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل : ألا تنبذها ؟! فقلت : اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.
    فهذه الخطبة كافية في مقصودنا على طريق الجملة ونحن نذكر تفصيل مكارم أخلاقه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جميع أحواله وتصرفاته وجلوسه وقيامه وسفره وحضره وأكله وشربه خاصة وجميع ما روي عنه وعن الصادقين عليهم السلام في أحوال الناس عامة ونسأل الله التوفيق في إتمامه ، إنه على ما يشاء قدير ، وتيسير العسير عليه سهل يسير.
1 ـ الرياش : ما كان فاخرا من اللباس والاثاث.

(11)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الاول
في خلق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخلقه وسائر أحواله ، وفيه خمسة فصول :
الفصل الاول
في خلقه وخلقه وسيرته مع جلسائه
    برواية الحسن والحسين عليهما السلام من كتاب محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني عن ثقاته ، عن الحسن بن علي ( عليه السلام ) قال : سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي (1) وكان وصافا عن حلية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخما مفخما يتلالا وجهه تلالؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (2) ، عظيم الهامة ، رجل الشعر (3) ، إذا انفرقت عقيصته قرن (4) وإلا فلا يجاوز شعره شحمه أذنيه إذا هو وفرة ، أزهر اللون واسع الجبين ، أزج الحواجب (5) سوابع في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب
1 ـ هو أخو فاطمة عليها السلام من قبل أمه ، وكان رجلا فصيحا ، قتل مع علي ( عليه السلام ) يوم الجمل.
2 ـ المشذب كمعظم : الطويل.
3 ـ أي ليس كثير الجعودة ولا شديد السبوطة ، بين الجعودة والاسترسال.
4 ـ العقيصة : الفتيلة من الشعر وفي الشعر كثرته.
5 ـ وفرة كدفعة. و أزج الحواجب أي الدقيق الطويل. السوابع : الاتصال بين الحاجبين.


(12)
أقنى العرنين (1) ، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم (2) ، كث اللحية (3) ، سهل الخدين ، أدعج ، ضليع الفم (4) ، أشنب مفلج الاسنان (5) ، دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية (6) في صفاء الفضة ، معتدل الخلق بادنا متماسكا ، سواء البطن والصدر عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس (7) ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط (8) ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين ، أعلى الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، سبط القصب ، شثن الكفين والقدمين (9) ، سائل الاطراف ، خمصان الاخمصين (10) ، مسيح القدمين (11) ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال قلعا ، يخطو تكفئا ويمشي هونا ، سريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب وإذا التفت إلتفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الارض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ويبدر من لقي بالسلام.
    قال : قلت له : صف لي منطقه ؟
    قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متواصل الاحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ،
1 ـ العرنين : الانف. أقنى العرنين أي محدب الانف.
2 ـ الشمم : ارتفاع في قصبة الانف مع استواء أعلاه.
3 ـ يعني كثيف الشعر في لحيته. رجل سهل الوجه : قليل لحمه.
4 ـ الدعج : سواد العين. وضليع الفم واسعه وعظيمه.
5 ـ شنب الرجل فهو أشنب : كان أبيض الاسنان ، والمفلجة من الاسنان : المنفرجة.
6 ـ المسربة : الشعر وسط الصدر إلى البطن. والدمية بالضم : الصورة المزينة فيها حمرة كالدم.
7 ـ الكردس : الوثاق المفصل.
8 ـ اللبة : موضع القلادة من الصدر.
9 ـ رحب الراحة : وسيع الكف كناية عن الرجل الكثير العطاء. القصب : كل عظم ذي مخ أي ممتد القصب. وشثن الاصابع غليظها.
10 ـ لم يصب باطن قدمه الارض.
11 ـ مقدم قدمه ومؤخره مساو.


(13)
ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (1) ويتكلم بجوامع الكلم ، فصلا لا فضولا ولا قصيرا فيه ، دمثا (2) ليس بالجافي ولا بالمهين يعظم النعمة وإن دقت ولا يذم منها شيئا ، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه ولا تغضبه الدنيا وما كان لها إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث أشار بها ، فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح (3) ، وإذا فرح غض من طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام (4).
    قال الحسن ( عليه السلام ) : فكتمتها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسألته عمن سألته فوجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله فلم يدع منها شيئا.
    قال الحسين بن علي : سألت أبي عن دخول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء ، جزءا لله عزوجل ، وجزءا لاهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة والخاصة ولا يدخر ـ أو قال لا يدخر ـ عنهم شيئا.
    فكان من سيرته في جزء الامة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم وأصلح الامة من مسألته عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول ليبلغ الشاهد الغائب وأبلغوني في حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة ، لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون زوارا ، ولا يفرقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة فقهاء.
    قال فسألته من مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
1 ـ الاشداق : جوانب الفم ، والمراد أنه لا يفتح فاه كله ، وفي بعض النسخ ( بابتدائه ).
2 ـ الدماثة : سهولة الخلق.
3 ـ أشاح : أظهر الغيرة ، والشائح : الغيور.
4 ـ الغمام : السحاب ، والمراد أنه تبسم ويكثر حتى تبدو أسنانه من غير قهقهة.


(14)
    قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخزن لسانه إلا فيما يعنيه ، ويؤلفهم ولا يفرقهم ـ اوقال ولا ينفرهم ـ ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس الفتن ، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس فيحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الاسر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
    قال : فسألته عن مجلسه ؟
    فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جل اسمه ، ولا يوطن الاماكن وينهي عن إيطانها (1) وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، يعطي كلا من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فكان لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الاصوات ولا يوهن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته (2) ، متعادلون متفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعون ، يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون ـ أو قال يحوطون الغريب.
    قال : قلت : كيف كانت سيرته مع جلسائه ؟
    قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب (3) ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، فلا يؤيس منه ولا يخيب فيه مؤمليه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والاكثار ومما
1 ـ يعني لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به.
2 ـ نثوته نثوا من باب قتل : أظهرته. والفلتات : الهفوات أو الامر فجأة.
3 ـ الصخاب من الصخب وهو شدة الصوت.


(15)
لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوليهم ، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه ويصير للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم (1) ، ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه (2) ، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
    قال : قلت : كيف كان سكوته ؟
    قال : كان سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أربعة : على الحلم والحذر والتقدير والتفكر ، فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى ، وجمع له الحلم والصبر ، فكان لا يغضبه شيء ولا يستنفره ، وجمع له الحذر في أربعة : أخذه بالحسن ليقتدي به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده فيما أصلح امته ، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والاخرة.

    عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار ، وكان يوم خيبر ويوم قريضة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته إكاف من ليف (3).
1 ـ يعني أنهم يستجلبوا الفقير لئلا يؤذي النبي.
2 ـ الرفادة. الضيافة وورود المدعو على الداعي. والرفد بكسر الرا : الهبة والعطية.
3 ـ المخطوم : من خطم الحمار بحبل أي جعله على أنفه. والاكاف : برذعة الحمار وجله.
مكارم الأخلاق ::: فهرس