النظام الصحي ::: 31 ـ 40
(31)
البريطاني ، ويتهمونه بالقصور عن مواكبة النظرية الرأسمالية ، ويزعمون ان الطلب المتزايد على خدمات النظام الصحي ، ومحدودية الاموال المقدمة له من قبل الضريبة تجرده عن المنفعة المادية المتوخاة في كل عمل رأسمالي ، ويدعون بان النظام الصحي البريطاني لا يفتقر الى المال فحسب ، بل يفتقر ايضاً الى الدقة والاتقان في تقديم الخدمات الطبية.
     ومع ان هذه الادعاءات صحيحة ظاهرا ، الا ان هذا النظام الصحي اعدل نسبياً من نظيره في الولايات الوتحدة. فهو اولاً : يمثل عدالة نسبية في توزيع الخدمات الصحية. وثانياً : تمثل تكاليف النظام الصحي البريطاني نصف تكاليف نظيره في الولايات المتحدة. وثالثاً : مع ان النظام البريطاني متهم بالتقصير في تقديم الخدمات الطبية ، الا ان نسبة وفيات المواليد في المجتمع البريطاني اقل من نظيرها في المجتمع الامريكي. والنظام الصحي البريطاني يمثل استثناءً في الفكرة الرأسمالية ، لانه يؤمن ـ خلافاً للعقيدة الرأسمالية في ضرورة جني الارباح من كل عمل تجاري ـ ان العلاج الصحي يجب ان يقدم للمرضى الذين يحتاجون العلاج بغض النظر عن قدرتهم على دفع الاجور.


(32)
    الطب في النظام الرأسمالي الامريكي
     ولا شك ان دراسة النظام الصحي الرأسمالي الامريكي تجعلنا نصدق ـ دون تحفظ ـ الفكرة القائلة بأن اغنى دولة رأسمالية في العالم اليوم ـ وهي الولايات المتحدة ـ ـ ليس لديها تأمين صحي عام يشمل جميع الافراد ، جيث نلاحظ ، في نهاية القرن العشرين ، ان فرداً واحدا من كل ستة افراد في الولايات المتحدة لا يستطيع دفع اجور معالجته الطبية وقت المرض. واذا استمر مرضه لفترة طويلة نسبياً فانه قد يضطر لبيع سكناه وممتلكاته طلباً للشفاء. واذا ماتم الشفاء بعد تلك الفترة ، ولكنه لا يزال عاطلاً عن العمل ، فان مصيره التشرد مع اسرته (1). وهذه الحالات المأساوية المنتشرة في طول البلاد وعرضها تدحض الفكرة القائلة بأحقية النظام الرأسمالي في قيادة البشرية نهو شاطئ السعادة والامان. فأية سعادة هذه التي يبشر بها النظام الرأسمالي افراده ؟ أليس التطبيب والعلاج حقاً من حقوق الفرد مهما كان لونه وجنسه ؟ اوليس للفرد الفقير حق على المجتمع في تطبيبه اذا مرض ، وتعويضه اذا فقد القدرة على العمل والانتاج ؟ ولماذا يعتبر النظام الرأسمالي الطب بضاعة يتاجر بها كما يتاجر بالمواد التجارية الاخرى ؟ الا ينبغي للخدمات الصحية العلاجية التي يقدمها الطبيب والمرض والصيدلي وصاحب المستشفى للمريض ، ان تكون في مدار الخدمة الانسانية البعيدة عن الطمع والجشع الرأسمالي ؟
( بول ستار ) : التغير الاجتماعي للطب الامريكي. نيويورك : الكتب الاساسية ، 1982 م.

