النظام الصحي ::: 21 ـ 30
(21)
    نقد النظرية التوفيقية
     ومع ان اهتمام النظرية التوفيقية منصبّ على ربط الادوار الاجتماعية التي يقوم بها الافراد بالسلوك الطبيعي للا صحاء ، وان النظام الاجتماعي ملزم بمعالجة الامراض ، لان اهمال معالجتها يؤدي الى تقليل الانتاج الاجتماعي ، الا ان هذه النظرية لا تخلو من مفارقات واخطاء نستعرض بعضاً منها.
     اولا : ان النظرية تصب جلّ اهتمامها على الامراض غير المزمنة كامراض الجهاز الهضمي و البولي والتنفسي. وهذه الامراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً. ولكن النظرية تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كامراض تضخم الانسجة المعروفة ب ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ، حيث لا يستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه ، بل ان الشفاء في هذه الحالات يستهلك وقتاً طويلاً يعطل فيه الانسان طاقته الانتاجية ومسؤوليته الاجتماعية. وعلى ضوء ذلك ، فان المريض يحاول في هذه الحالات اعادة تنظيم وترتيب مسؤولياته الاجتماعية والاسرية بشكل لم تتناوله النظرية التوفيقية في تحليلها.
     ثانياً : ان النظرية التوفيقية تركز على الطب العلاجي تهمل فرضية الوقاية بكل الوانها وتوجهاتها. ويعدّ هذا الاهمان من اكبر اخطاء هذه النظرية. فلو انصبّ جهد المؤسسات الصحية على فكرة الوقاية لجنبّ تلك الموسسات الكثير من الاموال والجهود. فاشباع الطفل اشباعاً يتناسب مع


(22)
سنه من الحليب ، والبيض ، والخبز ، وعصير الفوا كه يخلق منه رجلا منتجا سليماً من الامراض. وكل درهم يصرف في هذا المنحى على طفل ما ، سيدر على المجتمع لا حقاً خمسة اضعاف هذا المبلغ ، حيث ينمو الطفل سليماً من الامراض فيوفر عندئذ ، مصاريف الطب والعلاج ، ويصبح عند البلوغ عضواً نافعاً منتجاً في النظام الاجتماعي. ويبقى يؤدي دوره الاجتماعي فترة اطول من ذلك الطفل المريض الذي يشبّ وهو يفتقر الى ما يسند عظامه ويقوي لحمته من املاح ، وفيتامينات ، وادهان ، وكاربوهيدرات.
     ثالثاً : ان الطب النفسي والروحي قد اهملته النظرية التوفيقية اهمالاً تاماً. ولاشك ان بعض الامراض العقلية تستدعي علاجا نفسيا. وبعض الجروح العضلية والغضروفية تستدعي علاجاً طبيعياً. وفي حالات معينة يعتقد المريض بضرورة العلاج الغيبي ، فلايشفى الا بذلك. وفي كل هذه الحالات المرضية لم تتطرق النظرية الى تفسير العلاج والمعالج و المعالج ، لم تحدد موقف النظام الاجتماعي من تعطيل دور ذلك المريض اجتماعياً.
     رابعاً : ان بعض الامراض والاضطرابات العقلية تعكس انحرافاً حقيقياًعن السلوك الطبيعي. فلا يتهاون النظام الاجتماعي في تصنيف ذلك الانحراف ضمن التصانيف الاجرامية والجنائية ، حتى لو اعلن المريض اعراضه المرضية واخلد الى الفراش ، وبحث عن المساعدة الطبية ، وبذل ماله في تحصيل الدواء. ولم تميز النظرية التوفيقية بين الامراض العقلية التي تؤدي الى جنون مطبق ، وبين الاضطرابات الاخرى التي يستطيع فيها الفرد ان يجد علاجاً شافياً ، يدفعه مرة اخرى الى عجلة النشاط الاجتماعي الانتاجي.


