النظام الصحي ::: 51 ـ 60
(51)
ان الاطباء يتعاملون يومياً مع المرض والالم والموت ، ومهنة كهذه يستحق عاملها اجورا عالية. بل ان الخطأ والاهمال والتقصير في المعالجة يرجع سببه الى انهماك الطبيب في التعامل مع الجسم الانساني ، بما فيه من تغيرات لا يمكن. وهذا التبرير مناقض للواقع. فكما ان الاطباء يتعاملون مع المرض والموت ، فكذلك الممرضين والممرضات المجازين ، فلماذا لا يتعمعتون بنسبة معقولة من الاموال التي يقبضها الاطباء ؟ واذا كان انهماك الطبيب يستدعي ارتكاب الخطأ ، فلماذا لا يدفع الطبيب ثمن خطئه من ماله الخاص ؟ اليس من الظلم تحميل المريض ثمن التجارب المختبرية العديدة التي يأمر بها الطبيب ؟ علماً بان هذه التجارب الزائدة تنفع الطبيب اصلا لا المريض ، لان الخبير ينبغي ان يكون ملمّا بعلمه ، فاين العدالة في ذلك ؟
     وهكذا اصبحت المعركة الطبية الرأسمالية معركة ضد النظام المالي بدل ان تكون معركة ضد الامراض والاوبئة. فقد افرزت هذه المعركة نتائج عديدة منها ان النظام الصحي بات يحاول تطبيب المجتمع الانساني ، بمعنى انه يحاول اقحام الطب في مجالات جديدة كان لا يحق له الدخول فيها سابقاً. ولتوضيح ذلك نقول ان المؤسسة الطبية قد اصبحت ثاني اكبر صناعة في الولايات المتحدة ، حيث تستهلك اكثر من عشرة بالمائة من انتاج البلاد وتوظف حوالي عشرة بالمائة من القوى الانتاجية العاملة في صفوفها. واصبحت صناعة الادوية والاجهزة الطبية من اكبر المصالح في النظام الرأسمالي ، واصبحت شركات التأمين الصحية من اكبر الشركات التي تدر على اصحابها اكبر قدر من الاموال. وهذا الاتساع والتضخم له تأثيره السياسي والاقتصادي على النظام الاجتماعي العالمي ، حيث اخذت


(52)
المؤسسة الطبية تبحث عن اسواق جديدة وتطلب مستهلكين جدد لزيادة ارباحها وبسط نفوذها.
     فالولادة مثلاً ، طبيعية بذاتها تحصل في كل ارجاء العالم منذ خلق الله البشرية على وجه الارض ، وهي لا تحتاج الى تلك العناية الفائقة التي تحاول المؤسسة الصحية الرأسمالية فرضها على الام ، خصوثا اذا كان غذاء الام غنياً بالمواد الطبيعية ، الا اللهم في الحالات الاضطرارية فيتحتم عندئذ العلاج الطبي. ولكن المؤسسة الطبية الامريكية جعلت الحمل والولادة قضية طبية تكلف الابوين اجوراً عالية من بداية التخصيب وحتى لحظة الولادة. واصبحت العمليات المختبرية والشعاعية ، بفضل جهود المؤسسة الامريكية ، تتجاوز حدود العناية الصحية للوالدة والمولود ، بل اضحت قضية التخصيب ، والحمل ، وحركة الجنين ، والاجهاض قضايا طبية تصرف من اجلها كميات كبيرة من الموال. واصبحت السمنة داءً يحتاج الى علاج ، وكذلك الارق وعدم النوم مثلاً. وهذه حالات لو استخدمت فيها وسائل الوقاية والغذاء الطبيعي والنشاط الجسدي لما استدعى تدخل الطب العلاجي في ذلك. الا ان المؤسسة الطبية الرأسمالية ألزمت الرأي العام بتطبيب القضايا الاجتماعية ، حتى ان الموت الذي كان يعدً قضية اجتماعية اصبح اليوم قضية طبية ، بحيث ان الطبيب الرأسمالي يقوم مقام الحاكم الشرعي المطلق في الموت والحياة ، فيقرر تعجيل وفاة بعض المرضى ، او يحكم بابقائهم على قيد الحياة اعتمادأ على الاجهزة الطبية. وحاولت المؤسسة الطبية اقحام نفسها في بحوث استرجاع سن الشباب ، واكتشاف طرق لوقف الموت. ومع ان هذه المحاولات لم ولن يكتب لها النجاح ، الا ان