(33)
ولكن النظام الرأسمالي لا يقدم اذنا صاغية لصرخات المستضعفين ، بل يزعم ان المدار في النظام الصحي هو جني الارباح التي يدرها على المستثمرين ، دون الاخذ بالنظرة الانسانية في معالجة المريض باعتباره انسانا يستحق كل مستلزمات العلاج والرعاية وقت المرض. فالمريض الذي يستحق العلاج الحقيقي هو القادر على دفع القائمة المالية اكثر من غيره. اما المريض الفقير فهو لا يستحق علاجاً لانه لا يساهم في تحقيق المفهوم الرأسمالي في الانتاج وجني الارباح.
     ويأخذ ناقدو الرأسمالية على النظام الامريكي انه لم يشرّع لحد اليوم قانوناً واحدا يحدد فيه اسعار العلاج الطبي ، بل انه ترك الامر الى المنافسة الاقتصادية ، فالاطباء هم الذين يحددون اسعار علاجهم ، وعلى ضوء ذلك فانهم يقبضون اجورهم العالية ، عن طريق المرضى الاثرياء مباشرة ، او عن طريق شركات التأمين الصحية ، او عن طريق البرامج الحكومية ، ومن كل ذلك تتراكم مبالغ هائلة من الاموال لدى هؤلاء المحترفين الذين يفترض فيهم التعفف عن جمع المال لقربهم من الام الانسان وموته وحياته.
     والنتيجة من تطبيق هذا النظام الصحي ان ارقى المستشفيات وافضلها من ناحية التقنية العلمية والخدمات تعالج افراد الطبقة الرأسمالية العليا فقط لانهم وحدهم القادرون على دفع اجور خدمات تلك المستشفيات. اما الطبقات الاخرى فانها تستخدم مؤسسات صحية متوسطة المستوى للعلاج ، ما عدا الطبقة الفقيرة التي تعاني من الحرمان لأبسط قواعد العلاج الصحي. ولا شك ان هذا النظام الصحي الطبقي ساعد على انتاج افضل انظمة الصحة والعلاج التقني في العالم ، خصيصاً للاغنياء.


(34)
ولا ريب ان هذا النظام ساعد ايضا على تكوين اغنى الاطباء في العالم.
     ويرجع سبب نمو هذا النظام الصحي غير العادل وثباته ، الى ان مؤسسة الطب الامريكية وهي التي تضم في عضويتها اكثر من نصف اطباء امريكا ، تغدق على اعضاء الكونغرس ورجال الحكومة اموالاًكي تصرفهم عن المصادقة على قوانين اصلاح النظام الطبي في الولايات المتحدة.
     ولتبرير هذا الواقع الصحي الظالم الذي انشأته الفكرة الطبقية الامريكية ، ينتقد مناصر والنظام الامريكي فكرة سيطرة الدولة على النظام الصحي ، واشراك الفقراء في العلاج ، ويزعمون ان ذلك يؤدي الى ( اشتراكية الطب ) التي تناقض النظرية الرأسمالية من الصميم. ولكن هؤلاء يتناسون ان بعض المؤسسات الرأسمالية نفسها اشتراكية الطبع. فجهاز الشرطة تديره الحكومة وهو بطبيعته اشتراكي المنشأ. فالمعتدى عليه لا يذهب الى شركة اهلية خاصة لاستئجار الشرطي الذي يحميه ، بل ان جهاز الشرطة جهاز فيدرالي تسيطر عليه الدولة لحماية الافواد ضد الاعتداءات المختلفة ، فكيف يتقبل المجتمع الرأسمالي ( اشتراكية البوليس ) ويرفض ( اشتراكية الطب ) ؟ وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي ( اشتراكية القضاء ) الحكومي ويرفض ( اشتراكية الطب ) ؟ وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي ( اشتراكية المطافىء ) ويرفض ( اشتراكية الطب ) ؟
     ومع ان النظام الصحي الرأسمالي الامريكي اليوم ، يفتخر بتقدم علومه الطبية الحديثة ، ويرجعها الى اصل الفكرة التجارية القائمة على اساس الربح والخسارة ، الا انه يستنكر في الوقت نفسه ان يكون الجانب الانساني المدار في تقديم الخدمات العلاجية ، لان المؤسسة الطبية ـ كما


(35)
يعتقد ـ يجب ان تكون مؤسسة للتجارة لاللخدمات!
     واذا كانت المؤسسة الطبية في المجتمع الرأسمالي الامريكي تنتج عشرة بالمائة من ارباح الانتاج الكلي للنظام الاجتماعي ، فان حرمان خمسة عشر بلامائة من افراده من العلاج الطبي الاساسي يعتبر ظلماً بحق المعذبين والمعدمين ، الذين يعيشون دون علاج ، تحت نظام يدعي لنفسه كمال العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين الافراد.


