النِظام المَالي وتداول الثّروة في الإسْلام ::: 91 ـ 105
(91)
    وبطبيعة الحال لم تكن تتجاوز قيمتها السلعية عن قيمتها النقدية ، وذلك كالمعادن والحبوب والانعام.
    وتطورت النقود بعد ذلك إلى الذهب والفضة ، نظراً لثبات كميتها ـ تقريباً ـ وسهولة تناولهما ونقلهما.
    واستحدث الإنسان بعد ذلك نظام المسكوكات ، وأخذت الحكومات بسك النقود الراجعة إليها من الذهب والفضة وأحياناً من المعادن الأُخرى.
    وظل هذا النحو من النقود شائعاً حتى الحرب العالمية الأُولى؛ حيث رأت الحكومات ضرورة الاحتفاظ بما تمتلكه من الذهب لاسناد أوراقها النقدية ، وللاحتفاظ بها لشراء الأسلحة ، فيما إذا اقتضت الضرورة.
    وهكذا شاع استعمال الأوراق النقدية ( النقود الائتمانية ) من هذا الوقت.
    نظام « الذهب » في الفقه الإسلامي :
    منذ وقد بعيد تداول الإنسان « الذهب » كبضاعة ونقد في معاملاته ، ولم ندر ـ على وجه الدقة ـ متى تداول الإنسان الذهب في معاملاته ، ومتى ابتدأ الإنسان باستخراجه والاحتفاظ به كحلية وبضاعة ونقد.
    إلاّ أننا نعلم أن الذهب كان منذ أقدم الأيام موضع عناية الإنسان الخاص؛ وذلك لندرته ، وسهولة حمله ، وتجانسه ،


(92)
وارتفاع قيمته ، مع صغر حجمه وثبات كميته تقريباً.
    وقد كانت مسألة الذهب من قديم مثار مشاكل للإنسان.
    وبلغ الاهتمام بها في عالم السياسة ، ان هيئة الأمم ، ومن قبلها عصبة الأمم ، عينت جهازاً خاصاً لدراسة مسألة الذهب في العالم ، ورفع تقارير واسعة عنه إلى الهيئة.
    فارتفاع نسبة الذهب في بلاد وانخفاضه يؤثر في مستوى الأسعار ، كما أن تصدير الذهب واستيراده يؤثر في سعر الصرف والعلاقات النقدية بين الدول.
    وقد أولى الإسلام مسألة الذهب عناية تامة ، وجعله مقياساً للقيم ، ووحدة نقدية لتقييم البضائع والخدمات المختلفة.
    ولم يخلق الذهب ـ في النظرية الإسلامية ـ لغرض الاكتناز والزينة ، وإنما خلق ليوظف في مصالح الناس ، ولتتداوله الأمة فيما بينها ليخدم مصالحها.
    فقد سئل ابو جعفر ـ عليه السلام ـ عن الدراهم والدنانير ( وهي الذهب والفضة ) فقال عليه السلام :
    « هي خواتيم الله في أرضه ، جعلها مصلحة لخلقه ، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم. فمن أكثر له منها فقام بحق الله ، فذاك الذي طلبه ، ومن أكثر له منها فبخل فذاك الذي حق عليه وعيد الله ... » (1).
1 ـ سفينة البحار : 1 / 445.