(23)
واهمال هذه الحالات المرضية في تفسير النظرية التوفيقية للطب ، يعكس ضعف هذه النظرية في تحليل الامراض وعلاجها في المجتمع الانساني تحليلاً جامعاً لكل اركانها وشاملاً لجميع حقولها ومراتبها.
     وهذه المؤاخذات على النظرية التوفيقية تقلل من اهميتها في تفسير المرض باعتباره ظاهرة اجتماعية ، علاوة على كونه ظاهرة طبية ، لانها لم تتناول جميع الامراض التي يتعرض لها الافراد ، بل اخذت بعضاً منها بما يساند اراءها ، وتركت البقية دون تحليل.


(24)
    وظيفة الطب
     ولا نشك في ان مساندة النظام الاجتماعي للمؤسسة الصحية يعكس خطورة وظيفة الطب في الحياة الانسانية ، فتنبع اهمية الطب في المجتمع الرأسمالي مثلاً من علاقة المؤسسة الصحية بانتاجية الفرد ، حيث يقاس النجاح الاقتصادي للنظام الرأسمالي من خلال النسب الانتاجية الاجمالية لمجموع الافراد.
     ولا ريب ان الوظيفة الاساسية للطب تدور حول المحافظة على صحة الافراد ، حتى يبقي النظام الاجتماعي نظاماً انتاجياً يدر على اعضائه اقصى مايمكن اعتصاره من الخيرات. ومع ان الصحة الشخصية مسؤولية فردية ، الا ان الؤسسة الصحية مسؤولة عنها مسؤولية مباشرة. فهي التي تقوم بتقديم حقن المناعة وقت انتشار الاوبئة والامراض المعدية ، وبالفحص الطبي السنوي للعاملين في المصانع وحقول الانتاج المختلفة ، وبتقديم المعلومات والثقافة الطبية لجميع الافراد ، وبتنقية المياه من الشوائب الجراثيم ، وبالسيطرة على انظمة المجاري العامة ، حتى يتمّ تفادي انتشار الامراض وتقليل كل ما من شأنه خفض المستوى الانتاجي للعاملين.
     وفي سبيل المحافظة على صحة الافراد ، فان النظام الصحي يقوم بمعالجة الامراض. فمن واجبات المؤسسة الصحية التعامل مع الامراض المختلفة وتقديم العلاج الشافي للافراد المصابين بتلك الامراض. وهذا يتطلب تدريب عدد كبير من العاملين والخبراء وانشاء مؤسسات ضخمة من المصانع والمعاهد التعليمية. فالاطباء والمرضون والصيادلة


(25)
والاداريون يتولون امور المستشفيات ، والشركات الكيميائية تتولى انتاج الادوية والمراهم الطبية ، والؤسسات الهندسية والكهربائية تتولى تصنيع الاجهزة الطبية وتصميم المستشفيات ، والكليات الطبية والصيدلية تتولى تخريج الاطباء والصيادلة. وهذا كله يحمّل النظام الاجتماعي اعباءً كبيرة ، واموالاً طائلة.
     وحتى تتفادى المؤسسة الطبية الخسارة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة فن تكرار حدوث المرض ، فانها تبحث عن اسبابه وطرق انتشاره ، وتحاول الكشف عن افضل الوسائل التقنية للعلاج ، ومن ذلك الطب الوقائي والعمليات الجراحية وطرق التخدير ، وتصنيع الادوية. وهذا يتطلب جهدا بشرياً فائقاً لان البحوث الطبية تبدأ بالتحري لاكتشاف اصغر الكائنات الحية في المختبرات الطبية ، وهي الفيروسات ، وتنتهي في البحث على النطاق الحقلي بدراسة الامراض دراسة ميدانية واسعة ، قد تستوعب شعوباً وبلجانا باكملها. وتتم اغلب الاكتشافات عادة ، عن طريق مؤسسات البحوث الطبية المتصلة بالجامعات ، او المستشفيات التعليمية ، او الوكالات الحكومية او المختبرات الاهلية. وهذه المؤسسات الصحية تهتم اهتماماً خاصاً بمعالجة الامراض التي يبتلى بها الافراد في ذلك الاقليم.
     ومن وظائف النظام الطبي ايضاً ، السيطرة الاجتماعية على سلوك الافراد لخدمة النظام الاجتماعي. فعن طريق الطب ومؤسساته يتم تحديد حقيقة المريض عن المتمارض من تعطيل دوره الاجتماعي. وعن طريق المؤسسة الطبية يتم تسجيل شهادات الميلاد وشهادات الوفاة ، ويترتب