(53)
اعلانها يوحي للاخرين بان العلم قادر على خلق المعجز وفعل المستحيل. وهذا الاعلان يدر ارباحاً اضافية على هذه الؤسسة الطبية التجارية لانه يساهم في سرعة تطبيب النظام الاجتماعي.
     ولم يتوقف نشاط المؤسسة الطبية الرأسمالية عند هذا الحد ، بل انها اقتحمت النظام القضائي الرأسمالي ايضا عن طريق تحديد سلوك الافراج وتشخيص الاضطراب العقلي ، لان الجريمة والانحراف اصبحت ، بنظر الؤسسة الصحية ، عضية طبية تستدعي علاجاً طبياً. بل ان الجميعة الطبية الامريكية اليوم تنادي بالعلاج الطبة بدل العقاب القانوني للمجرمين في جرائم القتل والسلب والاعتداء على اعراض الناس. واصبحت الجراثم الناتجة عن الادمان على الكحول والمخدرات ، والاعتداء على الاطفال ، والاعتداء على اعراض النساء ، والسرقة ، امراضاً نفسية تحتاج الى تدخل طبي. وهذا التدخل الطبي في المجال القضائي وضع الطب ومؤسسة في اعلى سلم المؤسات الاجتماعية.
     ولاشك ان نجاح المؤسسة الطبية في تطبيب المجتمع ساهم في تغيير النظام الحياتي للافراد ، فبدلاً من الاعتماد على الطبيعة في رفد الانسان بما يحتاج اليه في نشاطه اليومي ، اصبح الطب عاملاً اساسياً في الحياة اليومية للفرد. فعرضت المؤسسة الطبية ادوية لكل نشاطات الحياة ، فوفرت حبوباً للنوم وحبوباً لوقف شهية الطعام وحبوباً لانشاء الجوع ، وحبوباً لتهدئة الجسم و حبوباً لتنشيطه ، واجهزة لفحص الكلام الصادق واجهزة لعحص الكلام الكاذب. وامام هذا النشاط المحموم الذي تقوم به الموسسة التجارية الطبية تبرز اسئلة عديدة دون جواب وهي : هل يحق


(54)
للدولة التحقيق في جدوى هذه الادوية ومدى حاجة الناس الحقيقية لها ؟ وهل يحق للدولة التدخل في المؤسسة الصحية لضمان تقديم انزه الخدمات للافراد دون النظر الى الارباح التي تدرها المهنة الطبية ؟ وهل يحق للمريض الحصول على كل المعلومات المتعلقة بحالته الصحية ؟
     ولعل الجواب على كل هذه التساؤلات يرتبط اساسا بمفهوم العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة بين الافراد. ولما كان النظام الرأسمالي يؤمن تاحقية تسلط الطبقة العليا على شؤون المظام الاجتماعي ، لامتلاكها رأس المال ووسائل الانتاج ، بقى النظام الصحي عندئذ متخلفاً في جوهره عن العدالة والمساواة الانسانية. وبذلك فان التقنية الحديثة والتقدم العلمي لا يستطيعان تغطية فساد جوهر الفكرة الرأسمالية في التعامل مع الافراد وانكار حق الفقراء والمستضعفين في العلاج الطبي وتوفير سبل المعافاة لهم.


(55)
القسم الثاني
النظام الصحي في النظرية الاسلامية
    أهمية النظام الصحي * نظرية الاسلام في الطب * العلاقة بين الطبيب والمريض * أهل الخبرة الطبية * ضمان الطبيب * النظام الصحي في الاسلام
    اولاً : النظام الوقائي :
    1 ـ ما يؤكل من الاطعمة : أ ـ الحيوانات المحرم أكلها بالذات. ب ـ الاشربة والحبوب والثمار المحرمة بالذات. ج ـ الحيوانات المحرم اكلها بالواسطة. د ـ الحيوانات المحرم اكلها بالذات المحلل أكلها بالواسطة
    2 ـ مضار التدخين والمخدرات
    3 ـ السواك وتطهير الفم
    4 ـ النوم وادابه * ملحق : دعاء الامام علي بن الحسين (ع) عند صلاة الليل
    5 ـ الطهارة المائية
    6 ـ الطهارة العامة
    7 ـ الصيام وأحكامه * الاستنتاج
    ثانياً : النظام الغذائي :
    1 ـ اداب المائدة
    2 ـ استحباب تناول الحبوب والفاكهة والخضار
    3 ـ الأعتدال في تناول اللحوم المحلل أكلها
    4 ـ التذكية الشرعية :
    أ ـ الصيد. ب ـ الذباحة. ج ـ النحر. د ـ الاخراج من الماء
    ثالثاً : النظام العلاجي * الاستنتاج * تصرفات المريض * احكام الميت.