(93)
    وأكد بصورة غير مباشرة على اتخاذ الذهب وحدة نقدية في المجتمع الإسلامي؛ فربط الذهب بأحكام ثابتة من الشريعة ، كالديات وكثير من الكفارات .. كما فرض عليه ضريبة خاصة به.
    الاستعمال المشروع وغير المشروع للذهب :
    ومما تقدم ، يستطيع الباحث أن يلمح : أن الغرض الرئيسي من الذهب في الفقه الإسلامي ، هو التوظيف والتداول كنقد في الأسواق.
    أما بقية وجوه استعمال الذهب ، فقد حاول الإسلام أن يحددها أو يمنعها بشكل مباشر أو غير مباشر.
    فالأغراض التي يستخدم فيها الذهب ثلاثة :
    1 ـ الأغراض النقدية :
    وهي من أهم وجوه الحاجة إلى الذهب.
    وسنجد ـ فيما يأتي ـ أن الفقه الإسلامي حاول أن يجعل من الذهب النقد الرسمي للبلاد ، ويعطي غطاءً ذهبياً كاملاً للنقود الورقية المتداولة في الأسواق.
    2 ـ الأغراض الصناعية :
    ويستخدم الذهب كثيراً لأغراض صناعية ، وفي صناعات مختلفة ، كصياغة الحلي وصناعة الأواني الذهبية.


(94)
    وتعتبر الصياغة والصناعات الذهبية في الوقت الحاضر مصرفاً ضخماً من مصارف الذهب في العالم .. فيجمد الذهب بشكل أواني أو حلي عن التداول في الأسواق والتوظيف ، ويفقده خاصية السيولة النقدية.
    وقد حاول الإسلام أن يحدد هذا المصرف من مصارف الذهب ويشجب بعض وجوهه ، فمنع الرجال من اتخاذ الحلي الذهبية ، كما منع من استعمال الأواني الذهبية.
    وطبيعي أن مجموع الذهب يستخدم سنوياً في هذه الأغراض لو استخدم في أغراض نقدية ووظف في الأسواق لعاد على الأمة بنفع كثير.
    3 ـ الإكتناز :
    وهذا غرض آخر من الأغراض التي يستخدم فيها الذهب.
    وتشيع هذه الظاهرة الاقتصادية في حالات الاضطراب والحرب ، حيث يقبل الناس على تبديل أموالهم إلى الذهب والاحتفاظ به خوفاً من التلف.
    وهذه الحالة تؤدي إلى سحب كميات كبيرة من الذهب من الأسواق؛ فتقل كمية الذهب الموجود ، وتضطرب الأسعار. ثمّ يعود الذهب إلى الأسواق مرة أُخرى حين يعود الأمن إلى البلد ، فيكثر ، ويعود الاضطراب مرة أُخرى إلى الأسواق.
    أما الاكتناز الدائم ، فهو إهدار لفائدة هذه الأداة النافعة


(95)
التي خلقها الله لخدمة مصالح الناس بلا جدوى. وأكثر ما تنتشر هذه العادة في الهند ، حيث يحتفظ « مهاراجات » الهند بكميات كبيرة من الذهب.
    وقد شجب الإسلام هذا التصرف المشين ، وأعد للقائمين به عذاباً مُرّاً ، حيث يقول الله ـ تعالى ـ :
    ( ... وَالَّذِينَ يَكِنزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها فيِ سَبيلِ اللهِ ، فَبَشِّرْهُمْ بَعذابٍ ألَيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ؛ هذا ما كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُم تَكْنِزُونَ ) (1).
    ولقد انصرف بعض الاقتصاديين في العهد الأخير إلى تحديد نصيب كل غرض من الأغراض الثلاثة المتقدمة من ناتج الذهب السنوي.
    فذهب الاقتصادي « Lefeldt » إلى أن الناتج السنوي من الذهب في الوقت الحاضر ( سنة 1931 ) يبلغ 400 مليون دولار ، يستخدم منه في الأغراض الصناعية والاكتناز نحو 200 مليون دولار ـ أي النصف ـ ويستخدم منه في الأغراض النقدية النصف الآخر.
    وقد تناول هذا الموضوع بالبحث الخبراء الماليون في عصبة الأُمم ، فتبين لهم أن ما يستخدم من الذهب لغير الأغراض
1 ـ سورة التوبة : 34 ، 35.