(26)
على ذلك منح الوافدين الى الحياة جنسيات الدولة ، واعفاء المغادرين من مهامهم الاجتماعية. ويتم عن طريقها امضاء شهادات التلقيح ، واثبات احقّية العاطلين عن العمل لاسباب صحية ، وتعويضات شركات التأمين للافراد في حالات الحوادث والاعتداءات ، والصاق تهمة الاضطراب العقلي على بعض المنحرفين. وبالجملة فان المؤسسة الطبية تسلك مسلك الشرطي المراقب لحركة الدخول والخروج من العالم الدنيوي الى العالم الاخروي ، والقاضي الذي يبتّ باحقية هذا ومظلومية ذاك ، وصمام امان النظام الاجتماعي في ضبط انتاجية العمل ونشاط العمال.


(27)
    الطب في نظرية الصراع الاجتماعي
     وترى نظرية الصراع ان المعافاة الصحية تعتبر مصدراً من المصادر التي يحسب لها حساب عند الرأسماليين (1). فكما حازت الطبقة الرأسمالية على قصب السبق في الثروة ، والقوة السياسية ، والمنزلة الاجتماعية ، فقد اعتبرت المعافاة الشخصية مصدرأ من مصادر القوة التي ينبغي ان يسيطر عليها الاغنياء في المجتمع الرأسمالي. ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنيّاً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة علي النضام الصحي تحمل معها كل معدني المنافسة الاقتصادية. لان النظام الصحي يدرّ على الطبقة الرأسمالية مقداراً هئلاً من الثروة ، ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية. واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات ـ سيكون حتما في قبضة اليد الرأسمالية.
     بطبيعة الحال ، فان من حقّ الفرد في المجتمع الرأسمالي التمتع بصحة جيدة ، ولكن لتحقيق ذلك يجب الااتفات الي مسألتين ، الاولى : حالته المعيشية والسكنية. والثانية : المستشفى الذى يعالج فيه وقت المرض. فاذا كان ذلك الفرد عضواً في الطبقة الرأسمالية ، فان السكن الذي يسكنه ونوعية
1 ـ ( هاورد ويتكن ) : المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، 1986 م

(28)
الطعام الذي يتناوله يساهمان مساهمة كبيرة في المحافظة على صحته وعافيته. وحين المرض ، فان الاموال التي يمتلكها تستطيع ان تفتح له ابواب افضل المستشفيات وتضع في خدمته امهر الاطباء. اما الفقراء فان ظروف معيشتهم وسكناهم ، ونوعية غذائهم تعرضهم لشتى انواع الجراثيم والفيروسات ، وفي النهاية تنهار مناعتهم الجسدية ضد الامراض ، وتضعف مقاومتهم. ولا شك ان وضعهم المادي الذي لا يساعدهم على دفع اجور المستشفى والطبيب والدواء يؤدي الى حرمانهم من الخدمات الطبية. وكما كان متوقعاً فان التوزيع غير العادل للخدمات الصحية ، هو النتيجة الاساسية لانعدام العدالة في توزيع الثروة الاجتماعية وما يترتب عليها من انشاء نظام طبقي ينا في مفاهيم المساواة الانسانية.
     ونتيجة لهذا التفاوت الصحي بين الطبقتين الغنية والفقيرة ، الرأسمالية والمعدوة ، يعمّر الاغنياء في النظام الرأسمالي ، في حياتهم الدنيوية ، اكثر من الفقراء ، لان هؤلاء الاغنياء تتوفر لهم مصادر القافة الطبية العامة ، وطرق التغذية الصحيحة ، و توفر لهم اموالهم سبل العلم عن الامراض ، مما يؤدي الى اهتمامهم بالاعراض المرضية ، وسرعة التحرك طلباً لمعاينة الطبيب ، على عكمس الفقراء الذين لا يعيرون اهتماماً للاعرا المرضية ، ويتمنون الشفاء دون معاينة طبيب مختص.
     وتزعم نظرية الصراع ان دورات المياه في المساكن الفقيرة تعتبر مصدراً من مصادر انتشار الاوبئة والامراض المعدية عن طريق الطفيليات والجراثيم ، وتعتبر اماكن عمل الفقراء اكثر خطراً من الاماكن التي يعمل فيها الاغنياء ، وبسبب هموم المعيشة والاضطرابات النفسية التي تصاحب