(36)
    اسباب انعدام عجالة النظام الصحي الامريكي
     وترجع اسباب فشل النظام الطبي الامريكي في توزيع العلاج بشكل عادل بين الافراد الى قضايا عديدة ، منها : عوامل الربح ، وفشل البرامج الحكومية ، وتكاليف المؤسسة الطبية ، والطب الدفاعي ، وزيادة عدد الاطباء (1).
     فعلى صعيد الارباح ، فان الروح الرأسالية للنظام الطبي تدفع افراده الى تحقيق اقصى مايمكن تحقيقه من الارباح على حساب المريض. فالطبيب يعين سعراً للعلاج ، فيتعين على الشركة التي يعمل فيها ( المريض ) دفعه كليا ، ولما كانت اجور علاج عمالها مرتفعة ، فان الشركة تضطر لاضافة اجور العلاج على الاجور النهائية للبضاعة التي شارك العامل في صناعتها ، وبالتالي فان المستهلك يدفع جزءاً من الاجور الطبية التي تذهب في النهاية الى جيب النظام الصحي الرأسمالي. والمحصل ، ان جزءاً كبيراً من الثروة الاجتماعية سوف يتحرك بشكل تراكمي باتجاه الطبقة الرأسمالية الطبية. ولما كانت الثروة محدودة بحدود النظام الاجتماعي فان انتقالها الى تلك الطبقة سيحرم افراداً اخرين من تحصيلها والاستفادة منها في سد حاجاتهم الاساسية.
     وعلى صعيد البرامج الحكومية ، فان الدولة تصرف على علاج الفقراء
( وليم كوكرهام ) : علم الاجتماع الطبي. نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1986.

(37)
قدراً معيناً من المال ، فاذا نفد ذلك القدر من المال ، حرم بقية الفقلراء من العلاج ، واغلقت المستشفيات ابوابها بوجوههم. ولما كانت الحكومة المحلية تدفع مبلغاً اقل للسعر الذي يحدده الطبيب ، فان العديد من الاطباء لا يقبلون علاج مرضى الفقراء المعتمدين على المساعدة الحكومية ، وليس هناك قانون يلزم هؤلاء الاطباء بعلاج الفقراء بالخصوص. ولما كانت الرقابة الحكومية على الاطباء ضعيفة ـ لان هذه الرقابة ذاتها تكلف اموالاً اضافية غير متوفرة ـ يختلق البعض من الاطباء اسماءً وهمية يعالجها ويبع بقوائم علاجها الى الحكومة ليقبض على اساسها اموالاً اضافية اخرى. وهذا الفساد والغش له ما يبرره في النظام الرأسمالي ، لان هذا النظام لايرتي في الطبيب انسانيته ولا ينشى في ضميره الوازع الاخلاقي ، بل يبرك لغرائزه الجشعة العبث بمقدرات الاخرين.
     وعلى صعيد تكاليف المؤسسة الطبية ، فان ثلاثة ارباع تكاليف النظام الصحي الاجمالي تذهب الى دخل المستشفيات وموظفيها من اداريين وفنيين واطباء وصيادلة وممرضين. ولا شك ان الثروة المتراكمة لدى المستشفيات ـ باعتبارها مؤسسات تجارية ـ تشجعها على الحصول على اغلى وارقى الاجهزة الطبية في جراحة القلب ونقل الاعضاء ، والاجهزة التشخيصية التي تعمل بالاشعة السينية والصوتية ونحوها. وكل هذه الاجهزة تكلف النظام الصحي اموالاً طائلة ، ولكن انحصارها بالمستشفيات الخاصة بالطبقات الرأسمالية والمتوسطة ، وحرمان الطبقة الفقيرة منها دليل واضح يثبت بان استخدام التقنية الحديثة ينفع افراد الطبقات الغنية دون الفقيرة.