(96)
النقدية سيتزايد بمعدل 1 % في السنة ... » (1).
    ولا يحتاج إلى تأكيد أن هذا المبلغ الضخم ـ أي ما يساوي الذهب المستخدم في الأغراض النقدية ـ ... لو كان يضاف إلى الذهب الموظف في الأسواق ، لكان له تأثير بالغ في تحسين الأوضاع الاقتصادية ، وتيسير البضائع والخدمات في الأسواق للناس.
    النظام النقدي للمجتمع الإسلامي :
    تقسم الأوراق المالية ، في الوقت الحاضر ، إلى « أوراق الزامية » و « أوراق ائتمانية ».
    والأوراق المالية الإلزامية لا تمثل أية قيمة نقدية ، وإنما تمثل فقط قيمة قانونية ، تفرضها الدولة على السوق.
    والأوراق الائتمانية على نحوين : فهي إما تعهدات بأداء مبلغ من المال إلى الشخص الذي يحمل ورقة التعهد لمدة معينة أو لحين الطلب ، وإما أوراق نقدية تمثل كمية من الذهب في خزانة الدولة أو خزانة « البنك المركزي ».
    ولكل من هذه الأوراق حكم في التشريع الإسلامي ...
    فالأوراق الإلزامية يتوقف جواز إصدارها على أمرين :
    نفوذ حكم الحاكم في اعتبار هذه الأوراق وإلزام المواطنين بقبولها
1 ـ مجلة « الهلال » : 40 / 244.

(97)
وتداولها ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى توفير صفة المالية لها من ناحية شرعية. فإن تم هذان الأمران فلا شك في جواز إصدار الأوراق المالية الإلزامية ، وإلزام المواطنين بتداولها في الأسواق ، مع تقدير كامل للوضع المالي في البلاد ، واتخاذ الاحتياطالت والتحفظات الكافية في إصدارها ، بحيث لا يؤدي إلى اختلال الوضع المالي في الأسواق الداخلية ، أو إلى هبوط قيمة هذه الأوراق في الأسواق الخارجية.
    ولا نريد هنا أن نسهب في تفاصيل هذا البحث من ناحية فقهية ، فلسنا في هذه الرسالة بصدد أكثر من عرض موجز لنظام التداول في الفقه الإسلامي.
    أما أوراق التعهد المالي ، فلا شك في جواز إصدارها من قبل المؤسسات المالية المجازة ، ولا يجب على الجهة القائمة بإصدار هذه الأوراق أن تملك من الذخيرة النقدية ما يكفي لتغطية جميع هذه التعهدات. إذ لا يتداولها الناس باعتبارها نقوداً ، تملك غطاءاً ذهبياً كاملاً .. وإنما هي تعهدات ، يكفي فيها إطمئنان الزبائن إلى قدرة المؤسسة المالية على الوفاء بها.
    ولكي لا تستغل المؤسسات المالية إعتماد الزبائن بها في الإكثار من إصدار هذه التعهدات بأكثر من قابلياتها المالية ، لابد من إشراف مباشر عليها من قبل الجهات الحكومية المسؤولة في الدولة الإسلامية.


(98)
    ومثل هذه المهمة تدخل في مسائل الولاية العامة التي يلي شؤونها الحاكم الشرعي في الدولة.
    وأما الأوراق النقدية التي تمثل كمية من الذهب ، فيجب على الدولة أن تضمن لها غطاءاً نقدياً كاملاً في خزانة الدولة أو في خزانة البنك المركزي. ولا تكفي التغطية الناقصة.
    والفرق بين أوراق التعهد المالي والأوراق النقدية ، أن التعهدات المالية لا تمثل غير تعهد بدفع المال لأجل أو لحين الطلب ، ولا يوجد في ظهر الورقة أية إشارة بتمثيل هذه الورقة لكمية نقدية من المال .. بينما نجد أن الأوراق النقدية المتداولة في الأسواق تمثل كمية نقدية من المال في خزانة الدولة أو خزانة البنك المركزي ، وتشير إليها ، ولا يتداولها الناس في الأسواق ما لم يطمئنوا إلى وجود تغطية كاملة لها من الذهب ولا يتعاطاها الناس كتعهد ، وإنما يتعاطونها كنقد يمثل قيمة نقدية واقعية.
    وأي عجز في خزانة الدولة عن تغطية هذه الأوراق يعتبر غشاً واغراءً بالجهل من الناحية الشرعية.
    شرعية الأنظمة النقدية الاُخرى :
    ويكفي من ناحية ثانية أن تعتمد الدولة على أنظمة اخرى غير نظام الذهب ، فيجوز لها أن تعتمد على الأراضي الزراعية والمعادن التي تملكها الدولة لتغطية هذه الأوراق .. إذا كان الذهب الموجود لدى الدولة لا يكفي لتغطية الأوراق النقدية التي تريد الدولة أن تطرحها في السوق.