(56)

(57)
    اهمية النظام الصحي
     لما كان المرض مشكلة انسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الانتاجية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بايجاد نظام صحي متكامل يحافظ فيه على صحة الافراد ، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم الى الشفاء الكامل ، ثم ارجاعهم مرة اخرى الى عجلة الانتاج والخدمات الاجتماعية. واذا لم يؤدي العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية الى شفاء الفرد شفاءً الفرد شفاءً كاملاً ، فان النظام الصحي ملزم باعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع ، مشيراً الى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤولية في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجته عائلته الاساسية.
     ولا نقصد حينما نتحدث عن النظام الصحي هنا مجرد وجود المعالج ، طبيباً كان او نحوه ، بل نقصد به المؤسسة التي تضم ادواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء ، كالاطباء المتخصصين بالجراحة والباطنية والتخدير ، والصيادلة ، ومدراء المستشفيات وعمالها ، وشركات التأمين الصحية ، ومصانع الادوية والعقاقير ، وكليات الطب ، ومعاهد التمريض.
     ومع ان المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب ، فهو وحدو الذي يتألم لمرضه ويعاني من اوجاعه ، فيعجز الاخرون عن تخفيف تلك الالام الا ّّّ اللّهم ان يظهروا له مشاعر الحزن ، الاّ ان الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية ،


(58)
لانه لا يمكننا ان نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.
     فانتشار الامراض يهزّ الكيان السياسي ، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الافراد في العمل والاستثمار والانتاج. ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم مابناه الانسان. فالزلزال المدمّر ، والجفاف المؤدي الى المجاعة ، والحرب المؤدية الى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الامراض. وهذه الامراض التي تحتاج في معالجتها الى تدخّل المؤسسة الصحية ، تقسم الى نوعين ، الاول : الامراض الحادة ، وهي التي تحتاج الى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالانسان اما الى الشفاء واما الى الموت مثل مرض الحصبة. والثاني : الامراض المزمنة ، وهي التي يحتاج العلاج فيها الى فترة طويلة ، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً امثال مرض السكري والتهاب المفاصل.
     ويتعدى تأثير المرض الى عائلة المريض ومحبيه. فمع ان المريض يمر بتجربة مريرة من الاًلم والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه ، الاّ ان عائلته تعاني ايضاً من حالته الاستثنائية. فقلق العائلة على معيلها ، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الواضع العائلي ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل. وعلى صعيد اخر ، فان انتشار الامراض ، يساهم ايضاً في اضطراب النظام الاجتماعي واضعاف قواه الانتاجية ، خصوصاً اذا انتشرت الامراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا ، فانها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والانتاجية للدولة ، وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية الاهتمام


(59)
بالنظام الصحي ومعالجة الامراض والاوبئة الفتاكة في البلدان المستعمرة معالجة جدية ، لأن هذه الامراض تفتح ابواباً لتدمير طاقة المجتمع الانتاجية واستهلاك مصادره وخيراته. واذا ضعف المجتمع انتاجياً تكاثر الرأسماليون على اقتسام خيراته ونهبها. وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر الى استخدام عملية نشر الامراض كسلاح ضد العدو ، مستفيدة من تجربتها التاريخية في واقعتين ، الاولى في القرن الرابع عشر ، والثانية في بداية القرن العشرين الميلادي ، حيث اكتسح الطاعون اوروبا في القرن الرابع عشر ، وسمي في وقته بالموت الاسود لافنائه اكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدمير البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الاوروبية. وفي سنة 1918 م قتلت الانفلونزا الاوروبية اكثر من عشرين مليون فرد (1).
     ولا شك ان الامراض لا تصيب كل الافراد في النظام الاجتماعي ، بل تصيب افراداً دون اخرين في نفس المجتمع لاختلاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل فرد. ولذلك ، فعندما يدرس الطبيب مرض فرد ما ، فانه يبدأ بدراسة تاريخ المريض الصحي ووضعه الاجتماعي ، فيبحث عن عمره ، وجنسه ، ولون بشرته ، وحالته الزوجية ، ووظيفة وطبقته الاجتماعية. وهذا مهم في تشخيص الحالة المرضية لان غذاء الغني وسكنه وعمله افضل من الناحية الصحية من غذاء الفقير وسكنه وعمله. والفرد المتزوج اصح من الاعزب لان للزواج اثراً نفسياً على صحة الفرد ، والمسلم الملتزم باحكام الشريعة اصح من النصراني لانه لا يتناول الخمر ولا الخنزير.
1 ـ ( روبرت غوتفراد ) : الموت الاسود : الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى. نيويورك : المطبعة الحرة ، 1983 م.

(60)
وفي حين يعرض الاسلام نظريته الصحية في اطار دقيق متكامل ، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنّى لاكثر من الف نة النظرية الاغريقية في الطب ، حيث تزعم هذه النظرية ان سوائل الجسم الانساني التي تتكون من اربعة انواع وهي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ، هي سبب نشوء الامراض (1). فاذا نقص مستوى احد هذه السوائل الاربعة واختل توازنها ، نشأ المرض. ولم تسمح الكنيسة النصرانية الاوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية ، بل انكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة ان الانسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى. وكانت غاية الكنيسة من ذلك ، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الاجور. ولكن اكتشاف لويس باستور نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر ، ادى الى قلب نظرية الكنيسة النصرانية ، وتطور العلوم الطبية تدريجيا ووصولها الى ما وصلت اليه اليوم.
    
( جون دوفي ) : الذين بيدهم الشفاء : بروز المؤسسة الطبية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1976 م.
النظام الصحي ::: فهرس