(29)
الفقر والحاجة عادة ، تزداد نسبة الامراض العقلية بين افراد الطبقة الفقيرة. وهذه الاضطرابات النفسية والعقلية تسبب نقصانا في اعمار الفقراء على الاغلب. ولا شك ان هذا الوضع الصحي للفقراء يخدم الطبقة الرأسمالية الغنية خدمة عظمى ، لان المرض والتخلف العقلي ونقصان عمر الفرد يساعد على سحق الطبقة الدنيا من الافراد ، بحيث يؤدي الى غلق ابواب التغيير الاجتماعي المأمول. والنتيجة النهائية ، بقاء سيطرة الطبقة الرأسمالية على مقدرات النظام الاجتماعي بكل ابعادها السياسية والاقتصادية.
     وطالما كان القوي افضل من الضعيف ، وكان المعافى افضل من المريض ، كان النظام الصحي الرأسمالي حتماً صنيعة الطبقة الرأسمالية ، كما تعتقد نظرية الصراع ، لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.


(30)
    الطب في النظام الرأسمالي البريطاني
     ويتمتع افراد المجتمع البريطاني بنظام صحي يجمع بين الفكرة الاشتراكية والنظرة الرأسمالية ، على خلاف نظيره في المجتمع الامريكي (1). فالنظام الصحي البريطاني يسمح للاطباء بممارسة مهنتهم في العيادات الخاصة ، ويسمح للمستشفيات الاهلية بفرض اجور معينة يدفعها المرضى لقاء الخدمات المقدمة لهم. ولكن الاطباء والمستشفيات عموماً تشارك في النظام الصحي الحكومي العام الذي يقدم الخدمات الصية المجانية لكل الافراد ، بغض النظر عن دخلهم السنوي. ويعين هذا النظام للطبيب راتباً محدداً من قبل الادارة المحلية مع نسبة سنوية ثبتة من ضرائب الافراد الذين يعالجهم ذلك الطبيب. ولذلك فان الاطباء الماهرين يجذبون هدداً اكبر من المرضى. وكلما ازداد عدد المرضى الذين يعالجهم الطبيب ازداد دخله السنوي. وهذا النظام يخفف العبء المالي عن المريض ، وذلك بالتزام الحكومة بدفع تكاليف الفحوص والتجارب المختبرية والعمليات الجراحية التي تجري في المستشفيات ، وما يعقبها من مكوث فترة زمنية للتشافي ، وتحديد الدواء من قبل النظام بسعر رمزي ثابت يدفعه الفرد ، حتى لو كان الثمن الواقعي لذلك الدواء باهضاً.
     ولكنّ مناصري النظرية الرأسمالية يعترضون على النظام الصحي
1 ـ ( ميلتون رومير ) : دراسة مقارنة بين السياسات القومية للعناية الصحية. نيويورك : مارسيل ديكر ، 1997 م.
النظام الصحي ::: فهرس