(99)
    تعتبر المصارف في الوقت الحاضر ، العصب الحساس للحياة الاقتصادية.
    وبغير العمليات المصرفية لا يمكن أن تستمر المؤسسات التجارية والصناعية والزراعية في نشاطها الإنتاجي والتجاري.
    ولابد لنا ونحن بصدد البحث عن تداول النقد ، أن ندرس النظام المصرفي على ضوء من التشريع الإسلامي ، ونبحث عن الطرق المشروعة لمزاولة النشاط المصرفي.
    نشأة النظام المصرفي وتاريخه :
    وقبل أن نبحث عن الشكل المشروع للنشاط المصرفي ، نستعرض نشأة النظام المصرفي بصورة موجزة؛ ليتاح لنا أن نربط الصورة المعاصرة للنشاط المصرفي بنشأته التأريخية.
    كانت المصارف قبل هذا العصر دوراً للصيرفة .. تتعهد بحفظ الأمانات النقدية أزاء تعهد كتبي تدفعه إلى المودعين.
    وبمرور الزمن ، أخذت هذه التعهدات ( الوثائق المالية ) تحتل محل النقود والأوراق النقدية ( الأوراق النائبة ) وأصبح الناس يزاولون أعمالهم التجارية بهذه التعهدات في الأسواق.


(100)
    ولاحظ أصحاب هذه الدور ، أن هذه الودائع النقدية تبقى محفوظة ـ في الغالب ـ من غير أن يسترجعها أصحابها لمدة من الزمن.
    وما يبقى من هذه الودائع لدى الدار بصورة مستمرة خلال النشاط المالي الذي تقوم به ، تتجاوز 90 % من الودائع.
    فخطر لهم على بال استثمار 90 % من هذه الودائع النقدية عن طريق إقراض هذه الودائع المالية لقاء فائدة مالية.
    كما تفتقت العبقرية الرأسمالية عن فكرة .. وهي أن وثوق الناس بمكانتها المالية تسمح لها بإصدار أوراق ( وثائق ) وتعهدات مالية تقوم مقام النقد في الأسواق أضعاف النقود والودائع المودعة لديها.
    وأخذت تقرض المؤسسات الإنتاجية والتجارية مبالغ طائلة بهذه التعهدات المالية أو الوثائق المالية.
    وكان الاحتياط النقدي الذي يملكه الصيرفي أو المصرفي لتغطية هذه التعهدات لا يتجاوز في أحسن الأحوال العُشر.
    واتسع فيما بعد نشاطها المالي وأخذت تزاول وجوهاً أُخر من النشاط المالي ، كخصم الكمبيالات ، ونقل النقود ، وصكوك السفر ، وتيسير المعاملات التجارية مع الخارج.
    وكذلك أصبح المصرف ضرورة إقتصادية لا يمكن الإستغناء عنها في الحياة الاقتصادية وفي الأسواق المالية والتجارية.