(38)
    وعلى صعيد الطب الدفاعي ، فان القانون الرأسمالي يستطيع ، نظريا ، ان يضع الطبيب المخطىء في معالجته المريض ، امام المحكمة ليدفع تعويضاً مالياً للضحية. وهذا القانون يطبّق اذا كان الخطأ الذي ارتكبه الطبيب معتبراً في انزال الاذى بالمريض. فلو قطع الطبيب بطريق الخطأ مجموعة من الاعصاب لمريض مصاب بمرض في الكلية مثلاً ، فان على الطبيب دفع تعويض مالي معين لذلك المريض. وقد شجع هذا الاصرار القضائي على تغريم الطبيب ، على انشاء شركات تأمين خاصة بالاطباء ، حيث تتولى دفع التعويضات للمريض المجنيّ عليه ـ خطأً ـ من قبل الطبيب ، وهذا التأمين الطبي يتم لقاء ادر سنوي محدد يدفعه الاطباء. ولكن دفعاً لمشكلة الخطأ الطبي وما يترتب عليها من تعويض ، فان الاطباء لايتركون تجربة او تحليلاً مختبريا يخص المريض بطريق مباشر او غير مباشر الا واستخدموه للتشخيص. وفي هذه الحالة فان اجور التشخص بكافة الوانها وانواعها تقع كلياً على كاهل المريض دون ان يخسر الطبيب شيئاً من جيبه الخاص.
     وعلى صعيد زيادة عدد الاطباء ، فان زيادة الاجور وارتباط مهنة كمطب بالقوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يدفع الكثير من الطلبة الى الدخول في كليات الطب. وفي نهاية القرن العشرين يمثل الحقل الطبي الامريكي اكثر من نصف مليون طبيب يتزاحمون على جني اقصى الارباح من زبائنهم. وامام هذا العدد الهائل من الاطباء ، اي طبيب واحد لكل خمسمائة فرد امريكي ، اخذت المشكلة الاجتماعية ابعادا جديدة. فاصبح الطب يتدخل في حياة الفرد تدخلا سافرا ، و اصبحت الاعراض البسيطة التي لاتحتاج الى علاج طبي امراضا يتحتم على الافراد علاجها طبيا.


(39)
    فالارق ، والصداع ، وتخفيف الوزن ، والسمنة ، والشره ، اصبحت امراضاً ينبغي علاجها بمختلف انواع الادوية الكيميائية. اما فبح الوجه وكبر السن فاصبحتا قضيتين طبيتين لمن اراد علاجهما بعمليات جراحية. وازدادت عمليات الولادة القيصرية بنسبة الربع ، بمعنى ان لكل اربعة ولادات تحصل في الولايات المتحدة ثلاث منها طبيعية و الرابعة قيصرية. وفي هذا دليل على ان كثرة عدد الاطباء وشره النظام الصحي المستند على اساس التجارة الحرة يدفع الخبراء في مجال الطب ، في النظام الرأسمالي الامريكي ، الى التفتيش عن امراض جديدة تلصق بزبائن يستطيعون دفع اعلى الاجور.
     وهذا الفشل في تطوير انسانية النظام الصحي الامريكي يدفعنا الى الاعتقاد بان الخبرة الطبية وحدها ليست المدار في تقدم النظام الصحي في المجتمع ، بل ان المدار ـ اضافة الى الخبرة ـ الثقة والصدق والايمان. فاذا كان الخبير جشعا يبذل جهده في جمع المال ، فكيف نستطيع الاطمئنان الى صحة عمله ؟ واذا كان الخبير مجردا من انسانيته فكيف نستطيع ان نضع ارواح الفقراء ـ الذين لا يملكون ما يشبع غريزته من الاموال ـ بين يديه يقلبها كيفما شاء ؟ اليس الاولى للنظام الصحي الامريكي ، الذي يدعي تطور تقنية الفنية ، جعل المؤسسة الصحية مؤسسة انسانية تهتم بكل الافراد بدل جعلها مؤسسة تجارية تبحث عن جني الارباح ؟ او ليست خسارة الاموال افضل واولى من خسارة ارواح الفقراء ؟


(40)
    المرض والنظام الحياتي للفرد
     ولا ريب ان التقدم العلمي في مختلف المجالات الطبية كان قد اثمر في تقليل نسب الامراض بشكل كبير ، وذلك من خلال تلقيح الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، واستخدام المضادات الحيوية في السيطرة على مختلف الامراض. ولكن هذا التقدم العلمي الجبار ليس له تأثير يذكر على نسب الوفيات في المجتمعات الانسانية المعاصرة ، بل ان نسب الوفيات في المجتمع الصناعي قد انخفضت قبل اكتشاف الامصال والمضادات الحيوية. ويعود انخفاض نسب الوفيات في المجتمعات المعاصرة الى سببين ، الاول : التحسن الزاهر في نوعية المواد الغذائية التي بدأ الناس بتناولها منذ القرن الماضي. والثاني : تنظيم قوانين الصحة العامة ، كتعقنم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة من قبل المؤسسة الصحية ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمّل. ولم يقلل التقدم العلمي في الطب عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الرأسمالي المعاصر ، حتى ان ( النظرية الجرثومية ) التي ابهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الة أسمالية الحديثة مثل السرطان وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة ، بل اصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة.
     ومجمل القول ، ان اغلب الامراض التى تصيب الافراد ، تعزى الى
النظام الصحي ::: فهرس