(101)
    مفاسد النظام المصرفي :
    للنظام المصرفي أهمية كبرى في تيسير أعمال المؤسسات الإنتاجية والتجارية داخل البلاد ، وتنشيط الأسواق المالية والتجارية وبورصات المال والبضاعة.
    ومع ذلك فقد أدّى ظهور النشاط المصرفي في العالم إلى ظهور كثير من المشاكل المالية .. نستعرض بعضها خلال هذا البحث ، ونشير إلى موقف التشريع الإسلامي من كل واحدة منها.
    1 ـ إصدار الأوراق المالية :
    يعتبر إصدار الأوراق المالية من أهم وجوه النشاط المصرفي.
    ويرجع تاريخ ذلك إلى القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث كان الناس يتداولون في الأسواق إيصالات الودائع النقدية لدى الصيارفة كوسيلة للوفاء بالإلتزامات المالية.
    ولأول مرة ، حاول « بنك البندقية » سنة 1587 م ، إستغلال هذه الظاهرة ، وإصدار وصولات متشابهة للإيداع النقدي ، لغرض التداول في الأسواق.
    فقد لاحظت المصارف أن الأشخاص الذين يودعون نقوداً لدى البنك لا يراجعون البنك لاسترجاع ودائعهم إلاّ بنسبة 10 % من هذه الودائع خلال النشاط المصرفي .. فحاولت أن تصدر أوراقاً مالية وتعهدات بمقدار 90 % مما تملكه من رصيد من الودائع.


(102)
    كما لاحظت أن الأشخاص الذين يحملون تعهدات مالية من قبل المصرف؛ قلما يتفق أن يراجعوا المصرف لتغطية هذه التعهدات بما لدى المصرف من النقود إلاّ بنسبة 10%.
    وهذه الملاحظات شجعت أصحاب البنوك إلى الإكثار من إصدار الأوراق المالية والتعهدات المالية ( البنكنوت ) .. مما أدى إلى ظهور الاختلال في الجهاز المصرفي ، وعجز كثير من المصارف من تسديد تعهداتها ، واضطراب الأسواق والبورصات المالية.
    فقد قام بعض المضاربين والمحتالين بنشر أعداد كبيرة من الأوراق المصرفية المتباينة من حيث الوثوق بين أيدي الناس.
    وحصلت إفلاسات لبعض المصارف ووقعت الخسائر من جراء ذلك لكثير من الناس. حتى أن الحكومة تحملت بعض الخسائر من جراء إيداع أموالها في مصارف لم تلبث أن أفلست (1).
    واختلال الجهاز المصرفي ، أو ظهور عجز في هذا الجهاز ، يؤدي سريعاً إلى تقلب قيم الأوراق المالية واضطراب الأسواق ، وتضعضع أركان النظام المصرفي بصورة عامة في العالم.
    ولذلك ، فقد حاولت الدول أن تتدخل ، بصورة مباشرة
1 ـ علم الاقتصاد : اثر ادوار بيرنز : 3 / 358.

(103)
أو غير مباشرة في تحديد عملية إصدار « البنكنوت » (1) بقابلية المصرف لتسديد تعهداتها المالية.
    وحصرت أخيراً صلاحية إصدار « البنكنوت » ب « البنك المركزي » الذي تملكه الحكومة في البلاد وتشرف عليه بصورة مباشرة.
    ولكن النتيجة لم تختلف منذ وضعت الحكومة يدها على إصدار « البنكنوت » وباشر « البنك المركزي » فقط بهذه المهمة.
    وحسبنا الإشارة إلى أنه منذ توقف صرف الأوراق « البنكنوت » بالذهب فعلاً ، أو قانوناً في مستهل الحرب العالمية الأولى ، لم يسترد البنكنوت قابليته للصرف على أي نحو إلاّ لفترة قصيرة ، بين عامي 1931 ـ 1935 .. ثمّ جاءت الأزمة المالية العالمية ، وإنهارت قاعدة الذهب ، وانقسمت العلاقة بين الذهب والبنكنوت في مختلف البلدان؛ بحيث لم يعد لحامل ورقة البنكنوت الحق في مبادلتها بأي شيء على الإطلاق (2).
    موقف الإسلام من إصدار الأوراق المالية :
    ولكي نتبين موقف الإسلام من قضية إصدار الأوراق المالية ، يجب أن نميز بين الأوراق المالية التي يصدرها البنك باعتبارها
1 ـ « البنكنوت » : تعهد مصرفي بدفع مبلغ معين من وحدات النقد القانونية لحامل الورقة عند الطلب.
2 ـ الاقتصاد : سامي الناصري.


(104)
تعهدات مالية باستحقاق حاملها للمبلغ المكتوب عليها على البنك ، لأجل خاص أو لدى الطلب ، اعتماداً على ما لها من ذخيرة مالية.
    وبين الأوراق المالية التي يصدرها البنك باعتبار أنها تمثل قيماً نقدية خاصة ، يتعهد البنك بأدائها لدى المطالبة.
    والقسم الأول من الأوراق المالية لا يمثل غير استحقاق حاملها للمبلغ من البنك .. بينما القسم الثاني من الأوراق تمثل القيمة النقدية ذاتها.
    والقسم الثاني من الأوراق المالية « البنكنوت » هي التي يتداولها الناس في الأسواق للوفاء بالالتزامات المالية.
    ولذلك ، ففي إصدار القسم الأول من الأوراق المالية ، لا يشترط وجود رصيد نقدي لدى البنك ، بل يكفي اطمئنان المصرف بقدرتها على القيام بوفاء تعهداتها المالية لدى الطلب أو عند حلول الأجل.
    ولأجل تفادي المشاكل المالية التي تترتب على إكثار المصارف من إصدار هذه التعهدات ، تقوم الدولة ـ بما لها من ولاية شرعية ـ بفرض رقابة خاصة على المصرف لتحديد إصدار هذا القسم من التهدات بإمكانيات المصرف المالية بنسبة مئوية خاصة ، حسب ظروف السوق المالية.
    فإن اعتماد الزبائن على التعهدات المصرفية يعود إلى الإطمئنان بقدرة المصرف على الوفاء. فلو أصدر المصرف أسناداً مالية


(105)
بأكثر من قابليته المالية وقدرته على الوفاء ، يعتبر عمله هذا خيانة لزبائنه.
    وفي مثل هذه الأحوال ، يجب على الدولة أن تفرض رقابة خاصة على المصارف ، لئلا تتجاوز حدود قدرتها على الوفاء في إصدار أوراق التعهد المالي.
    وأما الأوراق المالية التي تمثل قيمة نقدية ، فلا يجوز للمصرف أن يتجاوز رصيده المالي في إصدارها.
    وذلك لأن المصرف بإصداره هذه الأوراق ، يرمز إلى وجود مبالغ نقدية لديها ، تساوي قيمتها الإسمية.
    وأية زيادة لقيمة هذه الأوراق الإسمية عن رصيده المصرفي المالي يعتبر غشاً وإغراءً بالجهل.
    والرصيد المالي الذي يجب أن يحتفظ به المصرف لتغطية هذه الأوراق ، هو مجموعة الرأسمال الذي يقدمه المساهمون لإنشاء المصرف والاحتياط المالي الذي يدخره المصرف من ربحه الخاص خلال نشاطه المالي.
    وبهذه الصورة ، نرى أن النظام المصرفي الذي يقره الإسلام يسلم من كثير من ألوان الاضطراب والخلل المالي الذي تتعرض له المصارف خارج هذا المجتمع .. ويسود الأسواق المالية وبورصات المال في المجتمع إستقرار مالي واطمئنان عام ، مما يشجع على النشاط التجاري والقيام بأعمال إنتاجية طويلة الأمد.
النِظام المَالي وتداول الثّروة في الإسْلام ::: فهرس